الدراسات البحثيةالمتخصصة

الدبلوماسية الثقافية والسياسة الخارجية: إطار تفاوض رمزي لبناء النفوذ غير الصدامي

"Cultural Diplomacy and Foreign Policy : A Symbolic Negotiation Framework for Non-Confrontational Influence

اعداد : مزيمش العمرية

المركز الديمقراطي العربي : –

  • مجلة الدراسات الاستراتيجية للكوارث وإدارة الفرص : العدد السابع والعشرون أيلول – سبتمبر 2025 – المجلد  7 – وهي مجلة دولية محكمة تصدر عن المركز الديمقراطي العربي المانيا- برلين.
  • تعنى المجلة مجال الدراسات التخصصية في مجال إدارة المخاطر والطوارئ والكوارث ،قضايا التخطيط الاستراتيجي للتنمية،  الجيوبولتيك، الجيواستراتيجية، الأمن الإقليمي والدولي، السياسات الدفاعية، الأمن الطاقوي والغذائي، وتحولات النظام الدولي، والتنافس بين القوى الكبرى، إضافة إلى قضايا التنمية، العولمة، الحوكمة، التكامل الأقتصادي ، إعداد وتهيئة المجال والحكامة الترابية , إضافة إلى البحوث في العلوم الإنسانية والاجتماعية.
Nationales ISSN-Zentrum für Deutschland
ISSN 2629-2572
Journal of Strategic Studies for disasters and Opportunity Management

 

للأطلاع على البحث من خلال الرابط المرفق : –

https://democraticac.de/wp-content/uploads/2025/09/%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%B3%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%AC%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D9%83%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%AB-%D9%88%D8%A5%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D8%B5-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A7%D8%A8%D8%B9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B4%D8%B1%D9%88%D9%86-%D8%A3%D9%8A%D9%84%D9%88%D9%84-%E2%80%93-%D8%B3%D8%A8%D8%AA%D9%85%D8%A8%D8%B1-2025.pdf

ملخص

تسعى هذه الورقة إلى تقديم إطار تفاوض رمزي لفهم العلاقة الجدلية بين الدبلوماسية الثقافية والسياسة الخارجية، من خلال تحليل كيفية بناء النفوذ غير الصدامي عبر أدوات رمزية متعددة. تنطلق الدراسة من فرضية أن الثقافة، بوصفها حقلًا رمزيًا، لا تُستخدم فقط كوسيلة تزيينية أو ترويجية، بل تُمارَس كأداة تفاوضية تُعيد تشكيل الإدراك الخارجي ضمن سياقات غير تصادمية. تعتمد الورقة على مقاربات نظرية متعددة (واقعية، بنائية، سلوكية)، وتُحلل نماذج تطبيقية من الولايات المتحدة، ألمانيا، والصين، بهدف تفكيك الوظيفة الرمزية للثقافة في صياغة التصورات الدولية. وتخلص إلى أن الدبلوماسية الثقافية، رغم ارتباطها المؤسسي بالسياسة الخارجية، تحتفظ بقدرة تفاوضية مستقلة جزئيًا، تُعيد إنتاج المعنى وتُعيد رسم حدود الهيمنة الرمزية في العلاقات الدولية.

Abstract

This paper seeks to propose a symbolic negotiation framework for understanding the dialectical relationship between cultural diplomacy and foreign policy. It analyzes how non-confrontational influence is constructed through diverse symbolic tools. The study is grounded in the premise that culture, as a symbolic field, is not merely a decorative or promotional instrument, but rather a strategic medium of negotiation that reshapes external perceptions within non-conflictual contexts. Drawing on multiple theoretical approaches—realist, constructivist, and behavioral—the paper examines applied models from the United States, Germany, and China to deconstruct the symbolic function of culture in shaping international representations. The study concludes that although cultural diplomacy is institutionally linked to foreign policy, it retains a partially autonomous capacity for negotiation, enabling the reproduction of meaning and the redrawing of symbolic boundaries of hegemony in international relations.

مقدمة

تشهد العلاقات الدولية تحولات عميقة في أدوات التأثير، حيث لم تعد القوة الصلبة وحدها كافية لضمان النفوذ، وفي هذا السياق تبرز الدبلوماسية الثقافية كوسيط رمزي يُعيد تشكيل الإدراك الدولي. تهدف هذه الورقة إلى مساءلة العلاقة بين الدبلوماسية الثقافية والسياسة الخارجية، من خلال تحليل نماذج تطبيقية، وتقديم قراءة نقدية للوظيفة الرمزية للثقافة في بناء النفوذ غير الصدامي.

أهمية الموضوع

تكتسب هذه الدراسة أهميتها من كونها تُعيد مساءلة العلاقة بين الدبلوماسية الثقافية والسياسة الخارجية، ليس من منظور وظيفي تقليدي، بل من زاوية نقدية تُفكك البنية الرمزية التي تُستخدم فيها الثقافة كأداة نفوذ غير صدامي. وتكمن القيمة العلمية في:

  • تجاوز التصورات التزيينية للدبلوماسية الثقافية، نحو فهمها كوسيط تفاوضي يعيد تشكيل الإدراك الدولي.
  • تحليل التفاعل بين الرمزي والسياسي، بما يُبرز كيف تُستخدم الثقافة في بناء القوة الناعمة ضمن سياقات جيوسياسية.
  • تقديم قراءة مقارنة للنماذج الأمريكية، الألمانية، والصينية، تكشف عن تباين فلسفات التمثيل الثقافي.
  • إبراز دور الفاعلين غير الرسميين في إنتاج المعنى، وتحدي المركزية البيروقراطية في صياغة الخطاب الدولي.
  • مساءلة أخلاقية حول صدق التبادل الثقافي، واحترام التعددية التأويلية لدى المجتمعات المستقبِلة.

الإشكالية

هل تُمارَس الدبلوماسية الثقافية كأداة تفاوضية مستقلة تُعيد تشكيل الإدراك الدولي، أم أنها تُوظّف ضمن أجندات السياسة الخارجية كوسيلة هيمنة رمزية؟ وما مدى قدرة الفاعلين غير الرسميين على إنتاج سرديات بديلة خارج الخطاب الرسمي؟

أهداف الدراسة

تهدف هذه الدراسة إلى:

  • مساءلة العلاقة الجدلية بين الدبلوماسية الثقافية والسياسة الخارجية من منظور نقدي رمزي.
  • تحليل الوظيفة التفاوضية للثقافة في بناء النفوذ غير الصدامي.
  • تقديم قراءة مقارنة للنماذج الأمريكية، الألمانية، والصينية.
  • تطوير إطار مفاهيمي جديد للدبلوماسية الثقافية يُراعي التعددية التأويلية، ويُبرز استقلالية الفاعل الثقافي عن الخطاب الرسمي.

الأسئلة الفرعية

  • ما مدى استقلالية الفاعل الثقافي عن الدولة؟
  • كيف يُوظّف الرمزي في بناء النفوذ غير الصدامي؟
  • هل تسمح الدبلوماسية الثقافية بإعادة تفسير الرسائل من قبل الجمهور المستقبِل؟
  • ما الفرق بين النماذج الأمريكية، الألمانية، والصينية في توظيف الثقافة؟
  • كيف تؤثر السياقات المحلية في إعادة تأويل الرسائل الثقافية؟
  • كيف تُسهم التعددية التأويلية في إعادة تشكيل الرسائل الثقافية ضمن السياقات غير الغربية؟

فرضيات الدراسة

-يتمتع الخطاب الثقافي باستقلال نسبي عن السلطة الرسمية، يسمح بإعادة إنتاج المعنى خارج الإطار السياسي.

-تُستخدم الثقافة كأداة هيمنة رمزية ضمن السياسة الخارجية، تُعيد إنتاج السرديات الجيوسياسية.

-تتيح الدبلوماسية الثقافية إمكانات تفاوض غير صدامي بين الدول والجماهير، تُعيد تشكيل الإدراك الدولي.

مناهج الدراسة

المنهج المعتمد: تحليل خطابي–مقارن، يجمع بين الدراسة النظرية والتطبيق.

المقاربة النظرية: واقعية (لفهم التوظيف السياسي)، بنائية (لتفكيك الرمزي)، سلوكية (لتحليل التلقي).

-أدوات التحليل: تحليل مضمون، دراسة حالة، مراجعة نقدية للمصطلحات، تفكيك الخطاب المؤسسي.

تعتمد الدراسة على مفهوم الدبلوماسية الثقافية بوصفها ممارسة رمزية تفاوضية، تتقاطع مع السياسة الخارجية دون أن تذوب فيها. وتُفهم السياسة الخارجية هنا كمنظومة قرارات وسلوكيات تتأثر بالهوية، السياق، والمصالح المتغيرة، مما يجعل العلاقة بين الرمزي والسياسي علاقة جدلية لا خطية.

تنطلق هذه الدراسة من فرضية مركزية مفادها أن الثقافة، بوصفها حقلًا رمزيًا، تُمارَس كأداة تفاوضية تُعيد تشكيل الإدراك الدولي، لا كمجرد وسيلة ترويجية. ولتحقيق ذلك، تعتمد الدراسة على مقاربات نظرية متعددة، وتُقدّم قراءة نقدية للمفاهيم الأساسية، قبل الانتقال إلى تحليل النماذج التطبيقية التي تُجسّد هذا التفاعل الرمزي–السياسي في سياقات دولية مختلفة.

المبحث الأول: التأصيل المفاهيمي والنقد النظري 

يُعدّ مفهوم الدبلوماسية الثقافية من أكثر المفاهيم تداخلاً بين الحقول السياسية والثقافية، حيث تتعدد تعريفاته بتعدد المرجعيات النظرية والوظيفية، مما يستدعي تفكيكًا دقيقًا للبعد اللغوي والاصطلاحي لفهم بنيته الرمزية.

 أولا: تعريف الدبلوماسية الثقافية

نتطرق للتعريفات المختلفة لمصطلحات الدراسة، أين تتعدد الآراء ووجهات النظر، مما يضفي ثراءا فكريا للمجال المدروس من جهة، ويعبر عن خلفيات كل مفكر وانتماءاته، ويعكس في كثير من الأحيان مصالح الجهة التي ينتمي اليها، أو يمثلها من جهة أخرى.

1-التعريف اللغوي:  الدبلوماسية هي “علم التفاعل الرسمي بين الدول من خلال وكلاء معتمدين؛ وفن التفاوض وصياغة المعاهدات”. وبصورة أشمل، تشير إلى “العمليات وإدارة الأعمال الدولية عمومًا”. وهو مشتق من الكلمة الفرنسية diplomatie، التي تشكّلت من   diplomate   “دبلوماسي” …وهذه بدورها مشتقة من اللاتينية الحديثة diplomaticus (في ثمانينيات القرن السابع عشر)، والمأخوذة من اللاتينية: diplomatisوتعني “وثيقة رسمية تمنح امتيازًا”… مشتق من اللاتينية (diploma ) الجمع   diplomata)) التي كانت تعني “رسالة رسمية للتوصية”، تُمنح للأشخاص المسافرين إلى الأقاليم، و”وثيقة تُعدّ من قبل قاضٍ رسمي”. وهذا المصطلح بدوره مشتق من اليونانية diplōma بمعنى “ترخيص، خارطة”، وأصله “ورقة مطوية مزدوجة”، من الفعل diploun “يطوي مرتين” Harper (n.d)

أما الثقافة:  مصدر “ثَقُفَ” و”ثَقَفَ”، وتدل على الإحاطة بالعلوم والمعارف والآداب والفنون. يُقال: “حصل على ثقافة عالية” أي تعلّم علومًا مختلفة، وتهذّب بها، وأدركها بمهارة. كما تشير إلى مجموع ما توصّلت إليه أمة أو بلد في الحقول المختلفة من أدب وفكر وصناعة وعلم وفن، بهدف استنارة الذهن وتهذيب الذوق وتنمية ملكة النقد والحكم لدى الفرد أو المجتمع. (معجم الغني، كما ورد في موقع معاجم، 2025)

2- التعريف الاصطلاحي

الدبلوماسية الثقافية هي “تبادل الأفكار والمعلومات والفنون وغيرها من مظاهر الثقافة بين الدول وشعوبها بهدف تعزيز التفاهم المتبادل”. لكنها لا تكون دائمًا تبادلية، فقد تتخذ شكلًا أحادي الاتجاه عندما تركز دولة على ترويج لغتها الوطنية أو تفسير سياساتها أو “رواية قصتها” للعالم (Cummings, n.d., p. 1)

هذا التعريف يتميّز بالبساطة والتوازن بين الطابع الإنساني والتطبيقي، لكنه يفتقر إلى تحديد واضح للفواعل (هل الدولة أم المجتمع المدني؟)، كما لا يميز بين الدبلوماسية الثقافية كأداة تواصل، وبينها كأداة هيمنة سردية، إن اقتصاره على الثنائية (تبادلية/أحادية) دون مناقشة الدافع أو السياق الجيوسياسي يجعل التصور مبهما للمصطلح وغير مكتمل.

“الدبلوماسية الثقافية هي “التبادل المدروس للأفكار، والفنون، والمعلومات، والعوامل العقلية والقيم التي تُعرّف مجتمعًا أو أمة، بهدف تعزيز التفاهم المتبادل، وتقوية الأمن القومي، وكسب الولاء الأيديولوجي الأجنبي عبر وسائل غير قسرية ومتنوعةWaller (2009, p. 74)

رغم أن تعريف Waller للدبلوماسية الثقافية يبدو شاملاً من حيث الأهداف، إلا أنه يختزل الثقافة في وظيفة أمنية تخدم مصالح الدولة، ويغفل بعدها الإنساني والتشاركي. فبدلاً من اعتبارها مساحة للحوار والتفاهم، تُقدَّم الثقافة هنا كأداة ناعمة لكنها موجّهة، تُستخدم لكسب الولاء الأيديولوجي بطريقة غير مباشرة. هذا الطرح يثير تساؤلات أخلاقية حول صدق التبادل الثقافي، خاصة حين يُنظر إلى الجمهور المستقبِل كطرف سلبي، لا يملك القدرة على إعادة تفسير الرسائل وفق خصوصياته الثقافية والاجتماعية. كما أن غياب الاعتراف بالتعدد داخل الدولة المرسلة يُضعف من مصداقية الخطاب، ويحوّل الثقافة من جسر للتواصل إلى وسيلة هيمنة مقنّعة.

“لا يمكن اعتبار الدبلوماسية الثقافية قائمة إلا عندما يحاول الدبلوماسيون الرسميون، الذين يخدمون حكوماتهم الوطنية، تشكيل هذا التدفق الثقافي الطبيعي وتوجيهه بما يخدم المصالح الوطنية.” (Arndt, 2006, p. xviii, as cited in Ang, Isar, & Mar, 2015, p. 366).

يُقدِّم تعريف أرندت تصورًا تقليديًا للدبلوماسية الثقافية حيث يربطها حصريًا بالفعل الحكومي الرسمي، مما يؤدي إلى تقييد الفاعلية الثقافية ضمن إطار الدولة وأجهزتها الدبلوماسية، هذا التحديد يُغفل الدور المتنامي للجهات غير الحكومية، والمجتمعات الثقافية، والمؤسسات المدنية في تشكيل العلاقات الثقافية العابرة للحدود، بالإضافة إلى ذلك، فإن التركيز الحصري على “المصلحة الوطنية” كمحرك للدبلوماسية الثقافية يقزم من إمكانياتها كأداة للحوار الثقافي وبناء التفاهم المتبادل، في ظل التداخل المتزايد بين العلاقات الثقافية غير الرسمية والدبلوماسية العامة، يصبح التعريف غير قادر على استيعاب التحولات المعاصرة في ممارسات التمثيل الثقافي، خاصة مع اقحام التكنولوجيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي، وتزايد الاهتمام بالدبلوماسية الرقمية.

“ليست القوة الناعمة مجرد مسألة ثقافة، بل تقوم أيضًا على القيم السياسية للبلد (عندما يلتزم بها محليًا وخارجيًا)، وعلى سياساته الخارجية (عندما يُنظر إليها على أنها مشروعة وتتمتع بسلطة أخلاقية)

(Nye, 1990, p. 196, as cited in Ang, Isar, & Mar, 2015, p. 368)

”   الدبلوماسية الثقافية هي حجر الأساس للدبلوماسية العامة؛ فهي في النشاطات الثقافية يظهر تصور الأمة لذاتها بأفضل صورة. كما يمكن للدبلوماسية الثقافية أن تُعزّز أمننا القومي بطرق دقيقة وواسعة ومستدامة. بل إن التاريخ قد يُسجل أن ثروات أمريكا الثقافية أدّت دورًا لا يقل أهمية عن العمل العسكري في تشكيل قيادتنا الدولية، بما فيها الحرب على الإرهاب.” (U.S. Department of State, 2005, p. 1, as cited in Ang, Isar, & Mar, 2015, p. 369)

“تشير الدبلوماسية الثقافية الصينية إلى ممارسة الدولة لنشر الثقافة الوطنية خارج البلاد عبر برامج وأنشطة ممولة حكوميًا، تهدف من خلالها الحكومة إلى تعزيز القوة الناعمة، وتحسين صورة الصين الدولية، وتوسيع نطاق تأثيرها الثقافي.” (Wang, 2024, p. 55).

يُحدد هذا التعريف بدقة الفاعل الرئيسي (الدولة)، والأهداف المرجوّة، لكنّه لا يُدرج المواطن أو المجتمع المدني كجزء من العملية، مما يعكس مركزية بيروقراطية، إن التركيز على “تحسين الصورة” و”القوة الناعمة” يُبرز جانب الترويج على حساب التبادل، كما أن التعريف يفترض عالمية الثقافة الصينية دون الإشارة إلى تحدي التعدد الثقافي لدى المتلقي، ورغم وضوحه الإجرائي، إلا أنه يفتقر إلى الإشارة إلى مدى مرونة البرامج أو قابليتها للتكيف مع السياقات المحلية.

“تنطوي الدبلوماسية الثقافية على تبادل الأفكار والفنون واللغة وغيرها من الجوانب الثقافية بين الدول لبناء جسور وتعزيز العلاقات . تعمل هذه الصورة من الدبلوماسية على فرضية أن الثقافة الفهم يمكن أن تؤدي إلى تحسين العلاقات السياسية وإيجابية التصورات عن السياسة الخارجية للدولة.” (Kimani, 2023, p.3)

إن تعدد التعاريف يعكس تعقيد الظاهرة و تسييسها، فالدبلوماسية الثقافية تقع عند تقاطع عدة أنساق: القوة، والهوية، والاتصال، وهو ما يفرض على الباحث الحذر من الانزلاق الأداتي الذي يحوّل الثقافة إلى مجرد أداة للهيمنة، بدلاً من كونها فضاءً للحوار وتعدد المعاني، ولذلك، فإن أي تعريف علمي يجب أن يراعي الديناميات السياسية والسياقية لعملية التبادل الثقافي، لا أن يكتفي بالتوصيف الأدبي أو التوظيف الوظيفي.إن جل التعريفات تميزت بـــــــ:

  • نقد التصور الأحادي للفاعل: معظم التعريفات تؤطر الفاعل الثقافي ضمن الدولة، متجاهلة الجماعات العابرة للحدود، والمؤسسات الثقافية المستقلة، والتي قد تلعب أدوارًا أكثر تأثيرًا.
  • إغفال البعد التداولي: لا توجد معالجة لحقيقة أن الجمهور المستقبل لا يتلقى الرسالة بصيغة “سلبية”، بل يعيد تأويلها بناءً على بنياته الثقافية الداخلية، مما يُضعف النموذج الأميركي أو الصيني.
  • غياب التشاكل الخطابي: فالدبلوماسية الثقافية غالبًا ما تُقدّم كأنها تبادل للمعنى، لكن الخطابات التحليلية تُغفل أنها تصوغ معنى، لا تتداوله فقط؛ أي أنها فعل إنشائي وليس فقط إخباري.

إن التعريفات الغربية في مجملها، وإن بدت دقيقة، فإنها تغفل مفهوم “التمثيل الثقافي المتوتر” الذي يرى في الدبلوماسية الثقافية ليست “تبادلًا”، بل نضالًا رمزيًا على شرعية الصور الذاتية التي تُصاغ عن الأمم أمام بعضها البعض، اذن يمكن تعريف الدبلوماسية الثقافية على أنها: الاستراتيجية المؤسسية المنسّقة التي تنتهجها دولة أو مجموعة من الفواعل غير الحكومية بهدف إدارة تصدير واختبار العناصر الرمزية والثقافية، كالمعارف، اللغة، الفنون، القيم، والمعتقدات، عبر وسائط مبرمجة، مباشرة أو رقمية، بغرض التأثير في الإدراك الخارجي، بناء الجاذبية السياسية، وتوسيع النفوذ غير القسري، وذلك في إطار زمني قابل للقياس، ومن خلال أدوات قابلة للتتبع، مع مراعاة الفروقات السياقية في المجتمعات المستقبِلة.

3- مقارنة بين التعريفات الوظيفية والرمزية للدبلوماسية الثقافية

تتراوح تعريفات الدبلوماسية الثقافية بين التصور الوظيفي الذي يربطها بالسياسة الخارجية كأداة ترويجية، والتصور الرمزي الذي يُبرزها كوسيط تفاوضي يُعيد تشكيل الإدراك الدولي. يرى Waller (2009) أنها وسيلة لكسب الولاء الأيديولوجي، ويُقدّم Arndt (2006) تصورًا بيروقراطيًا يربطها بالفعل الحكومي الرسمي، في حين يُبرز Nye (1990) بعدها القيمي ضمن القوة الناعمة. أما التعريفات النقدية الحديثة، فتُظهر أن الثقافة ليست مجرد أداة تزيينية، بل تُمارَس كفعل إنشائي يُعيد إنتاج المعنى، ويُسهم في بناء علاقات دولية غير صدامية.

جدول توضيحي للمفاهيم:

البعد الرمزي الوظيفة الأساسية الفاعل الرئيسي المفهوم
فعل إنشائي يُعيد تشكيل الإدراك والمعنى ترويج السياسات + بناء التفاهم الدولة + مؤسسات ثقافية مستقلة الدبلوماسية الثقافية
خطاب سياسي موجه لبناء الصورة الذهنية تفسير السياسات الخارجية الدولة الدبلوماسية العامة
فضاء تفاوضي متعدد المعاني والتأويلات تبادل غير رسمي للمعاني والقيم المجتمع المدني + الفواعل غير الرسمية الحوار بين الثقافات

   يُظهر الجدول أن المفاهيم الثلاثة تتقاطع في كونها أدوات للتواصل الدولي، لكنها تختلف جذريًا في طبيعة الفاعل، والوظيفة، والبعد الرمزي. فالدبلوماسية الثقافية، كما ورد في التعريفات النقدية، لم تعد مجرد أداة ترويجية، بل أصبحت ممارسة تفاوضية تُعيد تشكيل الإدراك، وتُسهم في بناء علاقات غير صدامية. أما الدبلوماسية العامة، فتبقى مرتبطة بالخطاب الرسمي للدولة، وتُستخدم غالبًا لبناء صورة ذهنية مرغوبة. في حين يُمثّل الحوار بين الثقافات مساحة أكثر تحررًا، تُتيح للجماعات غير الرسمية تبادل المعاني دون وساطة حكومية مباشرة. هذا التباين يُبرز أهمية إدراك السياق السياسي والثقافي لكل ممارسة، ويُحذّر من اختزال الثقافة في وظيفة دعائية، دون اعتبار لتعدد التأويلات والفاعلين.

ثانيا: تعريف السياسة الخارجية

يُعدّ مفهوم السياسة الخارجية من أكثر المفاهيم تعقيدًا في حقل العلاقات الدولية، نظرًا لتعدد الفواعل، وتنوع السياقات، وتداخل العوامل الداخلية والخارجية، مما يجعل تعريفه خاضعًا للتأويل النظري والسياقي.

1-التعريف الإصطلاحي

تعدد تعريفات مفهوم السياسة الخارجية يمثل انعكاسا لتعقيد الظاهرة، وصعوبة التوصل الى مجموعة الابعاد التي تندرج في اطارها والعلاقة بينها. (النعيمي، 2011، ص 19)

فعدم الاتفاق بين الباحثين يعود أساسًا إلى أن السياسة الخارجية ذات طبيعة متغيرة، تختلف من دولة إلى أخرى حسب موقعها الدولي، وقدراتها، وحتى أولوياتها الاستراتيجية، ولهذا يتعذر صياغة تعريف موحد يصلح لكل الأزمنة والأمكنة، فالسياسة الخارجية تتأثر بعوامل متعددة:

  • تغير مستمر في البيئة الدولية.
  • اختلاف مكانة الدول داخل النظام الدولي.
  • تفاعل معقد بين العوامل الداخلية والخارجية، الرسمية وغير الرسمية.
  • تباين في نمط السلوك السياسي من بلد إلى آخر وحتى في نفس البلد مع تغير القيادات.

ورغم التباين النظري، يمكن تصنيف تعريفات السياسة الخارجية ضمن ثلاثة اتجاهات تحليلية: الأول يرى فيها استجابة تلقائية لبنية النظام الدولي، متأثرًا بالمدرسة الواقعية التي تُقصي العوامل الداخلية؛ الثاني يعاملها كنظام تحويلي ناتج عن تفاعل معقد بين مدخلات داخلية وخارجية؛ أما الثالث، فيختزلها في قرارات النخبة البيروقراطية، متجاهلًا الفواعل غير الحكومية والسياقات الضمنية (حج محمد، 2016).

السياسة الخارجية هي برنامج عمل الدولة في المجال الخارجي، الذي يتضمن الأهداف الخارجية التي تسعى الدولة الى تحقيقها والتي تعكس مصالحها الوطنية فضلا عن الوسائل اللازمة لتحقيق تلك الأهداف، وهكذا يمكن القول بأن عملية رسم السياسة الخارجية تنطوي على عنصرين رئيسيين : أولا، تحديد الأهداف ثانيا: إختبار الوسائل أو الأدوات التي تكفل تحقيق هذه الأهداف بأكبر قدر ممكن من الفعالية.(بدوي وآخرون، 2013، ص 329–330) هذا التعريف يُظهر فهمًا وظيفيًا للسياسة الخارجية، لكنه لا يُشير إلى الفاعلين المتعددين داخل الدولة (مثل النخب، المؤسسات، الرأي العام)، مما يجعله أقرب إلى التصور المركزي للدولة كفاعل وحيد.لا يتناول التعريف تأثير البيئة الدولية أو التفاعلات العابرة للحدود، مما يجعله محدودًا في تفسير السياسات الخارجية في عصر العولمة. يُغفل البعد الرمزي أو الثقافي للسياسة الخارجية، وهو ما يُعدّ نقصًا في ظل توسّع أدوات التأثير غير التقليدية مثل الدبلوماسية الثقافية أو الرقمية.

“السياسة الخارجية برنامج العمل العلني الذي يختاره الممثلون الرسميون للوحدة الدولية من بين مجموعة من البدائل البرامجية المتاحة من أجل تحقيق أهداف محددة في المحيط الخارجي، طبقا لهذا التعريف فإن السياسة الخارجية تتصرف إلى مجموعة أساسية من الأبعاد الأساسية هي: الواحدية، والرسمية، والعلنية، والاختيارية، والهدفية، والخارجية، والبرنامجية.”(سليم، 1998، ص. 12) رغم الطابع المنهجي الذي يتسم به تعريف سليم للسياسة الخارجية، إلا أنه يفتقر إلى استيعاب تعقيدات الواقع السياسي المعاصر؛ إذ يفترض وحدة الدولة في اتخاذ القرار، متجاهلًا التعدد المؤسسي والتباينات الداخلية، خاصة في الأنظمة الديمقراطية. كما أن التركيز على الطابع الرسمي والعلني يغفل الأبعاد غير المرئية مثل الدبلوماسية السرية والضغوط الخلفية، التي غالبًا ما تكون أكثر تأثيرًا. إضافة إلى ذلك، فإن افتراض حرية الاختيار بين البدائل يتجاهل القيود البنيوية التي تفرضها البيئة الدولية، مما يجعل “الاختيار” نسبيًا. أما الإحالة إلى أهداف محددة دون توضيح طبيعتها أو ديناميكيتها، فتمثل اختزالًا مخلًا. وأخيرًا، فإن تجاهل التفاعل الجدلي بين الداخل والخارج، والافتراض بوجود برنامج عمل واضح، لا يعكس الطابع التفاعلي والارتجالي الذي يميز كثيرًا من السياسات الخارجية المعاصرة.

يقسم عربي تعاريف السياسة الخارجية إلى ثلاث اتجاهات رئيسية، يعكس كل منها منظورًا مختلفًا لطبيعة هذا المفهوم. الاتجاه الأول يُعرّف السياسة الخارجية على أنها مجموعة من البرامج، ومن أبرز رواده محمد السيد سليم وأحمد النعيمي. أما الاتجاه الثاني، فينظر إليها بوصفها سلوكًا لصانع القرار، ويمثله كل من تشارلز هيرمان ومازن الرمضاني. في حين يرى الاتجاه الثالث أنها نشاط خارجي للدولة، ويُعد من أبرز منظّريه حامد ربيع، وموديليسكي، ومارسيل ميرل (عربي، 2016).

“السياسة الخارجية لأي دولة تعكس وجود عملية ديناميكية تأخذ في الاعتبار المصلحة القومية والظروف البيئية الدولية، التي تترجم إلى  واقع ملموس ومن خلال الأداة الدبلوماسية.”( النعيمي، 2011، ص. 27)

يعكس هذا التعريف تصورًا تراكبيًا للسياسة الخارجية، يجمع بين السلوك العقلاني لصانع القرار، والنشاط الدبلوماسي، واستخدام الأدوات الاستراتيجية. فهو لا يكتفي بتوصيفها كفعل رسمي، بل يضعها في إطار تفاعلي يعكس مرونة الدولة في التعامل مع المتغيرات الدولية دون التفريط بثوابتها. وتُعد الدبلوماسية هنا ترجمة عملية لهذا التفاعل، بما يجعل السياسة الخارجية أداة لإعادة تشكيل الواقع الدولي وفقًا لمصالح الدولة المتجددة.

وقدم مرعي (2018) مراجعة نقدية لتصنيفات تعريف السياسة الخارجية، موزعة على ست فئات رئيسية تشمل الطبيعة، الأهداف والأنشطة والسلوكيات، الأفعال وردود الأفعال، التعاريف الواقعة في نطاق قرارات السياسة الخارجية، ويقترح تعريفًا جامعًا يشمل المدخلات والمخرجات والمواءمة السياقية بين المصالح والأدوات الاستراتيجية. فخلص إلى تعريف السياسة الخارجية على أنها: “كل سياسة عامة معتمدة، تنتهجها الدول – أو غيرها من الوحدات الدولية، وفق برنامج عمل تختاره هذه الوحدات من بين البدائل المتاحة التي تفرضها إمكاناتها وقوتها النسبية ومقتضيات مصالحها الحيوية، من أجل تحقيق أهدافها المقصودة من تعاملاتها وعلاقاتها الخارجية، وما تمتلكه من وسائل لتنفيذ هذه الأهداف، في ضوء المواءمة بين المصالح النسبية المتبادلة، والأهداف الثابتة والمتغيرة لهذه الوحدات الدولية، ومواقفها وسلوكياتها الخارجية، وما تتخذه من قرارات تتطلبها اعتبارات المبادأة أو الاستجابة للتغير في النسق الدولي.” (مرعي، 2018، ص 130)

إذن السياسة الخارجية منظومة قرارات وسلوكيات رسمية ومخططة، تنفذها دولة أو فاعل دولي مستقل، ضمن بيئة خارجية ديناميكية، بهدف حماية المصالح الحيوية وتحقيق أهداف استراتيجية، باستخدام أدوات مؤسساتية قابلة للقياس والتتبع.

وعلى هذا الأساس يمكن القول أن تعدد تعريفات السياسة الخارجية لا يعكس فقط تعقيد الظاهرة، بل يُبرز أيضًا الحاجة إلى تجاوز التعريفات الجامدة نحو فهم تفاعلي وسياقي، يُراعي تعدد الفواعل، وتنوع الأدوات، وتغير البيئة الدولية، بما يجعل السياسة الخارجية مجالًا مفتوحًا للتأويل والتحليل المستمر.

2-الإطار النظري لتحليل العلاقة بين الدبلوماسية الثقافية والسياسة الخارجية

إن فهم الدبلوماسية الثقافية لا يكتمل دون التطرق إلى النظريات التي تُفسّر موقع الثقافة في العلاقات الدولية. فبينما تُقدّم النظرية الواقعية تصورًا أداتيًا للثقافة، تُبرز النظرية البنائية بعدها الإنشائي، وتُعيد النظرية النقدية في علاقات الهيمنة الرمزية، هذا التعدد النظري يُسهم في تفكيك التصورات التقليدية، ويُتيح قراءة متعددة الأبعاد للدبلوماسية الثقافية.

-نظرية القوة الناعمة

تُعد الشخصية الجذابة، والثقافة، والمؤسسات، والقيم السياسية من أبرز مصادر القوة الناعمة، خصوصاً عندما تُجسد السياسات الخارجية قيماً يُنظر إليها على أنها مشروعة أو ذات سلطة أخلاقية. فحين يمثل القائد السياسي قيماً يتطلع الآخرون إلى تبنيها، تصبح القيادة أقل تكلفة وأكثر تأثيراً، إذ تُمارس عبر الإقناع لا الإكراه (Nye, 2007, pp. 25–26). وتُعرف القوة الناعمة بأنها القدرة على الجذب، حيث يؤدي هذا الجذب إلى الإذعان الطوعي، لا بفعل التهديد أو الحوافز المادية، بل عبر التأثير الثقافي والقيمي. وتُقاس موارد القوة الناعمة من خلال استطلاعات الرأي العام أو عبر جماعات تركز على عناصر الإغراء والتأثير (Nye, 2007, p. 26). وفي جوهرها، تقوم القوة الناعمة على الانجذاب إلى القيم المشتركة، والعدالة، والمساهمة الفاعلة في تحقيق تلك القيم، مما يمنحها شرعية أخلاقية ويعزز من فعاليتها في العلاقات الدولية (Nye, 2007, p. 27).وعلى هذا الأساس تصبح الدبلوماسية الثقافية أداة فعالة للتأثير في المجتمعات الخارجية باستخدام وسائل القوة الناعمة كالفنون، والنوادي، والمؤتمرات…الخ

-النظرية التفاعلية الرمزية

تُعدّ النظرية التفاعلية الرمزية من أبرز المقاربات السوسيولوجية التي تُعنى بفهم الفعل الاجتماعي من منظور المعاني التي يُضفيها الأفراد على سلوكهم وسلوك الآخرين. وقد صاغ هربرت بلومر (1969) ثلاث فرضيات تأسيسية لهذه النظرية، مفادها أن البشر يتصرفون تجاه الأشياء بناءً على ما تعنيه لهم، وأن هذه المعاني تُستمد من التفاعل الاجتماعي، وتُعدّل باستمرار عبر التأويل الفردي للرموز. ويُبرز كريب هذه الفرضيات بوصفها امتدادًا مباشرًا لأعمال جورج هربرت ميد تُبرز النظرية التفاعلية الرمزية أهمية الرموز والمعاني في تشكيل الفعل الاجتماعي. (كريب، 1999، ص119) حيث يرى كريب أن الفعل الاجتماعي لا يُفهم إلا من خلال المعاني التي يمنحها الأفراد لسلوكهم وسلوك الآخرين، مما يجعل التفاعل الرمزي أساسًا لفهم الذات والهوية الاجتماعية. إن الرموز تُستخدم لبناء تصورات الأفراد عن أنفسهم ومواقعهم داخل المجتمع، من خلال تبادل الرسائل الرمزية واللغوية التي تُسهم في تشكيل الهوية الثقافية. (مولى والمحمدي، 2024، ص. 444) هذا البعد الرمزي يُعد جوهريًا في الدبلوماسية الثقافية، إذ تعتمد الدول على الرموز الثقافية واللغوية لبناء صورة إيجابية عنها في الخارج، مما يُعزز من تأثيرها في السياسة الخارجية عبر أدوات القوة الناعمة. فالدبلوماسية الثقافية، من منظور التفاعلية الرمزية، تُصبح ممارسة تواصلية تهدف إلى خلق معاني مشتركة بين الشعوب، وتُسهم في بناء علاقات دولية قائمة على التفاهم الثقافي والانجذاب الرمزي، وهو ما يُعد أحد أوجه التأثير غير المباشر في السياسات الدولية.

– البنيوية/البنائية (Constructivism)

السياسة الخارجية، وفقًا لألكسندر ويندت، هي ممارسة ناتجة عن تفاعل اجتماعي بين الدول، تُبنى من خلال إدراك (ذاتي) الدول لهوياتها ومصالحها، وليس استجابة ميكانيكية لبنية النظام الدولي. إنها تعبير عن تصورات الدول لذاتها وللآخرين، تتشكل عبر عمليات التعلم والتفاعل، لا عبر فرضيات سابقة عن الطبيعة البشرية أو الفوضى الدولية (Wendt, 1992, pp. 394–396).

لا يقدّم ألكسندر وندت تعريفًا تقليديًا للسياسة الخارجية، بل يتبنى تصورًا بنائيًا يجعل منها عملية ديناميكية تتشكل باستمرار من خلال التفاعل الاجتماعي. في هذا الإطار، لا تُفهم السياسة الخارجية على أنها مجرد استجابة لبنية النظام الدولي، بل تُبنى من خلال العلاقات المتبادلة بين الدول، حيث تلعب الهوية دورًا محوريًا في تحديد سلوك الدولة؛ فكيف ترى نفسها—كقوة سلام، أو تهديد، أو ضحية—يؤثر بشكل مباشر على قراراتها الخارجية. كذلك، فإن المصلحة ليست ثابتة أو محددة مسبقًا، بل تتغير وفقًا لسياق التفاعل مع الآخرين، مما يجعلها نتاجًا اجتماعيًا أكثر منها معطىً موضوعيًا. هذا التصور يضع السياسة الخارجية ضمن فضاء اجتماعي يتجاوز البنية المادية للنظام الدولي، ويُبرز كيف أن الدول لا تتصرف فقط وفقًا لما هو موجود، بل وفقًا لما تعتقده وتتصوره عن نفسها وعن الآخرين.

هذا التصور يرفض الفرضية الواقعية بأن السياسة الخارجية تنبع من “الاعتماد على الذات” في ظل الفوضى، ويؤكد أن الدول يمكن أن تتعلم وتعيد تعريف مصالحها وهوياتها، مما ينعكس على سلوكها الخارجي (Wendt, 1992, pp. 397–399).

   يرى ويندت أن سلوك الدولة الخارجي لا ينبع من طبيعة النظام الدولي الفوضوي كما يفترض الواقعيون، بل يتشكل من خلال التفاعل الاجتماعي الذي يُنتج هويات ومصالح الدول. فالدولة لا تتصرف بعدائية أو تعاون إلا بقدر ما تُعرّف نفسها والآخرين ضمن سياق اجتماعي مشترك. الفوضى، في هذا التصور، ليست سببًا جوهريًا للسلوك العدائي، بل هي “ساحة فارغة” تُملأ بالمعاني التي تخلقها الدول عبر الممارسة (Wendt, 1992, p. 395). وفقًا لويندت، فإن الدول تكتسب هوياتها من خلال “المرآة الاجتماعية” التي تعكس كيف تُعامل من قبل الآخرين. فإذا تعاملت دولة مع أخرى بعدائية، فإن الأخيرة ستبني تصورًا عن ذاتها ككيان مهدد، وترد بسلوك عدائي، مما يُنتج نمطًا من التفاعل يُعرف بـ”المساعدة الذاتية”. أما إذا سادت ممارسات تعاونية، فإن الدول قد تُعيد تعريف مصالحها وهوياتها بطريقة تسمح ببناء أنظمة أمن تعاونية، حيث يُنظر إلى أمن الآخر كجزء من أمن الذات (Wendt, 1992, pp. 401–403). وبالتالي، فإن سلوك الدولة الخارجي ليس نتيجة حتمية لبنية النظام، بل هو نتاج تفاعل مستمر يُعيد تشكيل الهويات والمصالح. هذا يعني أن الدول ليست محكومة بسلوك عدائي دائم، بل يمكنها أن تتعلم وتتحول نحو التعاون، إذا تغيرت الممارسات والمعاني المشتركة التي تنظم العلاقات بينها.

يتّضح من خلال المقاربات النظرية التي تناولتها الدراسة أن الدبلوماسية الثقافية لا تُعدّ مجرد امتداد رمزي للسياسة الخارجية، بل تُشكّل أحد أبعادها الجوهرية التي تُعيد تشكيل تمثّلات الدولة في الفضاء الدولي، فالمقاربة الواقعية تُبرز توظيف الثقافة كأداة استراتيجية ضمن أدوات القوة الناعمة، بينما تُظهر المقاربة البنائية أن الهوية والمصلحة تُبنيان عبر التفاعل الرمزي، ما يجعل من الثقافة وسيطًا لإعادة تعريف الذات والآخر، أما المقاربة التفاعلية الرمزية، فتُسهم في فهم كيف تُعاد صياغة المعاني السياسية من خلال الممارسة الثقافية، وتُبيّن أن الفعل الثقافي ليس محايدًا بل محمّلٌ بدلالات سياسية ضمنية.

وبذلك، تُقدّم هذه المقاربات رؤية متعددة الأبعاد تُفسّر كيف تُدار السياسة الخارجية عبر أدوات غير تقليدية، وتُظهر أن الدبلوماسية الثقافية ليست هامشًا ناعمًا في العلاقات الدولية، بل فضاءً تفاوضيًا تُعاد فيه صياغة الشرعية، النفوذ، والتموضع الرمزي للدول. إن هذا التداخل بين الثقافة والسياسة يُعيد تشكيل مفهوم القوة في العلاقات الدولية، ويُبرز أهمية المقاربات التأويلية لفهم ديناميكيات التأثير خارج منطق الإكراه.

ثالثا: العلاقة بين الدبلوماسية الثقافية والسياسة الخارجية

1-هناك من يرى الدبلوماسية الثقافية كأداة تنفيذية للسياسة الخارجية فحسب Pajtinka (2014) في دراسته حول الدبلوماسية الثقافية في سياق العلاقات الدولية المعاصرة، يمكن القول إن هذه الممارسة أصبحت جزءًا لا يتجزأ من السياسة الخارجية للدول، حيث لا تقتصر وظيفتها على التعريف بالثقافة الوطنية أو نشر اللغة الرسمية، بل تتوسع لتشمل التفاوض على المعاهدات الثقافية، وبناء الجسور التواصلية مع المجتمعات الوافدة في الخارج. هذا الطرح يعكس فهمًا وظيفيًا للدبلوماسية الثقافية بوصفها أداة تنفيذ مباشرة لأجندة السياسة الخارجية، وليس مجرد نشاط رمزي أو تزييني. ويؤكد Pajtinka أن فعالية هذه الدبلوماسية تعتمد بدرجة كبيرة على مستوى انخراط الأجهزة الرسمية في تصميمها وتنفيذها، مما يعكس تكاملًا مؤسساتيًا بين الفعل الثقافي والهدف السياسي (Pajtinka, 2014, p. 95). وهنا تبرز أهميتها من خلال كونها أداة وظيفية لخدمة المصالح الوطنية في إطار القوة الناعمة، حيث تختلف شدتها وفعاليتها باختلاف قدرات الدولة وتوجهاتها الاستراتيجية، مما يجعلها أحد مرتكزات التأثير غير المباشر في العلاقات الدولية.

   تؤكد Grincheva أن الدبلوماسية الثقافية قد تحولت تدريجيًا إلى أداة استراتيجية في تنفيذ السياسات الخارجية، خاصة في الأدبيات الغربية التي تناولتها من زاوية “القوة الناعمة” و”التمثيل الرمزي”، إلا أن هذا الارتباط يبقى إشكاليًا في غياب إطار نظري موحّد، إذ تُستخدم المفاهيم المجاورة مثل “العلاقات الثقافية الخارجية”، و”الأنشطة الثقافية”، و”الترويج الثقافي الخارجي” بطريقة تبادلية وغير منضبطة، مما يُضعف التحديد الدقيق للعلاقة التي تربط الدبلوماسية الثقافية بالسياسة الخارجية. كما أظهرت الكاتبة أن الدول المختلفة تؤول المفهوم حسب أنظمتها المرجعية؛ فبينما تعتمد الولايات المتحدة مصطلح “cultural diplomacy“، تفضّل بريطانيا “العلاقات الثقافية“، وفرنسا “العمل الثقافي الخارجي“، وألمانيا “السياسة الثقافية الأجنبية“، مما يُظهر الطابع المرن بل المتشظي للدبلوماسية الثقافية كمجال مرجعي (p.174).

2-تجادل Grincheva (2024) أنه في ظل التوسع المتسارع في التدفقات البشرية والمالية والتكنولوجية والثقافية على المستوى العالمي، تظهر أشكال جديدة من الدبلوماسية، كما وصفها Scholte بـ”الاتصالات العابرة للكواكب بين الناس…هذه التحولات تُعيد تشكيل أجندة الدبلوماسية الثقافية… لتتجه نحو قضايا إنسانية عابرة للحدود يُدار النقاش حولها بدرجة أكبر من قبل القطاع الخاص، في فضاء معلوماتي يتسم بازدحامه وتشابكه…فإن الأبحاث المعاصرة تؤكد وجود مساحة لدبلوماسية عامة تتمحور حول الإنسانية، قادرة على إعادة بناء جسور التواصل والتفاهم في سياق عالمي مضطرب (p. 181). لقد تزايد الإهتمام بالقضايا الاجتماعية والسياسية ذات الأهمية العالمية. على سبيل المثال، تصبح حركات المثليين أو الحركات النسوية، وتغير المناخ أو نشطية ذوي الإعاقة جزءاً هاماً من الثقافات المعاصرة المشتركة عبر الدول والمجتمعات التي تقدم سبلًا مثيرة لتنفيذ أنشطة التنمية الثقافية. (p. 184)، وهذا ما يبرز نوعا من الاستقلالية للدبلوماسية الثقافية وتحولها إلى عنصر فاعل يؤثر على العلاقات الدولية.

وناقشت دراسة Ang et al. (2015) توسع دور الدبلوماسية الثقافية في السياسة الخارجية من خلال استخدامها في بناء الصورة الدولية وتمثيل الدولة عبر قنوات غير تقليدية، ويبيّن التحليل أن هذه العلاقة تعكس تحوّلاً في تمثّل الدولة لنفسها دبلوماسيًا، حيث لم تعد الدبلوماسية الثقافية مجرد أداة تكميلية، بل أصبحت وسيلة محورية في صياغة الخطاب السياسي الخارجي، فالدول، إلى جانب المنظمات فوق الوطنية كالاتحاد الأوروبي، باتت تعتمد عليها لتوسيع نطاق حضورها الدولي، وتفعيل الحوار الثقافي العابر للحدود، وتوجيه تصورات الجماهير حول سياستها الخارجية بطريقة أكثر قربًا وتأثيرًا مما تتيحه الأدوات التقليدية (Ang et al., 2015, pp. 368–370).

رغم أن دراسة Ang et al. (2015) تُظهر تحوّلاً ملحوظًا في إدماج الدبلوماسية الثقافية ضمن السياسة الخارجية لبعض الفاعلين الدوليين، إلا أن التعميم على أن هذه الممارسة باتت “وسيلة محورية” في صياغة الخطاب السياسي الخارجي لجميع الدول يفتقر إلى الدقة التجريبية، وهذا ما سنبينه لاحقا في الجانب التطبيقي للدراسة.

الثقافة تُستخدم بشكل متزايد في الترويج الدولي وتمثيل الذات الوطنية، وخاصة من قبل الجهات الحكومية والمنظمات فوق الوطنية كالاتحاد الأوروبي، لكن ذلك يتم ضمن سياقات سياسية محددة ولم يتحول إلى نمط عالمي موحد أو بديل شامل للأدوات التقليدية.

الدبلوماسية الثقافية يمكن أن تُسهم في تعزيز الشرعية الرمزية للدولة وتوسيع حضورها عبر أدوات تواصل جماهيري، إلا أن وظيفة هذه الأدوات تظل جزئية ومقيدة بالأطر الاستراتيجية، وليست كافية لوحدها لصياغة الخطاب السياسي الخارجي بمعناه الكامل.

يستدعي ذلك ضرورة التمييز المفاهيمي بين الدبلوماسية الثقافية كأداة فكرية-رمزية، وبين السياسة الخارجية كمنظومة سيادية متعددة الأبعاد، حيث تظل الأولى عنصرًا داعمًا وليست عنصرًا منشئًا للخطاب السياسي. لذا، فإن استخدام هذا المصطلح كمحدد مركزي لتحولات الدولة الدبلوماسية يتطلب تمحيصًا أكبر في التجارب التطبيقية، وتفكيكًا منهجيًا للفروقات بين التمثيل الثقافي والنفوذ الاستراتيجي.

   3-قدمت المقاربات الاجتماعية رؤية خاصة بها لتفسير العلاقة بين الدبلوماسية الثقافية والسياسة الخارجية، حيث ترى أنّ الفهم العميق لتأثير الدبلوماسية الثقافية في تشكيل تصورات السياسة الخارجية لا يتحقق إلا عبر ربط هذا التأثير بمحددات الهوية والانتماء الجمعي، وفي هذا السياق يمكن اعتبار نظرية الهوية الاجتماعية إطارًا تفسيريًا مركزيًا لفهم التفاعل بين المشاركة الثقافية والانطباعات السياسية، إذ تفترض النظرية أن الأفراد يميلون إلى تعريف أنفسهم من خلال عضويتهم في جماعات ثقافية ووطنية، وأن هذا الانتماء يوجّه سلوكهم الإدراكي تجاه الدول المرسلة لتلك الرسائل الثقافية. عندما يشارك الأفراد في أنشطة الدبلوماسية الثقافية، مثل المهرجانات أو البرامج التعليمية، فإنهم لا يكتفون باستقبال الرمزي، بل يعيدون تأويله بما يعزّز إحساسهم بالانتماء، مما ينعكس غالبًا في رؤية أكثر إيجابية لسلوك الدولة في سياستها الخارجية. ويكمن التأثير البنائي لهذه المشاركة في قدرتها على تحييد التوتر السياسي عبر خلق مساحة ثقافية مشتركة تتيح التفاوض الرمزي بين الثقافات، وهو ما أظهرته دراسات حديثة اعتمدت على هذا الإطار النظري في تحليل الفروقات بين الجمهور الأمريكي والياباني في تلقي المخرجات الثقافية الكورية، إذ أظهرت تفاوتًا في الانطباع السياسي تبعًا لتركيبة الهوية الاجتماعية لدى كل جمهور (Kimani, 2023, p. 4).

تشير الأدبيات الحديثة إلى أن تصورات السياسة الخارجية تُبنى عبر منظومة مركّبة من العوامل، تشمل الهوية الوطنية والتاريخ الجمعي والمضامين الثقافية المعولمة، وليس فقط عبر القرارات الرسمية أو الأهداف الاستراتيجية. يبرز كيماني (2023) دور الدبلوماسية الثقافية في إعادة تشكيل هذه التصورات من خلال أنشطة رمزية وتربوية، مما يمنح الثقافة وظيفة بنيوية في صياغة السياسة الخارجية. فالفهم السياسي لا يتكوّن بمعزل عن الخلفية النفسية والاجتماعية للجمهور، بل يتداخل معها، ويُعيد إنتاج المواقف السياسية تبعًا لسياق التلقي. ولهذا، فإن دراسة السياسة الخارجية الحديثة تقتضي إدراكًا عميقًا للدوافع النفسية والرمزية التي تشكّل الصورة الذهنية الدولية، خاصة في ظل توسّع أدوات التأثير غير الصريح التي حولت المجال الثقافي إلى فضاء تفاوضي خفي بين الدول والجماهير (Kimani, 2023, p. 7).

وفي إطار التحليل الواقعي، تُوظّف الدبلوماسية الثقافية كأداة استراتيجية ضمن منظومة القوة الناعمة التي تعتمدها الدول الكبرى لتحقيق مصالحها الخارجية. فالثقافة، في هذا السياق، لا تُقدَّم بوصفها قيمة إنسانية محايدة، بل تُستخدم كوسيلة احتوائية لنقل النماذج الحضارية والسياسية إلى المجتمعات الأخرى، بهدف التأثير في الرأي العام وتشكيل الانطباعات الدولية. وقد أظهرت التجارب التاريخية، لا سيما خلال الحرب الباردة، أن الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي استخدما الثقافة كوسيلة دعائية لترويج القيم الليبرالية أو الاشتراكية، عبر الإعلام الموجّه، والمؤسسات الثقافية، وبرامج التبادل الأكاديمي. هذا التوظيف يعكس منطق الواقعية السياسية، حيث تُدمج الثقافة ضمن أدوات النفوذ، وتُستخدم لتوسيع نطاق الهيمنة الرمزية دون اللجوء إلى القوة الصلبة. كما أن الدول المعاصرة، مثل الصين والولايات المتحدة، تواصل استثمار الدبلوماسية الثقافية في بناء صورتها الدولية، وتوسيع حضورها الجيوسياسي، من خلال إنشاء مراكز ثقافية، وتفعيل برامج تعليمية، وتوظيف الرموز الثقافية في خدمة الأجندة السياسية الخارجية (الخيري، 2024، صـ 122–125)، وقد ظهر هذا التوجه خلال التعريفات التي تبين رؤية أمريكا والصين للدبلوماسية الثقافية السابق ذكرها.

في إطار المقاربة المؤسساتية، تُفهم الدبلوماسية الثقافية بوصفها ممارسة ممنهجة تنفذها جهات رسمية وغير رسمية ضمن بنى تنظيمية محددة، تعكس توجهات الدولة في سياستها الخارجية. وتُظهر النماذج التطبيقية في دول مثل فرنسا وسلوفاكيا أن البعثات الدبلوماسية تضطلع بالدور المركزي في تنفيذ الأنشطة الثقافية، ما يعكس اندماج الثقافة في صلب العمل الدبلوماسي الرسمي. في المقابل، يُلاحظ في النموذج الألماني انخراط أكبر للكيانات غير الدبلوماسية، مثل المعاهد الثقافية المستقلة، مما يدل على تبني سياسة خارجية أكثر تعددية في أدواتها، حيث تُوظف الثقافة كقوة ناعمة عبر شبكات مؤسساتية متنوعة (Pajtinka, 2015, p. 112). هذا التباين في النماذج يُبرز كيف أن البنية المؤسساتية ليست مجرد إطار إداري، بل هي انعكاس مباشر لاستراتيجية الدولة في توظيف الثقافة لتحقيق أهدافها الخارجية، سواء عبر تعزيز الصورة الوطنية أو بناء علاقات دولية قائمة على التفاهم الثقافي.

المبحث الثاني: الدراسة التطبيقية (الدبلوماسية الثقافية الأمريكية الألمانية الصينية)

لأجل اختبار فرضيات الدراسة ينبغي معاينة التجارب الواقعية التي تفسر العلاقة بين متغيرات الدراسة، إذ تمكن ملامسة الواقع من إعطاء صورة حقيقية لطبيعة الأثر بين الدبلوماسية الثقافية والسياسة الخارجية.

أولًا: الدبلوماسية الثقافية الأمريكية – بين الاستقلال الرمزي والتوظيف السياسي

في سياق إعادة تموضع الولايات المتحدة كفاعل رمزي في النظام الدولي، تُوظّف الدبلوماسية الثقافية الأمريكية بوصفها تجسيدًا لمشروع الهيمنة الغربية الذي بدأ في الثلاثينيات عبر مؤسسات تربوية وثقافية، واستمر متكاملًا مع أدوات القوة الصلبة بعد الحرب العالمية الثانية. هذا التوظيف الثقافي لا يتوقف عند الجاذبية الرمزية بل ينفتح على اختراق إدراكي متواصل للوعي الجمعي في العالم الإسلامي، حيث تُقدم اللغة الإنجليزية، والفنون، ومنح فولبرايت، كوسائط فعالة لإعادة تشكيل التصورات المحلية حول “النموذج الأمريكي” بوصفه معيارًا كونيًا.

في هذا الإطار، يشير مثال برنامج فولبرايت إلى كيفية توظيف التعليم في دعم الصورة الثقافية الأمريكية وتشكيل نخب عربية حاملة لقيم ليبرالية متماهية مع الرؤية الأمريكية للعالم. (بودردابن، 2021، ص 654)

على سبيل المثال نستدعي لحظة توظيف الولايات المتحدة للإعلام الموجه بعد أحداث سبتمبر 2001، حيث دُشّنت قنوات وإذاعات تخاطب العالم العربي من منظور يخدم المصالح الأمريكية، ويدمج السياسات الأمنية بالخطاب الثقافي في قالب تواصلي يُروّج لقيم الديمقراطية والحرية بحسب التعريف الأمريكي. (بودردابن، 2021، ص 655)

الأسس النظرية للدبلوماسية الثقافية الأمريكية تجاه الصين تأسست على تأويلين متماسكين: نظرية “نهاية التاريخ” لفوكوياما، ونظرية “القوة الناعمة” لناي، التي طرحت الثقافة كوسيلة مركزية في توليد النفوذ الدولي دون صدام عسكريXu, 2023, p180).) وبهذا يُستخدم الخطاب الثقافي كرافعة سياسية ذات طابع عالمي، تعمل على إعادة صياغة الإدراك الخارجي حول الولايات المتحدة، خاصة في الحالات التي يتعذّر فيها التدخل المباشر، كما في السياق الصيني.

في حقبة ما بعد الحرب الباردة، غيّرت الولايات المتحدة مسار دبلوماسيتها الثقافية، حيث أصبحت الجهات الفاعلة غير الرسمية والقطاع الخاص في صلب عملية تمثيل صورة الدولة دوليًا، بدلًا من الجهاز البيروقراطي التقليدي، فقد اختارت الدولة “الاستعانة بمصادر خارجية لإدارة الصور للقطاع الخاص، وقللت من البيروقراطية الحكومية، وقامت بتقليل إبراز الأداة تمامًا” (Hecht.2025.p1)، مما يعكس تحولًا عميقًا نحو نمط لامركزي يتم فيه إنتاج المعنى الثقافي خارج الأطر الرسمية. ويشير هذا التوجه إلى اتساع مفهوم “الدبلوماسي الثقافي” ليشمل فنانين، سياحًا، أطباء، إعلاميين، ورجال أعمال ينقلون صورة الدولة بقصد أو دون قصد عبر ممارساتهم اليومية العابرة للحدود (Hecht.2025.p1).

هذا التحول يؤكد بأن الدبلوماسية الثقافية قد تجاوزت البنية الرسمية لتصبح وسيطًا رمزيًا مستقلًا جزئيًا، يعيد إنتاج إدراك الآخر عبر أدوات ناعمة غير تقليدية، كما يفتح المجال لإعادة النظر حول مدى استقلالية الحقل الثقافي عن الدولة، وفعالية الفاعلين غير الرسميين في تشكيل التصورات الدولية حول الولايات المتحدة. وفي هذا السياق، تُطرح أسئلة فرعية تتعلق بحدود هذا الاستقلال، وأنماط الفعل الثقافي التي تحافظ على اتصالها بالسياسة الخارجية من جهة، وتستقل عنها من جهة أخرى، ما يفرض تطوير إطار نظري قادر على التقاط التفاعلات المعقدة بين الدولة والمجتمع في إنتاج الصورة الدولية.

   تعكس الممارسة الأمريكية للدبلوماسية الثقافية بعد نهاية الحرب الباردة اتجاهاً وظيفياً تكاملياً ضمن منظومة السياسة الخارجية، حيث لم تعد أدوات النفوذ مقتصرة على “القوة الصلبة”، بل باتت تعتمد بشكل متزايد على “القوة الناعمة” بوصفها امتداداً أيديولوجيًا–رمزيًا للخطاب السياسي الرسمي. ووفقاً لـXu (2023)، فإن الولايات المتحدة “لطالما استخدمت الحقوق الثقافية كأداة خاصة لتحقيق المصالح الوطنية للولايات المتحدة، مستفيدةً من قوتها الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية القوية، وساعدت الناس من خلال التخطيط وتنفيذ استراتيجيات ثقافية.”..عملت الولايات المتحدة لتأسيس برامج ثقافية موجهة نحو الصين بهدف تحقيق ثلاثة مستويات من المصالح: تعميق التفاهم المتبادل، تحسين العلاقات الثنائية، وضمان توافق السياسات الوطنية الصينية مع الاستراتيجية الأمريكية العالمية.  (Xu, 2023, pp. 179–181)

هذا النموذج يُثبت أن الدبلوماسية الثقافية لم تكن أداة ثقافية مستقلة، بل جزءًا مدمجًا ضمن مقاربة شاملة للسياسة الخارجية الأمريكية، تعتمد على إعادة إنتاج القيم الأمريكية وتصدير نمطها الحضاري بما يعيد تموقعها الخطابي في الساحة الدولية.

وعليه فإن النموذج الأمريكي يُظهر ازدواجية بين التوظيف الرسمي والفاعلية المستقلة، حيث تُمارس الثقافة كأداة دبلوماسية وأيضًا كوسيط رمزي مستقل جزئيًا.

النموذج الأمريكي لا يُروّج للهوية الثقافية فقط، بل يعيد إنتاج سردية عالمية حول من يحق له تمثيل “الحداثة”، وهذا ما يجعل دوره محوريًا في صراعات القوة الرمزية.

ثانيا: ألمانيا (دبلوماسية التفاهم والتعددية كقوة ناعمة)

“بعد إعادة توحيد ألمانيا، أصبحت الدبلوماسية الثقافية مسؤولية ثلاث مؤسسات رئيسية: DAAD يضطلع بمهام تنقل الطلاب الدوليين وتعليم اللغة الألمانية أكاديميًا، جمعية ألكسندر فون هومبولت: تركّز على دعم الباحثين الدوليين والمشاريع البحثية المشتركة داخل ألمانيا، معهد غوته: يعنى بنشر الثقافة واللغة الألمانية خارج الأوساط الجامعية، ويُعدّ الذراع الأبرز للدبلوماسية الثقافية الألمانية على الصعيد العالمي.” (Gołębiowski, 2020, p. 162)

تمثّل ألمانيا نموذجًا فريدًا للدبلوماسية الثقافية يقوم على مبدأ الحوار والتفاهم المتبادل، بعيدًا عن الترويج الأحادي للهوية الوطنية. تعتمد مؤسسات مثل Goethe-Institut على برامج تعليمية وثقافية تُشجّع التعددية والانفتاح، وتعكس تصورًا يضع الثقافة كأداة لبناء الثقة بدلًا من فرض النفوذ، هذا النموذج يتقاطع مع الرؤية الأوروبية العامة لكنه يحتفظ بخصوصيته الأخلاقية في رفض التوظيف الدعائي المفرط بالمقارنة مع النموذجين الصيني والأمريكي، يُقدّم النموذج الألماني حالة وسطية تُسهم في توسيع النقاش حول حدود وأهداف الدبلوماسية الثقافية في السياق العالمي، لذلك يُمكن اعتبار النموذج الألماني بمثابة محاولة لإعادة تعريف الدبلوماسية الثقافية كمجال غير تنافسي، يرتكز على بناء الجسور لا على تصدير السرديات.

ولفهم النموذج الألماني يجب رصد التحولات السياسية والاجتماعية التي عرفتها ألمانيا منذ القرن التاسع عشر حتى مرحلة ما بعد الحرب الباردة، حيث نشأت الدبلوماسية الثقافية الألمانية كردّ فعل تراكمي على تاريخ مضطرب من سياسات الهجرة والإقصاء القومي. ترى Jha أن هذا الإرث التاريخي “يؤدي إلى حاجة ألمانيا إلى استخدام موقفها الجديد كوجهة للتعددية الثقافية”، مما يمنح بعدها الثقافي طابعًا علاجيًا بدلًا من وظيفته الترويجية التقليدية (Jha, 2024, para. 1). ويتجلّى هذا النهج في عمل معهد غوته، الذي لا ينقل سردية رسمية بل يُفعّل مفهوم “Welt-Literatur” كما صاغه غوته في القرن التاسع عشر، بوصفه أداة مضادة للنزعة القومية المغلقة التي برزت إبان الحروب النابليونية. يضطلع المعهد، منذ تأسيسه في ذروة الهجرة الجماعية بعد الحرب العالمية الثانية، ببناء علاقات ثقافية قائمة على التعلم والتبادل لا على الهيمنة، مستندًا إلى رؤية رئيسه السابق كلاوس ديتر ليمان الذي يصف الدبلوماسية الثقافية بأنها “علم التعاون والحفظ على نطاق عالمي”، رافضًا الميكافيلية السياسية لصالح الليبرالية والتعليم المدني (Jha, 2024, para. 3).

تُعدّ الدبلوماسية الثقافية إحدى الركائز الثلاث للسياسة الخارجية الألمانية، إلى جانب الأمن والاقتصاد، وتخضع رسميًا لإشراف وزارة الخارجية الفيدرالية بموجب المادة 32(1) من القانون الأساسي. ومع ذلك، فإن تنفيذها يتم عبر شبكة مؤسساتية متعددة المستويات تشمل وزارات اتحادية، ومنظمات وسيطة مستقلة مثل معهد غوته، وDAAD وIFA، التي تتمتع باستقلالية نسبية في صياغة البرامج الثقافية، بدعم تنسيقي من السفارات الألمانية، وقد تعزز هذا التوجه منذ عام 2018 بتعيين وزير دولة لشؤون الدبلوماسية الثقافية الدولية، مما يعكس تصاعد أهميتها في السياسة الخارجية (Blumenreich, 2022, pp. 15–16).

تُظهر البنية المؤسساتية الألمانية توازنًا بين التبعية الرسمية والاستقلال الرمزي، حيث تُوظف الثقافة كأداة ناعمة ضمن استراتيجية واقعية للنفوذ الدولي. وقد خُصص مبلغ 2.2 مليار يورو للسياسة الثقافية عام 2020، منها 59.2% لوزارة الخارجية، مما يدل على الطابع الاستراتيجي لهذا المجال. وتُبرز الصياغة الحكومية لعام 2021 الوظيفة الرمزية للدبلوماسية الثقافية، بوصفها وسيلة غير صدامية لربط الشعوب وتعزيز القيم العالمية، من خلال مبادرات تشمل دعم الفنانين المهددين، التعاون مع إفريقيا، واستعادة الآثار، وغيرها من أدوات إعادة تشكيل الإدراك الخارجي بعيدًا عن الخطاب السياسي الصلب (Blumenreich, 2022, pp. 17–18).

أما الأهداف السياسية المعلنة، فقد وردت في الاتفاق الائتلافي لعام 2021، وتشمل تعزيز الحوار الثقافي، حماية حرية التعبير، وتوظيف الثقافة في مواجهة تحديات عالمية كالتغير المناخي. وقد رُصدت ميزانية قدرها 2.44 مليار يورو للفترة 2021–2027، بزيادة تقارب مليار يورو عن الفترة السابقة، منها 804 مليون يورو للبرامج الثقافية الفرعية. وتشمل الوسائل الفعلية تعليم اللغة الألمانية، تنظيم المعارض، دعم المؤسسات الثقافية بالخارج، وإنشاء منصات رقمية ومراكز ثقافية مشتركة في دول ثالثة (Blumenreich, 2022, pp. 15–17).

تُعدّ الدبلوماسية الثقافية في ألمانيا أداة رمزية ناعمة ضمن سياستها الخارجية، تُمارس تحت مفهوم “السياسة الثقافية الخارجية” (Auswärtige Kulturpolitik)، عبر مؤسسات وسيطة مثل معهد غوته والهيئة الألمانية للتبادل الأكاديمي، بهدف تعزيز صورة ألمانيا كدولة مدنية حوارية دون اللجوء إلى أدوات الهيمنة المباشرة. ويُظهر هذا النموذج اندماجًا وظيفيًا بين الثقافة والسياسة، حيث تُستخدم المشاريع الثقافية لترويج القيم الأوروبية وترسيخ التكامل الإقليمي، كما تؤكده وثيقة “Konzeption 2000” التي تعيد تعريف الثقافة كأداة تواصل دولي ذات وظيفة سياسية (Bulut, 2023, p. 189).

ورغم ما يبدو من استقلالية نسبية للمؤسسات الثقافية الوسيطة، فإن التطبيق العملي يكشف عن توظيف ممنهج للخطاب الثقافي في خدمة أجندات سياسية، خاصة في تعاطي ألمانيا مع الشرق الأوسط والبلدان الإسلامية. ففي هذه السياقات، تتحول الدبلوماسية الثقافية إلى أداة لإعادة تشكيل الهويات وفق نمط قيمي أوروبي مهيمن، حيث يُستخدم مصطلح “الحوار بين الثقافات” (Interkultureller Dialog) كواجهة لغوية تخفي أهدافًا أمنية وسياسية، منها مكافحة التطرف وإعادة إدماج الثقافات غير المنسجمة مع النموذج الأوروبي. ويُظهر معهد غوته انخراطًا فعليًا في مشاريع ذات طابع تطبيعي، رغم تحفظه الرسمي على مصطلح “الدبلوماسية الثقافية” (Bulut, 2023, pp. 188–189).

يكشف هذا النموذج عن خلل بنيوي في الخطاب الرمزي للدبلوماسية الثقافية، حيث يؤدي التوظيف السياسي “المقنّع” للثقافة إلى إعادة إنتاج علاقات غير متكافئة بين المركز الأوروبي ومجتمعات الجنوب.

تُظهر السياسة الثقافية الخارجية الألمانية (Auswärtige Kulturpolitik) تمايزًا اصطلاحيًا عن مفهوم “الدبلوماسية الثقافية” المتداول في الولايات المتحدة، التي اعتمدته رسميًا منذ عام 1959 كأداة وظيفية في سياستها الخارجية. هذا التمايز، كما توضح Grincheva، يعكس اختلافًا في البنية الخطابية، حيث تميل ألمانيا إلى تجنّب التسييس المباشر للثقافة، رغم انخراطها الفعلي في ممارسات تحمل وظائف دبلوماسية واضحة، خصوصًا في الشرق الأوسط والدول الإسلامية. ففي هذه السياقات، تُستخدم الثقافة كوسيلة لإعادة تشكيل الهويات ضمن منظور أوروبي مهيمن، تحت مظلة خطابية محايدة نسبيًا تخفي أهدافًا أمنية وقيمية. النموذج الألماني، رغم تحفظه المفهومي، يؤدي وظائف مشابهة للنموذج الأمريكي ولكن بأدوات أكثر مرونة وتأثيرًا غير صدامي، مما يعكس استراتيجية خطابية دقيقة لإعادة بناء الصورة الذهنية لألمانيا كدولة مدنية حوارية (Grincheva, 2024, pp. 177–179).

هذا التمايز الخطابي الظاهري يكشف عن الوظيفة الرمزية المتداخلة مع البنية السياسية للدبلوماسية الثقافية الألمانية، حيث يُمارس التأثير عبر أدوات غير صدامية، تُعيد تشكيل الإدراك الثقافي في الفضاءات غير الأوروبية، وتدعم هذه القراءة مفهوم “الاستيعاب غير المباشر”، كمرحلة وسيطة بين الحوار الثقافي وتوظيف الثقافة لأغراض الهيمنة، وهو محور جوهري في اختبار قدرة الرمزي على التفاوض التواصلي دون صدام مباشر، يبدو أن ألمانيا اتبعت هذا النموذج لتغيير الصورة الذهنية المتوارثة عنها تاريخيا كدولة عدوانية، لكن لا تخلوا الدبلوماسية الثقافية الألمانية من الأجندات المبطنة.

يوضح النموذج الألماني أن الدبلوماسية الرمزية تمكّن من “الحضور التفاوضي” في العلاقات الدولية دون اللجوء إلى آليات القوة الصلبة، إلا أن هذا المثال يُظهر التباسًا مفاهيميًا بين الحوار والتوظيف، مما يضعف مصداقية المسار الرمزي، فالميل إلى تطبيع قيم الاتحاد الأوروبي في السياقات الإسلامية، دون مساءلة للتموضعات التاريخية والثقافية لهذه المجتمعات، يحوّل الدبلوماسية الثقافية من مساحة لقاء إلى أداة تدخل، ومن هنا يتضح أن غياب الشفافية المفاهيمية في تحديد حدود الدبلوماسية الثقافية مقابل الحوار بين الثقافات(Interkultureller (Dialog  لا يُنتج سوى إعادة إنتاج الهيمنة باسم الحوار، وهذا يقود إلى إعادة التفكير في ضرورة إعادة صوغ المفهوم النظري للدبلوماسية الثقافية بما يراعي تعقيدات الحقول الثقافية غير الغربية.

إذن النموذج الألماني يُظهر استقلالًا نسبيًا، حيث تُدار الدبلوماسية الثقافية من قبل مؤسسات شبه مستقلة، وتُستخدم كأداة حوار لا كأداة هيمنة.

ثالثا: الصين (بين تمجيد الهوية الوطنية وتوسيع النفوذ الرمزي)

تُبرز مراجعة Riva (2019) للدبلوماسية الثقافية الصينية بين 2003 و2018 تبنّي الصين لعقيدة وظيفية تُوظّف الثقافة كأداة مركزية في بناء القوة الناعمة وتعزيز الإدماج الدولي، وقد اعتمدت الصين وسائل متعددة لتحقيق ذلك، أبرزها تدويل الإعلام الرسمي (CGTN،Xinhua) وانتشار معاهد كونفوشيوس، والترويج للسينما والوثائقيات ذات الطابع القومي، وكلها تخضع لإدارة مركزية تعكس خطابًا يخدم “الأمن الثقافي” ويُعيد إنتاج سردية وطنية موجّهة للخارج. كما تم دمج مفهوم “القوة الناعمة الثقافية” في الخطاب السياسي الرسمي، حيث تتجاوز الثقافة وظيفتها الرمزية لتصبح وسيطًا استراتيجيًا يُعيد تشكيل صورة الصين عالميًا ويُهيّئ بيئة أقل تصادمًا لتموقعها السياسي. ورغم تشابه الأدوات مع نماذج أخرى، فإن خصوصية المفهوم، والمركزية الحزبية، وتداخل الخطاب الثقافي–الدعائي، تفرض مقاربة نقدية تُعيد مساءلة النموذج الصيني بوصفه نمطًا مميزًا في توظيف الرمزي في العلاقات الدولية (Riva, 2019).

في سياق مبادرة “الحزام والطريق”، تُوظّف الصين الدبلوماسية الثقافية كأداة استراتيجية ضمن سياستها الخارجية، عبر منظومة متعددة الوسائل تشمل المعاهد الثقافية، التعليم التبادلي، الإعلام المترجم، التعاون في حماية التراث، وإنتاج وثائقيات ثنائية اللغة. وتُدار هذه الوسائل من خلال تنسيق مؤسسي يجمع بين الدولة والقطاعين المدني والخاص، مما يمنحها طابعًا وظيفيًا تعدديًا (Cui, 2025, pp. 1373–1382). وتتمثل أهداف هذه الدبلوماسية في بناء روابط شعبية، تحسين التصور الدولي للصين، وتيسير القبول الإقليمي للمشروع السياسي والاقتصادي، خاصة في مناطق ذات حساسية ثقافية كآسيا الوسطى والشرق الأوسط. وتُظهر الدراسة أن الاستراتيجية الصينية تُكيّف أدواتها بحسب الخصوصيات الثقافية لكل منطقة مستهدفة، موزعة على أربع دوائر رئيسية: جنوب شرق آسيا، آسيا الوسطى، الشرق الأوسط، وأوروبا الشرقية (Cui, 2025, pp. 1375–1384). كما تُدمج الثقافة داخل السياسة الخارجية بوصفها وسيطًا لإعادة تشكيل الإدراك الخارجي، حيث يُستخدم التراث المشترك، مثل طريق الحرير، لتفعيل الذاكرة الجماعية وتعزيز شرعية الصين دوليًا(Cui, 2025, pp. 1380–1381) وتؤدي هذه المقاربة إلى تجاوز ثنائية الصراع والترويج، نحو توظيف الثقافة في رسم هندسة رمزية للعلاقات الدولية، وتقديم الصين كفاعل حضاري غير تصادمي، لكنها واعية بمصالحها الإقليمية.

من أمثلة الدبلوماسية الثقافية الموجهة ما تطرقت إليه دراسة Zhu (2022) التحول الوظيفي للدبلوماسية الثقافية الصينية نحو أهداف سياسية مباشرة، حيث تُستخدم كأداة لإعادة تشكيل التصورات العالمية عن هوية الصين من خلال تعزيز الخطاب الوطني وترويج القوة الناعمة، وذلك ضمن سياسة “الدعاية الخارجية الكبرى” (Da Wai   Xuan)  التي بدأت منذ 2016. وتُوظَّف هذه السياسة في إنتاج محتوى وثائقي عبر مؤسسة CGTN، تحت إشراف الهيئة الوطنية للإذاعة والتلفزيون، حيث تُدمج الرموز الثقافية التقليدية في سردية وطنية موحدة تهدف إلى تقديم صورة غير تصادمية للصين عالميًا (Zhu, 2022, pp. 672–675). ورغم الادعاءات الرسمية بكون هذه الممارسات جزءًا من “التبادل الثقافي”، تكشف الدراسة أن المحتوى المنتج دعائي موجّه يخدم إعادة بناء الهوية الوطنية بشكل أحادي، ويُستخدم للسيطرة على الفضاء العام العالمي، مع غياب واضح لدور المجتمع المدني المحلي والدولي في صياغة هذه السياسات، مما يُبرز مركزية الدولة وهيمنتها الرمزية (Zhu, 2022, pp. 676–678)  كما تُبيّن Zhu أن النموذج الإعلامي الصيني لا يتيح إعادة تفسير الرسائل الثقافية خارج الإطار الرسمي، بل يسعى إلى التحكم في السرد العالمي عبر محتوى ناعم ومُفلتر ثقافيًا، يُنتج بلغة دعائية تخلو من النزاع الظاهري، لكنها تُقصي التعددية التأويلية والتفاعل الأفقي مع المجتمعات المستهدفة (Zhu, 2022, pp. 678–680).

إذن النموذج الصيني يُظهر تبعية واضحة للسياسة الخارجية، حيث تُدار الثقافة من قبل الدولة وتُستخدم كأداة وظيفية لتعزيز النفوذ الرمزي والجيوسياسي.

المبحث الثالث

عبرت التجارب الثلاث (الأمريكية، الألمانية، الصينية) تفرد وخصوصية كل تجربة، لاعتبارات تاريخية-هوياتية-واقعية متزامنة، ما انعكس على اختلاف الإدراك حول معاني الدبلوماسية الثقافية، وسبل توظيفها بما يناسب أهداف المرحلة.

أولا: تحليل مقارن للنماذج الدولية

   تختلف الدبلوماسية الثقافية بين التجارب الثلاث في عدة نواحي، وهذا ما سيتم توضيحه عبر الجدول أدناه.

جدول مقارنة بين الدبلوماسية الثقافية الأمريكية الألمانية الصينية

النموذج الصيني النموذج الألماني النموذج الأمريكي المحور
الدولة المركزية (CGTN)، معاهد كونفوشيوس، Xinhua)) مؤسسات شبه مستقلة بإشراف الخارجية (Goethe، DAAD) الدولة سابقًا، حاليًا القطاع الخاص والـ NGOs الفاعل الرئيسي
تعزيز الهوية الوطنية، تحسين التصور الدولي، دعم التموقع الجيوسياسي بناء الثقة، الحوار الثقافي، دعم التعددية تصحيح الصورة الدولية، تعزيز القيم الليبرالية الأهداف المعلنة
الإعلام المترجم، المعاهد، الوثائقيات، التعليم التبادلي، التراث المعاهد الثقافية، دعم الفن، الحوار متعدد الأطراف برامج تبادل (Fulbright)، الإعلام، الفن، التعليم الوسائل المستخدمة
الهيئة الوطنية للإعلام، CGTN، الحزب، مؤسسات مدنية مرتبطة بالدولة Goethe، DAAD، IFA، بإشراف رسمي غير مباشر وزارة الخارجية، مؤسسات خاصة الجهات الفاعلة
ضعيف – خاضع بالكامل للدولة والحزب الحاكم نسبي – المؤسسات مستقلة وظيفيًا ضمن إطار رسمي جزئي – الفاعلون غير الرسميين يشاركون في السردية الاستقلال الرمزي
خطاب موحد يخدم “الأمن الثقافي” ويُعيد إنتاج سردية وطنية موجهة خطاب تعددي غير هيمني، يرفض التمركز الثقافي كانت مرتبطة بها، الآن أكثر استقلالًا العلاقة بالسردية الرسمية
أداة استراتيجية ضمن مبادرة الحزام والطريق، إعادة تشكيل الإدراك الخارجي تعزيز صورة مدنية لألمانيا، دعم القيم الأوروبية دعم السياسة الخارجية دون تدخل مباشر الوظيفة السياسية
منذ 2003، ثم سياسة “الدعاية الخارجية الكبرى” منذ 2016 تطور تراكمي بعد الحرب العالمية الثانية تحوّل بعد الحرب الباردة نحو لامركزية التمثيل التحولات التاريخية
غياب التعددية التأويلية، مركزية الدولة، تسييس الثقافة الحفاظ على الاستقلال الرمزي، مواجهة التسييس مقاومة الصور النمطية، تقليل البيروقراطية أبرز التحديات/الفرص
“التبادل الثقافي” ضمن خطاب دعائي موحد “السياسة الثقافية الخارجية” (Auswärtige Kulturpolitik) “القوة الناعمة”، “الدبلوماسية العامة” المصطلح الرسمي المستخدم
تمويل حكومي مباشر – تنسيق مؤسسي حزبي ومدني تمويل حكومي كبير – شبكة مؤسساتية مستقلة تمويل مختلط – مؤسسات تعليمية وإعلامية متعددة التمويل والبنية
السيطرة على الفضاء الرمزي العالمي وتيسير القبول السياسي بناء جسور ثقافية وتفاهم متبادل إعادة إنتاج النموذج الأمريكي كمعيار عالمي الهدف النهائي

 

يُظهر النموذج الأمريكي تقاطعًا مع النظرية الواقعية والبنائية، حيث تُستخدم الثقافة كأداة هيمنة ناعمة ضمن خطاب ليبرالي عالمي. أما النموذج الألماني، فيُجسّد رؤية بنائية–تشاركية تُركّز على الحوار والتعددية، رغم وجود توظيف سياسي مقنّع في بعض السياقات. في المقابل، يُبرز النموذج الصيني مركزية بنيوية تُعيد إنتاج سردية وطنية موحدة، مما يجعله أقرب إلى التصور الوظيفي للدبلوماسية الثقافية كأداة دعائية. هذا التنوع في التوظيف يعكس اختلاف المرجعيات القيمية والبنى المؤسساتية، ويُبرز كيف أن الثقافة تُستخدم بطرق متباينة لإعادة تشكيل الإدراك الدولي ضمن سياقات غير صدامية.

هذه الفروقات لا تعكس فقط اختلافًا في الأدوات والجهات الفاعلة، بل تكشف عن تباين عميق في فلسفة التمثيل الثقافي: بين من يرى الثقافة وسيلة للهيمنة، ومن يتعامل معها كجسر للتفاهم، ومن يوظفها كأداة لإعادة تشكيل الإدراك الدولي. وبين هذه النماذج، تظل الدبلوماسية الثقافية مجالًا متوترًا، يتأرجح بين الترويج والحوار، بين المركزية والتعددية، وبين التوجيه الرسمي والتأويل الشعبي.

ثانيا: نتائج الدراسة

بعد تحليل النماذج الثلاثة، تبرز مجموعة من النتائج التي تُعيد تشكيل فهمنا للدبلوماسية الثقافية بوصفها ممارسة رمزية تفاوضية، تتجاوز التوصيف الوظيفي التقليدي، وتُسهم في بناء إدراك دولي متعدد الأبعاد، يعكس تفاعلًا معقدًا بين الرمزي والسياسي في سياقات غير صدامية.

توصلت الدراسة إلى مايلي:

الوظيفة الرمزية للدبلوماسية الثقافية تتجاوز الطابع التزييني: أثبتت الدراسة أن الثقافة لا تُستخدم فقط كوسيلة ترويجية، بل تُمارَس كأداة تفاوضية تُعيد تشكيل الإدراك الخارجي، وتُسهم في بناء النفوذ غير الصدامي، خاصة في السياقات التي يصعب فيها استخدام أدوات القوة الصلبة.

استقلالية نسبية للخطاب الثقافي عن السلطة الرسمية: رغم ارتباط الدبلوماسية الثقافية بالمؤسسات الحكومية، إلا أن بعض النماذج (مثل الألماني والأمريكي بعد الحرب الباردة) تُظهر قدرة الفاعلين غير الرسميين على إنتاج سرديات مستقلة جزئيًا، مما يعكس مرونة في تمثيل الدولة خارج الأطر البيروقراطية.

-تفاوت في نمط التوظيف بين النماذج الثلاثة

  • النموذج الأمريكي يُظهر ازدواجية بين التوظيف الرسمي والفاعلية المستقلة، ويُعيد إنتاج سردية الحداثة الليبرالية.
  • النموذج الألماني يُقدّم خطابًا تعدديًا حواريًا، لكنه لا يخلو من توظيف سياسي مقنّع في مناطق الجنوب.
  • النموذج الصيني يُجسّد مركزية الدولة وهيمنة رمزية واضحة، حيث تُستخدم الثقافة كأداة دعائية ضمن استراتيجية جيوسياسية.

غياب التحديد المفاهيمي بين الدبلوماسية الثقافية والعامة: كشفت الدراسة عن التباس نظري بين مفهومي الدبلوماسية الثقافية وInterkultureller Dialog(الحوار الثقافي)، مما يؤدي إلى إعادة إنتاج الهيمنة باسم الحوار، ويُضعف مصداقية الخطاب الرمزي في السياقات غير الغربية.

تأثير السياقات المحلية في إعادة تأويل الرسائل الثقافية: أظهرت النماذج التطبيقية أن الجمهور المستقبِل لا يتلقى الرسائل الثقافية بشكل سلبي، بل يُعيد تأويلها وفق بنياته النفسية والاجتماعية، مما يُبرز أهمية نظرية الهوية الاجتماعية في فهم التفاعل بين الثقافة والسياسة الخارجية.

الدبلوماسية الثقافية كأداة بنيوية في صياغة التصورات الدولية: تُسهم الثقافة في بناء الصورة الذهنية للدول، ليس فقط عبر الترويج، بل من خلال التفاعل الرمزي الذي يُعيد إنتاج المواقف السياسية، ويُحوّل المجال الثقافي إلى فضاء تفاوضي خفي بين الدول والجماهير.

ثالثا: التوصيات

بناءً على النتائج المستخلصة، تُقدّم الدراسة مجموعة من التوصيات النظرية والتطبيقية تهدف إلى تطوير مفهوم الدبلوماسية الثقافية، وتعزيز فعاليتها ضمن السياسة الخارجية المعاصرة، مع مراعاة التعددية التأويلية، واستقلالية الفاعل الثقافي، واحترام السياقات المحلية في تصميم البرامج الدولية.

إعادة صياغة المفهوم النظري للدبلوماسية الثقافية: ينبغي تجاوز التعريفات الوظيفية الضيقة، واعتماد تصور شامل يدمج البعد الرمزي، التداولي، والسياسي، مع مراعاة السياقات الثقافية للمجتمعات المستقبِلة.

تعزيز استقلالية الفاعلين الثقافيين غير الرسميين: يُستحسن دعم المؤسسات المدنية والمجتمعات الثقافية العابرة للحدود، بما يُسهم في إنتاج سرديات متعددة تُثري التمثيل الدولي وتُقلّل من مركزية الدولة.

تطوير أدوات تقييم التلقي الثقافي: يُوصى بإدماج أدوات سلوكية وتحليلية لفهم كيفية استقبال وتأويل الرسائل الثقافية، بما يُساعد في ضبط فعالية الدبلوماسية الثقافية وتفادي التعميمات الخطابية.

التمييز المفاهيمي بين الحوار والترويج: يجب على السياسات الثقافية أن تُراعي الفرق بين التبادل الثقافي الحقيقي والترويج الدعائي، من خلال تعزيز الشفافية المفاهيمية وتفادي استخدام المصطلحات كواجهات لغوية تخفي أهدافًا سياسية.

مراعاة التعدد الثقافي في تصميم البرامج الدولية: يُستحسن أن تُصمَّم البرامج الثقافية الدولية وفق خصوصيات المجتمعات المستقبِلة، مع احترام تموضعاتها التاريخية والدينية، لتفادي فرض نماذج قيمية أحادية.

دمج الثقافة ضمن استراتيجية السياسة الخارجية دون تسييس مفرط: يُوصى بتوظيف الثقافة كأداة لبناء الجسور والتفاهم، لا كوسيلة هيمنة، مع الحفاظ على استقلاليتها الرمزية، خاصة في المناطق ذات الحساسية السياسية.

الخاتمة

تكشف هذه الدراسة أن الدبلوماسية الثقافية لم تعد مجرد امتداد رمزي للسياسة الخارجية، بل تحوّلت إلى فضاء تفاوضي مستقل نسبيًا، يُعيد إنتاج المعنى ويُعيد رسم حدود الهيمنة الرمزية في العلاقات الدولية. لقد أظهرت النماذج التطبيقية أن الثقافة، حين تُمارَس بوعي تداولي، تمتلك قدرة على اختراق الحواجز السياسية، وتشكيل إدراك جماهيري يتجاوز الخطاب الرسمي، مما يمنحها وظيفة بنيوية في صياغة التصورات الدولية.

ومن خلال المقارنة بين النماذج الأمريكية، الألمانية، والصينية، يتضح أن الفاعل الثقافي لا يتحرك ضمن إطار واحد، بل يتأثر بالبنية المؤسساتية، السياق التاريخي، والمرجعية القيمية لكل دولة، فبينما يُوظّف النموذج الصيني الثقافة كأداة دعائية مركزية، يُقدّم النموذج الألماني خطابًا تعدديًا حواريًا، ويُظهر النموذج الأمريكي مرونة لامركزية تُعيد تعريف الفاعلية الثقافية خارج الأطر الرسمية.

إن هذا التباين لا يُعكس فقط في الوسائل والأهداف، بل في طبيعة العلاقة بين الرمزي والسياسي، حيث تظل الدبلوماسية الثقافية مجالًا متوترًا بين الترويج والحوار، بين الهيمنة والتفاهم، وبين التمثيل الرسمي والتأويل الشعبي.

ومن هنا، فإن إعادة تعريف الدبلوماسية الثقافية لا تقتضي فقط مراجعة المفاهيم، بل تستدعي أيضًا مساءلة أخلاقية حول صدق التبادل، وشفافية الخطاب، واحترام التعددية التأويلية لدى المجتمعات المستقبِلة.

أظهرت الدراسة أن الدبلوماسية الثقافية لم تعد مجرد امتداد رمزي للسياسة الخارجية، بل تحوّلت إلى فضاء تفاوضي مستقل نسبيًا، يُعيد تشكيل الإدراك الدولي من خلال أدوات رمزية غير صدامية، وبينما تختلف النماذج في أدواتها وفلسفتها، فإن المشترك بينها هو توظيف الثقافة لإعادة إنتاج المعنى. ومن هنا، تدعو الدراسة إلى إعادة تعريف الدبلوماسية الثقافية بوصفها ممارسة متعددة الأبعاد، تُسهم في بناء عالم أكثر تفاهمًا، لا أكثر تطابقًا.

من خلال ماسبق، تُقدّم هذه الدراسة مساهمة نوعية في الحقل الأكاديمي من خلال إعادة تعريف الدبلوماسية الثقافية بوصفها ممارسة تفاوضية رمزية تتجاوز التوظيف الوظيفي التقليدي، لقد أظهرت النماذج التطبيقية أن الثقافة ليست مجرد أداة ترويجية، بل فضاءً ديناميكيًا يعيد تشكيل الإدراك الدولي ضمن سياقات غير صدامية. ومن خلال توظيف مقاربات نظرية متعددة—من الواقعية إلى البنائية والتفاعلية الرمزية—تُعيد الدراسة رسم حدود الفهم التقليدي للعلاقات الدولية، وتُبرز كيف أن الرمزي لا يُستخدم فقط للتزيين، بل يُمارَس كقوة ناعمة قادرة على إعادة إنتاج المعنى وتفكيك الهيمنة.

إن هذا الطرح لا يكتفي بتوسيع أدوات التحليل، بل يُسهم في بناء نموذج تفسيري جديد يُراعي التعددية التأويلية، ويمنح الفاعل الثقافي غير الرسمي موقعًا تفاوضيًا مستقلًا في صياغة التصورات الدولية. وبهذا، فإن هذه الدراسة تدعو إلى إعادة التفكير في مفاهيم التأثير، الشرعية، والتمثيل في عالم يتجه نحو مزيد من الرمزية والتداخل الثقافي.

قائمة المراجع

باللغة العربية

الكتب

-بدوي، م. طه، وآخرون. (2013). النظم السياسية والسياسات والعلاقات الخارجية الدولية. دار التعليم الجامعي للطباعة والنشر والتوزيع.

-النعيمي، أ. ن.(2011). السياسة الخارجية (الطبعة الأولى). عمان: دار زهران للنشر والتوزيع.

-سليم، م. الس. (1998).  تحليل السياسة الخارجية (الطبعة الثانية). القاهرة: مكتبة النهضة المصرية.

-كريب، إيان .(1999). النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس (ترجمة محمد حسين غلوم، مراجعة محمد عصفور). الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.

-ناي، جوزيف. (2007(. القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية (ترجمة م. ت. البجيرمي، الطبعة العربية الأولى). الرياض: العبيكان للنشر.

مقالات علمية محكمة

-بودردابن، منيرة. (2021). الدبلوماسية الثقافية الأمريكية كقوة ناعمة وآلية إيديولوجية للهيمنة الثقافية في العالم العربي. المجلة الجزائرية للأمن الإنساني، 6(2)..

-الخيري، ن. م. ر. (2024). الدبلوماسية الثقافية: مفهومها وتطبيقاتها. المجلة السياسية والدولية، 3(3).

https://political-encyclopedia.org/library/6719/download

-مرعي، خ. ع. (2018). مراجعة الاتجاهات المعاصرة في تعريف السياسة الخارجية. مجلة السياسة الدولية، جامعة الإسكندرية، 3(6).

-مولى، ن. م.، والمحمدي، ع. أ. (2024). النظرية التفاعلية الرمزية. مجلة الآداب، (150)، ملحق. https://aladabj.uobaghdad.edu.iq/index.php/aladabjournal/article/download/4517/3840/13248

تقارير ومصادر إلكترونية

-حج محمد، م. م. (2016، 26 مايو). نظرية السياسة الخارجية. الموسوعة السياسية.https://politics-dz.com/نظرية-السياسة-الخارجية/

-عربي، لادمي محمد. (2016). السياسة الخارجية: دراسة في المفاهيم، التوجهات والمحددات. المركز الديمقراطي العربي.

-معجم الغني. (2025). معنى الثقافة. شبكة معاجم. . https://www.maajim.com/dictionary/الثقافة

باللغة الأجنبية

Books

-Arndt, R. (2006). The First Resort of Kings: American Cultural Diplomacy in the Twentieth Century. Washington, DC: Potomac Books. International Journal of Cultural Policy, 21(4). https://doi.org/10.1080/10286632.2015.1042474

-Waller, M. J. (2009). Strategic Influence: Public Diplomacy, Counterpropaganda, and Political Warfare . Institute of World Politics Press.

Journal Articles

-Ang, I., Isar, Y. R., & Mar, P. (2015). Cultural diplomacy: Beyond the national interest? International Journal of Cultural Policy, 21(4), 365–381. https://doi.org/10.1080/10286632.2015.1042474

-Bukina, T., & Perminova, L. (2021). Cultural diplomacy: Institutional contexts. Three Seas Economic Journal, 2(4), 24–26. https://doi.org/10.30525/2661-5150/2021-4-5

-Cui, Y. (2025). Research on the Regional Dissemination Paths of Chinese Culture and Cultural Diplomacy Strategies in the Context of the “Belt and Road Initiative”. Pakistan Journal of Life and Social Sciences, 23(1), 1373–1389. https://doi.org/10.57239/PJLSS-2025-23.1.00108

-Gołębiowski, D. (2020). From Europe to the Arab Peninsula? – Cultural Diplomacy Practices in the United Arab Emirates. Studia Europejskie, (4), 151–173. https://doi.org/10.33067/SE.4.2020.8

-Grincheva, N. (2024). The past and future of cultural diplomacy. International Journal of Cultural Policy, 30(2), 172–191. https://doi.org/10.1080/10286632.2023.2183949

-Kimani, T. (2023). The impact of cultural diplomacy on perceptions of foreign policy. Global Journal of International Relations, 1(1), 1–12. Retrieved from https://www.forthworthjournals.org/doi

-Pajtinka, E. (2014). Cultural diplomacy in theory and practice of contemporary international relations. Politické vedy, 17(4), 95–108. Retrieved from http://www.politickevedy.fpvmv.umb.sk/userfiles/file/4_2014/PAJTINKA2.pdf

-Riva, N. F. (2019). A diplomacia cultural chinesa: ferramentas na estratégia de inserção internacional da China no século XXI. Revista Brasileira de Política Internacional, 62(1). https://doi.org/10.1590/0034-7329201900105

-Wendt, A. (1992). Anarchy is what states make of it: The social construction of power politics. International Organization, 46(2), 391–425. https://www.jstor.org/stable/2706858

-Xu, L. (2023). The United States’ Cultural Diplomacy and China’s Strategy after the Cold War. International Journal of Mathematics and Systems Science, 7(3), 179–181.

-Zhu, Y. (2022). China’s ‘new cultural diplomacy’ in international broadcasting: Branding the nation through CGTN Documentary. International Journal of Cultural Policy, 28(6), 671–683. https://doi.org/10.1080/10286632.2021.2022651

Theses and Dissertations

-Bulut, F. (2023). Cultural Diplomacy in the UK and Germany: Two Models from the 21st Century (Doctoral thesis, University College London). Centre for Multidisciplinary and Intercultural Inquiry – European Studies.

-Pajtinka, E. (2015). Cultural Diplomacy and Its Organizational and Institutional Models in Selected States. Medzinárodné vzťahy, 111–122. Retrieved from Academia.edu

-Wang, M. (2024). Chinese Cultural Diplomacy in the 21st Century: The China Cultural Centre Project (Doctoral thesis). Flinders University. Retrieved from https://flex.flinders.edu.au/file/d8b6357d-4317-4e1c-a14d-2881592747e1/1/Wang2024_LibraryCopy.pdf

Reports and Institutional Publications

-Blumenreich, U. (2022). Full country profile: Germany. Compendium of Cultural Policies & Trends. Retrieved from https://www.culturalpolicies.net/wp-content/uploads/pdf_full/germany/Full-Country-Profile_Germany2022.pdf

-Cummings, M. C. (n.d.). Cultural diplomacy and the United States government: A survey. Americans for the Arts. Retrieved July 25, 2025, from https://www.americansforthearts.org/sites/default/files/MCCpaper.pdf

-Hecht, J. G. (2025). US cultural diplomacy. Transatlantic Cultures. Freie Universität Berlin. https://transatlantic-cultures.org/en/catalog/us-cultural-diplomacy

Web Sources

-Harper, D. (n.d.). Diplomacy. Online Etymology Dictionary. Retrieved July 25, 2025, from https://www.etymonline.com/word/diplomacy

-Jha, A. (2024, October 19). Redefining diplomacy: Germany and its global cultural identity through the lens of migration and globalisation. UCL Diplomacy Blog. Retrieved from UCL Diplomacy Blog

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطي العربي

مؤسسة بحثية مستقلة تعمل فى إطار البحث العلمي الأكاديمي، وتعنى بنشر البحوث والدراسات في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية والعلوم التطبيقية، وذلك من خلال منافذ رصينة كالمجلات المحكمة والمؤتمرات العلمية ومشاريع الكتب الجماعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى