الجماعات الاسلاميةالدراسات البحثية

منهج الإمام التسولي في الفتوى من خلال:أجوبته عن مسائل الأمير عبد القادر في الجهاد

إعداد: الحسن الفرياضي، عضو “المركز الديمقراطي العربي

  • باحث في ماستر الفقه المقارن وقضايا الاجتهاد المعاصر

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم.

مقدمة:

إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نشكره و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا و أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله.

وبعد:

فإنه من رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن جعل لها على مر الزمان، ومختلف المكان علماء ربانيين يبينون لها ما فيه خير معاشها ومعادها، مما يطرأ عليها في كل وقت من متغيرات الحياة بواسطة فتاوى منبثقة من شرعه الحكيم، تتلاءم مع تلك المتغيرات، ويجيبون للناس عن مسائلهم ونوازلهم، ويبينون لهم الحلال والحرام في قضاياهم.

ومن الملاحظ أن علماء الغرب الإسلامي عموما، وعلماء المغرب الأقصى خصوصا قد اهتموا غاية الاهتمام بعلم النوازل، جمعا وتنظيرا وتطبيقا، ومن الأعلام البارزين الذين تصدوا لهذه المهمة في فتاويهم، العلامة الشيخ أبو الحسن التسولي.

وإذا كانت الفتاوى الفقهية قد بدأت تحظى في السنوات الأخيرة باهتمام المؤرخين، وعلماء الاجتماع، نظرا لغنى دلالاتها التاريخية والاجتماعية، فان الدراسات الفقهية أولى بان تهتم بهذه الفتاوى، لان الفقيه اقدر من غيره على فهم الفتوى، ودراستها، وتقويمها.

ولهذا السبب يأتي هذا التقرير لسم نظرة سريعة بالتعريف عن “أجوبة التسولي عن مسائل الأمير عبد القادر في الجهاد”، وبيان منهجه في تناوله للفتاوى.

المبحث الأول:

ترجمة صاحب الفتوى الإمام التسولي.

إن الكلام عن هذا الإمام الفقيه، يتطلب دراسة شخصيته من عدة جوانب، من عصره، وحياته، ومكانته في العلم والجهاد.

المطلب الأول: عصره.

عصر التسولي هو عصر الدولة العلوية، وخاصة الفترة التي تولى فيها المولى سليمان بن محمد الشريف العلوي، الذي بويع بفاس (سنة 1206 هـ )، والمولى عبد الرحمن بن هاشم بن محمد الحسيني، من ملوك الدولة السجلماسية العلوية في المغرب.

وقد تميز هذا العصر الذي عاش فيه الإمام التسولي بأحداث سياسية، واقتصادية، واجتماعية كان لها اثر في المجتمع المغربي، منها:

أولا . الأحداث السياسية، منها:

1- الصراع على الحكم، وأثره في إضعاف الدولة، حيث مر المغرب في تلك الحقبة من الزمن بسلسلة من الصراعات الحادة بين الحكام على السلطة، فدارت معارك بين كل من المولى يزيد بن محمد بن عبد الله بن إسماعيل الحسني العلوي، من ملوك الأشراف السجلماسيين بالمغرب، والمولى هشام بن محمد بن عبد الله بن إسماعيل الحسني العلوي، من أمراء الدولة السجلماسية العلوية بالمغرب الأقصى.

2- الاضطرابات والفتن: وقد تبع الصراع الحاد بين الحكام على السلطة، فتن واضطرابات بين القبائل.

3- القضاء على الأسطول المغربي، الذي كان ذا قوة بحرية عالية، ومكانة بارزة بين الأساطيل العربية والإسلامية، ونتيجة ذلك تعرضت إحدى مواني المغرب لهجوم من الأسطول النمساوي، حيث ضرب عام (1245 هـ /1829 م) مرسى العرائش.

4- مأساة الجزائر وموقف المغرب منها، فقد تأثر المغرب تأثرا كبيرا بكارثة غزو فرنسا للجزائر، حيث أصبح المغرب يعيش تحت التهديد المستمر لاستقلاله.

ثانيا . الحياة الاجتماعية والاقتصادية:

الحياة الاجتماعية والاقتصادية في عصر الشيخ التسولي – رحمه الله -، اتسمت في بادئ الأمر، وفي الأيام الأولى للسلطان المولى سليمان بالنماء والبركة والخير، فعم العدل وانتشر في البلاد، واستمر الحال على ذلك إلى أن ظهر الخطر الذي أصاب الاقتصاد المغربي في الصميم، وهو ما وقع في أوروبا من اختراع للمناسج الميكانيكية، التي تنسج بدون واسطة اليد، فقد أخذت منسوجات هذا الاختراع الجديد تتكاثر مع مر الزمان، حتى قضت على المناسج المغربية اليدوية، وما أصاب هذه الصناعة أصاب الصناعات المغربية الأخرى التي تقدمت عند الغرب.

وكان من نتيجة هذا الغزو الأوروبي للصناعة المغربية، أن افتقر أهلها، وضعف حالهم ونزل بالمغاربة ضرر كبير، بدفع ما في أيديهم من النقود، والاحتياج إلى الأجنبي في الملبوسات والمصنوعات.

ثالثا . الحياة العلمية والجهادية:

فترت الحركة العلمية في المغرب بعد وفاة المنصور الذهبي فتورا كبيرا، وخرج كثير من العلماء فارين بدينهم إلى البوادي عندما أراد السلطان المأمون بن المنصور أن يوافقوه على احتلال العدو لمدينة العرائش، فكان لذلك تأثير سيء على الحركة العلمية في المدن المغربية وخصوصا فاس.

ولكن ظهور الزاوية الدلائية في ذلك الحين كان له اثر كبير، فكأنما بعثها الله لحفظ تراث العلوم والآداب الذي كاد أن يضيع، فصارت مركزا مهما لنشر الثقافة العربية بين قبائل المغرب، فتخرج منها عدد لا يحصى من العلماء الفطاحل.

ولما ظهرت الدولة العلوية، وفي عهد المولى رشيد قضى على الزاوية الدلائية، ولكنه لم يقل شأنا عن غيره في اهتمامه بالعلم والعلماء، حيث انشأ مدرسة “الشراطين” بفاس لدراسة العلم وسكنى طلابه.

واستمرت الحياة العلمية مزدهرة في عهد المولى محمد بن عبد الله إلى أن جاء عصر التسولي، وممن نبغ من العلماء في هذا العصر واشتهر، نذكر: في التفسير الشيخ بن كران، وفي الحديث الحافظ أبو العلاء العراقي، وفي الفقه التاودي بن سودة، والرهوني، وحمدون بن الحاج الذي هو من شيوخ التسولي، وفي النحو ابن الطيب الشرقي وابن مونة.

المطلب الثاني: حياته.

اولا . اسمه ونسبه وصفته:

أبو الحسن علي بن عبد السلام بن علي التسولي، الملقب ب: “مديدش”، ولد بقبيلة تسول في الفترة ما بين أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر الهجري، أي: في عهد الدولة العلوية.

أما صفته، فقد كان – رحمه الله – موصوفا بالخير والدين والزهد والورع واليقين.

ثانيا . نشاته:

نشا وترعرع بفاس، التي كانت منار العلم في تلك الحقبة من الزمن، وكان الطلبة يأتونها من كل صوب وحدب لينهلوا من علمائها، وشيوخها القاطنين فيها، والواردين إليها، وخاصة شيوخ “جامع القرويين” الذي كان يضم المئات من العلماء الأجلاء، وأصحاب المؤلفات في مختلف العلوم الشرعية، والعقلية مثل ( الرياضيات، والهندسة، والهيئة والطبيعة، والمساحة، وعلم الأحكام، والجبر، والمقابلة، والطب وغيرها).

ثالثا . وفاته:

توفي رحمه الله بفاس، صبحة يوم السبت خامس عشر شوال (سنة 1258 هـ)، وصلى عليه بعد صلاة العصر بالقرويين ودفن بضريح الشيخ احمد بن علي وولده.

رابعا . شيوخه:

1- ابو الفيض حمدون بن عبد الرحمن بن حمدون، الشهير بابن الحاج، ولد بفاس سنة (1194 هـ).

2- ابو عبد الله بن محمد بن إبراهيم الدكالي، ولد بفاس سنة (1162 هـ)، ونشا بها.

المطلب الثالث: مكانته في العلم وأثاره.

أولا . مكانته في العلم:

كان لازدهار الحركة العلمية في المغرب، وتوافر العديد من العلماء والفقهاء، وبروز الكثير من المؤلفات الأثر الهام في شحن همة الإمام التسولي إلى دراسة العلوم المختلفة، وتلقيه المادة العلمية على أيدي أصحابها المهرة، جعلت منه عالما مطلعا ومتمكنا في العديد من الفنون ومشاركا فيها، وكانت له الصدارة واليد في النوازل والأحكام، وكان لعنايته البالغة في الفقه المالكي أن ولي مهمة القضاء مرتين، الأولى بفاس  سنة (1247 هـ)، والأخرى بتطوان سنة (1247 هـ)، وكان عالما بالوثائق وعلوم العربية، فدرس ودرس، وألف وانتهت إليه راية المذهب المالكي في المغرب، فكان عالما بارزا من أعلام جامعة القرويين.

ثانيا .اثاره:

1-  تلاميذه:

  • عبد القادر بن القاسم بن عبد الله بن إدريس العراقي.
  • محمد المطيع بن محمد بن عمر اللعباسي.
  • أبو الحسن الحاج علي بن احمد بن عبد الصادق الرجراجي.
  • أبو الحسن علي بن محمد السوسي.

2-  مؤلفاته: للإمام أبي الحسن التسولي تأليف عديدة، منها:

  • أجوبة التسولي عن مسائل الأمير عبد القادر في الجهاد.
  • البهجة في شرح التحفة.
  • الجواهر النفيسة فيما يتكرر من الحوادث الغريبة.
  • حاشيته على شرح التاودي للامية الزقاق.
  • شرح الشامل لبرام.

المبحث الثاني:

التعريف بالكتاب (الفتوى)

المطلب الاول: عنوان الكتاب.

لم تتفق تسمية الكتاب عند من ذكره من المؤرخين، فقد وجد اختلاف شكلي يتعلق باللفظ دون أن يمس محتوى الكتاب، لكن الراجح، عنوان: “أجوبة التسولي عن مسائل الأمير عبد القادر في الجهاد”.

المطلب الثاني: محتواه.

لم يقتصر الامام التسولي في رده على الأسئلة الجزائرية برد مختصر، يتضمن الإجابة عنها، وإنما جعله مؤلفا متكاملا في الجهاد، قسمه إلى خمسة مسائل، والمسائل إلى فصول، وهي كما يلي:

المسالة الأولى : فيها سبعة فصول:

  • الفصل الأول: فيما يفعل مع قبائل الزمان المنهمكين في الحرمات والعصيان.
  • الفصل الثاني: في دليل عقوبة كاتم الجواسيس والفعل به، وغيرهم ممن يستحقون العقاب.
  • الفصل الثالث: في كون الرجل يؤاخذ بجريرة قومه.
  • الفصل الرابع: فيما لا يجوز للنصارى بيعه، ولا يحل لنا أن نمكنهم بوجه من تناوله.
  • الفصل الخامس: في معاقبة العاصي بالمال، وما فيه من الخلاف في القديم والحال.
  • الفصل السادس: في زيادة تحقيق بعض ما تقدم، وكيفية إجرائه على المنصوص.
  • الفصل السابع: في حرمة ترك الإمام الرعية على ما هم عليه، وكيفية سيرته مع رعيته ومع العمال لديه.

المسالة الثانية: فيها فصلان:

  • الفصل الأول: حكم المتخلف عن الاستنفار، وما عليه من العقاب من التعزيز الجبار.
  • الفصل الثاني: فيما ينبغي للإمام فعله قبل الاستنفار، بمن يجب استنفاره من الرعية، وكيفية التدريب للحروب، وذكر مكائدها ليظفر الإمام بالمرغوب.

المسالة الثالثة: جعلها مستقلة من غير فصول، فناقش فيها قضية مانع الزكاة، ووجوب مقاتلته عليها إجماعا.

المسالة الرابعة: فيها أربعة فصول:

  • الفصل الأول: فيما يجب على الإمام من إجبار الرعية على الاستعداد، لان العدو دائما له بالمرصاد.
  • الفصل الثاني: في جواز صلح العدو إن كان مطلوبا، وعدم جوازه إن كان طالبا.
  • الفصل الثالث: فيما يرتزق منه الجيش إن عجز بيت المال، ووجوب المعونة بالأبدان إن افتقر إليها في الحال.
  • الفصل الرابع: في حكم من ساكن العدو الكفور، ورضي بالمقام معهم في تلك الثغور.

المسالة الخامسة: فلا شيء يتعلق بها، بل هي قائمة بنفسها وبجميع الفصول.

وبعد هذه المسائل جعل للكتاب خاتمة، ضمنها الكثير من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية التي تدل على الابتلاء، والامتحان، الذي هو سنة الله في خلقه، كما حث فيها على الصبر في الشدائد والتمسك بالكتاب والسنة، هذا إلى جانب الكثير من المواعظ والعبر، ووقائع الأنبياء، والصالحين وما اتصفوا به من التقوى وورع.

المبحث الثالث:

منهج الإمام التسولي في تناول مسائل الأمير عبد القادر في أجوبته.

المطلب الأول: منهجه الاجتهادي في الفتوى.

أولا . استنباطه من الكتاب:

الاستنباط من الكتاب والسنة ملمح بارز في فكر الشيخ أبي الحسن التسولي، حيث نجده يستند في أجوبته على أساس من الكتاب والسنة، ويبدو انه مطلع اطلاعا وافيا على التفاسير وكتب الحديث وشروحها.

فقد احتج بنصوص من الكتاب، وبأقوال المفسرين في الكثير من أجوبته، ومن أمثلة ذلك:

1- جوابه فيما يفعل مع قبائل الزمان المنهمكين في الحرمات والعصيان، هل لهم من عقاب أم يتركون على حالهم؟

فأفتى بقتلهم، واستدل على ذلك بقوله تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)، أي: لو أن الله أقام السلطان في الأرض، لدفع القوي عن الضعيف لفسدت الأرض، بتواكب الخلق بعضهم على بعض، فلا ينتظم لهم الحال ولا يستقيم لهم قرار.

ولازال الأئمة قديما وحديثا يندبون السلاطين، ويحثونهم على قتال من اتصف من القبائل أو غيرهم بتلك الصفات.

2- جوابه عن دليل عقوبة كاتم الجواسيس، والغصاب وغيرهم ممن يستحق العقاب، لما في ذلك من الفساد، وإدخال الضرر على المسلمين في دينهم ودنياهم، وهو قوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبأس ما كانوا يفعلون)[1].

وقوله تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون)[2].

وقوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)[3]، والكتمان على الجواسيس والغصاب، أو عدم التناهي عن المناكر، أو مخالطتهم إثم وعدوان، فكيف بحمايتهم، أو مواساتهم كما هو الموجود من أهل الفساد؟

فهذه النصوص كلها صريحة في وجوب العقاب لمن ارتكب معصية كتمانا كانت أو غيره.

3- ومن ذلك أيضا جوابه عن حرمة ترك الإمام الرعية على ما هم عليه، لان نصب الولاة والأئمة فرض عين لزجر من ارتكب من الرعية شيئا من الحرمات والعصيان، ومن الأدلة التي استدل بها على ذلك من القران الكريم، قوله تعالى: (وان حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين)[4].

ومنه قوله تعالى: (فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين)[5]، ومنه كذلك قوله تعالى: (من يتق الله يجعل له مخرجا)[6]، وقوله تعالى: (من يتق الله يجعل له من أمره يسرا)[7]، ومنه قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤذوا الأمانات إلى أهلها)[8].

فهذه النصوص كلها صريحة في حرمة ترك الإمام الرعية على ما هم عليه من المعصية.

ثانيا . استنباطه من السنه:

كان للعلامة أبو الحسن التسولي اهتمام كبير بالسنة النبوية، فكان في أجوبته يرجع إلى كتب متونها، ويعزو إليها كصحيح البخاري ومسلم، كما كان يرجع إلى كتب شروحها ك: ” البيان والتحصيل” لابن رشد.

ومن أمثلة استنباط الشيخ التسولي من السنة واستدلاله بها:

1- استدلاله على جواز صلح العدو الكافر دمره الله، إن كان مطلوبا، وفي عدم جوازه طالبا، فالجهاد في الثاني فرض كفاية، واحتج على ذلك بأحاديث كثيرة، منها، ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزراعة، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا، ولا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)[9].

قالوا: ومعنى الحديث، أن الناس إذا تركوا الجهاد، واقبلوا على الزراعة ونحوها، سلط الله عليهم العدو لعدم تأهبهم له، ولعدم استعدادهم لنزوله لرضاهم بما هم فيه من الأسباب، فأعطاهم ذلا، وهو: أنهم لا يتخلصون من عدوهم حتى يرجعوا إلى ما هو واجب عليهم من جهاد الكفار، والاغلاط عليهم، وإقامة الدين ونصرة الإسلام.

2- واستدلاله بالسنة كذلك في جوابه عن حكم من ساكن في بلاد الكفار، وقام معهم في تلك الثغور؟

فقال بان الهجرة والخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، كان فرضا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من كل مسلم مقيم بين اظهر المشركين، قالوا: يا رسول الله، لم؟ قال: لا تتراءى نارهما)[10]. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تساكنوا المشركين، ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم، أو جامعهم فهو منهم)[11].

ثالثا . اعتماده للمقاصد الشرعية واحتجاجه بالقواعد الاصولية:

لقد اختط الشيخ أبو الحسن التسولي، منهجا اجتهاديا مقاصديا يساير الأحوال والظروف، ويراعي الضرورات، ويجنح إلى التيسير والتسهيل على الناس، معتمدا في كل ذلك على المقصد الشرعي (التيسير)، مراعيا خصوصية المكان (الجزائر) الذي يعيش فيه الأمير عبد القادر.

ولقد جعل الشيخ الطاهر بن عاشور في كتابه “مقاصد الشريعة الإسلامية”[12]، التيسير مثالا للمقاصد الشرعية القطعية، مستدلا على ذلك بتكرر الأدلة القرآنية الدالة عليه تكررا ينفي احتمال قصد المجاز أو المبالغة، قال تعالى: )يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر([13]، وقال تعالى: )وما جعل عليكم في الدين من حرج([14]، وقال تعالى:) يريد الله أن يخفف عنكم([15]. وكذلك الأحاديث النبوية الكثيرة التي تدل على التيسير على الأمة، منها قوله صلي الله عليه وسلم: لمعاذ وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن:(يسرا ولا تعسرا)[16]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)[17].

يقول ابن عاشور: (فمثل هذا الاستقراء يخول للباحث عن مقاصد الشريعة، أن يقول إن من مقاصد الشريعة التيسير؛ لأن الأدلة المستقرأة في ذلك كله عمومات متكررة، وكلها قطعية النسبة إلى الشارع؛ لأنها من القرآن وهو قطعي)[18].

وهكذا كان مبدأ التيسير مهيمنا على فكر الشيخ أبو الحسن التسولي، وكان ينص في أكثر أجوبته الخارجة عن المذهب على أنه إنما أفتى بها للضرورة، نظرا لخصوصية الزمان وظروفه الطبيعية، والاقتصادية، والسياسية القاسية التي تتميز بضعف الدولة الجزائرية.

1- فأفتى مثلا فيما لا يجوز للنصارى بيعه، ولا يحل لنا أن نمكنهم بوجه من تناوله، فقال: (جاء في المدونة، قال مالك: لا يباع من الحربي سلاح، ولا كراع – أي الخيل – ولا سروح، ولا نحاس، ولا خرثي[19]).

قال المازري في شرح التلقين: ( أما الطعام فذكر ابن الحبيب انه يباع ممن بيننا وبينهم هدنة، ولا يباع ممن لا هدنة بيننا وبينهم، ويمكن أن يكون أراد منع ذلك في زمن حاجتهم إليه فيكون بيعه منه قوة لهم علينا)[20].

وقال التسولي: (ومنهم ابن القاسم مطلقا، في هدنة أو غيرها، وهو المذهب كما في المعيار).

وقال: ( أما ترجيح بعضهم قول ابن الحبيب بجواز بيع الطعام منهم في الهدنة، ووقت الرخاء خلاف المذهب…) إلى أن قال: (إلا بان تأكدت الحاجة إلى شيء من ذلك، فانه تراعى حينئذ المصلحة العامة، لأنه إذا تعارض ضرران ارتكب أخفهما.

فيجتهد في المصلحة حينئذ، فان كان ما طلبوه من البقر، والجلود، والحديد ليس فيه كبير تقوية لهم، ولا توهين للمسلمين لقلتها بالنسبة لحال المسلمين، ولحال ما يؤخذ منهم من الانفاض ونحوهما، جاز حينئذ شراء الانفاض والبنت ونحوهما بالبقر والجلود، دفعا لأثقل الضررين بأيسرهما..) إلى أن قال: ( وأما بيع الات الحرب، من السلاح ونحو للعدو لاحتياج المسلمين إلى القوت، لشدة الغلاء عندهم فإنهم لم يجوزوه بحال).

2- ومن ذلك أيضا جوابه في معاقبة العاصي بالمال، وان كان فيه من الخلاف في القديم والحال بين الأئمة، إلا انه رجح ما تكون فيه المصلحة، فقال: (إذا تعذرت إقامة الحدود، ولم تبلغها الاستطاعة – أي الإمام – وكانت الاستطاعة تبلغ تعزير يزدجر به: تنزلت أسباب الحدود منزلة أسباب التعزيرات، فيجري فيها ما هو معلوم في التعزير.

وليس المراد أن الحد يسقط بذلك، ولكن غاية ذلك ما تصلحه الاستطاعة في الوقت دفعا للمفسدة ما أمكن، فان أمكن بعد ذلك إقامة الحد، أقيم إن اقتضت الشريعة إقامته، والظالم أحق أن يحمل عليه).

واستدل بذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (فخذوا سلبه)، أي: عاقبوه بأخذ ما له على معصيته التي ارتكبها، فان تمحض الحق لله كالصيد في الحرم، وعدم التناهي عن المنكر، وإخراج الزكاة عن وقتها مثلا مع قضائها في غير وقتها، والأكل في رمضان نهارا فإنما يؤخذ سلبه، أي: ماله فقط.

وإذا كان الحق لله ولأدمي،  فيؤخذ ماله لحق الله، ويغرم بعد ذلك حق الآدمي، إذ ما من حق لأدمي إلا وفيه حق لله الذي هو: إثم الجرأة والإقدام.

رابعا . الاستدلال بالعلوم السياسية والعسكرية:

يبدو الشيخ أبو الحسن التسولي، من خلال أجوبته انه كان متطلعا من العلوم السياسية والعسكرية، يرجع إلى القواعد العسكرية، والكتب التاريخية ليشد بها آراءه ليقنع بها الأمير.

ففي جوابه له فيما ينبغي للإمام فعله فيمن يجب استنفاره من الرعية، وكيفية التدريب للحروب، وذكر مكائد بها يظفر الإمام المرغوب، استدل بمجموعة من القواعد العسكرية، منها:

القاعدة الاولى، “النصر مقرونة بالثبات والصبر”: ومن خلالها يجب على الإمام ألا يستنفر إلا من كان فيه نجدة الصبر والشجاعة، لان الأبطال هم المتصفون بالصبر للقتال.

القاعدة الثانية، “ترقية الجنود”: قال التسولي: (يقربهم إليه بالمنزلة والمكانة، ويوسر إليهم، ويعدهم وعدا جميلا، ويقوي أطماعهم في أن ينالوا ما عنده من الهبات الفاخرة، والولايات السنية، ويجعلهم مقدمة الجيش)

القاعدة الثالثة، “أسد يقود ألف ثعلب، خير من ثعلب يقود ألف أسد”: ومن خلالها يجب على الإمام أن يختار الرجل القائد الذي يقدم الجيش، ويجب أن يتصف بالبسالة، والنجدة والشجاعة.

القاعدة الرابعة، “التدريب قبل الحرب”: لذلك يجب على الإمام أن يهتم بأمور الجهاد، فيأمر كل قبيلة بتعليم الحروب، والتدريب حتى إذا احتاج الأمير إلى إقامة جيش لفجئ العدو ونحوه أقامه في ساعة واحدة من الأبطال.

القاعدة الخامسة، “تثبيت الجواسيس في عسكر العدو”: قال التسولي (أهم ما ينبغي للأمير قبل القتال، أن يبث الجواسيس الثقات عنده في عسكر عدوه، ليتعرف أخبارهم، وما عندهم من العدد والآلات، ويحرز أعدادهم، ويبحث عن أسماء رؤسائهم وشجعانهم، ويدس إليهم ويخدعهم بما تميل إليه طبائعهم، ليغدروا بصاحبهم أو يعتزلوه وقت القتال، ويكتب أخبارا مزورة تطابق ما وصل إليه من الجواسيس، ويطرحها في جيش عدوه على ما تقتضيه الحال، ولا يبخل بما يصرفه على ذلك، فانه إن كانت النصرة له فلا يضره ما انفق، وان كانت عليه فلا ينفعه ما خلف).

القاعدة السادسة، “ترغيب الجنود في الشهادة”: ويكون ذلك بعد مجلس يكثر فيه من قراءة الأحاديث الواردة في فضائل الجهاد وأنواعه، وقراءة كتب الغزوات، ووقائع العرب وأيامها، وفتوحات المسلمين، ومنازلات الأبطال، ومعارك الشجعان من الصبر الشديد، والانغماس في العدو الكثير، فيوكل الطلبة بان يقرءوا ذلك في كل طائفة من جيوشه، فان ذلك يقوي قلوب ذوي الأيمان، ويذهب بالضعف من قلب الجبان).

القاعدة السابعة، “غض الأصوات وعدم التكبير عند اللقاء”: قال الطرطوشي: (كثرة التكبير عند اللقاء فشل، غضوا الأصوات وتحملوا السكينة والصبر، فإنهما سبب الظفر والنصر).

خامسا . الاستشهاد بوقائع تاريخية:

قال التسولي بعدما استشهد بمجموعة من الوقائع التاريخية في اجوبته، قال: (فانظروا – ايدكم الله – كيف قرن الله بالصبر في هذه الوقائع).

الملاحظات والنتائج:

اختم هذا التقرير بتسجيل جملة من الملاحظات خلال معايشتنا لفتوى هذا العالم، نستعرضها في ما يلي:

أولا . أسلوب الفتوى:

أسلوب التسولي في هذه الأجوبة، أسلوب علمي يتميز بالشرح والتحليل والنقد والترجيح مما يساعد على استيعاب الأفكار، والمعنى حتى في معالجته لهذا الموضوع الصعب في طبعه ألا وهو الجهاد.

ثانيا . اثر الفتوى:

توصل الإمام التسولي من خلال هذه الأجوبة، على أن الفقه الإسلامي قادر على استيعاب المستجدات، والنوازل المطروحة، بدليل انه أجاب على كل ما يتعلق عن مسائل الأمير عبد القادر في الجهاد.

ثالثا . قيمة الفتوى:

لفتوى التسولي في الجهاد أهمية كبرى، فهي ذات منحى اجتهادي، تصلح حتى لواقعنا المعاصر، حيث انتهج الشيخ التسولي نهجا يراعي الضرورات، ويجنح إلى المقاصد الشرعية، ويرجع في الاستنباط إلى الكتاب والسنة، ويتخير من المذاهب ما يراه أقوى دليلا، واكثر موافقة لحال الناس، وهو منهج خصب، غني يمكن للفقهاء أن يستفيدوا منه في عصرنا في فتاويهم وأحكامهم فيجدوا حلولا لكل ما يشكل من أحكام الجهاد في عصرنا.

[1] – المائدة: 78 – 79.

[2] – هود: 113.

[3] – المائدة:2.

[4] – المائدة: 42.

[5] – الحجرات: 9.

[6] – الطلاق: 2.

[7] – الطلاق: 4.

[8] – النساء:

[9] – رواه ابو داود، وقال حديث حسن.

[10] – اخرجه ابو داود في سننه كتاب الجهاد، والنسائي في سننه كتاب القسامة.

[11] – اخرجه الترميذي في سننه كتاب السير.

[12] – انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية: 235.

[13] – البقرة: 185.

[14] – الحج: 78.

[15] – النساء: 28.

[16] -متفق عليه: رواه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة من عصى إمامه، برقم: 2873، ومسلم في كتاب: الجهاد والسير، باب: في الأمر بالتيسير وترك التنفير، برقم: 1733.

[17] – رواه البخاري، في كتاب الوضوء، باب: صب الماء على البول في المسجد، برقم: 217.

[18] – مقاصد الشريعة الإسلامية: 235.

[19] – الخرثي: بالضم: اثاث البيت.

[20] – المازري، التلقين، ص: 168.

 

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى