الفضاء السكني في سوريا .. التراث العمراني السّوري من منظور اجتماعي وثقافي

اعداد : د. طالب عبد الجبار الدغيم – المركز الديمقراطي العربي
يعد التراث العمراني في سوريا أحد أبرز المكونات المادية التي تجسد الامتداد التاريخي والتنوع الثقافي والاجتماعي للمجتمع السوري، بما يحمله من دلالات وظيفية ورمزية عميقة. فالبيئة السَّكنية التقليدية، بما فيها من عناصر معمارية وتخطيطية، تمثل انعكاسا مباشرا للقيم الاجتماعية، والأنماط المعيشية، والاحتياجات المناخية التي ساهمت في تشكيلها عبر قرون من التراكم الحضاري. ولم يكن البيت السوري فضاء مادي فحسب، وإنما هو وحدة إدارية وثقافية واقتصادية يتداخل فيها الخاص والعام، الفردي والجماعي، ويقوم على مفاهيم مثل الخصوصية، والانفتاح المشروط، والتجاور الاجتماعي، وتكامل الوظائف الداخلية مع السياق الحضري العام.
وإذ يتنوع التراث العمراني السوري بين الأقاليم، فإن وحدة النمط الثقافي في استخدام الفناء، والمياه، والعناصر البيئية، تمنح هذا العمران طابعاً موحداً من جهة الروح، ومتنوعاً من جهة الشكل، بحسب المعطيات الجغرافية والاجتماعية. وإن دراسة البنى السكنية والتخطيط الحضري في سوريا التقليدية تكشف عن رؤية متقدمة في إنتاج الفضاء تنسجم مع المحيط، وتحقق التوازن بين الضرورة والجمال، في ظل بنية اجتماعية تحكمها العادات والدين والعلاقات المحلية.
ومن هذا المنطلق، تتجاوز قراءة التراث العمراني السوري حدود التوثيق أو الجمالية، لتشكل مدخلاً لفهم تحولات المجتمع، وآليات الدولة التقليدية في تنظيم المجال، والكيفية التي عبر بها الإنسان السوري عن هويته، وطبق من خلالها فكره وقيمه وثقافته الموروثة في المشهد العمراني.
- السياق التاريخي للتخطيط والعمران في سوريا
تطورت أنماط البناء والتخطيط الحضري في سوريا عبر مراحل تاريخية متعاقبة، عكست من خلالها تحولات البنية السياسية، وتغير أنماط الحياة، وتفاعل الإنسان مع بيئته المحلية. ومنذ ازدهار الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، بدأت ملامح المدينة العربية الإسلامية تتبلور في سوريا على نحو يعكس منظومة القيم العمرانية التي نشأت في تلك الحقبة، من حيث التكوين العضوي للشوارع، وضيق الأزقة، وتماسك الأحياء، ووجود مراكز دينية وتجارية وخدمية ضمن نسيج عمراني متماسك.
واستمر هذا النمط حتى أواخر العهد العثماني، حيث حافظت المدن السورية الكبرى مثل دمشق وحلب على مراكزها التاريخية، مع دمج منشآت عثمانية كالخانات والتكايا ضمن الأنسجة القائمة، دون إحداث قطيعة بنيوية مع الإرث المملوكي والعباسي. وقد حافظت الحارات القديمة على طابعها المترابط، بما يتضمنه من فراغات داخلية مغلقة، وأنظمة توزيع فراغي تقوم على الفصل بين العام والخاص، ضمن نمط يعكس الخصوصية الاجتماعية والتضامن المجتمعي في آن واحد.
ومع دخول النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، بدأت المدن والبلدات السورية تشهد تحولات عمرانية تدريجية نتيجة التأثر المتزايد بالنموذج الغربي والحداثة التنظيمية. وظهرت شبكات شوارع أكثر انتظاماً في الامتدادات الجديدة خارج الأسوار، وتم افتتاح شوارع حديثة مثل سوق مدحت باشا في دمشق، كما بدأت عمليات تنظيم واسعة في حلب وباقي المدن. وتعزز هذا النمو السكني خلال فترة الانتداب الفرنسي (1920 – 1946م)، حيث اعتمد تخطيط شبكي، ونُفذت مشاريع لتوسعة المدن باتجاهات جديدة، وتطورت الأحياء ذات الطابع الأوروبي، مترافقة مع استخدام مواد بناء مستوردة كالأسمنت والقرميد الأحمر.
وعلى الرغم من هذه التحولات، ظلت المدن السورية القديمة تشكل نواة حيوية داخل الحواضر السورية حتى منتصف القرن العشرين، حيث استمر التراث العمراني بوصفه ذاكرة معمارية حية، إذ يحتفظ بروحه الخاصة رغم زحف التحديث العمراني. وقد تميزت تلك المرحلة بالتداخل بين القديم والحديث، واِنبثاق مشهد حضري مركب يعكس صراع الهوية المعمارية بين الاستمرارية والانقطاع.
- تنوع الأنماط السَّكنية بين المناطق السّورية
تُظهر العمارة السكنية في سوريا تنوعاً تاريخياً غنياً، ومتعدد المستويات، يعكس التباين الجغرافي والمناخي والثقافي بين المناطق السورية المختلفة، ويُجسد في الوقت ذاته وحدة ثقافية كامنة في وظائف المسكن التقليدي وفضائه الاجتماعي. ويتمثل هذا التنوع في مجموعة من النماذج المعمارية التي تطورت محلياً، لتلبّي حاجات السكان المادية والرمزية، ضمن شروط بيئية ومجتمعية خاصة.
- العمارة الدمشقية
يُعدّ النمط المعماري الدمشقي من أبرز التجليات المادية للهوية الاجتماعية والبيئية للمدينة، ويتجسّد بشكل خاص في تصميم الفناء الداخلي الذي يتوسط البيت التقليدي. يُبنى المنزل الدمشقي حول صحن مركزي (الوسطية العمرانية)، تتوزع حوله الغرف بشكل يحقق الانسجام الوظيفي والجمالي، وتُزرع فيه الأشجار المحلية كالياسمين والنارنج، تتوسطه نافورة مائية (بحرة) تؤدي دورًا بيئيًا في تلطيف المناخ الداخلي، إضافةً إلى بعدها الجمالي والرمزي. ويمتاز التصميم الخارجي بانغلاق تام على الشارع، حيث تُشيّد الواجهات بجدران عالية خالية من النوافذ، تتخللها أبواب خشبية ثقيلة مزودة بعناصر حديدية دفاعية، في حين ينفتح الداخل على فضاء داخلي مفعم بالحياة، تتوزع فيه العناصر النباتية والمائية والمقاعد الحجرية بطريقة تُعزز من الخصوصية وتُكرّس التفاعل العائلي ضمن فضاء مغلق.
يُقسّم البيت إلى جناحين وظيفيين واضحين؛ جناح الاستقبال (السلاملك)، الذي يُخصص للضيوف والمناسبات العامة، وجناح المعيشة العائلية (الحرملك)، الذي يحافظ على خصوصية الأسرة. وتُزين الأسقف الداخلية للغرف بزخارف “العجمي”، وهي تقنية تقليدية تعتمد على التذهيب والألوان الطبيعية والنقوش النباتية والكتابات الشعرية أو الدينية، ما يعكس الرقي الثقافي والذوق الفني الدمشقي.
ويُظهر هذا النمط المعماري قدرة فائقة على المواءمة بين الضرورات المناخية والاعتبارات الاجتماعية، إذ يُوفر عزلة عن الخارج دون الإخلال بالانفتاح الداخلي، ويعكس بنية العائلة الممتدة كمكون أساسي للمجتمع، ويُجسد في الوقت ذاته وحدة متكاملة من الجمال، والوظيفة، والهوية الثقافية.
- العمارة الحلبيبة
يحافظ البيت الحلبي التقليدي على البنية المفاهيمية الأساسية التي تميز العمارة السكنية في المدن الشامية، ولا سيما محورية الفناء الداخلي بوصفه نواةً وظيفية وجمالية، غير أنّه يتميّز بخصوصيات مادية وزخرفية تعكس بيئة حلب وطبائع سكانها. ويُشيّد البيت غالباً باستخدام الحجر الكلسي الأبيض، المعروف بخصائصه العازلة، ويأخذ طابع البناء القَصَري في أوساط الطبقات الميسورة، حيث تتجلى التراتبية الاجتماعية في توزيع الوظائف المعمارية.
ويتألف التصميم العام من باحة مركزية رحبة، مفروشة بالحجر أو الرخام، تتوسطها بحرة ثمانية الأضلاع وأحواض نباتية حجرية، وتتوزع الغرف حولها بتنظيم دقيق يُراعي وظائف الضيافة والمعيشة والخدمات. وتُبنى الواجهات الخارجية بأسلوب شبه منغلق، بمداخل منكسرة تحمي خصوصية الداخل، في حين تنفتح النوافذ حصراً على الفناء، محافظةً على طابع مغلق تجاه الشارع ومنفتح تجاه الداخل.
ويُعد الإيوان الجنوبي المرتفع أحد العناصر المميزة في العمارة الحلبية، إذ يُفتح شمالًا لتوفير الظل والتهوية، ويؤدي دورًا اجتماعيًا في استقبال الزوار ضمن حدود معينة من الخصوصية. كما تتسم القاعات الكبرى في البيوت الحلبية بكونها مشيدة على هيئة حرف T، مزودة بأسقف خشبية ملوّنة، تُزيّن بزخارف “العجمي” الغنية التي تجمع بين الزخرفة النباتية والتذهيب والكتابات.
وبذلك، يُجسد البيت الحلبي توازنًا لافتًا بين الفخامة المعمارية والخصوصية الاجتماعية، ويُراعي شروط الاستدامة البيئية من خلال استخدام مواد محلية، وتنظيم يُحقق الراحة الحرارية في مختلف الفصول، ويمثل النموذج الحلبي امتداداً للهوية الشامية المعمارية، مع فروقات تعبيرية ترتبط بثقافة المدينة، وذوقها الجمالي الخاص.
- البادية السورية والجزيرة الفراتية
يمثّل النمط القبابي الطيني في المناطق الشرقية من سوريا أحد أبرز أشكال العمارة البيئية التقليدية، بوصفه استجابة ذكية ومتكاملة للظروف المناخية القاسية في البيئات الصحراوية وشبه الصحراوية. تقوم هذه المساكن على وحدات قبابية متراصة تُبنى من الطوب الطيني (اللبن) المخلوط بالتبن، دون الحاجة إلى دعامات خشبية أو مواد إنشائية مستوردة، مما يمنحها طابعاً تقنياً ذاتيّاً واستقلالاً إنتاجيّاً يعكس عمق الموروث المعماري المحلي.
وتتميّز هذه القباب بكفاءتها العالية في العزل الحراري الطبيعي، إذ تحافظ على درجة حرارة معتدلة داخل البيت، باردة صيفًا ودافئة شتاءً، كما تتمتع بقدرة مقاومة للرياح القوية والعوامل الجوية المختلفة، ما يجعلها مثالاً مثالياً للاستدامة البيئية. وقد شُيّدت غالباً بأيدي عاملة محلية، في إطار تعاون جماعي بين السكان، مما يعكس بُعدًا اجتماعيًا في أنماط البناء، ويُعزز من التكافل المجتمعي الريفي.
وانتشرت هذه البيوت في مناطق متعددة من البادية السورية، أبرزها تدمر، ريف حلب الشرقي، ضفاف نهر الفرات، ومنطقة الجزيرة السورية، حيث شكلت قاعدة عمرانية للفلاحين والبدو المستقرين. وعلى الرغم من تراجع استخدامها بفعل التحولات العمرانية الحديثة، فقد شهدت العقود الأخيرة محاولات لإعادة إحياء هذا النمط في إطار مشاريع التنمية المستدامة والمحافظة على التراث المعماري المحلي. وبهذا، يُمثّل النمط القبابي الطيني حلقة حيوية في سلسلة العمارة السورية التقليدية، مندمجاً مع البيئة ومجتمعها، ويُوفر نموذجًا يُحتذى به في مجالات العمارة المستدامة، والاعتماد على الموارد المحلية، والبناء منخفض التكلفة في المناطق الريفية والنائية.
- العمارة في الساحل السوري
يعتمد البناء التقليدي الساحلي على الحجر الكلسي والأخشاب، وتظهر فيه أسطح مائلة مغطاة بالقرميد الأحمر استجابة للمناخ الرطب والممطر. وكانت البيوت في الساحل السوري على طراز بسيط يتلاءم مع ثقافة الزراعة والصيد، وتحتوي عادة على شرفات خارجية أو أفنية خلفية. ويُراعي هذا النمط التقارب بين الوحدات السكنية، بما يعكس الروابط الاجتماعية القوية في القرى الساحلية، ويُجسد طبيعة الحياة اليومية التي تتسم بالبساطة والتعاون.
وتعكس بيوت الساحل السوري تفاعلاً مع مناخ متوسطي رطب وممطر. وتُبنى غالباً من الحجر الكلسي أو الرملي، بجدران سميكة، وأسقف مائلة مغطاة بالقرميد الأحمر، وشرفات خشبية أو حجرية تُظللها الكروم. وفي القرى الجبلية، تُصمم البيوت بطابقين، الأرضي للتخزين والعلوي للسكن. وتتميز بتفاصيل معمارية بسيطة كاللباد لتصريف المياه، وأقواس نصف دائرية مستوحاة من العمارة الفينيقية والرومانية. في مدن الساحل، تراجعت البيوت التقليدية لصالح البناء الحديث، لكن القرى لا تزال تحتفظ بجزء كبير من تراثها.
- العمارة في حوران وجنوب سوريا
يتفرد البيت الحوراني والبيوت في جبل العرب باستخدام الكامل لحجارة البازلت الأسود، وتسقيفه بالأقواس والقناطر دون خشب. وتنقسم البيوت إلى أجنحة متعددة، من بينها المضافة الواسعة لاستقبال الضيوف، وجناح العائلة، وجناح الخدمات. وتقوم الوظيفة العمرانية على دمج خصوصية الحياة العائلية مع كرم الضيافة، في بناء شديد التماسك، مصمم بعناية ليتلاءم مع الحياة الزراعية والرعوية في المنطقة. تعكس القناطر الحجرية والتقسيمات الوظيفية الصارمة تقاليد معمارية تتقاطع فيها المتانة الجسدية بالعمق الثقافي.
- التحولات العمرانية والسَكنية في المدن والأرياف السورية في القرن العشرين
شهدت المدن السورية في القرن العشرين تحولات بنيوية جذرية طالت أنماط البناء والسكن، إذ حلّت المباني الخرسانية متعددة الطوابق محل المنازل التقليدية ذات الطابع المعماري التراثي. وتبلور نمط السكن العمودي ضمن الشقق الحديثة بوصفه النموذج السائد، مدفوعًا بتوسّع استخدام مواد البناء الصناعية مثل الإسمنت والقرميد، والاعتماد المتزايد على الأسقف المائلة. وقد ترافق ذلك مع اعتماد المخططات الشبكية للمدن وتوسعة الشوارع، ما أدى إلى تراجع القيم المعمارية والاجتماعية المتأصلة، وعلى رأسها مفهوم الفناء الداخلي والخصوصية الأسرية، لصالح أنماط أكثر فردية ووظيفية. ورغم هذا التحول، حافظت المراكز التاريخية في دمشق وحلب وحمص واللاذقية على معالمها المعمارية التقليدية، بما تمثّله من مرجعية ثقافية ومادية تعكس عمق الهوية السورية واستمرارية التواصل مع الموروث الحضاري.
- التمدين الحديث وتحوّلات أنماط السكن
مع حلول منتصف القرن العشرين، وتحديداً بعد الاستقلال الوطني عام 1946، شهدت سوريا تسارعاً في حركة التمدين بفعل النزوح الواسع من الأرياف إلى المراكز الحضرية الكبرى، مدفوعاً بعوامل اقتصادية وتعليمية. وقد أسفر ذلك عن توسع عمراني كثيف في مدن مثل دمشق وحلب وحمص، ورافقه اعتماد الدولة على نماذج تخطيط حضري حديث تمثلت بفتح شوارع رئيسية، واستحداث أحياء جديدة خارج النطاق العمراني القديم.
وفي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، برزت الأبنية السكنية الحديثة ذات الطوابق المتعددة، والشُرفات الخارجية، مستندة إلى أسلوب وظيفي دولي يهدف إلى استيعاب الزيادة السكانية، دون مراعاة كافية للاعتبارات البيئية والمناخية التي لطالما ميزت العمارة السورية التقليدية. وقد حلّ نمط الشقق المنفصلة محل نموذج البيت العربي الجامع للعائلة، مما انعكس على البنية الاجتماعية، حيث تقلصت الروابط اليومية التي كانت تجمع أفراد العائلة الممتدة والجيران ضمن الحارة المدينية الواحدة.
وامتدت هذه التغيرات لتشمل فصل أماكن السكن عن مواقع العمل، ففقد المنزل دوره كمركز إنتاجي واجتماعي، كما كان الحال في الخانات والأسواق التقليدية. وبرزت أحياء الفيلات الحديثة في مناطق مثل المهاجرين وأبو رمانة بدمشق والسبيل والسريان والفرقان والشهباء وحلب الجديدة في حلب على سبيل المثال، ومستلهمة الطراز الغربي بتصميماته التي تعتمد على الحدائق الأمامية والأسوار والبناء المنفصل، ما عمّق الفجوة مع أنماط السكن التقليدي المتلاصق.
ورغم ما حققته هذه التحولات من تحسينات في البنية التحتية والصحة العامة في المناطق السورية، إلا أنها أفضت في كثير من الحالات إلى تدمير أجزاء واسعة من النسيج العمراني التاريخي، لا سيما في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حيث تم هدم العديد من المنازل القديمة لإقامة مبانٍ حديثة، غالبًا دون وعي كافٍ بالقيمة التراثية لتلك المنشآت. كما أفرزت هذه السياسات نموًا غير منضبط للأحياء العشوائية حول المدن، ما ساهم في تآكل الهوية المعمارية والاجتماعية الأصيلة.
- البنية المعمارية بوصفها انعكاساً للقيم الثقافية والمجتمعية
شكّلت العمارة التقليدية في سوريا انعكاساً مباشراً للبنية الثقافية والاجتماعية، وتمثّل ذلك في تصميم المساكن التي كرّست مفاهيم الخصوصية والتكافل الأسري. فمفهوم “البيت المنفتح إلى الداخل والمغلق نحو الخارج”، كما يتجلى في منازل دمشق وحلب القديمة، لم يكن محض ترف معماري، بل تعبيراً عن منظومة أخلاقية وقيمية تُؤمن بأن البيت هو المجال الحميمي الخاص الذي يجب صونه عن أعين الغرباء. فالنوافذ الصغيرة المرتفعة، والواجهات الحجرية الصماء، والمداخل المنكشرة، كلها كانت عناصر مقصودة لضمان الخصوصية وحماية الحيز العائلي من التطفل. بالمقابل، انفتح قلب المنزل نحو فناء داخلي يتوسط البناء، ما وفّر لأفراد الأسرة مجالًا رحبًا للتلاقي والتفاعل في منأى عن الفضاء العام، معززًا روح الانتماء والتضامن داخل العائلة الممتدة. وقد كرّس هذا التكوين المعماري دور كبار السن كمرجعيات أسرية واجتماعية، وأسهم في ترسيخ قيم الاحترام والرعاية المتبادلة.
وفي السياق العُمراني، نلحظ أن التخطيط التقليدي للأحياء اعتمد على تقسيمات داخلية إلى “حارات” وأزقة ضيقة، وغالباً ما كانت تنتهي بمنافذ مغلقة، مما أوجد وحدات اجتماعية مغلقة نسبياً يتشارك سكانها الروابط والمعرفة اليومية، ويشكّلون مجتمعاً متراصاً يوفر الأمان والرقابة الاجتماعية الذاتية. كذلك، جاءت البنية الداخلية للبيت لتراعي الفصل الجندري، من خلال تخصيص جناح خاص بالضيوف وآخر بالعائلة، في حين حظي الضيوف الذكور بفراغ مستقل لا يخترق خصوصية العائلة.
- العمارة التقليدية بوصفها تجسيداً للسلوك الجمعي
لا تقتصر العمارة التقليدية السورية على تلبية الاحتياجات المادية، بل تتعداها إلى تأطير السلوك الاجتماعي. فوجود “المضافة” الواسعة في بيوت حوران وإدلب ودير الزور وحماة، أو “المجلس” المفتوح في بيوت البدو، يعكس أهمية الكرم والتشاركية ضمن المجتمعات الريفية والبدوية، حيث شكّل البيت مركزًا للتفاعل الجماعي والسهرات الثقافية. وقد ساهم التصميم المعماري في ترسيخ هذا الدور، عبر توفير فضاءات رحبة للضيافة والمشاركة الجماعية. كما حرصت العمارة التقليدية على دمج عناصر الطبيعة ضمن البناء السكني، مثل الحدائق الداخلية، وأحواض الزهور، والنوافير، مما وفّر بيئة صحية ونفسية مستقرة تعزّز الشعور بالراحة والسكينة. وقد سبقت هذه الرؤية الفطرية ما توصلت إليه نظريات العمارة المعاصرة من دور التصميم البيئي في التأثير على المزاج والسلوك الإنساني.
وبذلك، فإن التحولات العمرانية التي شهدتها المدن السورية خلال القرن العشرين لم تكن مجرّد تغييرات مادية، بل شكّلت انزياحًا عميقًا في أنماط الحياة والقيم الاجتماعية. وبينما وفّر التخطيط الحديث حلولًا للبنية التحتية والتوسّع السكاني، إلا أنه جاء أحيانًا على حساب المعمار التقليدي الذي لطالما جسّد الروح الاجتماعية والهوية الثقافية للمجتمع السوري. ولهذا، فإن دراسة هذه التحولات لا تكتمل دون مقاربة شاملة تربط بين الشكل المعماري والمضمون القيمي، بما يفتح الباب أمام سياسات عمرانية أكثر وعيًا بالهوية والتراث في سياق التحديث والتنمية.
- أثر المتغيرات السياسية وأحداث الثورة السورية على التراث العمراني السوري
شهد التراث العمراني السوري، خلال العقود الأخيرة، سلسلة من التحولات البنيوية العميقة التي تراوحت بين عوامل الحداثة الحضرية المتسارعة والدمار الناتج عن مواجهة النظام السوري للشعب في ثورته. وقد أدى ذلك إلى تغييرات جذرية في البنية المكانية والاجتماعية للمدن والأرياف والقرى السورية، والتي انعكست سلباً في كثير من الأحيان على النسيج المعماري التقليدي.
- التحولات الحضرية قبل الثورة
مع تسارع عمليات التمدين (Urbanization) في النصف الثاني من القرن العشرين، اتجهت نسبة متزايدة من السكان نحو أنماط سكنية حديثة ضمن مجمعات وشقق عمودية، متأثرين بمتغيرات اقتصادية واجتماعية تتصل بسوق العمل، والنمط الأسري الجديد، وتطور وسائل النقل والخدمات. وقد أدى هذا التحول إلى تراجع كبير في الاعتماد على البيت العربي التقليدي الذي كان يؤوي العائلة الممتدة. فمع تفضيل الأسر النووية نمط الشقق، بدأت الأحياء القديمة تفقد تدريجيًا طابعها الأصلي.
وتفاقمت هذه الظاهرة خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، حيث شُهدت حملات تحديث عمراني عشوائية أدّت إلى هدم عدد كبير من البيوت التاريخية واستبدالها بمبانٍ إسمنتية تفتقر إلى الانسجام البصري والمعماري مع محيطها. أحياء بكاملها تغيّر طابعها من دون خطط ترميمية تحافظ على القيم الجمالية والرمزية للمكان. وفي الوقت ذاته، أدى الضغط السكاني الناتج عن الهجرة الداخلية من الريف إلى المدينة، وعمليات التغيير الديموغرافي في عهد نظام الأسد الأب والابن إلى نشوء أحزمة من البناء العشوائي في ضواحي المدن، لا سيما في دمشق وحلب وحمص واللاذقية، حيث تشير التقديرات إلى أن نحو 30–40% من الوحدات السكنية كانت عشوائية قبل عام 2011م. وهذه المناطق نشأت خارج التخطيط الرسمي والمعترف به للدولة، وافتقرت إلى البنية التحتية والخدمات الأساسية، فضلًا عن غياب أي اعتبار للهوية المعمارية الحضارية أو الموروث الثقافي السوري في هذه المدن.
- الثورة السورية وتأثيراتها على العمارة السورية
شكلت الثورة السورية منذ عام 2011 تغيراً جذرياً في واقع العمارة السورية، حيث طال التدمير عدداً كبيراً من المواقع التاريخية نتيجة العمليات العسكرية التي قامت بها قوات نظام الأسد، وتعمد تدمير الأحياء السكنية في المدن والأرياف، والمعارك المحتدمة بين قوات الأسد وحلفائه الإيرانيين والروس مع الجيش السوري الوطني “الحرّ”، والقوى العسكرية المعارضة للنظام، وكذلك دور تنظيم داعش التخريبي، وهيمنة قوات سوريا الديموقراطية (قسد) على مدن وبلدات سورية واسعة في الشمال الشرقي (الجزيرة الفراتية)، فضلًا عن أعمال التخريب والنهب من أطراف عدة. وتُعدّ مدينة حلب القديمة المثال الأبرز على هذا الدمار، إذ أظهرت التقارير أن ما يزيد عن 70% من بنيتها المعمارية قد تعرّض للضرر، في حين دُمّرت مناطق بأكملها بنسبة قاربت الـ100% في بعض الأحياء، مثل أجزاء من الأسواق المسقوفة التاريخية والبيوت الدمشقية الطراز.
وشهدت مدينة حمص، ولا سيما أحياء بابا عمرو وباب سباع وحي الوعر، والحميدية وباب هود، والمدينة القديمة، دماراً واسعاً طمس معالمها القديمة، بينما تضررت مناطق أخرى في دمشق وريفها، مثل الحجر الأسود ومخيم اليرموك ودوما وداريا وحرستا وعربين والقابون وجوبر وغيرها، كذلك امتدت الأضرار إلى بلدات وقرى تاريخية مثل بصرى الشام، ومعرة النعمان، وكفرنبل، وخان السبل، وسراقب، وجرجناز وتل منس، والغدفة، وسنجار، وكفرنبودة ومورك، وعدد كبير من قرى ريف إدلب وحلب وحماة، خاصة تلك التي تحتوي على بيوت قبابية تقليدية من الحجر والطين.
وتجاوز الضرر الجانب المادي ليشمل البعد الإنساني والاجتماعي؛ فقد أدّى النزوح الجماعي لملايين السوريين إلى إخلاء أحياء تراثية بكاملها من سكانها، وفُقدت بذلك الذاكرة الحية التي ارتبطت بهذه الأماكن. كما تحوّلت العديد من البيوت القديمة إلى مبانٍ مهجورة ومعرّضة للانهيار، في وقت ظهرت فيه مستوطنات جديدة غالبًا في مواقع غير مؤهلة عمرانياً، بما في ذلك محيط الآثار كما حصل في مدينة تدمر. ولا ننسى السعي الإيراني في محاولة التغيير الديموغرافي، وشراء الملكيات العقارية في دمشق وحمص وحلب ودير الزور وغيرها، والتي كانت خطراً وجودياً حقيقياً على المجتمع والثقافة السورية، وغريبة عن ثقافة هذا الشعب الأصيل.
وبعد سقوط نظام الأسد، بدأت مبادرات رسمية أممية، وجهود عربية سعودية وقطرية، وتركية، وطروحات إستراتيجية للحكومة السورية الانتقالية لإعادة صيانة التراث المادي العمراني للأماكن التاريخية من أسواق ومكتبات وفنادق ومساجد، وبالتوازي، برزت جهود أهلية ومجتمعية تقودها شرائح من المثقفين والناشطين المعماريين، تهدف إلى ترميم بعض البيوت التقليدية وإعادة توظيفها بوصفها مراكز ثقافية، أو مطاعم، أو متاحف محلية، مع الحفاظ على طابعها المعماري الأصيل. وتجدر الإشارة إلى أن بعض الأهالي العائدين إلى مدنهم وأحيائهم القديمة بعد سقوط النظام، أصرّوا على إعادة إعمار منازلهم القديمة وفقًا للنمط التراثي، في محاولة لإحياء هوية المكان ومواجهة محاولات محو الذاكرة الجمعية.
خلاص القول ..
إن التراث العمراني السوري هو مرآة لهوية سورية حضارية ضاربة في جذور التاريخ، تجسّدت في البيوت والحارات والأسواق والمساجد والفضاء العام عبر أجيال متعاقبة. وإن ما أصابه خلال العقود الأخيرة من تهميش، ثم دمار ممنهج في سنوات الثورة السورية، شكل تهديداً لذاكرة المجتمع وهويته الثقافية. ولعل هذا الأمر تغير بعد سقوط نظام الأسد. وغدا اليوم الحفاظ على هذا التراث، وإعادة إحيائه هو مسؤولية وطنية وثقافية تتطلب إرادة سياسية، واستثماراً مؤسسياً، وتعاوناً مع الأمم المتحدة، والدول الصديقة لسوريا الجديدة، ولا بد من مشاركة مجتمعية واسعة تضمن نقله للأجيال القادمة بوصفه أحد مرتكزات الهوية الوطنية السورية الجامعة.
المصادر والمراجع
- Al-Sabouni, Marwa. “A Young Syrian Architect’s Vision for Rebuilding Her Country”. Architectural Digest. 10 April 2017
- Mansour, et al. “Urban Identity in Transition: A Metropolitan Analysis of Damascus”. Urban Science 8, no. 4 (2024): 246
- الحوراني، عبد الرحمن. “البيت الحوراني القديم”، اكتشف سورية، 25 يناير
- دارفيو، الرحالة الفرنسي. “حياة دمشق كما وصفها الرحالة الغربيون”، Arabic Radio،29 يونيو 2021م.
- رويترز، وكالة. “في حلب القديمة… سنوات الحرب دمرت معالم التاريخ، رويترز، 13 ديسمبر2016م.
- عنحوري، سمير. “التطور العمراني في مدينة دمشق(1860-1960)، مارس 2017م.
- قساطلي، هدى. “المنازل المقبّبة في سوريا – إرث معماري تاريخي في خطر”، الأرشيف الرقمي السوري، 2020م.
- كحالة، صبحي. “خصائص البيت الدمشقي: تصريحات تلخص سمات العمارة الدمشقية التقليدية”، الموسوعة الحرة. تاريخ غير محدد.
- مارديني، مروة. “البيوت الحلبية القديمة تبوح بأسرارها”، وطن، 10 نوفمبر 2021م.
- مبادرة الإصلاح العربي. “المناطق العشوائية في سوريا: ما هو النهج في أعقاب الصراع؟”، مبادرة الإصلاح العربي، 2021م.