الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

سوريا ما بعد الأسد: إعادة بناء الأمل من تحت الرماد

اعداد : د.حمدي سيد محمد محمود – باحث أكاديمي – مدير المركز الديمقراطي العربي – القاهرة – مصر

 

إن تاريخ سوريا المعاصر يشكل إحدى أكثر القصص تعقيدًا وحزنًا في العالم العربي، إذ يعكس مزيجًا من الآمال العريضة والهزائم القاسية، من الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي في عام 1946 إلى السقوط المأساوي لنظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024. فهذه الدولة، التي كانت يومًا مهدًا للحضارات الكبرى، انقلبت إلى ساحة حرب ضروس شهدت على مر السنين تحولات سياسية عميقة، ونضوجًا فكريًا مريرًا، ودمارًا اجتماعيًا لم تشهد مثله منذ قرون.

منذ لحظة الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي، كان الشعب السوري يأمل في بناء دولة قادرة على تحقيق آماله في الحرية والاستقلال والازدهار، لكن هذا الحلم سرعان ما اصطدم بصعوبات جمة، على رأسها النزاعات الداخلية بين القوى السياسية المتناحرة. وعقب سلسلة من الانقلابات العسكرية، كان نظام حزب البعث العربي الاشتراكي الذي استلم السلطة في عام 1963 بداية لعهد جديد تميز بتوطيد الهيمنة الاستبدادية التي تجسدت في حكم حافظ الأسد، والذي استمر حتى عام 2000، ثم تولى ابنه بشار الأسد القيادة في مرحلة تشكل فيها الصراع بين القوي المتناقضة داخل سوريا وخارجها.

لكن، مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية في عام 2011، تحولت سوريا إلى ساحة معركة لا تُحكى فيها قصة مجرد ثورة، بل هي قصة عن شعب تمزقه الحروب، وعن أمة حاولت أن تخرج من صمتها لتواجه المأساة العظمى التي خلفها حكم مستبد. إذ تحولت الساحات التي كانت تحمل صرخات الحرية إلى ميدان للدماء والانقسامات العميقة بين أبناء الوطن، بينما شقت الحرب الأهلية طريقها لتجعل سوريا مسرحًا لتدخلات إقليمية ودولية مدمرة.

وبينما تتسارع أحداث الصراع، تغرق سوريا في دوامة من الهزائم والانتصارات الزائفة، حيث يجد النظام نفسه يواجه تحديات غير مسبوقة، من الداخل والخارج، لتبدأ النهاية الحتمية للنظام بعد 13 عامًا من الصراع الطويل.

في هذا الإطار ، سنغوص في تفاصيل هذه الرحلة المريرة التي مر بها الشعب السوري، ونرصد التحولات السياسية والاجتماعية والعسكرية التي شكلت الأحداث الكبرى في تاريخ سوريا الحديث. سنحاول أن نفهم الأسباب الجذرية لهذا التحول الدموي، وكيف أصبح سقوط النظام في ديسمبر 2024 بمثابة النهاية المشهدية لحكاية مؤلمة عاشت فيها سوريا الكثير من الأحلام المجهضة والآلام المتواصلة.

تطورات الأوضاع في سوريا منذ الاستقلال

تمر تطورات الأوضاع في سوريا منذ الاستقلال عام 1946 إلى سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024 عبر العديد من التحولات السياسية والعسكرية والاجتماعية نسردها على النحو التالي:

  1. 1. الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي (1946(

تُعتبر سوريا من أولى الدول العربية التي حققت استقلالها عن الاستعمار الفرنسي في عام 1946 بعد سنوات من الاحتلال العسكري والسياسي. ورغم أن الاستقلال كان نتيجةً لثورة شعبية ضد الاحتلال الفرنسي، إلا أنه لم يخلُ من التحديات، حيث شهدت سوريا حالة من الاضطراب السياسي بسبب النزاعات الداخلية بين القوى السياسية المتباينة. كانت تلك الفترة بداية لتصاعد الصراعات على السلطة بين الأحزاب الوطنية المختلفة، مثل الحزب الوطني وحزب الشعب، وأدى ذلك إلى ضعف الاستقرار السياسي.

  1. 2. مرحلة ما بعد الاستقلال (1946 – 1963)

خلال هذه الفترة، شهدت سوريا عدة تغييرات سياسية واجتماعية، بما في ذلك الانقلابات العسكرية. في عام 1949، وقع أول انقلاب عسكري في تاريخ سوريا بقيادة العقيد حسني الزعيم، الذي أصبح أول رئيس للجمهورية السورية بعد الاستقلال، لكن حكمه لم يستمر طويلاً، حيث تم الإطاحة به في نفس العام. بعد ذلك، تتابعت سلسلة من الانقلابات العسكرية حتى عام 1963، حينما وصل حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة.

  1. 3. ثورة 8 آذار – مارس 1963 وصعود حزب البعث

في 8 مارس 1963، قاد حزب البعث انقلابًا عسكريًا أطاح بالحكومة المدنية، ودخل الحزب في صراع مع القوى السياسية الأخرى من أجل السيطرة على السلطة. وتوج هذا الصراع بتأسيس دولة الحزب الواحد. في عام 1966، شهدت سوريا انقسامًا داخليًا بين الجناح العسكري بقيادة حافظ الأسد والجناح المدني بقيادة ميشيل عفلق.

  1. 4. حافظ الأسد والحكم الاستبدادي (1970 – 2000)

في عام 1970، قام حافظ الأسد بانقلاب عسكري ضد القيادة الحزبية التي كانت تسيطر على الحكم، مما مهد الطريق لوصوله إلى السلطة. حافظ الأسد حكم سوريا بقبضة حديدية حتى وفاته في عام 2000. خلال فترة حكمه، قام بتوسيع سلطاته على مؤسسات الدولة من خلال بناء جهاز أمني ضخم وفرض رقابة مشددة على المجتمع. كانت سياسته الخارجية تتسم بالتوجه القومي العربي، لا سيما في دعم القضية الفلسطينية ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي.

  1. 5. وراثة بشار الأسد للحكم (2000 – 2011)

بعد وفاة حافظ الأسد، تولى ابنه بشار الأسد الحكم في عام 2000، وهو ما أطلق عليه العديد من المراقبين بداية “عهد الإصلاحات”، حيث قام بإجراء بعض التعديلات الاقتصادية والتجديدات السياسية المحدودة، مثل السماح بفتح قنوات إعلامية مستقلة نسبيًا ورفع بعض القيود الاقتصادية. لكن، بقيت السلطة في يد العائلة الحاكمة، ومع مرور الوقت تزايدت المخاوف من تزايد التوريث السياسي، خاصة بعد تورط بشار الأسد في قمع أي مظاهر للاحتجاج السياسي. خلال هذه الفترة، كانت هناك احتجاجات في دمشق وبعض المدن الكبرى، ولكنها قوبلت بقوة أمنية قاسية.

  1. 6. الاحتجاجات السورية وحرب 2011

في 15 مارس 2011، اندلعت الاحتجاجات الشعبية في عدة مدن سورية، احتجاجًا على سياسات النظام. سرعان ما تحولت هذه الاحتجاجات إلى صراع مسلح بين القوات الحكومية والمعارضة المسلحة. التصعيد الأمني والعسكري دفع البلاد إلى حرب أهلية مدمرة، تمخضت عنها تداعيات إنسانية هائلة، بما في ذلك آلاف القتلى والمصابين، وظهور جماعات إرهابية مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وفصائل إسلامية متشددة.

  1. 7. التدخلات الإقليمية والدولية

شهدت الحرب السورية تدخلات إقليمية ودولية واسعة. في البداية، دعمت بعض الدول الغربية مثل الولايات المتحدة وبعض الدول العربية المعارضة السورية، في حين تدخلت روسيا في عام 2015 بشكل مباشر لدعم نظام بشار الأسد. كما أن إيران وحزب الله اللبناني قدما الدعم العسكري والسياسي للنظام السوري. في المقابل، كانت تركيا تدعم بعض الجماعات المعارضة ضد النظام.

  1. 8. الحرب السورية من 2014 إلى 2024

في هذه الفترة، حقق النظام السوري بدعم من روسيا وإيران بعض المكاسب العسكرية، ونجح في استعادة السيطرة على أجزاء كبيرة من البلاد، بما في ذلك معظم المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة. ومع ذلك، استمر النزاع في المناطق الشمالية والشمالية الشرقية من سوريا، حيث كانت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تدير مناطق كردية مدعومة من الولايات المتحدة.

شهدت سوريا أيضًا مأساة إنسانية شديدة، حيث تفاقمت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بشكل كبير، بما في ذلك نقص الغذاء والماء والخدمات الأساسية. كان الوضع في المناطق التي تحت سيطرة النظام يتفاوت بشكل كبير، ففي بعض الأماكن كانت الأوضاع أفضل نسبيًا، بينما في أماكن أخرى كان الوضع يعاني من نقص حاد في الموارد.

  1. 9. سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024 

في 8 ديسمبر 2024، وبعد سنوات من النزاع المستمر، سقط نظام بشار الأسد نتيجة سلسلة من الهزائم العسكرية والسياسية التي تعرض لها في الفترة الأخيرة. كان هذا السقوط نتيجة لتداعيات مجموعة من العوامل، منها التغيرات السياسية في المنطقة، والتحولات الداخلية في سوريا، والضغوط المتزايدة من قوى المعارضة المسلحة التي دعمتها عدة دول إقليمية. كما أن الوضع الاقتصادي المنهار والنقمة الشعبية كان لهما دور كبير في إضعاف النظام.

باختصار، يمثل سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024 نقطة تحول كبيرة في تاريخ سوريا والمنطقة بأسرها. رغم أن الوضع ما يزال غير مستقر، ويحتاج إلى سنوات من إعادة البناء والاستقرار، إلا أن ذلك قد يفتح آفاقًا جديدة أمام الشعب السوري لإعادة بناء مؤسسات الدولة وتحديد مسار جديد للبلاد بعد أكثر من عقد من الحرب الدموية.

إن سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024 يمثل نهاية فصول دامية طويلة من تاريخ سوريا الحديث، ولكن هذا السقوط لا يعني بالضرورة نهاية معاناة الشعب السوري ولا طي صفحة الآلام التي عاشها لسنوات طويلة. بل إن هذا السقوط يأتي بمثابة استراحة قصيرة في رحلةٍ مريرة لم تنتهِ بعد، فالشعب السوري، الذي تحمل ويلات حرب أهلية مدمرة، وعاش في ظل قمع استبدادي، يجد نفسه الآن أمام تحديات ضخمة في عملية إعادة البناء، ليس فقط للبنية التحتية التي دمرت، بل للأوطان التي تفتتت والأرواح التي تلوثت بمرارة الخيانة والفرقة.

قد يكون سقوط النظام بدايةً لعهد جديد، لكن هذا العهد لن يكون خاليًا من العقبات، فالسياق الإقليمي والدولي ما يزال يفرض نفسه على المشهد السوري. وتبقى سوريا، على الرغم من تراجع السلطة الاستبدادية، مهددة بالانقسامات الداخلية التي جعلتها مسرحًا لأكثر الحروب قسوة في العصر الحديث. لكن في وسط هذا الخراب، هناك بصيص من الأمل، حيث يمكن للسوريين أن يعيدوا بناء وطنهم على أسس من الوحدة والمصالحة والعدالة.

إن هذه اللحظة التاريخية، التي تواكب نهاية نظام حكم آل الأسد، هي دعوة لتأمل التاريخ السوري بكل تعقيداته؛ لتسليط الضوء على حجم التضحية والصمود الذي قدمه هذا الشعب في مواجهة الظلم. ولكنها أيضًا دعوة للأمل، لأن سقوط الأنظمة الاستبدادية لا يعني نهاية الطموح الوطني، بل هو بداية لشعبٍ يبحث عن حرية حقيقية، وعن هوية وطنية جديدة تتجاوز قمع الماضي وتبني مستقبلًا يستحقه.

وفي النهاية، تظل سوريا، بفضل شعبها العريق وتاريخها الحافل، رمزًا للمقاومة والتحدي، لكن رحلتها الطويلة نحو السلام والازدهار لم تنتهِ بعد. وكل خطوة نحو إعادة بناء الدولة وبناء الثقة بين أطياف المجتمع السوري ستكون بمثابة انتصار للشعب السوري، الذي يستحق أن يعيش في وطنٍ خالٍ من العنف، وملئٍ بالسلام والعدالة.

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى