الأكراد بين خرائط القوة والتاريخ المنسي: دول قامت ثم سقطت وأحلام لم تكتمل

بقلم: د. طالب عبد الجبار الدّغيم – المركز الديمقراطي العربي
رغم امتدادهم الجغرافي العابر للحدود، وتاريخهم العريق الضارب في عمق المشرق، لا يزال الأكراد يلاحقون حلم الدولة الذي طال انتظاره. ففي قلب منطقة تعجّ بالصراعات، حيث تتشابك المصالح الوطنية مع التدخلات الإقليمية والدولية، وُلدت كيانات كردية ثم تهاوت، وبرزت جمهوريات فخُذلت، فيما بقي الحلم الكردي معلّقًا على جدار الجغرافيا السياسية.
وبينما يسيطر القَسَديّون (قوات سوريا الديموقراطية) على مناطق في الجزيرة السورية بحكم الأمر الواقع، فقد خيّب الموقف الأمريكي والغربي آمالهم في الاعتراف بالحلم المتجدّد المتمثل في “روج آفا”، ومنحهم إدارة ذاتية مستقلة، إذ أعلن الغربيون بأنّ سوريا يجب أن تكون دولة واحدة، وأنّ على قسد التفاهم مع القيادة الجديدة.
- أصل الأكراد
الأكراد هم شعب هندو-أوروبي ينتمي إلى الفرع الإيراني من الشعوب الآرية، ويتحدث لغات كردية تندرج ضمن المجموعة الإيرانية الغربية من اللغات الهندو-أوروبية. ويُعتبر الأكراد من الناحية الإثنية أحفادًا لقبائل إيرانية قديمة مثل الميديين، والفرس، والسكيث، وقد نشأوا في مناطق جبال زاغروس الممتدة بين غرب إيران وشرق العراق، حيث استقروا منذ القرن الأول الميلادي تحت حكم الإمبراطورية الساسانية.
- إمارات كردية: حكم ذاتي في ظلال الخلافة
بعد الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، انخرط الأكراد في أجهزة الدولة الأموية ثم العباسية، إلا أن تراجع السلطة المركزية للخلافة العباسية أتاح المجال لظهور إمارات كردية شبه مستقلة على أطراف الدولة الإسلامية، اتخذت شكل حكم محلي بسمات سياسية وإدارية تُشبه الدولة.
ومن أبرز هذه الكيانات إمارة شداد (951–1199م) في أذربيجان والقوقاز، التي استمرت لأكثر من قرن ونصف، بالإضافة إلى إمارة المروانيين في ديار بكر شمال العراق، التي عُرفت بدعمها للعلوم والثقافة، وإمارة الدوستكيين التي سيطرت على مواقع استراتيجية في كردستان. كما برزت في هذه الفترة أسر حاكمة كردية، من أبرزها الدولة الأيوبية التي أسسها صلاح الدين الأيوبي، حيث استقر عدد من القادة والعائلات الكردية في مناطق سوريا مثل حلب وحماة، غير أن هذه الهجرة كانت ذات طابع نخبوي وعسكري، ولم تُنتج تجمعات كردية سكانية كبيرة.
وفي سياق الصراع العثماني-الصفوي، برزت إمارة البابان في السليمانية، وإمارة سوران في رواندوز، حيث سعى زعيمها مير كور إلى توحيد الأكراد تحت راية سياسية واحدة، غير أن التدخل العثماني حال دون تحقيق هذا الطموح. وقد بقيت هذه الإمارات في نهاية المطاف كيانات محلية ذات طابع مستقل نسبياً، تعبّر عن النزوع الكردي للاستقلال، دون أن تتطور إلى دول قائمة بذاتها. ومع مرور الزمن، تقاسمت الإمبراطوريتان العثمانية والصفوية مناطق الأكراد، وشجعتا هجرتهم نحو المناطق الحدودية، لا سيما في الجزيرة السورية مثل القامشلي، والمالكية، وعفرين، بهدف تعزيز نفوذهما، وضبط حركة القبائل الكردية.
- الأكراد بعد الحرب العالمية الأولى
بعد الحرب العالمية الأولى، ونتيجة لانهيار الدولة العثمانية، وصعود الدولة القومية التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، دخل الأكراد في مرحلة جديدة من النضال السياسي والمقاومة المسلحة، بدأت أبرز فصولها بـ ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925، وهو أحد كبار أعيان الطريقة النقشبندية في مناطق دياربكر ومحيطها. ففي فبراير من ذلك العام، أعلن الشيخ سعيد العصيان المسلح ضد حكومة أتاتورك، رافعًا شعار: “من أجل الدين، من أجل الخلافة ضد الكفر والإلحاد”.
وتوسعت الانتفاضة بسرعة لتشمل ما يزيد عن 50 ألف مقاتل من عشرات العشائر الكردية المنتشرة في شرق الأناضول. وردت الحكومة التركية بقوة عسكرية ساحقة، استخدمت فيها الطيران والمدفعية الثقيلة، وتمكنت في أبريل 1925 من اعتقال الشيخ سعيد وقادة الثورة بعد معارك عنيفة. وقد أُعدم الشيخ سعيد في 29 يونيو 1925 مع 47 من رفاقه في دياربكر.
ورغم فشل الثورة عسكريًا، فإنها شكّلت بداية لسلسلة من التمردات الكردية ضد الدولة التركية، وأدت إلى تصاعد القمع في المناطق ذات التواجد الكردي، حيث فرضت أنقرة حالة الطوارئ، وبدأت تطبيق سياسة “التتريك” الممنهجة، والتي تضمنت تغيير الأسماء الكردية، ومنع اللغة الكردية في المدارس والإعلام. وفي أعقاب الثورة، حدثت موجة لجوء كبرى، إذ عبر آلاف من المقاتلين والمدنيين الحدود نحو العراق وسوريا، وكانت أبرز وجهاتهم منطقة الجزيرة السورية (الحسكة، والقامشلي، وعامودا)، حيث شكلوا لاحقًا النواة الأساسية لوجود الأكراد السوريين المعاصرين.
ومهما يكن، فإن المرحلة ما بعد عام 1925م، تُعد نقطة تحوّل حاسمة في تاريخ الأكراد خارج تركيا أيضًا، إذ بدأت تتبلور ملامح الشتات الكردي السياسي والجغرافي في كل من سوريا، والعراق، وإيران، وتحولت قضاياهم إلى ملفات إقليمية تجاوزت الجغرافيا التركية.
وفي هذا السياق، لعبت السلطات الفرنسية المنتدبة على سوريا (1920 – 1946م) دورًا استراتيجيًا، إذ شجعت استقرار الأكراد اللاجئين في شمال سوريا، لأسباب سياسية وعسكرية؛ أبرزها خلق توازن ديموغرافي مع العرب والتركمان والآشوريين في الجزيرة السورية، وتجنيد الأكراد في القوى الأمنية المحلية التابعة للانتداب الفرنسي. وقد استفاد الأكراد من هذه السياسة نسبيًا في تأسيس تجمعات سكانية مستقرة، وممارسة بعض مظاهر هويتهم الثقافية والاجتماعية، ما ساهم في ترسيخ وجودهم في شمال شرق سوريا.
- جمهورية مهاباد: دولة قامت… وماتت في المهد
عندما اشتعلت نيران الحرب العالمية الثانية، وأصبحت إيران ساحة لتنافس السوفييت من الشمال والبريطانيين من الجنوب، ظهر فراغ سياسي في شمال غرب البلاد، تحديدًا في مدينة مهاباد ذات الغالبية الكردية. وهذا الفراغ كان الأرض الخصبة التي مهّدت لقيام جمهورية مهاباد الكردية، التي سُجلت في التاريخ كأول تجربة حكم كردي قومي في العصر الحديث.
أُعلن في 22 يناير 1946 قيام جمهورية مهاباد بدعم مباشر من القوات السوفييتية، في مدينة مهاباد ذات الغالبية الكردية. واعتُبرت هذه الجمهورية أول تجربة لحكم كردي قومي في العصر الحديث، وتولى رئاستها الزعيم الكردي القاضي محمد، وشكلت حكومة محلية، أصدرت صحفًا باللغة الكردية، وأسّست مدارس لتعزيز الهوية القومية.
إن الاعتماد الكامل على الحماية السوفييتية، جعل مصير الجمهورية مرهونًا بالقرار الروسي. ولذلك، بعد انسحاب السوفييت نتيجة الضغوط البريطانية والأمريكية، اجتاحت القوات الإيرانية مهاباد في ديسمبر 1946، وأنهت الجمهورية خلال أقل من عام على تأسيسها. وأُعدم القاضي محمد ورفاقه علنًا، في رسالة صارمة من طهران ضد أي مشروع انفصالي. ورغم قصر عمرها، بقيت جمهورية مهاباد رمزًا راسخًا في الوعي القومي الكردي، كونها مثّلت أول تجسيد فعلي لفكرة الدولة الكردية، وإن وُئدت في مهدها بسبب ضعف الدعم الداخلي، والارتهان للخارج. وهذه التجربة – رغم قصرها – مثلت أول بذرة لدولة كردية مستقلة بحدود واضحة وحكومة وبرنامج قومي في العصر الحديث.
- كردستان العراق: تجربة الحكم الذاتي الأطول عمرًا
بعد سقوط النظام الملكي في العراق عام 1958، عاد الملا مصطفى البارزاني مع عائلته من منفاه، وقاد الثورة الكردية المسلحة ضد الحكومات العراقية المتعاقبة بين عامي 1961 و1975، مدعومًا من إيران والولايات المتحدة الأمريكية. في عام 1970، تم توقيع اتفاق يمنح الأكراد حكماً ذاتيًا، لكنه لم يُنفذ، ما أدى إلى تجدد القتال. وانهارت الثورة عام 1975 إثر توقيع اتفاق الجزائر بين العراق وإيران، وتخلت طهران عن دعم الأكراد، فلجأ البارزاني إلى الولايات المتحدة، وتوفي هناك عام 1979م.
وشهد الأكراد تحولًا جذريًا بعد عام 1991م، إذ انسحب الجيش العراقي من شمال البلاد عقب الانتفاضة الشعبية، وفرض التحالف الدولي منطقة حظر جوي، مما أتاح للأكراد تأسيس حكم ذاتي فعلي بحكومة وبرلمان في أربيل عام 1992.
وفي عام 2005، اعترف الدستور العراقي رسميًا بـإقليم كردستان ككيان اتحادي يتمتع بحكومة وبرلمان ورئيس للإقليم، وقوات البيشمركة، وصلاحيات واسعة في إدارة شؤونه الداخلية. ورغم تنظيم استفتاء على الاستقلال في عام 2017، فإن الضغوط التركية والإيرانية والعربية والغربية حالت دون تنفيذه.
- الأكراد بعد الثورة السورية يكتبون فصلًا جديدًا
قبل شهر آذار/ مارس عام 2011م، كان الوجود الكردي في سوريا محاصرًا بقيود قانونية وثقافية صارمة، حيث حُرم ما يقارب 300 ألف كردي من الجنسية السورية بموجب إحصاء استثنائي عام 1962 في محافظة الحسكة، مما أدى إلى حرمانهم من حقوق التعليم، والتملك، والعمل الرسمي، بل وحتى تسجيل المواليد. وكما كانت اللغة والثقافة الكردية محظورة في الفضاء العام، في ظل سياسة تعريب ممنهجة تبنتها الحكومات المتعاقبة، خاصة في عهد حزب البعث.
غير أن التطورات التي نتجت عن الثورة السورية، وسرعة انكفاء النظام السوري البائد عن مناطق الشمال الشرقي، فتحت للأكراد نافذة غير مسبوقة لممارسة شكل من الحكم الذاتي، وللظهور كقوة سياسية وعسكرية فاعلة. وبحلول عام 2012، أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، المرتبط أيديولوجيًا بحزب العمال الكردستاني (PKK)، عن تأسيس ما يُعرف اليوم بـ”الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا”، والتي تشمل مناطق الرقة، والحسكة، والقامشلي، وكوباني، ومنبج، وغيرها.
وترافق ذلك مع تشكيل هياكل مدنية وتنظيمية تمثلت في مجالس محلية، ومحاكم، وشرطة أسايش وقوات خاصة في مناطق سيطرتهم، أُدرجت فيها اللغة الكردية كلغة رسمية إلى جانب العربية، في محاولة لإعادة الاعتبار للهوية الثقافية الكردية. وأما على المستوى الأمني والعسكري، فقد برزت قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والتي تمثل تحالفًا عسكريًا يضم وحدات حماية الشعب الكردية (YPG) إلى جانب مقاتلين عرب وسريان وآشوريين. وقد لعبت هذه القوات دورًا في محاربة تنظيم داعش من معاقله في شمال شرق سوريا، بدعم مباشر من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
ورغم أن الإدارة الذاتية باتت تسيطر فعليًا على مساحات واسعة من الأراضي الغنية بالثروات الزراعية والنفطية، إلا أن هذا الواقع لا يزال هشًا. فالحكومة السورية الجديدة ترفض أي شكل من الاعتراف الرسمي بها، وتصر على استعادة “السيادة الكاملة”، بينما تُصعّد تركيا تصعيدها العسكري، معتبرة أن الوجود الكردي المنظم على حدودها الجنوبية خطر على أمنها القومي، وقد شنت أنقرة بالفعل عدة عمليات عسكرية في مناطق مثل عفرين ورأس العين وتل أبيض.
من جهة أخرى، يعاني مشروع الإدارة الذاتية “روج آفا” من غياب الاعتراف الدولي الرسمي، فرغم التنسيق العسكري مع واشنطن، إلا أن الدعم السياسي ظل محدودًا، ومشروطًا بالحسابات الأمريكية المعقدة في المنطقة. كما تواجه الإدارة تحديات داخلية تتعلق بالمشاركة السياسية، وحقوق بقية المكونات غير الكردية وخاصة العشائر العربية والمناطق التي تعرضت للظلم والتهجير من الرقة والحسكة ودير الزور. وبين مطرقة الشعب السوري بعد سقوط نظام الأسد، وسندان تركيا، وبين توازنات اللاعبين الدوليين، يبقى مستقبل هذه التجربة رهين التطورات الميدانية والدبلوماسية، ما يجعلها فصلًا مفتوحًا في كتاب الأزمة الكردية، لم تُكتب نهايته بعد.
- حلم الدولة الكردية… بين الإرادة السياسية والجغرافيا المستحيلة
من إمارة شداد في القوقاز إلى جمهورية مهاباد في قلب كردستان إيران، ومن جبال السليمانية في العراق إلى روج آفا في الشمال السوري، ظل الحلم الكردي بالدولة المستقلة يتنقّل عبر الزمن، من تجربة إلى أخرى، ومن انتفاضة إلى كيان مؤقت، دون أن يجد له مرسى دائمًا على خرائط العالم المعترف بها. فالمسألة الكردية، وعلى خلاف ما قد تبدو عليه من بساطة “قضية شعب بلا دولة”، هي واحدة من أعقد القضايا الجيوسياسية في الشرق الأوسط، تتشابك فيها الاعتبارات القومية بالمصالح الإقليمية والتوازنات الدولية. وقد وُلدت معظم الكيانات الكردية في لحظات ضعف أو ارتباك في السلطة المركزية، وبدعم خارجي لا يلبث أن يتحول إلى عبء حين تتبدّل الحسابات. وما إن تلوح الفرصة التاريخية، حتى تتدخل أطراف دولية وإقليمية لسحب البساط من تحت التجربة، خشية أن تؤسس لسابقة تفتح بابًا لا يريد أحد فتحه في منطقة محفوفة بالحدود المصطنعة والتوازنات الهشة.
فمن تركيا التي تخشى من عدوى الانفصال داخل أراضيها، إلى إيران التي ترى في أي حكم ذاتي كردي تهديدًا مباشرًا لسيادتها، مرورًا بـسوريا المنهكة، والتي لديها فكرة بناء دولة، والعراق الاتحادي الذي لم يحسم أمره بعد، وصولًا إلى القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وروسيا، التي تستخدم الورقة الكردية تكتيكيًا لا استراتيجيًا، فإن الكرد غالبًا ما يجدون أنفسهم وقودًا في لعبة أمم لا تملك لهم إلا الوعود المؤقتة. ولا تغيب إسرائيل عن هذا المشهد، حيث تنظر إلى أي كيان كردي محتمل باعتباره فرصة استراتيجية لضرب العمق الجغرافي العربي والإيراني والتركي، وهو ما يُضاعف من حساسية هذه المسألة.
ولا يمكن إنكار أن الأكراد أثبتوا قدرة نادرة على إعادة تشكيل هويتهم السياسية كلما سنحت لهم الفرصة، ولو كانت مؤقتة. وبين دولة وُلدت ثم أُعدمت، وإقليم يزدهر بلا اعتراف دولي، وإدارة تبحث عن شرعية حكمها الذاتي في شمال شرق سوريا، تبقى المسألة الكردية ملفًا متجددًا في مشهد شرق أوسطي يتغير شكله ولا تتغير قواعده: لا مكان لدولة جديدة على الخريطة… إلا إذا قررت القوى الإقليمية والدولية الكبرى ذلك. وبالتالي، فالحلم الكردي بالدولة لا يزال حبيس “الجغرافيا المستحيلة”؛ حيث الإرادة السياسية وحدها لا تكفي، وحيث الخرائط تُرسم بالدم والمصالح، لا بالمشروعية فقط.
المراجع:
- David McDowall, A Modern History of the Kurds, I.B. Tauris, 2004.
- Martin van Bruinessen, Agha, Shaikh and State: The Social and Political Structures of Kurdistan, Zed Books, 1992.
- جمال نبز، كرد وكردستان، دار آراس، 2001.
- Britannica, “Mahabad Republic”.
- The Cambridge History of Iran, Vol. 5.
- International Crisis Group, “Flight of Icarus? The PYD’s Precarious Rise in Syria,” 2014.
- Fabrice Balanche, Sectarianism in Syria’s Civil War, The Washington Institute for Near East Policy, 2018.