الشرق الأوسطتقدير الموقفعاجل

إفريقيا جنوب الصحراء في مؤشر القوة الناعمة العالَمي

اعداد : عمرو رشاد عاشور – خبير في الشؤون الإفريقية

  • المركز الديمقراطي العربي

 

القوة الناعمة تمثل أحد أكثر المفاهيم تأثيرًا في أدبيات العلاقات الدولية المعاصرة، إذ صاغها عالم السياسة الأمريكي جوزيف ناي في نهاية ثمانينيات القرن الماضي لتشير إلى قدرة الدولة على التأثير في سلوك الآخرين وتفضيلاتهم من دون الحاجة إلى أدوات الإكراه أو القوة الصلبة. فبدلًا من استخدام الوسائل العسكرية أو الاقتصادية المباشرة، تقوم القوة الناعمة على الجاذبية والإقناع وبناء الصورة الإيجابية، من خلال ما تملكه الدول من موارد غير مادية مثل الثقافة، الفنون، التعليم، الابتكار، أو منظومة القيم السياسية. وبذلك تصبح هذه الأدوات وسائل فاعلة لتعزيز الثقة والشرعية وتحقيق أهداف السياسة الخارجية في إطار سلمي. ولعل جوهر الفكرة كما أراده ناي هو أن القبول الطوعي والتأثر بالصورة الإيجابية للدولة يكون أحيانًا أكثر فعالية واستدامة من أي تهديد عسكري أو ضغط اقتصادي مباشر.

ويتسع مفهوم القوة الناعمة عند ناي ليشمل ثلاثة مصادر رئيسية هي الثقافة والقيم والسياسات، حيث يمكن أن تتعزز جاذبية الدولة حين ترتبط سياستها الخارجية بحقوق الإنسان أو الديمقراطية، أو عندما تقدم منتجات ثقافية وفكرية تعكس صورة إيجابية وتلقى قبولًا عالميًا. غير أن هذه الجاذبية ليست ثابتة، فهي قد تتآكل بفعل سياسات سلبية كما حدث مع الولايات المتحدة في فترات تاريخية معينة، أو تتقوى بفعل نجاحات ثقافية ودبلوماسية كبرى. هنا يصبح من الواضح أن القوة الناعمة ليست مجرد أدوات ترفيهية أو شعارات، بل رصيد استراتيجي يندمج مع القوة الصلبة في إطار ما يسمى بالقوة الشاملة للدولة. فالتأثير في عقول وقلوب الشعوب قد يفتح مسارات جديدة لتحقيق النفوذ الدولي بعيدًا عن كلفة المواجهات المباشرة.

ولقياس هذه الظاهرة المتنامية، برز مؤشر القوة الناعمة العالمي الذي تصدره مؤسسة “براند فاينانس” البريطانية كأداة بحثية وتحليلية تجمع بين الصرامة المنهجية والانتشار الدولي. يعتمد المؤشر على استطلاعات رأي واسعة النطاق شملت في نسخته الأخيرة أكثر من 170 ألف مشارك في أكثر من 100 سوق حول العالم، ويصنف 193 دولة وفق ثلاثة مؤشرات رئيسية هي المعرفة، والسمعة، والنفوذ، إضافة إلى ثمانية أعمدة فرعية تشمل الثقافة، العلاقات الدولية، الإعلام، القيم، الحوكمة، الاستدامة، الاقتصاد والتجارة، والتعليم والعلوم. وتنبع أهمية المؤشر من كونه لا يكتفي بالتصنيف الرقمي بل يقدم قراءة معمقة للفجوات بين الدول، ويوضح نقاط القوة والضعف في صورة كل دولة عالميًا، ما يجعله مرجعًا لصانعي القرار لتوجيه استراتيجياتهم وتعزيز مواردهم الناعمة على المدى الطويل.

فيما يخص إفريقيا جنوب الصحراء، يلفت التقرير إلى أن المنطقة ما زالت تواجه تحديات كبيرة في تعزيز حضورها على خريطة القوة الناعمة العالمية، رغم أن بعض دولها حققت تقدمًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة. فقد برزت جنوب إفريقيا كنموذج نسبي متقدم بفضل حضورها الثقافي والإقليمي، إلى جانب نيجيريا التي تستفيد من صناعة السينما والموسيقى في تعزيز صورتها العالمية، في حين ما زالت دول أخرى تعاني من ضعف البنية المؤسسية والاضطرابات السياسية التي تقيد جاذبيتها الخارجية. ويشير التقرير إلى أن القارة بحاجة إلى استثمار أكثر فاعلية في الثقافة والدبلوماسية العامة والتعليم والتكنولوجيا، باعتبارها أدوات رئيسية لبناء سمعة مستقرة وقادرة على المنافسة، وهو ما يجعل إفريقيا جنوب الصحراء في مرحلة انتقالية بين واقع مليء بالتحديات وفرص كامنة يمكن أن تُحدث فارقًا في ترتيبها العالمي إذا ما تم استثمارها بذكاء.

وفي هذا السياق، يسعى هذا التقرير إلى تسليط الضوء على منطقة إفريقيا جنوب الصحراء في مؤشر القوة الناعمة العالمي، من خلال التعريف بمفهوم القوة الناعمة، وتحليل المؤشر بصورة معمقة، لا سيما وأن التقرير يهدف إلى الوقوف على أداء دول إفريقيا جنوب الصحراء وترتيبها في هذا المؤشر، بما يبرز مكامن القوة والضعف في صورتها الدولية ويتيح فهمًا أعمق لدورها ومكانتها على الساحة العالمية. [1]

أولًا: ترتيب دول إفريقيا جنوب الصحراء في المؤشر عالميًا

إفريقيا جنوب الصحراء تُمثل واحدة من أكثر المناطق تعقيدًا وتنوعًا في المشهد العالمي للقوة الناعمة، إذ تجمع بين إمكانات ثقافية واقتصادية كبيرة من جهة، وتحديات سياسية وأمنية واجتماعية من جهة أخرى. عند النظر إلى نتائج مؤشر القوة الناعمة العالمي 2025 الصادر عن مؤسسة براند فاينانس، يتضح أن دول المنطقة لم تتمكن بعد من ترجمة مواردها الثقافية والرمزية إلى نفوذ عالمي متماسك، على الرغم من تزايد الاهتمام الدولي بها سواء في مجالات الاستثمار أو الثقافة أو الطاقة. وتكشف القراءة التحليلية أن الفجوة بين الموارد الكامنة وصورة المنطقة عالميًا لا تزال قائمة، وهو ما يستدعي استراتيجيات أكثر وضوحًا في الدبلوماسية العامة والترويج الثقافي والإعلامي لكي تتمكن هذه الدول من تحسين موقعها في المؤشر.

يُظهر المؤشر أن جنوب إفريقيا ما تزال صاحبة الحضور الأقوى في المنطقة، حيث جاءت في المرتبة 43 عالميًا، محققة درجة 44.9، وهو ما يعكس مزيجًا من الثقل الاقتصادي النسبي، ودورها في الاتحاد الإفريقي، وحضورها الثقافي عبر الرياضة والفنون. غير أن هذا الترتيب يوضح أيضًا محدودية قدرتها على منافسة القوى الإقليمية الأخرى خارج القارة، إذ تراجعت مكانتها مقارنة بدول ناشئة في آسيا وأمريكا اللاتينية. أما نيجيريا، القوة السكانية والاقتصادية الأكبر في إفريقيا، فجاءت في المرتبة 77 عالميًا بدرجة 36.4، وهو ترتيب يعكس قوة صناعاتها الثقافية مثل السينما والموسيقى، لكنه يكشف أيضًا عن تأثير التحديات الأمنية والحوكمة الضعيفة على صورتها العالمية.

إلى جانب جنوب إفريقيا ونيجيريا، برزت كينيا وإثيوبيا كممثلين آخرين لإفريقيا جنوب الصحراء في المؤشر، وإن بمستويات أقل. فقد جاءت كينيا في المرتبة 92 عالميًا بدرجة 34.4، وهو ما يعكس حضورها الإقليمي المتنامي في مجالات السياحة والدبلوماسية متعددة الأطراف، لكنها لا تزال تعاني من مشكلات داخلية تحد من تعزيز سمعتها الخارجية. أما إثيوبيا فجاءت في المرتبة 111 عالميًا بدرجة 32.1، حيث ساهمت النزاعات الداخلية وتحديات الاستقرار السياسي في الحد من جاذبيتها، على الرغم من ثقلها التاريخي كرمز للاستقلال الإفريقي ومقر للاتحاد الإفريقي. هذا التباين في المراتب يعكس مدى الارتباط الوثيق بين الاستقرار السياسي ومستوى القوة الناعمة عالميًا.

أما الدول الإفريقية الأخرى جنوب الصحراء، فقد تركزت غالبًا في المراتب الدنيا من المؤشر، وهو ما يكشف عن قصور واضح في حضورها الدولي. على سبيل المثال، تنزانيا احتلت المرتبة 95 عالميًا، وغانا المرتبة 90 عالميًا، بينما ظهرت دول مثل أوغندا (121 عالميًا) وناميبيا (123 عالميًا) وساحل العاج (94 عالميًا) في مواقع متأخرة، رغم امتلاكها رصيدًا ثقافيًا وحضاريًا معتبرًا. ويُفسر هذا التراجع بضعف أدوات الترويج الخارجي، واعتماد اقتصاداتها على الموارد الأولية دون استثمار كافٍ في التعليم أو الابتكار أو الصناعات الثقافية، وهي العناصر التي تُعد أساسًا لتعزيز القوة الناعمة.

المثير للاهتمام أن بعض الدول الصغيرة نسبيًا نجحت في تحسين صورتها عالميًا ولو بشكل محدود، مثل رواندا التي جاءت في المرتبة 109 عالميًا رغم تاريخها الصعب، مستفيدة من خطابها حول التنمية والاستقرار والانفتاح على التكنولوجيا. كذلك برزت موريشيوس في المؤشر (105 عالميًا) كحالة خاصة ضمن دول جنوب الصحراء بفضل اعتمادها على السياحة والخدمات المالية. هذه الحالات الفردية تُظهر أن صغر الحجم الجغرافي أو السكاني لا يُعد عائقًا إذا ما توفرت سياسات موجهة بذكاء نحو تعزيز صورة الدولة في الخارج.

ترتيب دول إفريقيا جنوب الصحراء

  • جنوب إفريقيا: جاءت في المرتبة 43 عالميًا (درجة 44.9)، فيما جاءت في المرتبة 1 إفريقيًا (الأعلى بين جميع الدول الإفريقية).
  • نيجيريا: جاءت في المرتبة 77 عالميًا (درجة 36.4)، وجاءت في المرتبة 4 إفريقيًا، و2 على مستوى إفريقيا جنوب الصحراء.
  • غانا: المرتبة 90 عالميًا، والمرتبة 5 إفريقيًا، و3 على مستوى إفريقيا جنوب الصحراء.
  • ساحل العاج (كوت ديفوار): المرتبة 94 عالميًا، والمرتبة 6 إفريقيًا، و4 على مستوى إفريقيا جنوب الصحراء.
  • تنزانيا: المرتبة 95 عالميًا، والمرتبة 7 إفريقيًا، و5 على مستوى إفريقيا جنوب الصحراء.
  • كينيا: المرتبة 92 عالميًا، والمرتبة 8 إفريقيًا، و6 على مستوى إفريقيا جنوب الصحراء.
  • إثيوبيا: المرتبة 111 عالميًا، والمرتبة 9 إفريقيًا، و7 على مستوى إفريقيا جنوب الصحراء.
  • رواندا: المرتبة 109 عالميًا، والمرتبة 10 إفريقيًا، و8 على مستوى إفريقيا جنوب الصحراء.
  • موريشيوس: المرتبة 105 عالميًا، والمرتبة 11 إفريقيًا، و9 على مستوى إفريقيا جنوب الصحراء.
  • السنغال: المرتبة 102 عالميًا، والمرتبة 12 إفريقيًا، و10 على مستوى إفريقيا جنوب الصحراء.
  • أوغندا: المرتبة 121 عالميًا، والمرتبة 13 إفريقيًا، و11 على مستوى إفريقيا جنوب الصحراء.
  • ناميبيا: المرتبة 123 عالميًا، والمرتبة 14 إفريقيًا، و12 على مستوى إفريقيا جنوب الصحراء.
  • زامبيا: المرتبة 115 عالميًا، والمرتبة 15 إفريقيًا، و13 على مستوى إفريقيا جنوب الصحراء.
  • موزمبيق: المرتبة 137 عالميًا، والمرتبة 16 إفريقيًا، و14 على مستوى إفريقيا جنوب الصحراء.
  • بوتسوانا: المرتبة 139 عالميًا، والمرتبة 17 إفريقيًا، و15 على مستوى إفريقيا جنوب الصحراء.
  • أنغولا: المرتبة 128 عالميًا، والمرتبة 18 إفريقيًا، و16 على مستوى إفريقيا جنوب الصحراء.
  • الكونغو الديمقراطية: المرتبة 124 عالميًا، المرتبة 19 إفريقيًا، و17 على مستوى إفريقيا جنوب الصحراء.
  • مالي: المرتبة 130 عالميًا، والمرتبة 20 إفريقيًا، و18 على مستوى إفريقيا جنوب الصحراء.
  • سيراليون: المرتبة 169 عالميًا، والمرتبة 21 إفريقيًا، و19 على مستوى إفريقيا جنوب الصحراء.
  • تشاد: المرتبة 172 عالميًا، والمرتبة 22 إفريقيًا، و20 على مستوى إفريقيا جنوب الصحراء.
  • ليبيريا: المرتبة 136 عالميًا، والمرتبة 23 إفريقيًا، و21 على مستوى إفريقيا جنوب الصحراء.
  • ملاوي: المرتبة 158 عالميًا، والمرتبة 24 إفريقيًا، و22 على مستوى إفريقيا جنوب الصحراء.
  • النيجر: المرتبة 144 عالميًا، والمرتبة 25 إفريقيًا، و23 على مستوى إفريقيا جنوب الصحراء.

من زاوية تحليلية أوسع، يتضح أن ترتيب إفريقيا جنوب الصحراء في مؤشر القوة الناعمة يعكس تحديًا مزدوجًا: داخلي يتمثل في ضعف الاستقرار السياسي وغياب الحوكمة الرشيدة، وخارجي يتمثل في قلة الأدوات الإعلامية والدبلوماسية اللازمة لإيصال صوتها عالميًا. وبينما تستثمر قوى آسيوية وأوروبية في مؤسساتها الثقافية وتعزز حضورها عبر الإعلام الرقمي، تبقى معظم الدول الإفريقية خارج دائرة التأثير الإعلامي العالمي، ما يقلل من فرصها في بناء صورة إيجابية قادرة على اجتذاب الاستثمارات والسياحة والشراكات.

هذا، يُبرز التقرير أن مستقبل القوة الناعمة في إفريقيا جنوب الصحراء مرتبط بمدى قدرتها على استثمار مواردها غير الملموسة مثل التراث الثقافي، والتنوع البيئي، والشباب المتزايد، في إطار سياسات متماسكة. فإذا ما تمكنت هذه الدول من تحويل هذه الموارد إلى أدوات للتأثير العالمي، فقد تعيد رسم موقعها في المؤشر. لكن إذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه، فستظل المنطقة في المراتب الدنيا، ما يعكس ليس فقط ضعف حضورها الدولي بل أيضًا ضياع فرص ثمينة لتعزيز مكانتها في النظام العالمي الجديد الذي يُعطي أهمية متزايدة للقوة الناعمة.

ويمكن اعتبار ترتيب دول إفريقيا جنوب الصحراء في مؤشر القوة الناعمة انعكاسًا مباشرًا للفجوة بين الإمكانات الكامنة والقدرة على توظيفها عالميًا. فبينما تتصدر جنوب إفريقيا المرتبة الأولى إفريقيًا و43 عالميًا، تظل بقية دول المنطقة موزعة في مراتب متأخرة، ما يعكس قصورًا في استثمار أدوات الثقافة والإعلام والدبلوماسية العامة. كما أن دولًا مثل نيجيريا وغانا وكينيا، رغم ثقلها الاقتصادي والثقافي، لم تتمكن من ترجمة مواردها إلى نفوذ عالمي مستدام. وفي المقابل، تكشف المراتب المتأخرة لسيراليون أو ملاوي عن استمرار تحديات الاستقرار والحوكمة التي تحد من حضور القارة على خريطة القوة الناعمة.

ثانيًا: إفريقيا جنوب الصحراء وتحولات ميزان القوة الناعمة

إفريقيا جنوب الصحراء تبدو في موقع حساس داخل خريطة القوة الناعمة العالمية، حيث يكشف تقرير Global Soft Power Index 2025 عن استمرار اتساع الفجوة بين الدول الكبرى صاحبة النفوذ العالمي وبين الدول الإفريقية التي ما تزال تصارع من أجل تثبيت حضورها. هذا التباين يعكس ما وصفه التقرير بتحول ميزان القوة الناعمة إلى لعبة صفرية، حيث تستفيد القوى الكبرى من زيادة جاذبيتها وتأثيرها على حساب تراجع حضور الدول الأقل نفوذًا. وبالنسبة لإفريقيا جنوب الصحراء، فإن المشكلة ليست في غياب الموارد الثقافية أو التاريخية، بل في غياب التوظيف الاستراتيجي لهذه الموارد، وضعف الاستقرار السياسي الذي يعيق بناء صورة إيجابية قادرة على المنافسة عالميًا.

ويُظهر التقرير أن المنطقة تفتقر إلى القدرة على الاستفادة من زخمها الديموغرافي والاقتصادي المتنامي، إذ يعيش في إفريقيا جنوب الصحراء أكثر من مليار نسمة، معظمهم من الشباب، وهي طاقة بشرية ضخمة يمكن أن تُترجم إلى موارد قوة ناعمة من خلال الفنون، التكنولوجيا، والتعليم. غير أن غياب سياسات تعليمية متطورة، وتواضع الاستثمار في البحث العلمي والإبداع، يجعل هذه الموارد غير مفعّلة. بينما استطاعت دول آسيوية مثل كوريا الجنوبية أن توظف صناعاتها الثقافية والإعلامية لصياغة صورة عالمية مؤثرة، ما زالت أغلب دول إفريقيا جنوب الصحراء أسيرة لنزاعات داخلية، وضعف البنى المؤسسية، وانحسار الأدوات الإعلامية الفاعلة.

في المقابل، تبرز بعض المحاولات المحدودة في المنطقة التي تشير إلى إمكانية كسر هذه الحلقة. فجنوب إفريقيا ما تزال محافظة على موقع متقدم نسبيًا عالميًا (43)، وهو ما يُبرز دورها كقوة إقليمية قادرة على الجمع بين ثقلها الاقتصادي، ورصيدها الثقافي، وتأثيرها السياسي في الاتحاد الإفريقي. نيجيريا كذلك تُعتبر حالة خاصة، إذ رغم ترتيبها المتأخر نسبيًا (77)، إلا أن صناعاتها الفنية مثل “نوليوود” والموسيقى الأفريقية المعاصرة تمثل أدوات قوية لبناء صورة إيجابية. هذه النماذج، وإن كانت محدودة، إلا أنها تكشف عن أن الإمكانات موجودة بالفعل، لكنها بحاجة إلى إرادة سياسية واستراتيجيات واضحة لتعزيزها.

التقرير يوضح أيضًا أن تراجع ترتيب العديد من الدول الإفريقية في المؤشر يرتبط ارتباطًا مباشرًا بمستوى الحوكمة والاستقرار الداخلي. دول مثل إثيوبيا (111) أو كينيا (92) تمتلك عناصر مهمة للقوة الناعمة مثل التراث الثقافي والرمزية التاريخية، لكنها لا تستطيع تحويل هذه الأصول إلى نفوذ عالمي بسبب استمرار النزاعات، وتراجع مؤشرات الحكم الرشيد، وضعف الثقة الدولية في سياساتها. ويشير التقرير إلى أن ثبات أو صعود أي دولة في المؤشر يعتمد بالأساس على مصداقية سياساتها الداخلية والخارجية، ما يعني أن القوة الناعمة ليست مجرد خطاب دعائي، بل انعكاس مباشر للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

من زاوية أوسع، فإن ضعف الأداء الإفريقي في المؤشر يعكس تهميشًا هيكليًا داخل النظام الدولي، حيث تميل الجماهير العالمية إلى تقييم الدول الأكثر ظهورًا في الإعلام العالمي أو الأكثر حضورًا في الاقتصاد الدولي. وغياب إفريقيا جنوب الصحراء عن هذه المجالات يجعلها أقل قدرة على جذب الانتباه والتأثير، حتى وإن كانت تمتلك موارد طبيعية وثقافية هائلة. وهنا تظهر أهمية بناء شبكات إعلامية عابرة للحدود، وتطوير دبلوماسية عامة موجهة للخارج، بحيث لا تظل القارة أسيرة صور نمطية سلبية مرتبطة بالفقر والنزاعات فقط، بل تقدم نفسها كفضاء للابتكار والشباب والطاقة المستقبلية.

هذا، ويمكن القول إن تحولات ميزان القوة الناعمة عالميًا لم تكن في صالح إفريقيا جنوب الصحراء خلال 2025، حيث استمرت معظم دولها في مراتب متأخرة، باستثناء حالات محدودة. وإذا أرادت هذه الدول تحسين حضورها، فعليها الاستثمار في التعليم، وتطوير الصناعات الثقافية والإعلامية، وتبني سياسات خارجية نشطة تعزز من الثقة والتعاون. هذا يتطلب رؤية إقليمية موحدة، تجعل من إفريقيا جنوب الصحراء كتلة قادرة على التأثير في التوازنات العالمية، بدلًا من أن تظل مجرد متلقٍ لتأثيرات القوى الكبرى. التقرير يضع بذلك مرآة أمام القارة: إما أن تتحول إلى لاعب فاعل في معادلة القوة الناعمة، أو تبقى عالقة في المراتب الضعيفة.

ثالثًا: دراسة حالة جنوب إفريقيا في مؤشر القوة الناعمة العالمي 2025

تُظهر نتائج مؤشر القوة الناعمة العالمي 2025 أن جنوب إفريقيا ما تزال تحتفظ بموقعها المتقدم نسبيًا على مستوى القارة، إذ جاءت في المرتبة 43 عالميًا والأولى إفريقيًا، وهو ما يعكس حضورها المميز في محيطها الإقليمي. غير أن هذا الترتيب يكشف أيضًا عن حدود تأثيرها العالمي، إذ لم تتمكن من اللحاق بركب القوى الناشئة في آسيا أو أمريكا اللاتينية. ويعود ذلك إلى التناقض بين ما تمتلكه من موارد ثقافية ورمزية مهمة مثل الإرث التاريخي لنيلسون مانديلا وصورتها كمجتمع متعدد الأعراق، وبين التحديات الداخلية المرتبطة بالحوكمة وضعف النمو الاقتصادي، الأمر الذي يؤثر سلبًا في صورتها الدولية ويحد من جاذبيتها.

من أبرز العوامل التي ساعدت جنوب إفريقيا على التقدم في المؤشر حضورها القوي في مجالات الرياضة والفنون والموسيقى، حيث باتت هذه المجالات تشكل أحد أعمدة قوتها الناعمة. فاستضافتها لفعاليات رياضية كبرى مثل كأس العالم 2010، وحضورها في الفنون والسينما الإفريقية، يمنحها مكانة فريدة بين شعوب القارة. كما يعزز انفتاحها الثقافي صورة التعايش والتنوع داخل المجتمع الجنوب إفريقي. ومع ذلك، فإن اعتمادها على هذه الموارد الثقافية وحدها لا يكفي لتوسيع نطاق تأثيرها، إذ يتعين عليها تعزيز أدواتها في الإعلام والدبلوماسية العامة، وتوظيف قوتها الاقتصادية والإقليمية لدعم صورتها عالميًا بشكل أكثر استدامة.

يشير التقرير إلى أن جنوب إفريقيا، رغم موقعها المتقدم إفريقيًا، تعاني من تراجع في بعض ركائز القوة الناعمة الأساسية مثل الحوكمة والقيم السياسية. فقد انعكست الأزمات السياسية الداخلية وتنامي معدلات الفساد وعدم المساواة على صورة الدولة في الخارج، ما أدى إلى تراجع في تقييمات الثقة والاستقرار. هذا الضعف يحد من قدرتها على تقديم نموذج سياسي يُحتذى به أو أن تكون وسيطًا فعالًا في الأزمات الدولية. ومن ثم فإن الحفاظ على موقعها الحالي، فضلًا عن تحسينه، يتطلب معالجة جذرية للتحديات الداخلية وربط خطابها الخارجي بإصلاحات ملموسة تعزز من مصداقيتها أمام المجتمع الدولي.

على صعيد العلاقات الدولية، تستفيد جنوب إفريقيا من دورها النشط في الاتحاد الإفريقي ومجموعة البريكس، ما يعزز مكانتها كقوة إقليمية مؤثرة. غير أن التقرير يشير إلى أن هذا النفوذ لا يترجم دومًا إلى مكاسب في صورتها العالمية، حيث لا تزال قوتها الناعمة محصورة إلى حد كبير في المجال الإفريقي. فبينما نجحت الصين والهند في استثمار تحالفاتهما الاقتصادية والدبلوماسية لتعزيز جاذبيتهما عالميًا، لم تتمكن جنوب إفريقيا من توسيع هذا النفوذ إلى ما هو أبعد من محيطها الإقليمي. ولذا فهي بحاجة إلى استراتيجية أكثر جرأة لتوظيف شراكاتها الدولية في خدمة صورتها وصناعة خطاب عالمي يرسخ حضورها في النظام الدولي.

من زاوية مستقبلية، يُبرز التقرير أن تحسين موقع جنوب إفريقيا في المؤشر يتطلب تحولًا استراتيجيًا نحو الاستثمار في التعليم والابتكار والحوكمة الرشيدة، باعتبارها ركائز أساسية لتعزيز القوة الناعمة. فالتجارب الدولية الناجحة توضح أن بناء صورة إيجابية مستدامة لا يقوم فقط على عناصر الثقافة أو الرياضة، بل على مزيج متكامل من الاستقرار السياسي، الاقتصاد المزدهر، والانفتاح المجتمعي. إن جنوب إفريقيا، بما تمتلكه من إمكانات بشرية وثروات طبيعية وتاريخ نضالي ملهم، مؤهلة لتحقيق قفزة نوعية في هذا المجال، لكنها تظل رهينة بقدرتها على معالجة التحديات الداخلية وتبني رؤية شاملة تجعل من القوة الناعمة ركيزة أساسية في سياستها الخارجية.

وختامًا، يمكن القول إن مؤشر القوة الناعمة العالمي 2025 قد كشف بوضوح عن موقع إفريقيا جنوب الصحراء داخل خريطة النفوذ الدولي، حيث تتأرجح بين إمكانات ثقافية وديموغرافية ضخمة وفرص اقتصادية كامنة من جهة، وتحديات بنيوية في الاستقرار السياسي والحوكمة الرشيدة من جهة أخرى. فبينما نجحت جنوب إفريقيا في الحفاظ على موقع متقدم نسبيًا كأعلى دولة إفريقية في المؤشر، تظل بقية دول المنطقة حبيسة مراتب متأخرة تعكس قصورًا في استثمار مواردها الناعمة وتحويلها إلى نفوذ ملموس. ويؤكد ذلك أن القوة الناعمة ليست مجرد رصيد رمزي، بل مشروع استراتيجي يتطلب رؤية شاملة تستثمر في التعليم، الابتكار، الإعلام والدبلوماسية العامة. إن مستقبل إفريقيا جنوب الصحراء في هذا المؤشر مرهون بقدرتها على تجاوز أزماتها الداخلية وبناء خطاب جماعي يعكس ثراءها الثقافي وحيويتها السكانية، وهو ما سيحدد ما إذا كانت ستبقى في موقع المتلقي لتأثير القوى الكبرى أم تتحول إلى فاعل مؤثر في النظام العالمي الجديد.

[1] Konrad Jagodzinski, Global Soft Power Index 2025: The shifting balance of global Soft Power, Brand Finance. https://brandfinance.com/insights/global-soft-power-index-2025-the-shifting-balance-of-global-soft-power

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطي العربي

مؤسسة بحثية مستقلة تعمل فى إطار البحث العلمي الأكاديمي، وتعنى بنشر البحوث والدراسات في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية والعلوم التطبيقية، وذلك من خلال منافذ رصينة كالمجلات المحكمة والمؤتمرات العلمية ومشاريع الكتب الجماعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى