إشكالية المثقف والسلطة: قراءة في أزمة الدور بين تصور ميشيل فوكو والسياق العربي الراهن

اعداد : د. عمران طالبي – كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة مولاي إسماعيل، مكناس (المغرب)
المركز الديمقراطي العربي : –
- مجلة الدراسات الاستراتيجية للكوارث وإدارة الفرص : العدد السابع والعشرون أيلول – سبتمبر 2025 – المجلد 7 – وهي مجلة دولية محكمة تصدر عن المركز الديمقراطي العربي المانيا- برلين.
- تعنى المجلة مجال الدراسات التخصصية في مجال إدارة المخاطر والطوارئ والكوارث ،قضايا التخطيط الاستراتيجي للتنمية، الجيوبولتيك، الجيواستراتيجية، الأمن الإقليمي والدولي، السياسات الدفاعية، الأمن الطاقوي والغذائي، وتحولات النظام الدولي، والتنافس بين القوى الكبرى، إضافة إلى قضايا التنمية، العولمة، الحوكمة، التكامل الأقتصادي ، إعداد وتهيئة المجال والحكامة الترابية , إضافة إلى البحوث في العلوم الإنسانية والاجتماعية.
للأطلاع على البحث من خلال الرابط المرفق : –
ملخص :
تتأسس هذه الدراسة على رؤية فلسفية تستكشف مفهوم المثقف في فكر ميشيل فوكو من زاوية ارتباطه الجدلي بالسلطة والمعرفة، حيث لا يُنظر إلى المثقف بوصفه كائناً معزولاً عن البنى الاجتماعية والسياسية، بل باعتباره فاعلاً مندمجاً في شبكات القوة التي تنتج الخطاب وتنظّم الحقيقة. فالسلطة في التصور الفوكوي لا تمارس من الأعلى فحسب، بل تتخلل العلاقات اليومية وتعيد تشكيل الوعي الفردي والجماعي. ومن هذا المنظور، تسعى الدراسة إلى استجلاء الأبعاد العميقة لهذا التصور وتحليل صداه في الفكر العربي المعاصر، من خلال تتبّع الكيفية التي أعاد بها المفكرون العرب التفكير في موقع المثقف ووظيفته داخل فضاء تتقاطع فيه المعرفة والسياسة والحرية.
Abstract
This study is founded on a philosophical vision that explores the concept of the intellectual in Michel Foucault’s thought through its dialectical relation to power and knowledge. The intellectual is not viewed as an isolated figure detached from social and political structures, but rather as an active agent embedded within networks of power that produce discourse and regulate truth. In Foucault’s conception, power is not exercised solely from above; it permeates everyday relations and reshapes both individual and collective consciousness. From this perspective, the study seeks to uncover the deeper dimensions of this conception and to analyze its resonance in contemporary Arab thought by tracing how Arab thinkers have reexamined the position and function of the intellectual within a space where knowledge, politics, and freedom intersect.
مقدمة
يعد ميشيل فوكو واحدا من أبرز الفلاسفة والمفكرين الموسوعيين في الفكر الفرنسي المعاصر، إذ أسهمت أعماله في إحداث نقلة نوعية داخل الحقل الفلسفي والاجتماعي، بفضل مقارباته النقدية المبتكرة وقراءاته المتجددة لقضايا الفكر والواقع. وقد شملت إسهاماته موضوعات متعددة مثل التنوير، النقد، الخطاب، المعرفة، السلطة، والذات، وهي مجالات شكلت البنية الأساسية لفلسفته. وفي هذا الإطار، حظي مفهوم المثقف بمكانة متميزة في كتاباته، لاسيما في علاقته بالسلطة، حيث سعى إلى مساءلة الأدوار والوظائف التي يضطلع بها المثقف في المجتمع.
انطلاقا من هذه الرؤية، أثارت فلسفة فوكو حول المثقف والسلطة نقاشا واسعا في السياق العربي، حيث برزت أسئلة محورية من قبيل: من هو المثقف العربي؟ ما حدود أدواره ووظائفه؟ وكيف تتحدد علاقته بالسلطة السياسية والاجتماعية؟ وقد حاول عدد من المفكرين والباحثين العرب مقاربة هذه الأسئلة من زوايا متعددة، تعكس اختلاف خلفياتهم المعرفية والسياسية، وتنوع اجتهاداتهم في تحليل علاقة المثقف بالسلطة في المجتمعات العربية المعاصرة.
بناء على ذلك، تطرح هذه الدراسة إشكاليتين أساسيتين: ما أبعاد علاقة المثقف بالسلطة في التصور الفوكوي؟ وكيف جرى تناول هذه العلاقة في الفكر العربي المعاصر؟
- السلطة والمثقف عند ميشيل فوكو
أسس ميشيل فوكو تصورا مغايرا لمفهوم السلطة، إذ اعتبرها شبكة من علاقات القوى المتعددة التي تنشأ داخل المجال الاجتماعي وتعمل على تنظيمه. فالسلطة، وفق هذا التصور، ليست مجرد أداة تمتلكها مؤسسة أو جهاز بعينه، بل هي منظومة من الاستراتيجيات التي تتجسد من خلال ممارسات مختلفة، وينعكس أثرها في مؤسسات الدولة، وفي صياغة القوانين، وفي أشكال متباينة من الهيمنة[1]. من ثم، فالسلطة لا تتمركز في جهة محددة أو ذات بعينها، وإنما تتوزع على نحو مبعثر داخل الجسد الاجتماعي بكامله، كما أوضح فوكو في “جنيالوجيا المعرفة” حين أشار إلى أن السلطة تأتي من أسفل[2].
من هذا المنطلق، فإن الدولة، في منظور فوكو، لا تعد مصدرا مطلقا للسلطة، بل تمثل انعكاسا لبنية أوسع من علاقات القوى المتداخلة داخل المجتمع. ويتضح هذا التوجه بجلاء في أعماله الكبرى، مثل: “المراقبة والعقاب” و”تاريخ الجنسانية”، حيث تجاوز التصورات الكلاسيكية التي ربطت السلطة بالمؤسسة السياسية أو بالنظام الحاكم، ليؤكد أن السلطة ممارسة اجتماعية متشعبة، تسبق وجود الأجهزة أو المؤسسات الرسمية.
إن ما يميز التجربة الفلسفية والفكرية لميشيل فوكو، وما يمنحها فرادتها داخل الفكر المعاصر، هو جرأته في مساءلة موضوعات طالما اعتُبرت إلى حدود زمنه قضايا بديهية أو خارج دائرة الفلسفة، مثل الجنون والمرض، حيث حولها إلى موضوعات قابلة للنقد والتحليل الفلسفي. وبهذا المعنى، انخرط فوكو في ممارسة فلسفية قائمة على الشك والتفكيك، وهو ما يعد عنصرا جوهريا في تصوراته لدور المثقف وموقعه داخل المجتمع[3]، وفي السياق نفسه، كان للثورة الطلابية الفرنسية سنة 1968 أثر بالغ في إعادة تشكيل الفلسفة الفرنسية المعاصرة، إذ دفعت إلى مراجعة عميقة لمفهوم المثقف، وفتحت المجال أمام بروز وعي نقدي حاد بمفاهيم جديدة مثل الاختلاف، المتخيل، الجسد، والسلطة. وقد أسهم هذا التحول في بلورة رؤية جديدة لدور المثقف، تتجاوز التصورات الكلاسيكية التي حصرت وظيفته في تمثيل الحقيقة أو النطق باسم الجماعة.
غير أن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه في هذا الإطار هو: عن أي مثقف يتحدث فوكو؟
يفرق ميشيل فوكو بين نموذجين من المثقف: المثقف الكوني والمثقف المتخصص. فالأول هو ذلك الذي ارتبط تاريخيا بصورة “ضمير المجتمع”، والمتحدث باسم القيم الكلية كالعدالة والحقيقة والحرية، وهو النموذج الذي جسد أدوارا كبرى منذ عصر التنوير وحتى منتصف القرن العشرين. غير أن فوكو يرى أن هذا النموذج قد فقد راهنيته، وأن عصر المثقف الكوني، الذي يدعي تمثيل المجتمع بأكمله، قد انتهى[4].
في المقابل، برز ما يسميه فوكو بالمثقف المتخصص، أي العالم أو الباحث الذي يمارس دوره ضمن مجال محدد، ويشتغل بقضايا ملموسة مرتبطة بالمعرفة والبحث العلمي والتقني. فلم تعد الفلسفة، ولا الفيلسوف بوصفه مثقفا بالدرجة الأولى، معنيين بتقديم أجوبة كبرى حول معنى الحياة أو الموت، بل غدت وظيفة المثقف مرتبطة بممارسات دقيقة ومحدودة، تعكس تحولات المعرفة والمجتمع في آن واحد.
وإذا كان للمثقف الكوني تاريخ طويل جسدته تيارات كبرى مثل الماركسية والوجودية، فإن المثقف المتخصص، في منظور فوكو، يعد نتاجا للتحولات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. ويتميز هذا النموذج بكونه يشتغل في مجال محدد، ويتناول موضوعات عينية مرتبطة بظروف عمله أو حياته اليومية. ومن ثم فهو يواجه صراعات نوعية، لا قضايا عامة أو مجردة.
يتسم المثقف المتخصص أيضا بكونه لا يسعى إلى تقديم دروس أو توجيهات شمولية، بل يقتصر دوره على توفير أدوات للتحليل ومناهج للعمل داخل نطاق اشتغاله. كما أن ارتباطه ليس بجهاز الإنتاج الاقتصادي، وإنما ببنية المعلومات والمعرفة. والأهم من ذلك أن هذا النموذج يقطع نهائيا مع ادعاءات الكلية والكونية، ويمارس يقظة سياسية وأخلاقية داخل ميدانه أو محيطه الاجتماعي. وفي ضوء ذلك، يبرز المثقف المتخصص بوصفه محللا وناقدا لأنظمة الفكر، لا مشرعا للقوانين ولا واضعا للحلول الجاهزة. إنه مثقف يشتغل على تشخيص الحاضر، ويسهم في تغييره من خلال مقاربة دقيقة ومحدودة النطاق، دون ادعاء تمثيل المجتمع بأسره[5].
فيما يتعلق بعلاقة المثقف بالسلطة، تكمن أهمية المثقف، وفق فوكو، في قدرته على الكشف عن أشكال الهيمنة وتوزيع القوة داخل المجتمع[6]، وهو في هذا الإطار مثقف التعدد والاختلاف، بمعنى أنه لا يلتزم بوحدة فكرية أو انتماء صارم إلى مذهب أو تيار محدد. ويرى فوكو أن فهم الموقف السياسي للفيلسوف لا ينبغي أن يُستند إلى أفكاره النظرية فحسب، بل إلى فلسفته كحياة، أي إلى حياته الفلسفية وممارساته اليومية.
انطلاقا من هذا المنظور، يؤكد فوكو أن أعماله ليست مجرد إنتاج فكري مستقل، بل هي جزء من تجربته وممارسته الشخصية؛ فالكتب التي ألفها تمثل فصولا من سيرته الذاتية، وهو ما يعكس في الوقت نفسه مساره الفكري والسياسي، وتكامله بين النظرية والممارسة[7].
ومن جهة أخرى، يرى فوكو أن المشكلة الأساسية لا تكمن في تغيير وعي الأفراد أو ما يوجد في أذهانهم، بل في إعادة تشكيل النظام السياسي والمؤسسي الذي يُنتج الحقيقة[8]، أي مساءلة “الحقيقة” التي تدّعيها الأنظمة الحاكمة، وفصلها عن أشكال الهيمنة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تعمل ضمنها. فالحقيقة، وفق فوكو، مرتبطة دائمًا بأنساق السلطة التي تنتجها وتدعمها وتروّج لها داخل المجتمع[9].
وبالتالي، لا يتمثل الدور السياسي للمثقف في مجرد نقد المضامين الإيديولوجية أو محاولة ربط ممارساته العلمية بإيديولوجيا صائبة، بل في استكشاف إمكانيات إقامة سياسة جديدة للحقيقة[10]. ومهمة المثقف هنا تكمن في صياغة تدخلات مختلفة ضمن القطاعات التي ينشط فيها، والمقاومة المستمرة لكل إرادة قوة تسعى إلى الهيمنة[11]. على هذا الاعتبار، يتجلى الدور الأساسي للمثقف المتخصص، وهو الدور الذي يعكس أيضا اهتمام فوكو بمسألة الذات الفاعلة وممارستها النقدية.
على العموم، بلور فوكو مفاهيم جديدة أثارت نقاشا واسعا في الفضاء الفكري والفلسفي الفرنسي، وتعرضت أطروحاته وكتاباته العلمية للتمحيص والنقد من قِبَل بعض المفكرين، في حين حظيت بتأييد آخرين، خصوصا فيما يتعلق بقضايا السلطة والمثقف وعلاقتهما بالواقع الاجتماعي والسياسي.
انطلاقا من هذا الإطار، تهدف هذه الدراسة إلى فهم وضع المثقف وعلاقته بالسلطة في السياق العربي، مع الاستفادة من التجربة الغربية التي أسس لها فوكو، وتحليل مدى قابلية هذه المفاهيم للتطبيق أو المراجعة في الواقع العربي الراهن.
- المثقف الغربي والمثقف العربي
في هذا السياق، ارتأينا التركيز على مفكرين بارزين في السياق العربي المعاصر، وهما إدوارد سعيد وعزمي بشارة، مع الإشارة أولا إلى أهم المداخل الغربية التي ساهمت في بلورة فكرة المثقف، وعلى وجه الخصوص أعمال أنطونيو جرامشي وجان بول سارتر.
يكتب أنطونيو جرامشي في مذكرات السجن أن جميع الناس مفكرون بدرجات متفاوتة، غير أن وظيفة المثقف في المجتمع ليست متاحة لكل الأفراد. ويميز جرامشي بين نوعين من المثقفين: المثقفون التقليديون، وهم المعلمون والكهنة والإداريون، الذين يواصلون أداء مهامهم جيلا بعد جيل، والمثقفون المنسقون، الذين يرتبطون مباشرة بالطبقات أو المشروعات التي تستخدمهم لتنظيم مصالحها، وكسب المزيد من السلطة والرقابة[12].
ويرى جرامشي أن المثقفين يلعبون دورا أساسيا في تنظيم الهيمنة الاجتماعية وضمان سيطرة الدولة، حيث يرتبطون أساسا بمستويي البنية الفوقية: المجتمع المدني والدولة أو المجتمع السياسي. ويتطابق المجتمع المدني، في نظره، مع وظيفة السيطرة المباشرة والقيادة، مما يجعل المثقفين ليسوا أكثر من موظفين لدى الجماعة المسيطرة وخبراء في إضفاء الشرعية على الكتلة الحاكمة[13]. وعليه، فإن تصور جرامشي للمثقف العضوي يرتبط بالضرورة بواقعه الاجتماعي، ويستلزم أن يكون مناصرا للفئات المظلومة داخل المجتمع، بحيث يجمع بين الالتزام الفكري والوظيفي في سياق ديناميات السلطة والمقاومة.
أما جان بول سارتر، فقد صاغ مفهوم المثقف الملتزم، وهو الإنسان الذي يشارك بنشاط في القضايا الكبرى للمجتمع، ويسعى إلى إصلاحها من أجل تحقيق تغيير إيجابي[14]، يؤكد سارتر على أن المثقف لا يمكن أن يظل محايدا تجاه الظلم أو الاستبداد، بل يجب أن يكون صوت الضمير الاجتماعي والسياسي، وهو بذلك يختلف جذريا عن منظور فوكو الذي ركز على المثقف المتخصص، المنخرط في مجال محدد ويشتغل ضمن حدود دقيقة دون ادعاء شمولية التمثيل أو التوجيه العام.
يطرح تساؤل معرفي يتعلق بالمثقف، فكيف يبدو الأمر بالنسبة إلى إدوارد سعيد؟
يرى إدوارد سعيد أن على كل مثقف -بغض النظر عن تعريفه أو مجال تخصصه- أن يتحرر من سلطة أي جهة، بما يعني الامتناع عن الارتباط بقيود قد تحد من تفكيره أو توجيه مسار أفكاره، مهما كانت طبيعة هذه الأفكار. فالمثقف الحق، في نظر سعيد، هو من يمتلك أفكارا مستقلة ويعبر عنها أمام الجمهور، سواء من خلال محاضرات أو نقاشات أو مقالات أو كتب. كما يؤكد سعيد على ضرورة تمسك المثقف بقيم عليا، من قبيل الحرية والعدالة[15]. مع الابتعاد عن كونه موظفا أو عاملا يكرس جهوده بالكامل لتحقيق أهداف السياسات التي تحددها الحكومات أو الشركات الكبرى، أو حتى النقابات المهنية التي قد تتبنى نمط تفكير موحدا[16].
من هذا المنطلق، تعد فكرة إدوارد سعيد حول المثقف ذات أهمية بالغة في السياق الغربي، نظرا لوجود عدد من المثقفين الذين يمكن اعتبارهم مستقلين عن السياسات الحكومية. ومع ذلك، لا ينفي هذا وجود فئة أخرى توظف أعمالها وآرائها لخدمة السياسة والأنظمة الحاكمة في أوروبا وأمريكا، وهو ما يطرح مجموعة من الإشكالات. ومن أبرز هذه الإشكالات ما عبر عنه إدوارد سعيد بوضوح، قائلا: “والواقع أن الكثير من المثقفين يخضعون خضوعا تاما، وجميعنا نخضع لها ولو إلى حد ما وحسب، فلا يوجد فرد يعول نفسه بنفسه بصورة كاملة، حتى لو كانت روحه أعظم أرواح البشر الحرة”[17]. يتضح من ذلك أن هناك عوائق يواجهها المثقف، خاصة في ظل وجود السياسة في كل مكان وفق منظور إدوارد سعيد، مما يضع المثقف أمام تجاذبات مستمرة بين متطلبات الواقع والجماهير من جهة، ومتطلبات السلطة من جهة أخرى.
وفي هذا الصدد، يمكن الاستفادة من رؤية عزمي بشارة حول المثقف. يشير أولا إلى أن تعريف المثقف يرجع إلى مصطلح intellectual، الذي أُطلق في البداية على العاملين في مجالات الفكر والأدب تحديدا، والذين اتخذوا مواقف من الشأن العام في فرنسا خلال القرن التاسع عشر. وقد استُخدم المصطلح لاحقا بكثافة من قبل النقاد لوصف دور إميل زولا ومن معه من المثقفين، في سياق توقيعهم عريضة سياسية انتقدوا فيها العداء للسامية المصاحب لمحاكمة الضابط اليهودي الفرنسي ألفريد درايفوس (1894-1899)، وفبركة الأدلة ومحاكمته. اجتمع هنا رجال الفكر والأدب على اتخاذ موقف مشترك من قضية سياسية راهنة كانت تشغل المجتمع الفرنسي حينه[18]. ويعتبر بشارة أن المثقف يمتلك القدرة على استعمال أدوات عقلانية في اختصاص معين، ولكنه يتجاوز هذا الاختصاص ليأخذ موقفا في الشأن العام[19]، بذلك يشارك في قضايا مجتمعه ويعطي رأيه فيها.
أما دور المثقف العربي، فيرى أنه واجب اجتماعي، لا سيما في ظروف الشعوب غير المتطورة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية. فالمثقف لا ينبغي أن ينعزل أو يقتصر على الراحة الذاتية، بل يجب أن ينخرط في العمل والمشاركة في اتخاذ المواقف المتعلقة بقضايا الشعب والمجتمع، إلى جانب الاهتمام المتواصل بالعلوم الإنسانية والاجتماعية[20].
وتجدر الإشارة إلى أن عزمي بشارة ميز في أماكن ومداخلات متعددة بين أنواع المثقفين، لا سيما في سياق العلاقة بين المثقف والثورة. فهناك المثقف النقدي، الذي ليس هاويا للثورات، ويدرك المخاطر الكامنة فيها، ويهدف نقده إلى تحقيق التغيير نحو نظام أفضل، بمعنى أكثر عدالة، وليس إلى الثورة بحد ذاتها. أما المثقف الثوري، فهو يحتفظ بمسافة نقدية لا تجاه النظام فحسب، بل تجاه الثورة أيضا، ويلاحظ أنه يمتلك -حسب بشارة- الجرأة الكافية لمواجهة النظام ونقد الجمهور على حد سواء[21]. ومن الملاحظ أيضا، وفقا لبشارة، غياب المثقف المحافظ في السياق العربي، أي المثقف الذي يناضل داخل الدولة وينتقد سياساتها، وهو النوع الذي يراه في الغرب يسعى إلى تحسين الأوضاع انطلاقا من وجود مقومات داخل النظام تمكنه من تطوير نفسه دون اللجوء إلى الثورة[22].
إذا حاولنا النظر إلى واقع المثقف في الدول العربية، نلاحظ أنه، رغم وجود عدد لا يستهان به من المثقفين الذين أثاروا قضايا مهمة -سواء كانت مرتبطة بسياسات الحكومات واستبدادها، أو في تعامل هذه الدول مع الدين وتوظيفه لأغراض السيطرة والاستمرارية، أو استخدامه في المجال السياسي لخدمة مصالح خاصة-إضافة إلى اهتمامهم بالمقدسات ودعوتهم لإعادة قراءتها في ضوء الواقع المعاصر، فإن المثقف العربي غالبا ما يجد نفسه محاطا بسياسات السلطة الحاكمة، التي تُخضعه لها بوسائل مختلفة، سواء عبر المال أو التسلط أو غيرها من الآليات، لا سيما إذا كان يشكل خطرا بأفكاره.
وبالتالي، يصبح من الصعب الحديث عن استقلالية المثقف العربي، مع الإشارة إلى إمكانية تحقيق ذلك، خصوصا عندما يكون المثقف خارج وطنه، في بلاد المهجر، حيث تتوفر له مساحة أوسع للتعبير والتحرر من ضغوط السلطة المحلية.
من ناحية أخرى، تجدر الإشارة إلى أن بعض المثقفين يتحدثون بلغة نخبوية متعالية لا يفهمها عامة الشعب ولا تُتداول في معجمه اليومي، كما أنهم قد يتناولون قضايا بعيدة عن نطاق همومه الضاغطة. وبما أن المثقف، في الأساس، كاتب ومفكر، فإن إشكاليته الكبرى تكمن في توجه خطابه إلى مجتمع ما تزال الأمية تسود فيه بنسب مرتفعة[23]، مما يجعل خطابه في كثير من الأحيان بعيدا عن الواقع المعيش الذي ينشغل فيه الأفراد بتدبير حاجاتهم اليومية الأساسية، مثل الخبز والسكن.
وهنا تبرز المفارقة: فإذا كان المثقف يسعى فعلا إلى إحداث التغيير نحو الأفضل والانشغال بقضايا المجتمع، فإن ذلك يستلزم منه ابتكار أدوات واستراتيجيات تستند إلى الفكر النقدي من جهة، لكنها في الوقت نفسه تجيب عن أسئلة الجماهير وتلامس الواقع الاجتماعي الذي يعيشون فيه من جهة أخرى.
خاتمة
جسدت كتابات ميشيل فوكو نموذجا للمثقف والفيلسوف المنخرط في قضايا واقعه، حيث أسس لثقافة مضادة بديلة للثقافة العالِمة في السياق الفرنسي. أما مفهوم المثقف المتخصص لديه، فيرتبط بكونه تناول موضوعات لم تكن ذات أهمية قبل عصره، وهو بذلك أسس لهذا التصور انطلاقا من مجالات اشتغاله. ومع ذلك، لا يمكن التسليم دائما بما طرحه فوكو، إذ إن المثقف الملتزم بمنظور سارتر قد يكون أكثر إلحاحا وضرورة في سياق اجتماعي مغاير للسياق الفرنسي، ويظل الواقع هو الحَكَم الفاصل في تحديد الحاجة إلى هذا النمط أو ذاك. وبصفة عامة، قدم فوكو أدوات تحليلية ثرية للموضوعات الاجتماعية والإنسانية، واستفاد منها عدد كبير من الباحثين في مختلف التخصصات.
وعلى ضوء ما ناقشناه، يطرح تساؤل جوهري: هل يمكن الحديث عن التصور الفوكوي للسلطة والمثقف في السياق العربي، وبعبارة أخرى، عن سلطة تنبع من القاعدة؟ في الواقع، ورغم تنامي الوعي في العقدين الأخيرين وظهور مثقفين بارزين، فإنه من الصعب الجزم بوجود تغير حقيقي في بنية السلطة أو في الثقافة السياسية في المجتمعات العربية. فالسلطة، في هذا السياق، تعيد إنتاج نفسها باستمرار، كما أن مؤسسات الدولة هي التي تخلق الأفراد وتحدد تصوراتهم عن المعتقد والثقافة، بما يعزز الرؤية التي عبر عنها كلود لوفور حين اعتبر أن الدولة هي التي تخلق المجتمع.
أما فيما يخص المثقف العربي، فمن العسير إسقاط معنى المثقف الغربي عليه، نظرا لهيمنة الدولة على مختلف مجالات الحياة وإخضاعها الغالبية العظمى من المثقفين بطرق شتى. ومع ذلك، يمكن التمييز بين أنماط متعددة:
- مثقف السلطة: الذي يعمل لصالحها ويبرر ممارساتها بدعوى امتلاكها للرؤية الصائبة وحمايتها لأمن الدولة.
- المثقف الحيادي: الذي يدرك مشاكل المجتمع وأخطاء الدولة لكنه يلتزم الصمت، إما خوفا من السلطة أو تماهيا معها.
- المثقف العضوي: الذي ينزل إلى الشارع ويتبنى هموم الشعب، كاشفا عن مظاهر الفساد ومحاولا نشر الوعي في مجتمعه.
وفي ظل التحولات الراهنة التي يشهدها الفضاء العمومي الرقمي، يبرز جيل جديد من المثقفين، لا سيما أولئك غير الموالين للسلطة، الذين يسعون إلى كشف آليات عملها وبيان الواقع الاجتماعي كما هو، بعيدا عن الخطاب الرسمي، مع التأكيد على أن المثقف الحق لا يعمل لصالح جهات معينة، بل يظل مخلصا لبلده، وتضاف إلى جانب ذلك جهود المجتمع المدني والجمهور المتفاعل. يسهم هؤلاء في تأسيس ثقافة مضادة تكشف زيف الخطاب السياسي والإعلامي المهيمن، وتعمل على بناء وعي جماهيري جديد. ومن ثم، يمكن القول إن المثقف الحق هو من ينخرط في قضايا مجتمعه ويساهم في تكوين أجيال قادرة على التغيير نحو الأفضل، من خلال الإجابة عن الأسئلة اليومية الملحة التي يطرحها الواقع الاجتماعي.
- المراجع
- بلقزيز عبد الإله، نهاية الداعية الممكن والممتنع في أدوار المثقفين، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الثانية، 2010).
- بغورة الزواوي، مفهوم الخطاب في فلسفة ميشيل فوكو، (المجلس الأعلى للثقافة، 2000).
- جرامشي، قضايا المجتمع المدني، ندوة القاهرة 1970، (دمشق: دار كنعان للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1991).
- سعيد إدوارد، المثقف والسلطة، ترجمة محمد عناني، (القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2006).
- الشيخ محمد، المثقف والسلطة دراسة في الفكر الفلسفي الفرنسي المعاصر، (بيروت: دار الطليعة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1991).
- فوكو ميشيل، جنيالوجيا المعرفة، ترجمة أحمد السطاتي وعبد السلام بنعبد العالي، (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية 2008).
- فوكو ميشيل، نظام الخطاب، ترجمة محمد سبيلا، (التنوير بدون ذكر طبعة والسنة).
- بشارة عزمي، “عن المثقف والثورة”، مجلة دورية تبيّن، العدد 4 ربيع 2013.
- lectuels et le pouvoir, Entretien de Michel Foucault avec Gilles Deleuze, 4 mars 1972, lein: http://derives.tv/les-intellectuels-et-le-pouvoir/
- La fonction politique de l’intellectuel» Entretien avec Michel Foucault Dits Ecrits Tome III n°192, lien : http://1libertaire.free.fr/MFoucault134.html
[1] ميشيل فوكو، جنيالوجيا المعرفة، ترجمة أحمد السطاتي وعبد السلام بنعبد العالي، (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية، 2008)، ص 105- 106.
[2] ميشيل فوكو، جنيالوجيا المعرفة، مصدر سابق، ص 107.
[3] الزواوي بغورة، مفهوم الخطاب في فلسفة ميشيل فوكو، (المجلس الأعلى للثقافة، 2000)، ص 257.
[4] الزواوي بغورة، مرجع سابق، ص 258.
[5] الزواوي بغورة، مرجع سابق، ص 259 – 260.
[6] lectuels et le pouvoir, Entretien de Michel Foucault avec Gilles Deleuze, 4 mars 1972, lien: http://derives.tv/les-intellectuels-et-le-pouvoir/
[7] الزواوي بغورة، مرجع سابق، ص 260 – 261.
[8] ميشيل فوكو، نظام الخطاب، ترجمة محمد سبيلا، (التنوير بدون ذكر طبعة والسنة)، ص 72.
[9] La fonction politique de l’intellectuel Entretien avec Michel Foucault Dits Ecrits Tome III n°192, lien : http://1libertaire.free.fr/MFoucault134.html
[10] ميشيل فوكو، نظام الخطاب، مصدر سابق، ص 72.
[11] الزواوي بغورة، مرجع سابق، ص 262.
[12] إدوارد سعيد، المثقف والسلطة، ترجمة محمد عناني، (القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2006)، ص 32 – 34.
[13] جرامشي، قضايا المجتمع المدني، ندوة القاهرة 1970، (دمشق: دار كنعان للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1991)، ص 320.
[14] فتحي الحبوبي، “المثقف وهواجس قول الحقيقة وفعل التغيير واستقلالية الموقف”، مقال نشر بتاريخ 20-06-2015، شوهد (08-12-2024)، الرابط الالكتروني: https://cutt.us/wU0Wi
[15] إدوارد سعيد، مرجع سابق، ص 11.
[16] إدوارد سعيد، مرجع سابق، ص 148.
[17] إدوارد سعيد، مرجع سابق، ص 148- 149.
[18] عزمي بشارة، “عن المثقف والثورة”، مجلة دورية تبيّن، العدد 4 ربيع 2013، ص 7.
[19] عزمي بشارة يتحدث عن المثقف العربي، فيديو نشر على اليوتيوب بتاريخ 20-03-2014، شوهد (10-11-2020)، الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=YfeDB3LcvBM
[20] ما دور المثقف العربي في المجتمع، برأي عزمي بشارة؟ فيديو نشر على اليوتيوب بتاريخ 08-06-2018، شوهد (15-11-2020)، الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=SK14tWC0WdM
[21] عزمي بشارة، مرجع سابق، ص 16.
[22] عينة من الروابط التي تحدث فيها عزمي بشارة عن أنواع المثقفين:
المثقف والثورة: https://www.youtube.com/watch?v=V2clcrMgD7k
المثقف وعملية النقد: https://www.youtube.com/watch?v=O0ovBWQQHok
[23] عبد الإله بلقزيز، نهاية الداعية الممكن والممتنع في أدوار المثقفين، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الثانية، 2010)، ص 54.



