البعد الافريقي في العقيدة الدبلوماسية المغربية
بقلم : د. ادريس قريش – دكتور دولة في العلاقات الدولية و السياسة الخارجية – وزير مفوض في التقاعد – استاد زائر في جامعات وطنية و اجنبية
- المركز الديمقراطي العربي
تكمن اهمية هده الدراسة في فهم اعمق للتصور الجديد للمملكة و الأدوار المتصاعدة في افريقيا و ابراز اليات التعاون من خلال قوتها الاقتراحية تعزيزا للتكامل اقتصاديا و سياسا و أمنيا و ثقافيا بما في دلك الانخراط في ثكثلات إقليمية متضامنة للمساهمة في اقلاع افريقيا، افريقيا قوية و جريئة تتولى الدفاع عن مصالحها.
المغرب يمتاز بخصوصية و تفرد، له شخصية هوياتية في التموقع القوي في العلاقات الدولية، والمشاركة الفعالة في رسم معالم مستقبل العالم، استنادا للمعنى الحضاري الأصيل و العميق، والتاريخ العريق الدي ارتقى به ليتموقع كدولة أمة لها مميزاتها الحضارية الخاصة و التي تجمع بين مكوناته الروحية من جهة و انفتاحه على الفكر الإنساني الحداثي من ناحية أخرى، و هو التفاعل الدي يجسد قوة و مصداقية المغرب و يشكل المرجع الأعلى الدي يمنح لعقيدة منظومته الدبلوماسية الرؤية الحكيمة و الريادة الروحية الناعمة و يزرع في قراراته روح الثقة و المصداقية والثبات في العلاقات الدولية. علما أن الصراع السائد في العلاقات الدولية هو صراع فقدان الثقة بعد اندثار الصراع الايديلوجي بسقوط جدار برلين و نهاية الحرب الباردة.
ان الاهتمام بالبعد الإنساني و كيفية بناء الانسان كرؤية ملكية عزز انفتاح المغرب على افريقيا الدي اصبح اليوم خيارا استراتيجيا يقرض نفسه في سياق يتميز بسعي المجموعات الاقتصادية عبر العالم الى تعزيز تكثلاتها الإقليمية و القارية.
ان الامتداد الاشعاعي لامارة المؤمنين عبر افريقيا باعتمادها على معانقة الانسان، كل الانسان، و اعلاء شان كرامته من خلال التنمية و البنية التحتية و نقل الخبرة و المال و ترسيخ قيم التسامح و الوسطية و من خلال البعد التضامني و القوة الناعمة ووضع المعايير الإنسانية في صلب الأولويات، معايير و مرتكزات تجسد مفهوم و مضمون الدبلوماسية الروحية كالية جيوستراتيجية بديلة لبناء نظام دولي عادل تتطلع اليه كل الشعوب.
المغرب رسم انفتاحه على افريقيا كخيار استراتيجي يكرس البعد الإنمائي كمحور اساسي في ظل مقاربة شمولية تروم وضع حد للماسي الإنسانية التي يسببها الإرهاب و العمل على تجفيف منابعه الفكرية الهدامة من مداخل شتى على راسها التنمية كتجسيد حيوي لدبلوماسية بديلة قوامها الانسان.
و بهده الرؤية الواقعية و المستشرفة للمستقبل المشترك، عزز المغرب حضوره الروحي و الاقتصادي و السياسي و الامني مما يوفر للقارة أسباب الاستقرار السياسي و الدعم الاقتصادي كقاطرة تنموية شاملة.
انها استراتيجية واقعية هده التي سلكها المغرب بقيادة صاحب الجلالة في تعامله مع القضايا القارية توجها بالعودة الى الاتحاد الافريقي و بالدينامية الغير مسبوقة في علاقاته مع القارة تتعزز اليوم بجعل اقاليمنا الجنوبية خصوصا في ظل النهضة التنموية التي تتحقق بها و بعد الاعتراف الأمريكي بمغربيتها تتحول الى أداة و صل بين المملكة وعمقها الافريقي.
هدا البعد الاستراتيجي تعزز اشعاعه بجعل الفضاء الأطلسي مجالا للتعاون المتعدد الأطراف تحقيقا للمصالح العليا للدول الافريقية الأطلسية و تأهيل المجال الساحلي المغربي و هيكلته من اجل التواصل الإنساني و الاندماج و التكامل الاقتصادي و الاشعاع القاري و الدولي و فتح مجاله امام الدول غير المطلة على الساحل و تحفيز امكانيتها الاندماجية و هي الخصائص التي تميز الفعل الدبلوماسي المغربي.
ديبلوماسية تكرس عمقها الروحي و بعدها الإنساني في افريقيا من خلال مشاريع ملموسة احتوت الانسان باعتباره محور الكون تواكبها مبادرات تضامنية تندرج في اطار التنمية البشرية.
صاحب الجلالة قام بأكثر من 50 زيارة رسمية لدول القارة عانق خلالها الانسان كل الانسان باحتضانه للجميع صديقا كان او حاملا لافكار تنازع قناعتنا.
زيارات تفصح بكثير من الدلالات، نظرة استراتيجية ترنو الى دور مغربي في صعود افريقيا ورقيها طبقا لشراكة نمودجية مبنية على التوازن و المنفعة المشتركة كالتزام تجاه القارة قاد الى تسليط الضوء على ديبلوماسية تضامية متعددة الأوجه، تشمل الاقتصاد الحكامة الدين والجيوستراتيجية، أي القدرة على إرساء قواعد الإصلاح المجتمعي بترسيخ القيم و الحكامة و مناخ الاعمال و الظفر بثقة المستثمر و انجاز البنية التحتية و الرفع بالحقوق الكونية و اشعاع الفكر الوسطي بتوافق واسع للحفاظ على السلم الاجتماعي و الاستقرار.
ان الدليل على هدا الالتزام القوي هو ان افريقيا تحتضن اليوم ثلتي الاستثمارات الأجنبية المباشرة المغرب الدي استثمر مند 2008 اكثر من ست مليارات دولار في القارة، و اصبح اكبر مستثمر في غرب افريقيا و ثاني مستثمر في جميع انحاء القارة.
وهنا تكمن نجاعة الرؤية الملكية وتميزها و انفرادها في الاستثمار في مجال التنمية البشرية و البنية التحتية و نقل المال و الخبرة و في اشعاع ثقافة القيم دون استغلال للموارد الطبيعية للدول المعنية و إعادة تصديرها لها كاستراتيجية تكرس رؤية جديدة تتجاوز السياسة الكلاسيكية الاستغلالية لبعض الدول الغربية. استراتيجية تجسد البعد التضامني للدبلوماسية المغربية التي يتم تفعيلها طبقا لسياسة ارادية في التعاون مع الدول الافريقية أساسها المسؤولية المشتركة و التضامن، و هو ما بوا المغرب مكانة مرموقة بين دول القار و شعوبها و عزز بالتالي تموقعه و حوله الى نمودج و قوة مؤثرة و محركة.
و في هدا الصدد انتهج المغرب مند اعتلاء صاحب الجلالة محمد السادس عرش اسلافه المنعمين سياسة تنتصر لنمودج و اعد للتعاون جنوب جنوب طبقا لرؤية ملكية متكاملة و متضامنة و طموحة قوامها تحقيق دينامية للتنمية و التقدم المشتركين، حيث ثم اتخاذ العديد من المبادرات استهل مسارها مند أكتوبر 1999 بإلغاء ديون الدول الافريقية الأقل نموا و ثم تعزيز هذا التوجه باعفاء بعض المنتجات المستوردة من بعض الدول الافريقية من الرسوم الجمركية، و بفتح المعاهد والجامعات المغربية لفائدة الطلبة الافارقة، و اعتماد سياسة ملائمة في مجال الهجرة، بالإضافة عن ترافعه عن افريقيا في المحافل الدولية.
كما ان المغرب سباق الى تقديم الدعم و الهبات الإنسانية للدول التي تتعرض للمخاطر و الكوارث الطبيعية.
حيث برهن عن حسن النية و المسؤولية الأخلاقية و الإنسانية خلال الجائحة مقدما هبات في شكل ادوية و مستلزمات طبية الى مجموعة من الدول كما قدمت المملكة هبات على شكل اسمدة من اجل تخفيف الأعباء المادية على مزارعي هده الدول، و غيرها من المبادرات و المواقف و خصوصا سياسته الاشعاعية التنويرية للقيم الروحية المستمدة من التنزيل الحكيم، قيم الاعتدال و التسامح و التعايش و التي ساهمت بشكل ملموس في تقليص عدد معتنقي التوجهات المتشددة و المتطرفة، و تقلص هيمنة فكرها المتسمم و المعلب و خصوصا الفكر الوهابي المدمر الدي تقلص عدد اتباعه و معتنقيه من 28 مليون سنة 2016 الى 17 مليون سنة 2019.
انطلاقا من هده المستجدات و الاختراقات الميدانية التي عرفت مواكبة من طرف القطاع الخاص فان المملكة تلعب دورا طلائعيا في تقدم و رقي افريقيا طبقا لاستراتيحية شاملة ترتكز على أبعاد إنسانية عميقة تهدف الى إعادة الروح في العلاقات الدولية و أنسنتها.
ان العالم يعيش تطورات جيو استراتيجية متسارعة تمهد لميلاد نظام جديد متعدد الأقطاب و في هدا السياق تظهر الحاجة الى الانخراط في تكثلات إقليمية متضامنة للعمل الجماعي من اجل رفع التحديات و تحقيق التكامل دفاعا عن المصالح الحيوية لهده التجمعات.
و امام الوضع المتصف بالجمود الدي يعرفه اتحاد المغرب العربي و لتجاوز التعطيل الدي أصاب تفعيله مند قمة تاسيسه بمراكش سنة 1989 تظهر الان فرصة مواتية للانتقال الى تأسيس تجمع إقليمي أوسع يضم بما في دلك بلدان المغربي و الساحل لاستغلال السياق الدولي و الاقليمي الجديد و المتغيرات الجيوستراتيجية المتلاحقة.
ان ما تعاني منه منطقة الساحل هوعدم استغلالها مصادرها الطبيعية و البشرية بشكل مشترك فضلا عن صعوبة تحويلها نحو التصدير بالنظر الى افتقار اغلب دول المنطقة لمسالك بحرية.
و نظرا للقرب الجغرافي و للتحديات المشتركة و عمق الروابط التاريخية و الروحية تتوفر أرضية خصبة و فرصة كبيرة للتنسيق و التشاور أي نضجت الحاجة الى لفضاء إقليمي متجانس و محكم بحيث يسود التفاهم و الثقة و الحوار و التفاوض و روح التوافق في اطار رؤية ملكية متكاملة و متضامنة و طموحة لارساء افريقيا اطلسية كفضاء جيو استراتيجي دينامي للتنمية و التقدم المشتركين.
حيث نجح المغرب في تعزيز تموقعه كقوة اقتراحية ناعمة و كفاعل أساسي في القضايا الافريقية و كعامل حاسم مستقبلي من خلال جعل فضائه الأطلسي هوية جيواستراتيجية تابثة و مجالا للتعاون المتعدد الأطراف تحقيقا للمصالح العليا للدول الافريقية الأطلسية في شكل تكثل إقليمي متضامن.
و في ظل هدا التوجه بادر المغرب سنة 2022 الى احتضان الاجتماع الوزاري الأول لدول افريقيا الأطلسية شاركت فيه 21 دولة مطلة على المحيط توصل الى التفكير فيما يمكن ان يعنيه المحيط الأطلسي بالنسبة للعالم و هي الأرضية التي ترسخت بإعلان صاحب الجلالة الملك محمد السادس في خطابه للدكرى 48 للمسيرة الخضراء عن الاستراتيجية الأطلسية للمملكة بإطلاق مبادرة دولية تهدف الى تسهيل ولوج دول الساحل الى المحيط الأطلسي مما سيخدم مصالح شعوب المنطقة التي تعاني من مصاعب امنية و اقتصادية و اجتماعية اد توفر هده المبادرة الملكية إمكانات غير مسبوقة من شانها تقديم حلول مناسبة لتعزيز الاندماج و التعاون الإقليمي من اجل الإقلاع الاقتصادي في اطار مقاربة مبتكرة و مندمجة لتحصين استقرار و امن المنطقة.
و تحرص المبادرة الملكية على تاهيل المجال الساحلي و طنيا و هيكلتة بهدف تحويل الواجهة الوطنية الى فضاء للتواصل الإنساني و التكامل الاقتصادي الاشعاع القاري و الدولي.
و هي تتماشى بشكل تام مع دينامية التكامل التي أعلنتها المملكة من خلال تحديث البنيات التحتية لهده الدول و تسهيل الربط بين مختلف مكونات الساحل الأطلسي و توفير و سائل النقل و المحطات اللوجسيستيكية.
و قد انطلق هدا المسار من خلال بلورة سياسة كبرى لاقاليمنا الجنوبية التي أصبحت جزء أساسيا متكاملا ببعدها التشاركي و المنافع المتبادلة مع دول الجوار عبر اطلاق مشاريع مهيكلة كالطريق السريع تيزنيت الداحخلة و ميناء الداخلة الأطلسين مقومات تندرج في اطار رؤية طموحة لتنمية المغرب و القارة بأكملها انطلاقا من و اجهته الأطلسية و انتهاء بامتداده نحو عمقه الافربقي الطبيعي عبر مشاريع استراتيجية مملوسة. من شانها ان تحقق تكاملا افضل لاقتصاداتنا مثل مشروع أنبوب الغاز نيجيريا المغرب.
و للتوصل الى فهم اعمق للمعنى و الاثار المحتملة لهدا التصور المحتملة لهدا التصور الجديد الدي يمثل تحولا في ديناميكية المنطقة ثم عقد يوم 23 دجنبر 2023 بمراكش اجتماع وزاري بحضور دول مالي و النيجر و التشاد و بوركينافاصو توج اعماله البيان الختامي الدي انتصر لمشروع التكثل الإقليمي الجديد المقترح.
و في تطور لافت أعلنت النيجر و مالي و بوركينافاصو انسحابها الفوري من المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا ايكواس متهمة المجموعة بالابتعاد عن المثل العليا التي تاسست عليها.
كما أعلنت مالي رسميا احتجاجا على الاعمال العدائية للجزائر انتهاء اتفاق الجزائر للسلام و المصالحة الموقع في 2015 مع الجماعات المستقلة في شمال مالي مما يعبد الطريق امام إعادة تشكيل التحالفات انتصارا للمبادرة الأطلسية خصوصا ان هده المبادرة ليست ضد احد بل جاءت نتيجة نضج الوعي الجماعي بان افريقيا يجب ان تثق بنفسه. وامام تراجع فرنسي جيوسياسي رهيب في المنطقة و فشلها الدريع في حديقنها الخلفية المفضلة.
تاتي هده المعطيات و المستجدات في سياق حيوسياسي تتشكل منه تحالفات جديدة يبرز فيه المغرب كقوة اقتراحية و كفاعل قوي من اجل مواكبة هده الدول لتحقيق تطلعاتها التنموية من خلال مبادرات رائدة على غرار مبادرة الأطلسي التي أشادت بها هده الدول التي تعتبرها بديلا حقيقيا و حلا للعديد من الإشكالات التي تعاني منها كما ان هدا التكتل سيمكن المغرب من ربح الرهان كممثل دائم لافريقيا في مجلس الامن الدي سيخضع الى إعادة الهيكلة في اطار الإصلاحات المرتقبة.
ان دور المغرب في القارة و على كافة المستويات ليس وليد اليوم بل هو نتاج بل هو نتاج مجموعة من التراكمات يتقاطع فيها التاريخي بالروحي و السياسي بالاقتصادي حيث تتقاسم مجموعة من الدول مع المملكة روابط ضاربة في عمق التاريخ و تتقاسم معه الرؤى و التوجهات نفسها و أقول بالمناسبة مخطئ من يحاول عزل المغرب و قطع ارتباطه بعمقه الافريقي و أاكد ان هدا عبث ووهم سياسي و غباء أخلاقي اتجاه بلد وازن و ناعم يتموقع في القارة بقوته الروحية قبل المادية و لا يمكن لاية قوة ان تحد من هدا التواصل و الارتباط المتجدر روحيا و اقتصاديا و جيوسترتيجيا في صفاء علاقات و اخوة مع دول تملك ذاكرة العرفان و تحمل قيم الوفاء و الإخلاص.
نحن اليوم امام مكتسبات مهمة و اما م واقع جديد قوامه اعتراف دولي متزايد بمشروعية و عدالة قضيتنا الوطنية و قناعة العالم بمصداقية المغرب و بالثقة التي يحضى بها على المستوى الدولي و يمكن تفسير موقف جنوب افريقيا برغبتها في التحول من قوة إقليمية الى قارية فتقود افريقا كلها مما جعلها ترفض عودة المغرب الى الاتحاد الافريقي كبلد وازن و قوي يمكن ان ينافسها في هدا الدور و تخشى من ان تمتد هده المنافسة لتشمل الحقل الدبلوماسي و التموقع الدولي خصوصا في اطار إصلاحات مجلس الامن الدولي و المتداولة مند 2002 و رغبتها في كسب عضوية دائمة فيه عن افريقيا و من هنا مبادرتها التوجه للمحكمة الدولية بخصوص فلسطين لفرض هده الريادة.