العدالة الانتقالية في اليمن : بين منطق الأطراف المتنازعة وإمكانات بناء السلام المستدام
بقلم: علي عبدالإله سلام – كاتب متخصص في الحقوق الإنسانية وتأثير الحروب السياسية والاجتماعية، وحاصل على ماجستير في الاتصال السياسي.
- المركز الديمقراطي العربي
تُعد العدالة الانتقالية إحدى الركائز الأساسية في معالجة آثار النزاعات والحروب الأهلية، إذ تهدف إلى موازنة مطلب العدالة مع ضرورات المصالحة الوطنية وبناء السلام. في الحالة اليمنية، يبرز هذا المفهوم بوصفه مدخلًا ضروريًا لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، بعد أكثر من عقد من الصراع السياسي والعسكري الذي عمّق الانقسامات وخلّف آلاف الضحايا والمفقودين. في اليمن، اندلع صراع واسع النطاق منذ منتصف العقد الأول من القرن الجاري، بعد ثورات 2011 وما بعدها، ثم تحول إلى حرب أهلية شاملة تقريباً منذ عام 2014–2015، مع تدخلات إقليمية ودولية. ،أسقطت الحرب النظام القضائي، وتدهورت السلطة القضائية، وأصبح تحقيق العدالة أمراً بالغ الصعوبة.
علاوة على ذلك، تحولت العلاقة بين الدولة والمجتمع اليمني إلى علاقة متوتّرة: انهيار الخدمات، تفكك المؤسسات، نزوح جماعي، مئات الآلاف من الضحايا والمفقودين، كل ذلك ساهم في تشكّل حالة من فقدان الثقة بالمؤسسات.
في هذا الوضع، فإن مفهوماً مثل العدالة الانتقالية لا يقتصر فقط على مساءلة الانتهاكات، بل على إعادة بناء الشرعية المؤسسية، وتصحيح العلاقة بين الدولة والمواطن والمجتمع المدني، ومعالجة الانقسامات الاجتماعية من شمال إلى جنوب، ومن رئيس إلى جماعات محلية وقبلية، ومن جماعات محاربة إلى المدنيين المتضررين.
أولًا: الإطار النظري لمفهوم العدالة الانتقالية
العدالة الانتقالية، وفق التعريف الصادر عن الأمم المتحدة (2010)، هي “مجموعة من الآليات القضائية وغير القضائية التي تطبّقها المجتمعات الخارجة من النزاع أو الحكم الاستبدادي لمساءلة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وكشف الحقيقة، وجبر الضرر، وضمان عدم التكرار. ويقوم هذا المفهوم على أربع ركائز أساسية: المساءلة القانونية، جبر الضرر، كشف الحقيقة، وإصلاح المؤسسات. غير أن العدالة الانتقالية لا تُختزل في المحاكمات، بل تتضمن عملية اجتماعية شاملة تهدف إلى إعادة بناء الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة.
ثانيًا: منطق الأطراف المتنازعة في اليمن تجاه العدالة الانتقالية
ترى الحكومة الشرعية المعترف بها دوليًا أن العدالة الانتقالية يجب أن تُطبَّق بعد استعادة الدولة وإنهاء الانقلاب، وليس خلال استمرار النزاع. من منظورها، لا يمكن تحقيق مصالحة حقيقية مع جماعة مسلحة ما تزال تسيطر على العاصمة صنعاء وأجزاء واسعة من البلاد. أما جماعة أنصار الله (الحوثيون)، فتتعامل مع مفهوم العدالة الانتقالية من زاوية اللامبالاه؛ فغياب أي ترحيب معلن من جانب الحوثيين بمفهوم العدالة الانتقالية إلى عدم صدور أي بيانات رسمية عن قيادتهم تتبنّى هذا المصطلح أو مبادئه، إضافةً إلى أن الواقع الميداني في مناطق سيطرتهم، بما يشمله من اعتقالات وتقييد للحريات وهيمنة عسكرية، يعكس بيئة غير منفتحة على متطلبات العدالة الانتقالية. فهذه العملية تقوم على مبادئ أساسية كالمساءلة والشفافية وجبر الضرر والمشاركة الشاملة لجميع الأطراف، وهي عناصر تبدو إلى حدّ كبير غائبة أو ضعيفة في الممارسات القائمة لدى الحوثيين.. وفي المقابل، يربط المجلس الانتقالي الجنوبي العدالة الانتقالية بالقضية الجنوبية والانتهاكات منذ حرب 1994 حيث أن وعي المجتمع المحلي الجنوبي بمفهوم العدالة الانتقالية، مرتبط بالضرر الذي أحدثته حرب صيف 1994م، من قبل قيادة وجيش وقوى الشمال على الإنسان والدولة في الجنوب، عن فرض الوحدة بالقوة وانتهاك شرط الطوعية لقيام الوحدة بين دولتين وفقا لميثاق الأمم المتحدة وكذلك يرتبط وعي الجنوبيين بمفهوم العدالة الانتقالية إلى بعد زمني يعود الى ما قبل الوحدة إلى العهد السياسي لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ما قبل 1990م.
حيث أكدت الشخصية السياسية في المجلس الإنتقالي الجنوبي في تقرير أعده مشروع SPARKأكدت أنه” لا عدالة انتقالية بدون مصالحة وطنية ولا مصالحة وطنية بدون عدالة انتقالية؛ وبالتالي لا مصالحة بدون مساءلة ولا مساءلة بدون مصالحة، فلا يمكن الانتقال إلى المستقبل دون الوقوف على كوم تراكمات أضرار الماضي والحاضر ومعالجتها بآليات قانونية واجتماعية تضمن تحقيق المصالحة بعد ذلك”.
ثالثًا: التحديات البنيوية أمام العدالة الانتقالية في اليمن
من أبرز التحديات التي تواجه تطبيق العدالة الانتقالية في اليمن استمرار النزاع المسلح، وانهيار مؤسسات الدولة، وانعدام الثقة بين الأطراف، وتسييس مفهوم العدالة، إلى جانب ذلك، يسود انعدام الثقة بين الأطراف المتنازعة نتيجة تراكمات من الانتهاكات، والإقصاء، والخطابات التحريضية، مما يجعل القبول بفكرة المصالحة الوطنية أمرًا محفوفًا بالشكوك والمخاوف المتبادلة. كما أن تسييس مفهوم العدالة الانتقالية واستخدامه كأداة لتحقيق مكاسب سياسية من قبل بعض القوى المحلية يفرغ هذا المفهوم من جوهره القيمي والحقوقي، ويحوّله إلى ساحة صراع جديدة بدلًا من كونه أداة للإنصاف والمصالحة
ولا يمكن إغفال أثر التدخلات الإقليمية والدولية التي أسهمت في تعقيد المشهد اليمني، إذ باتت القوى الخارجية تمتلك تأثيرًا مباشرًا في مسار النزاع، ما يعيق أي محاولة لصياغة مشروع وطني مستقل للعدالة الانتقالية بعيدًا عن الاصطفافات والتحالفات. كما أن الخوف من الانتقام يشكّل حاجزًا نفسيًا واجتماعيًا حقيقيًا أمام انخراط المجتمعات المحلية في جهود الحقيقة والمصالحة، حيث يخشى الضحايا والشهود من التعرض للملاحقة أو الاستهداف في غياب الضمانات الأمنية.
في المحصلة، يتطلب تطبيق العدالة الانتقالية في اليمن مقاربة شاملة ومتعددة الأبعاد تراعي الواقع الأمني والسياسي، وتعتمد على بناء الثقة، وإعادة إحياء مؤسسات الدولة، وضمان استقلالية العملية بعيدًا عن التدخلات الخارجية، بما يمهّد الطريق نحو سلام مستدام وعدالة حقيقية تعيد للمجتمع توازنه. كما تلعب التدخلات الإقليمية والدولية دورًا في تعقيد أي مسار وطني مستقل، في حين يثير الخوف من الانتقام هواجس حقيقية لدى المجتمع المحلي
وبإمكاننا أن نلخص هذه التحديات كالآتي:
- استمرار النزاع المسلح: من الصعب تطبيق أي آليات للعدالة في ظل غياب اتفاق سلام شامل ووجود سلطات متنازعة على الأرض.
- انهيار مؤسسات الدولة: ضعف القضاء وغياب سلطة مركزية محايدة يجعل تنفيذ الأحكام أو التحقيقات أمرًا غير ممكن.
- انعدام الثقة بين الأطراف: كل طرف ينظر إلى الآخر كخصم سياسي أو عدو، لا كشريك في بناء السلام.
- تسييس مفهوم العدالة: تحوّلت العدالة الانتقالية إلى أداة خطابية تُستخدم في المفاوضات دون التزام فعلي بتطبيقها.
- التدخلات الإقليمية والدولية: اختلاف أجندات القوى الإقليمية (السعودية، الإمارات، إيران) يعقّد أي مسار وطني مستقل للعدالة.
- الخوف من الانتقام: في مجتمع قبلي مثل اليمن، يُخشى أن تؤدي المحاسبة إلى تجدد الصراعات والثأر بدلاً من تحقيق الاستقرار.
رابعًا: العدالة الانتقالية كمدخل لبناء السلام المستدام
رغم التحديات، يمكن للعدالة الانتقالية أن تشكل ركيزة لبناء سلام مستدام إذا أُعيد تعريفها بطريقة تراعي خصوصية المجتمع اليمني. يتطلب ذلك مقاربة تصالحية تدريجية تقوم على الاعتراف المتبادل بالضحايا والانتهاكات، جبر الضرر، كشف الحقيقة، إصلاح المؤسسات، والمشاركة المجتمعية. في ضوء هذه المبادئ، يمكن القول إن العدالة الانتقالية ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة لإعادة بناء العقد الاجتماعي على أساس المساواة والكرامة والاعتراف المتبادل.
رغم الصعوبات المعقدة التي تعترض مسار العدالة الانتقالية في اليمن، فإنها تظل من أكثر الأدوات فاعلية في تحقيق سلام مستدام وشامل إذا ما أُعيد النظر في تطبيقها بما يتناسب مع خصوصية المجتمع اليمني وتنوعه الثقافي والاجتماعي. فالعدالة الانتقالية لا تُختزل في محاسبة الجناة فحسب، بل تتجاوز ذلك نحو إعادة بناء الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة، وإرساء أسس جديدة للعلاقة بين الفرد والمجتمع تقوم على المساءلة والاحترام المتبادل وسيادة القانون.
إن تحقيق هذا الهدف يتطلب كما أشرت مسبقا مقاربة تصالحية تدريجية تأخذ بعين الاعتبار الواقع المحلي وتوازن بين مقتضيات العدالة ومتطلبات الاستقرار. وتشمل هذه المقاربة عددًا من الركائز الجوهرية، أبرزها الاعتراف المتبادل بالضحايا والانتهاكات كخطوة أولى نحو تفكيك روايات الكراهية، ثم جبر الضرر المادي والمعنوي بما يرمز إلى اعتراف الدولة بمسؤوليتها الأخلاقية تجاه مواطنيها المتضررين، ويمهّد الطريق أمام إعادة الثقة في مؤسساتها. كما يُعدّ كشف الحقيقة عن الانتهاكات الماضية عنصرًا حاسمًا، ليس فقط لإنصاف الضحايا، بل أيضًا لمنع تكرارها مستقبلاً، إذ يرسّخ ثقافة الاعتراف بدل الإنكار والنسيان.
إلى جانب ذلك، فإن إصلاح المؤسسات الأمنية والقضائية والسياسية يمثل حجر الزاوية في أي عملية سلام مستدام، حيث لا يمكن الحديث عن عدالة انتقالية فعالة في ظل مؤسسات متورطة في الانتهاكات أو فاقدة للمشروعية. ومن هنا تأتي أهمية المشاركة المجتمعية الواسعة، التي تضمن انخراط الضحايا والمجتمع المدني والقيادات المحلية في صياغة آليات العدالة والمصالحة، بما يعزز الشعور بالملكية المشتركة للعملية ويحول دون فرضها من أعلى.
وعلى ضوء هذه المبادئ، يمكن القول إن العدالة الانتقالية ليست غاية نهائية في ذاتها، بل وسيلة لإعادة بناء العقد الاجتماعي على أساس جديد يقوم على المساواة، والكرامة الإنسانية، والاعتراف المتبادل بين مختلف مكونات المجتمع. فحين تُدار العدالة الانتقالية بروح تصالحية شاملة، فإنها تتحول من مجرد عملية قانونية إلى مشروع وطني لإعادة تعريف المواطنة وإعادة بناء الثقة المفقودة، وهو ما يشكل المدخل الحقيقي لتحقيق السلام المستدام في اليمن.
خامساً: العدالة الانتقالية كمدخل لبناء السلام المستدام
برغم الصعوبات التي تواجهها، تظل العدالة الانتقالية قادرة على أن تكون حجر الأساس في إرساء سلام مستدام، شريطة إعادة تعريفها بما ينسجم مع خصوصيات الواقع اليمني. ويقتضي ذلك اعتماد نهج تصالحي تدريجي يرتكز على المبادئ التالية:
- الاعتراف المتبادل بالضحايا والانتهاكات: لا سلام دون اعتراف كل طرف بمسؤوليته الأخلاقية والإنسانية عن معاناة المدنيين.
- جبر الضرر وتعويض الضحايا: إنشاء صندوق وطني لتعويض المتضررين وإعادة تأهيلهم نفسيًا واجتماعيًا.
- كشف الحقيقة: تم تشكيل هيئة وطنية تسمى هيئة التشاور والمصالحة والمساندة لمجلس القيادة الرئاسي تضم ممثلين من مختلف المكونات، غير أن الهيئة لم تتمكن من أداء مهامها بالشكل المطلوب نتيجة الخلافات الحزبية داخلها، وتأثر بعض أعضائها بالانتماءات السياسية والإصطفافات الإقليمية والدولية، مما حدّ من فعاليتها وأضعف قدرتها على تحقيق أهدافها.
- إصلاح المؤسسات: إصلاح قطاعي الأمن والقضاء بما يضمن الحياد والمساءلة، منعًا لتكرار الانتهاكات.
- المشاركة المجتمعية: إشراك منظمات الضحايا، والنساء، والشباب، والقبائل في صياغة مسارات العدالة لتصبح عملية وطنية لا نخبوية.
- دعم دولي متوازن: يمكن للأمم المتحدة والمجتمع الدولي أن يقدما دعمًا تقنيًا وتمويليًا دون فرض نماذج جاهزة لا تناسب الواقع اليمني.
تُظهر التجربة اليمنية أن العدالة الانتقالية، على الرغم من كونها ضرورة حتمية لتحقيق السلام وبناء الدولة، ما تزال رهينة لتوازنات القوى السياسية والعسكرية التي تتحكم بمسار الأحداث، فضلًا عن محدودية الإرادة السياسية لدى الأطراف المتنازعة في تبنّي نهجٍ حقيقي يقوم على المساءلة والمصالحة .فالقوى السياسية، سواء في الشمال أو الجنوب، تميل إلى استخدام خطاب العدالة الانتقالية كأداة تكتيكية لتعزيز شرعيتها أو تقويض خصومها، بدلًا من اعتبارها عملية شاملة لمعالجة إرث الانتهاكات وبناء الثقة الوطنية. هذا الواقع جعل من العدالة الانتقالية مفهومًا مثقلًا بالسياسة ومفرغًا من جوهره القيمي والحقوقي، إذ غالبًا ما يتم استدعاؤه في الخطاب دون إرادة فعلية لتطبيقه على أرض الواقع.
إن تجاوز هذا المأزق يتطلب تحويل العدالة الانتقالية من أداة انتقام أو تبرير سياسي إلى مشروع وطني جامع، يستند إلى مبادئ الاعتراف والمساءلة والمصالحة. فبدلًا من التركيز على معاقبة الخصوم أو تبرئة الحلفاء، يجب أن تُعاد صياغة العدالة الانتقالية بوصفها عملية شاملة للشفاء المجتمعي وإعادة بناء العقد الاجتماعي، بحيث يكون الضحايا في مركز الاهتمام، لا مجرد أدوات في الصراع السياسي. ويستلزم ذلك إشراك المجتمع المدني، والمنظمات الحقوقية، والقيادات المحلية، والنساء، والشباب، في وضع إطار وطني مستقل يُعبّر عن تطلعات اليمنيين للعدالة والكرامة.
وعندها فقط يمكن أن تتحول العدالة الانتقالية في اليمن إلى جسر نحو سلام عادل ومستدام يضع الإنسان وكرامته في صدارة الأولويات، ويُعيد الاعتبار لقيم المواطنة والمساواة والعدالة الاجتماعية. فسلامٌ لا يقوم على العدالة والاعتراف المتبادل لا يمكن أن يصمد أمام تحديات الواقع اليمني، بينما سلامٌ يُبنى على مواجهة الماضي بشجاعة وإنصاف، يُمكن أن يُمهّد لنهضة وطنية حقيقية تُعيد لليمنيين ثقتهم بأنفسهم ودولتهم ومستقبلهم



