الاعلاميةالدراسات البحثية

الرأي العام – بين التضليل والتغيير !

اعداد : د. محمد أبو النواعير – دكتوراه في النظرية السياسية- المدرسة السلوكية الأمريكية المعاصرة في السياسة

  • المركز الديمقراطي العربي

 

مقدمة :

ارتبط مفهوم الرأي العام بتطور بنية الفعل السياسي في الحياة الاجتماعية, وانتقاله من حيّز النخبوية السياسية الدكتاتورية (ملوك وإمبراطوريات), وما يحيط بهم من فئات مقربة في العصور القديمة, إلى مستوى أدنى سلطوية, ألا وهم النخب المفكرة في العصر الحديث, حتى باتت عملية التحكم بخلق وتحريك الرأي العام, تعتمد على نوع من أنواع الفيض العلوي من النخب إلى العوام.

في وقتنا الحاضر (المعاصر), قاد التطور التكنولوجي في البيئة الرقمية الجديدة, إلى تغيير نمط وأساليب تكوين وبلورة وتحريك الرأي العام, ومن ثم السيطرة عليه, من خلال إعادة إنتاج وتوزيع محتوى مكونات الوعي التثاقفي, والذي بات يُنْقَل من الجميع إلى الجميع، دون واسطة أو سيطرة، وهو ما حوَّل الانتباه باتجاه الحوامل الجديدة والمحتوى نفسه الذي تزداد أهميته بين الفاعلين، أفرادًا ومؤسسات ودولًا، ليس فقط في إبراز التَّمثُّلات والرؤى حول القضايا والأحداث الجارية، وإنما في الصراع الرمزي والقيمي بين مختلف القوى عبر حروب إعلامية تُسْتَخْدَم فيها جميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة، وتُسْتَثْمَر فيها أيضًا خصوصية البيئة الرقمية التي تُؤَمِّن مجالًا واسعًا لانتشار السرديات البديلة في زمن اتصالي أفقي.   ([1])

هذا التوسع وحالة السيولة والتدفق المستمر في مجال الإعلام الرقمي, حقق حالة من انفلات القيود الرمزية التي كانت تحكم عملية التسلسل في نشر المعلومات, وأربكت كل أنماط السيطرة التي يمكن الاعتماد عليها في ذلك. وفي سياق هذا الصراع الرمزي، أصبح المجال الرقمي-الشبكي بنموذجه الاتصالي الأفقي والعمودي، وحالته الإعلامية السائلة وتمدُّد شبكاته ومنصاته، كنوع من أنواع تكوين الوعي المجتمعي, بأنماطه الثلاثة: السياسي والاجتماعي والأخلاقي، وتداخل ذلك كله في عملية صنع (وهم الحقائق)، والذي بات مسيطرا على مجمل النسق الإعلامي الذي تحكمه تكنولوجيا الرقميات، فكان لاصطناع الأخبار والوقائع وفَبْرَكَةِ البيانات، فضلًا عن تزييف الأحداث وتركيب سياقاتها, بإتباع نماذج التهويل والمبالغة , أو التسخيف والتتفيه للمواقف الكبيرة, أو التحوير والتكتم، أثرا كبيرا في تغيير أو تخريب موازين ومعادلات سياسية واجتماعية وأخلاقية, واقتصادية أيضا. وتفاقم ذلك مع اندثار سلطة حارس البوابة، لاسيما في شكله الرقابي، بعدما كان الإعلام التقليدي بنموذجه الإخباري العمودي، يُمَكِّن شبكة الحراس من التَّحكُّم في الحلقات الإستراتيجية لعملية الاتصال والسيطرة على سلاسل إنتاج المحتوى. فلم تعد هناك أية سلطة تُحدِّد مدخلات ومخرجات المحتوى –وتبتُّ فيما يُنْشَر وما لا يُنْشَر عبر منصات إعلام الفرد والنَّحْنُ، خاصة الإعلام الاجتماعي، ووصوله إلى المتلقي. ([2])

لقد اعتمدت عملية صناعة الرأي العام على تشكّل النماذج التواصلية والتثقافية، والتي تحكم التنظيم السياسي الثقافي للمجال المجتمعي، حيث تعد من أهم طرق تشكل مفهوم الفضاء العمومي(*) , وبطبيعة الفاعلين فيه, وبأشكال إنتاج الخطابات داخله. كما أن مقاربة المجال الإعلامي, من خلال مفهوم النماذج، يسمح بفهم العلاقات المعقدة لوسائط الإعلام في حركة المجتمع. ([3])

ساهمت موجات الحداثة المشوهة، والتي تفاقم ورودها على مجتمعاتنا المحافظة, في تحقيق نوع من (التناقضية الداخلية) في مكونات الوعي الثقافي للأفراد والمجتمعات, وكان لأدوات الإعلام الرقمي، ومناهجه الحرة الغير مقيدة، والتي يصعب اصطيادها بمصيدة الانضباط القانوني، دورا كبيرا خلق حالة من التشويش ولا ثقة تدريجية, بكل نتاجات الواقع, خاصة إذا علمنا أن قيام المجتمع يجري في أسسه التحتانية على مبدأ التوافقية الانفعالية ما بين الذات، وما بين مخرجات الفضاء المجتمعي العمومي من قيم محددة للسلوك، وبما أن مجتمعاتنا لم تمر بمخاض الحداثة، ولم تتدرج في نتاجاتها بتراتبية الخطأ والصواب الناتج عن المنهج التجريبي، لذا نجد أن إنتقائية مجتمعاتنا لمفاهيم الحداثة، قامت في أغلب اسسها على طبيعة تراخي وكسل معرفي، وتغليب لسنن في اغلبها بالية تعارض أية نهضة صحيحة؛ وهو بعكس ما حصل في الغرب، فقد كان ظهور الفضاء العمومي, في المجتمعات الغربية، والذي تحول إلى نتاج من نتاجات الحالة الإعلامية بشكلها الصحّي والصحيح, مرتبط بظهور الحداثة: مكانة العقل والفرد وتغير أشكال الشرعية. أما في المجتمعات العربية, فإن مشكلة الفضاء العمومي تشير إلى الأنساق التي تعمل داخل هذه المجتمعات: أنساق التحديث من جهة, وأنساق التراث من جهة أخرى. ([4])

عملية صنع الرأي العام في مجتمعاتنا، وبالأخص منها العراق، تقوم على عملية تشويش شديدة القوة في المدخلات، والتي تكون مهمتها توفيق الذات مع أحداث مجتمعها, كما ساهمت صعوبة الأحداث مع الإنفتاح الثقافي الكبير, والحالة الصراعية التي تبنتها وسائل الإعلام المختلفة, في التأسيس لكل ذلك التشويش، وهذا قاد إلى وجود حالة من عدم التأسيس لرأي عام موحد وصادق وصحيح, يقوم على أسس تكوينية (اجتماعية وسياسية واقتصادية وإعلامية صحيحة).

الرأي العام, ومجالات التضليل والفبركة :

الرأي العام هو في جوهره موقف يتخذه الفرد أو الجماعة, نتيجة حادثة أو مشكلة أو تغيير، يحصل في سياقات الحياة المعاشة، لذا فهو يقوم في أسسه على مكونات كثيرة, وتراكمات  تربوية وثقافية، منها ما يكون فطريا يسير بحسب سياقات خصوصية الفعل الاجتماعي لأي مجتمع، وفي أحيان أخرى يتم شحذها أو تسييرها بمعطيات مصطنعة ومفتعلة, من جهات إما تريد تثبيت حالة الوعي المجتمعي, على فهم معين وظاهر، أو تريد حرف أو تغيير أو تقليل وطأة فهم تلك الحادثة، لذ اقترنت عملية تشكيل الرأي العام بمحددات واشتراطات وأدوات متنوعة, تختلف في شدتها وقوتها وضرورة توافرها، بحسب طبيعة المجتمع, وطبيعة الحدث وقوته وشدته, ومقدار امتلاك جهات التأثير لأدوات كامنة وظاهرة, تمكنها من أعادة تشكيل الرأي العام أو حرفه .

في عصرنا الحالي, تداخلت أدوات المنهج الإعلامي كثيرا, كاختصاص قريب وقوي جدا, من عملية صنع الرأي العام (إعادة هيكلة وتشكيل, أو إعادة ضغط ونشر, وأحيانا الاكتفاء بحرف الاتجاه), وعادة ما يقوم الرأي العام على سردية متكاملة, توفر حالة الإقناع لدى الفرد والمجتمع, وبغض النظر عن صحة مقدمات ومدخلات هذه السردية من عدمه، فإن صناعة الرأي العام المضلل أو الكاذب، غالبا ما تخضع لتحليل آليات صناعة الأخبار الكاذبة وسيرورتها، وإستراتيجية محاصرة الرأي العام بالسرديات البديلة للقائم بالتضليل أو الفبركة، من خلال إتباع نموذج (لولب الحصار المعلوماتي)(*) ؛ يهتم هذا النمط بكيفية اشتغال الأخبار المزيفة لتسييج الرأي العام والسيطرة عليه، عبر التشويش والاحتيال على منصات الإعلام الرقمي ووسائل الإعلام بشكل عام لاستغلال بياناتها واختراق المنصات المُنَافِسَة في مرحلة أولى، ثم الانغمار في ضخ المعلومات والبيانات المفبركة والتحليلات المزيفة عبر موجات وهجمات لَوْلَبِيَّة عاصفة، من قِبَل شبكة المفبركين في مرحلة ثانية، ثم التسويق الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي لفكرة الحدث, لخطاب شبكة المفبركين وسردياته البديلة، عبر جميع وسائل الإعلام التقليدية والجديدة للتأثير في الرأي العام معرفيًّا ونفسيًّا وسلوكيًّا في مرحلة ثالثة. ([5]) وأفضل مصداق على ذلك، هو ما تمر به حالة تشكل الوعي الثقافي والسياسي والاجتماعي في العراق، مع مقدار ما مورس بحق عملية التشكّل هذه من تضليل وتشويش وأكاذيب, حتى باتت العملية التحليلية الفطرية لدى كل فرد، يشوبها عدم الثقة وعدم الاطمئنان للمدخلات التي توجه نحوها، وباتت الحقيقة مساوية في نصوعها، مع ما يتم ضخه من أكاذيب وتشويش، كل ذلك جرى في إطار مفرط في حريته وتقبله لهذا النمط المعلوماتي الفوضوي، مع عدم قدرة المؤسسات الأكاديمية والتربوية والأخلاقية المجتمعية والسياسية، من إيجاد مناهج تعليم وتطوير ووقاية فكرية وتربوية، تتوائم (في قوتها) مع التطور والانفتاح الحاصل في عملية التثقيف السريعة والمتنامية، والتي ساهمت وسائل الإعلام الاجتماعي والسياسي، في بناء وتتهديم الكثير من بناها الأساسية في المجتمع.

عادة ما تتضافر أدوات الجهد الاتصالي, وتتحد من خلال تمثلاتها المؤسسية (مؤسسات إعلامية، مؤسسات استبيانات، وغيرها) من اجل خلق حالة من حالات تسييج الرأي العام, وكل ذلك يقوم على نتائج الأبحاث التي تُجْرَى حول الجمهور الذي يُرادُ محاصرته وتسييجه بالأخبار المفبركة، خاصة فيما يتعلق بعاداته الاتصالية وأنماط التفضيل، لوسائل الإعلام التقليدية ومنصات الشبكات الاجتماعية، واحتياجاته المعرفية والسياسية، وتطلعاته الاقتصادية، وميوله واتجاهاته النفسية والأساليب والبرامج التي قد تساعد في التأثير على سلوكه وخلق الاستجابة لرغبات القائم بالفبركة.

سيكيولوجيا صناعة الرأي العام :

تقوم سيكولوجية صناعة الرأي العام على عدد من المبادئ والأوليات, وهي تتنوع أحيانا بين مناهج قصدية موضوعة ومرتبة، من قبل جهات ومؤسسات متخصصة، وبين أنواع أخرى تنشأ نتيجة التحرك الفطري الغريزي للوعي المجتمعي، في تعاطيه مع ما تمر به من أحداث.، لذا ينظر إلى ظاهرة الرأي العام على أنها ظاهرة معقدة يصعب تحليلها إلى أجزائها تحليلا بسيطا بل تتداخل مجموعة من العوامل و المؤثرات المختلفة في تكوينها: مؤثرات سيكولوجية وسياسية وثقافية و اجتماعية، تتكون كلها وتتقعد من مجموعة من القيم و المعايير التي تحكم إدراك الفرد وسلوكياته .

ويعتبر المدخل السيكولوجي من أهم مداخل تكوين الرأي العام, وتقعيد مدخلاته المعرفية والتحليلية في بنية الوعي والتفكير المجتمعي، حيث تعد مرحلة الإحساس و الإدراك، من المراحل الأولى والمهمة التي يتعرض فيها الفرد لمجموعة من المنبهات والمثيرات عن طريق حواسه التي تعد مفاتيح المعرفة و صلاته بالعالم الخارجي و البيئة الخارجية، و يبدأ الفرد في إدراك هذه المؤثرات إدراكا حسيا، إلا أنها لا تقف عند مجرد إدراكها عن طريق الحواس بل يحاول الإنسان أن يدركها كرموز ثم يعطي لهذه الرموز معنى أو معاني معينة، تساعد بعد ذلك في تكوين رأي يكون جزءا من رأي عام.([6])

ولا يمكن أن تكتمل عملية الإدراك, دون ترجمتها لفظيا ، فينتقل فيها الفرد إلى المرحلة التي يقوم فيها بالتعبير اللفظي, حيث تندمج فعاليات العقل التحليلية، مع تم استقباله من مدركات حسية, في محاولة لتكوين تصور لفظي عن الموضوع. وبالإشارة عن ميوله و اتجاهاته النفسية حول الموضوع المثار فان الفرد يحدد لنفسه موقفا معين لهذا الموضوع مؤيدا أو معارضا له و موقف الفرد حول موضوع ما قد يختلف عن الموقف الذي يمكن أن يتخذه الأفراد الآخرون، لأن تصرفات الناس و استجاباتهم لا تكون نتيجة لملاحظات موضوعية عن العالم الخارجي بل في حقيقة الأمر مبينة على التصرفات الذاتية أو الصور الذهنية الكافية في نفوس الناس.

انتقال الفرد من مرحلة المستقبل للمعطيات، إلى مرحلة تكوين النتائج, تدخله في حالة تصادم أو تضارب مع الآخرين، في حالة شبه صراعية، تنادي باختيار أفضل النتائج والآراء، وهي مرحلة  صراع الفرد مع آراء الجماعة، وفي هذه المرحلة تدور المناقشات و الحوار و الجدل الذي يصل إلى حد الصراع بين رأي الفرد و آراء الأفراد الآخرين في نطاق جماعة معينة أو جمهور معين ممن لديهم اهتمام بالموضوع و كل منهن يحاول الدفاع عن رأيه مستخدما في ذلك كل ما يتوافر لديه من معلومات وتلعب وسائل الاتصال دورا حيويا في ذلك عن طريق عرضها للآراء المختلفة. ([7])

وبحسب قوة المجموعة, وقوة أدواتها وأدوارها المجتمعية، وبحسب قوة اتفاق المجموعة على فكرة تشكل قناعة لأغلبهم، تتحول حالة الصراع بين الفرد والجماعة إلى مرحلة تحول آراء الأفراد إلى آراء الجماعة، أي تحصل عملية القبول إما من خلال القسر الاجتماعي، أو التطبيع، أو الاقتناع التام، حيث يتم التقريب بين وجهات النظر المختلفة و المتباينة وتأخذ المناقشة في الاتجاه نحو التركيز حول رأي معين يميل إلية اغلب أعضاء الجماعة أو الجمهور، ويصبح هذا الرأي رأياً عاما بغض النظر عن وجود بعض الآراء الأخرى التي قد يتبناها أقلية في الجماعة أو الجمهور، وعادة ما يكون لمنهج المتبع في هذه الحالة, هو منهج يتضمن نوعا ما حالة قسرية، تجبر الفرد من أجل التوافق مع الجماعة، لكي يقتنع بالتدريج بخطابها العام، ممثلا ما يسمى بحالة الانصياع للجماعة. ([8])

وبما أن الرأي العام من منظور أوسع يعد نوعا من أنواع الوفاق الجماعي، بشأن الأمور السياسية والمدنية، تتوصل إليه الجماعات المكونة للمجتمع الأكبر, ويمكن أن تتنوع هذه الجماعات من كيانات صغيرة إلى جماعات ومجتمعات دولية ضخمة. ([9]) لذا كان هناك الكثير من النماذج التي وضعها المختصين، لتفسير طرق وآليات تشكيل الرأي العام المقصودة والممنهجة، منها “نموذج احتمالية التفصيل”, والذي كان يستخدم في الأصل في فحص عملية تكوين الاتجاهات، ثم تطور ليشمل المعارف أيضا، ويبين هذا النموذج أن أمام الأفراد مسلكين للتعليم: المسلك المركزي والذي يتطلب قدرا كبيرا من الفكر, والمسلك الخارجي والذي يشتمل على مستوى منخفض جدا من الفكر, وتؤثر الدافعية وقدرات التعلم على المسلك الذي يتخذه الفرد في أي موقف, وذلك بحسب مستوى الدافعية إلى المعرفة بالأخبار السياسية يختلف كثيرا بين الأفراد, لأن لدى المواطنين حافزا ضئيلا للانخراط في التحليل المعقد, لذ لا يمكن معالجة الإعلانات السياسية المعقدة والتي تشتمل على قدر كبير من المعلومات بكفاءة لأن الأفراد يعالجون الإعلانات من خلال المسلك الخارجي، ويبتعدون عن نمط المركز المركزي([10])، والذي يحتاج إلى قابليات وأدوات ومناهج مدروسة ومتقنة، تحتاج لفترات طويلة من التدريب والتأهيل.

جانب آخر، نجد أحيانا أن هناك تداخلا بين كلا النمطين المذكورين أعلاه، فقد ينبري فرد من الجمهور، إلى متابعة ومراقبة معلوماتية حثيثة، ويقوم بجمع أكبر قدر من المعلومات، ويقدمها جاهزة إلى الجمهور، وهي ما تسمى نظرية (المواطن المراقب), والتي تقوم بوصف الحالة التي يجمع فيها المواطن المعلومات في عصر تتوفر فيه تلك لمعلومات بكثافة وفي رأيه أن معظم الأفراد يراقبون الأخبار ولا يقرؤونها عن كثب, وباستخدام هذه الإستراتيجية، يمكن تنبيههم إلى مشكلات خاصة بالعديد من القضايا, وعلى الجانب الآخر, يلاحظ أن المواطنين المراقبين, لديهم معرفة بعدد من القضايا أكبر بكثير من المواطنين في الماضي, لذا فهم يميلون إلى الدفاع رد الفعل أكثر من المبادرة. ([11]) إلا أن دور هذا النمط يبقى محددا مشوشا, لا يمكن الأخذ بمصاديقه بشكل علمي متقن، لأنه مفتقر للأدوات العلمية والمنهجية والموضوعية التي تؤهله لقراءة بواطن الحدث، أو التمكن من استشراف تطوراته المستقبلية .

الرأي العام وضعف النخبة :

عادة ما يتحرك الرأي العام بناءا على تكون فكرة ابتدائية لدى فرد أو مجموعة، ومن ثم تبدأ مقبولية هذه الفكرة تتحول إلى تصور تفسيري أو اعتباري مقبول، ومن ثم يبدأ بالانتشار بشكل تدريجي 0سريع أو بطيء بحسب قوة تسارع فواعل الحدث)، إلى أن يتحول إلى قناعة علنية أو مضمرة, تجاه حدث أو موقف معين، أي أن الرأي العام يحمل في بنيته التحتية، حالة تقيميّة للموقف أو الحدث, والتقييم يستند عادة إلى عدد من المؤشرات والمواقف والأفكار والانفعالات.

إن تطور أنماط الإعلام من مقروء إلى مسموع, إلى مرئي، قاد إلى تطور أدوات التلقي في ذهنية الفرد والمجتمع, من ناحية سرعة التفاعل والهضم والاستيعاب، وبالتالي تكوّن الرأي العام، وقاد من ناحية أخرى إلى انفلات حالة التسييج والسيطرة والفلترة، والتي كانت بالعادة تنطلق من نخبة عالية الثقافة، إلى جمهور في أغلبه بسيط، ويجري تخفيف الأفكار العالية المركزة، ليتم تزريقها في الوعي المجتمعي، لذا كانت صعوبة التعشيق بين أفكار النخبة، واستيعاب أفراد الجمهور، في زمن ما قبل التلفيزيون والراديو، أمر تشوبه الكثير من الصعوبات من ناحية، لكن كان بالإمكان السيطرة على الرأي العام وقيادته والتأثير به.

تحولت صناعة الرأي العام إلى حالة مسموعة ومرئية بعد انتشار الإعلام المسموع والمرئي, وهذا قاد إلى عملية إزاحة لدور النخبة نوعا ما في عملية التأسيس لخطاب يقود الرأي العام، لم يعد الرأي العام نتاجا للنقاش الحر العقلاني, بل أصبحت تصنعه الدعاية,فتحولت العقلانية التواصلية التي تأسست عليها الحداثة, إلى عقلانية إستراتيجية تحكم الفضاء العمومي, وجعلت منه مجالا لممارسة التسويق السياسي والدعاية والإشهار التجاري. تستقطب وسائل الإعلام الجديدة جمهور المشاهدين والمستمعين, ولكنها تسلبهم في الوقت ذاته تلك المسافة التحررية, أي إمكانية المحاججة والكلام والنقض.([12])

في الوقت الحاضر، وبعد تطور تكنولوجيا الاتصال عبر شبكات التواصل الاجتماعي، تحول الفرد إلى منظومة إعلامية تساهم (لوحدها أحيانا) في صناعة رأي عام، أو التأثير به على أقل تقدير، وليس بالضرورة أن يكون هذا الفرد من النخب المتعلمة، أو ممن يمتلكون إستراتيجيات تفكير متقدمة، بل يكفي أن يتقن هذا الفرد أو هذه المجموعة، أدوات السيطرة على (التفكير الوجداني- الانفعالي)، ليحرك فئات وقطاعات كبيرة من المجتمع، تحركا تتفاعل معه هذه الفئات بجدلية نقاش سطحية تقود إلى تكوين رأي عام، قد تنتشر مديات تأثيره وتصل حتى إلى طبقة المثقفين.

البعض يرى بأن التطور في مديات الإعلام المسموع والمرئي، وأخيرا الالكتروني، قاد إلى تكسر الحاجز الثقافي والتمييز الطبقي بين الفئات، فتوسعت دوائر الاستقبال وشمل ذلك كل البشر, خاصة بعد اختراع الراديو والتلفزيون، عندما أصبح استقبال الصورة، وإعادة إنتاج خبر أو فكرة، لا يحتاج إلى إجادة القراءة، بل هو في الغالب لا يحتاج إلى الكلمات أصلا, وهنا دخلت فئات لم تكن محسوبة على قوائم الاستقبال الثقافي, وأدى هذا إلى زعزعة مفهوم النخبة وصار الجميع سواسية في التعرف على العالم واكتساب معارف جديدة والتواصل مع الوقائع والثقافات.([13])

الواقع أن القضية لا تتعلق بتمييز طبقي بين الفئات، أكثر من كونها تتعلق بتطور مفاهيم الجهد المبذول من قبل النخب، في سعيها لتشكيل رأي عام أو السيطرة عليه، ما هو مطلوب الآن من النخب الفكرية والعلمية، هي مضاعفة جهودها، وتغيير إستراتيجياتها (من حيث الكسب المعلوماتي- الثقافي، أو التصدير التثقيفي)، خاصة وأن أنماط الجمهور في التلقي التثقيفي، تكون من خلال جهود بسيطة تميل للكسل الفكري، وقلة السعي في التمحيص، هذا المجال هو الذي سيمكن النخبة من إعادة الرأي العام إلى خانة تقنيات التفكير الاستراتيجي العالي، فالجمهور عادة يعجز، أو يتكاسل عن الغوص في التفاصيل ومعرفة أسباب الأحداث وتشابكاتها ومؤثراتها، بينما تمتلك النخب المتخصصة أدوات كثيرة تمكنها من الإبداع في هذا المجال، لخلق نوع محايث من التسييج الوقائي لعمليات تضليل الرأي العام.

بعض الباحثين يرى بأن الفضاء العمومي الأول المشكل للرأي العام، تحكمه الآن عملية تجزؤ, إذ ظهرت فضاءات عمومية جزئية تخضع لمبدأ التواصل اللامتكافئ. كما أن الطابع السياسي للفضاء العمومي قد تضاءل لصالح أشكال تعبيرية جديدة,  وبخاصة ما يسمونه (المشاكل الشخصية) : المتعلقة بالحياة الشخصية والجماعية. وجاء هذا النمط الجديد نتيجة فردنة العلاقات الاجتماعية, وإضعاف الطابع الجماهيري للمجتمعات الحديثة، التي لا يمكن تفسيرها بالاقتصار على تأثير التكنولوجيات الحديثة، لذا ستكون التفاصيل الجزئية (أو الذريّة)، هي المنطقة الصلبة التي يعجز عوام الجمهور عن اختراقها، وسيكون دور النخب فعالا ورياديا في إمكانية قيادة الرأي العام، بأسلوب علمي تقني فعّال. ([14])

إن ضعف دور النخبة المتخصصة، في المشاركة الفاعلة بعملية صناعة الرأي العام, وتحول قضية صناعة الرأي العام إلى سباق تتبارى فيه أدوات تجهيل وتضليل (وجدانية صورية) مختلفة, قاد ذلك إلى خلق حالة تكسر في بنى المجتمع، وأدى (ولو بالتدريج وعلى الأمد البعيد) إلى تغيير نمط القيم الأخلاقية التي تتميز بها المجتمعات، وتشكل عامل تماسكها ووحدتها، وقد كان للإعلام الدور الأكبر فيها، حيث شُخّص هذا الدور السلبي عبر عدد من النقاط([15]) :

1- لم تقم أدوات الإعلام بدورها الفاعل في تحقيق مستوى عال من تبادل الآراء والأفكار بين أبناء المجتمع لإضفاء الشرعية على أوضاع المجتمع.

2- لم تقم بدورها في تفعيل المعايير الاجتماعية, ومحاسبة الخارجين عنها، من خلال الفضح الإعلامي للسلوكيات الشخصية للأفراد الذين ينحرفون عن أخلاقيات المجتمع العامة.

3- كان يجب على وسائل الإعلام أن يكون لها الدور الأكبر في التنبيه لآثار الخلل الوظيفي لوسائل الإعلام بفعل تدفق مزيد من المعلومات إلى الجمهور, ونشوء ما يمسى (المعرفة السلبية) المعيقة للنشاط البشري, وهو ما يفضي إلى بث روح عدم المبالاة لدى الجمهور بدلا من يقظته. كل ذلك يعطي الدلالة اللازمة على إن الإعلام يمثل السلطة رقابية وتنموية وتوجيهية للمجتمع.

الخاتمة :

إن الثقافات البشرية كلها تواجه اليوم تحولا ثقافيا واجتماعيا متسارعا ومليئا بالتحديات، وتقف أجهزة الإعلام على قمة هذا التحول، حيث أنها باتت تقود اللاوعي الجمعي، وتتلاعب به في حالتها السلبية, أو تسهم في قيادته بشكل بنائي متراص في حالتها الإيجابية، ولأن الإعلام والسياسة صنوان متعاضدان، خصوصا في مجتمعاتنا الشرق أوسطية وفي دولنا العربية بالتحديد، لذا سادت الوجهة السلبية في عمل الأجهزة الإعلامية، وتحولت إلى أحد أهم عوامل شحذ الذاكرة الانتقائية للأفراد، وبدل أن تساهم في تحويل أدواتها لصقل وتنمية وتطوير المواهب والقدرات لأبناء المجتمع، ساهمت أغلب هذه الأجهزة الإعلامية، بدور مضاد مهدم، وبات دورها يقوم على أسس تتعامل بشكل سلبي ومعاكس، مع مفاهيم التغيير الاجتماعي، وهي التي تقوم على عوامل مهمة تكون موجودة عادة فيما يسمى بغرف تخزين السلوك المقبول اجتماعيا في اللا وعي الجمعي، أي تبلور الشخصية الاجتماعية المتميزة القادرة([16]) حيث قادت إلى خلق حالة من الإرباك واللاثقة في هذا النمط من الخزين، وقادت إلى تحطيم الكثير من مفاعيل الرمزية الاجتماعية.

تغوّل أدوات الإعلام العالمية والمحلية، جعل عملية التغيير الاجتماعي تدخل حيز الصراعات السياسية والاقتصادية، وأصبحت أدوات الثقافة والمثاقفة مناهج لتخريب بلدان وأمم، ومسخ وجودها القيمي والمجتمعي، وتحولها إلى حالات استنساخ تفتقد لأي نوع من الأصالة والتميز، فوقوع المجتمعات الأدنى ثقافة، تحت أسر صور وتصورات الدول الأعلى ثقافة، قاد إلى عملية خلق مشوهة في صناعة الرأي العام لتلك الشعوب.

إن المطلوب من مجتمعاتنا (ونخبها وأجزهتها الإعلامية)، رصد الأدوات العلمية والمنهجية الصحيحة والموضوعية (في التعاطي العملي والثقافي والاقتصادي والمجتمعي)، ونبذ الأدوات التي تبعدها عن موضوعية التفكير، ورصانة الإنتاج، يقول المفكر عبد الله الغذامي “إن الأمة التي تنتج صورا جديدة هي التي سيكون بمقدورها تحقيق موقع آمن لها. ولا سبيل إلى التفاعل الحي والإيجابي إلا عبر دخول العالم بشروطه ومنطقه الجديد, إذ لم يعد المنطق القديم ولا الأساليب القديمة كافية لتمثيل الذات ولا قادرة على الواجهة. ولم يعد, خاصة, منطق التحصّن والدفاع عن الهويّة كافيا لأداء دور حضاري وتحقيق موقع متقدم في الحضارة. وهذه المواقع لا يمكن الحصول عليها إلا بإنتاج ثقافة جديدة مدعومة بإنتاج معرفي وفكري يُنتج صورة قادرة على الخروج ومواجهة العالم .

لقد ثبت أن الصورة لا تقاومها إلا صورة تملك الدرجة نفسها من القوة والتعبير والمصداقية. فالصورة اليوم هي ثقافة وفكر وإنتاج اقتصادي وتكنولوجي وليست مجرد متعة أو محاكاة فنيّة, فهي لغة عصرية يشترط فيها تطابق القول مع الفعل, وتمثّل الحقيقة التكنولوجية بما أن الصورة علامة تكنولوجية ومؤشر إنتاجي ومنطق مستقبلي”([17]) .

[1] – يُنظر: الراجي، محمد ، صناعة الأخبار الكاذبة ولولب الحصار المعلوماتي للرأي العام، بحث منشور على موقع (مركز الجزيرة للدراسات)، وعلى الرابط التالي : http://studies.aljazeera.net/ar/mediastudies/2018/05/180527110035087.html

[2] – يُنظر : المصدر نفسه.

* – الفضاء العمومي: هو مصطلح اجتماعي, يتناول عملية تشكل الوعي من خلال مواقف موحدة بين أفراد المجتمع, فهو (كما يذهب هابرماس): المجال الذي تمارس فيه عمليات النقد والنقاش العام في المسائل السياسية التي تهم المجتمع, فقد أدى تطور الصحافة ونشر تعميم الكتاب إلى تكوين جمهور من القراء, فيتشكل داخل هذا الفضاء ومن خلال عمليات النقاش والمحاججة ما يسمى (بالرأي العام) , الذي يتحقق عبر الممارسة العلنية للعقل. كما يقوم الفضاء العمومي على الفصل بين ما هو خاص يتعلق بالفرد وبين ما هو عام يتعلق بالمجتمع. يُنظر : بلقيز, عبد الاله, وآخرون, الإعلام وتشكيل الرأي العام وصناعة القيم, مركز دراسات الوحدة العربية, الطبعة الأولى, بيروت- لبنان, 2013، ص 103-104.

[3] – ينظر : المصدر نفسه، ص 102.

[4] – يُنظر : نفس المصدر، ص 103.

* – يقوم مبدأ (لولب الحصار المعلوماتي)، على نظرية دوامة الصمت لإليزابيث نويل نيومان (Elisabeth Noelle-Neumann)(9)، فضلًا عن نظرية الأطر الإعلامية. وهو ما يؤكد أن الظاهرة الإعلامية منذ ظهورها، والاتصال عمومًا، يمثلان مجالًا مشتركًا لعدد من التخصصات العلمية والحقول المعرفية، وقد ظلا أيضًا محورًا لوضع النماذج والنظريات الاتصالية المُفَسِّرة لهما في سياق مجالات معرفية مختلفة (نفسية واجتماعية وسياسية واقتصادية..) ذلك أن النظرية تجسد بشكل فاعل تطبيقات وسائل الإعلام في المجتمع. يُنظر : المزاهرة، منال هلال، نظريات الاتصال، دار المسيرة للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، 2018، ص : 163.

[5] – يُنظر: الراجي، محمد ، صناعة الأخبار الكاذبة ولولب الحصار المعلوماتي للرأي العام، مصدر سبق ذكره.

[6] – مراد، كامل خورشيد، مدخل إلى الرأي العام، دار المسيرة للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة، 2013، ص 117 .

[7] – يُنظر : نفس المصدر، ص 119.

[8] – يُنظر : الداغستاني، سناء عيسى، علم النفس الإجتماعي- نظريات ودراسات، دار الرافدين، لبنان، 2017، ص : 77 وما بعدها.

[9] – يُنظر: ماكومز, ماكس وآخرون, الأخبار ولرأي العام- آثار الإعلام على الحياة المدنية, دار الفجر للنشر والتوزيع, القاهرة, الطبعة الأولى, 2012، ص: 8.

[10] – يُنظر: نفس المصدر: ص 111.

[11] – يُنظر: المصدر السابق: ص 112.

[12] – يُنظر: بلقيز, عبد الاله, وآخرون, الإعلام وتشكيل الرأي العام وصناعة القيم، مصدر سبق ذكره، ص 104.

[13] – يُنظر: الغذامي، عبد الله ، لثقافة التلفزيونية- سقوط النخبة وبروز الشعبي- المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- المغرب، الطبعة الثانية، 2005، ص 10.

[14] – يُنظر: بلقيز, عبد الاله, وآخرون, الإعلام وتشكيل الرأي العام وصناعة القيم, مصدر سبق ذكره، ص 105.

[15] – يُنظر: نفس المصدر، ص 357.

[16] – يُنظر: الحناوي، رؤوف سعيد، اللاوعي الجمعي- وأثره في الذاكرة الشعبية أنماط السلوك، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى، 2009، ص 68.

[17] – الغذامي، عبد الله ، لثقافة التلفزيونية- سقوط النخبة وبروز الشعبي، مصدر سبق ذكره، ص 19- 20.

  • خاص – المركز الديمقراطي العربي
3/5 - (2 صوتين)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى