الدراسات البحثيةالمتخصصة

الفرضية الإفصاحية عند بوهاس وجيوم وكولوغلي وأثرها في التحليل النحوي عند سيبويه

The Disclosure Hypothesis Of  G.Bohas , j.-p.Guillaume, D.E.Kouloughi Impact on the Syntactic Analysis of Sibawayhi   

اعداد : آية عادل علي  – باحثة ماجستير ، جامعة القاهرة – مصر 

  • المركز الديمقراطي العربي

 

الملخص :

ظل التراث النحوي معينًا لا ينضب يمد الدراسات العربية والأجنبية بالقراءات المتعددة لمفرداته ، والمرجعية المعرفية التي كانت وراء ذلك هو الطابع الملغز أو المعجز الذي لازم النصوص الأم في هذا التراث ، وهذا كان السبب الرئيسي في حظو التراث النحوي خاصةً بكم هائل من الأبحاث والدراسات التي قامت بتقديم محاولات متعددة في الكشف عن المكتنزات التي يحويها ، وتوضيح الأبعاد النظرية والإجراءات التحليلية التي تبناها ، وكان على رأس ذلك التراث كتاب “الكتاب” لسيبويه ، والذي لفت أنظار الباحثين شرقًا وغربًا ؛ فقدم لنا كلًا منهم رؤية أو فرضية أومحاولة كوَّنها من خلال الدرس المتفحص لنص ” الكتاب ” ، وكانت من تلك المحاولات ما هو منصف في ذلك ومنها ما يزيغ عن الصواب بدافع ما يسبق ذهنيًّا فعل القراءة لديه حتى إنه يصتنع افتراضًا مسبقًا عن المادة موضوع الدراسة ، وانطلاقًا من مبدأ “القراءة المصنفة” نقف عند الفرضية الإفصاحية كما عَنونها واضعيها بوهاس وجيوم وكولوغلي ، وذلك في ثنايا تصديهم للإجراءات التحليلية التي تمحورت داخل كلام سيبويه في ثنايا عرضه للمواد النحوية ، وتأتي أهمية الوقوف عند تلك الفرضية من إبرازها التلاحم العضوي الكائن فيها بين البعد الاتصالي والاستعمالي وبين التقعيد النحوي داخل التحليل النحوي عند سيبويه .

Abstract :

The Grammatical heritage remained an inexhaustible ,  providing the Arab and Foreign studies with multiple readings for its individuality , and the Cognitive reference that was behind it is the enigmatic or miraculous character that required the mother texts in this heritage , and This was the main reason for the knowledge of grammar  as a tremendous amount of research and studies that presented multiple attempts to reveal the storages it contains , and clarify the theoretical dimensions and analytical procedures that it adopted,On top of that heritage was the book “kitab” , which caught the attention of researchers east and west . Each of them presented us with a vision , hypothesis , or attempt to form it through a careful study of the text of the kitab . some of them were fair in that , and some are fair in that , righteousness out of what precedes mentally the act of reading , so that it makes a presumption on the subject in question , and based on the principle of “fair reading” , we stand on the disclosure hypothesis as it was meant by its authors Bohas , Guillaume ,and kouloughli , this is the folds of their response to the analytical procedures that centered within sibwayhi’s speech in the folds of his presentation of grammatical materials.

تقديم :

وقف التراث النحوي في وضعية متمايزة داخل التراث اللغوي العربي إنْ لم نقل أنه عماده الذي أَسس بنيانه ، وتضافرت الجهود العظيمة على درس المواد الأُوَّل التي تمحورت داخلها الخيوط الفكرية المشكلة للنظرية التي يتبناها هذا التراث على مر التاريخ اللغوي ، وتنوعت تلك الجهود ما بين عربية وأخرى أجنبية ، وأصبحت تدق آذاننا أصواتًا لأعلامٍ بارزين في هذا المضمار العلمي ، ما بين البحث عن النظرية ، وبين التفتيش في مكتنزاته والكشف عنها من مؤلفاته وأعلامه وأصوله التاريخية، وبين النقد المبني على رؤية يتبناها صاحبها والذي يرتبط غالبًا بتوجيه يتمثله ما يصل إليه من خلال جموع نقده كعلاج للدافع الذي حرّك قريحته لأنْ يقوم بنقده بِدءًا ، ومن هؤلاء الأعلام : تمام حسان ، علي أبو المكارم ، محمد عيد ، مهدي المخزومي ، محمد عبد العزيز عبد الدايم ، محمد الشاوش ، سعيد بحيري ، …. وغيرهم كثيرين ، ولا يخفى علينا البصمة التي تركها هؤلاء في الدراسة النحوية في العصر الحديث ، يتبنى كلٌّ منهم رؤية يعمل على تقديمها من خلال دراسته ، إلى جانب الجهود الغربية التي بذلها علماء مستشرقين جادين كالتي قام بها كارتر ..وغيره ، وتلك التي قام بها باحثون إنجليزون وفرنسيون وألمانيون، والتي تقدم رؤى عميقة لذلك التراث العظيم .

ومن أبرز الدراسات الأجنبية التي قدمت بحثًا منصفًا وجادًا يتناول العلوم التي تولّدت داخل التراث اللغوي العربي،  والسياق الاجتماعي والتاريخي الذي سرى في أحضان هذا التراث ، تلك الدراسة التي قام بها ثلاثة من المؤلفين ذوي العقلية البصيرة التي تقرأ ما بين سطور التاريخ المعرفي للعلوم من داخل النصوص التي يتبناها هذا التاريخ ومن داخل بيئته التي شكلّت مساره، والمعنونة ب ” The Arabic Linguistic Tradition ” ، والتي قام بها ثلاثة من الباحثين الجادين هم : بوهاس ، وجيوم ، وكولوغلي، والتي قام بترجمتها وتقديمها : أ.د محمد حسن عبد العزيز ، ود. كمال شاهين ، وقد نوهوا لنا في مقدمتهم هذه للترجمة بالأهمية المنوطة بتلك الدراسة وما تقتفيه في تتبعها للتراث اللغوي العربي ، وما بناه المؤلفون من مداخل معرفية لازمة لقراءة هذا التراث والإمساك بنظريته .

وكان من ثمار تلك الدراسة التحليل الوافي لنظرية النحو العربي في مصادره الهامة التي أخذت بخطوة بارزة في مسار نظريته من سيبويه ، والمبرد ، وابن السراج ، وابن جني إلى القرن العاشر الهجري / الخامس عشر الميلادي ، مع تخصيص فصلًا مستقلًا يعرض لكتاب ” الكتاب” لسيبويه ، وهو ما خَلُصَ إلى نتائج مزهرة من خلال التحليل الدقيق للطرق الإجرائية التي توخاها سيبويه في عرضه للمادة النحوية داخل نص كتابه ، وكان من تلك النتائج الخروج بما عنونه القائمون على الدراسة ب”النظرية الإفصاحية” أو “الفرضية الإفصاحية” فقد تردد لفظتي : “النظرية” ، و”الفرضية” في نص الدراسة ، إلا أن المفضّل في هذا الموضع الذي يفصل التصور المعرفي و التمفصل التنظيري الذي انبنتت عليه الفرضية ، وكذا أنها قامت على عينة من التحليل النحوي عند سيبويه في بابي : “ظن وأخواتها” و”الإسناد” ؛ فهي فرضية في موضع الاختبار لفاعليتها على القيام بإلقاء الضوء على الإجراءات التحليلية التي اندرجت في خطاب النحاة لنا في داخل نصوصهم في نطاق أوسع يجعل منها اكتشافًا مهمًا لخط فكري اندرج في إقامة تلك النصوص؛ فالفرضية تُعد خطوة أولى في بناء أية نظرية إلى أن تترقى لأنْ تكون نظرية معتمدة واضحة المعالم ؛ “…فالنظرية أول ما تطرح على صورة فرضية أو ظنية Hypothesis ، فإن أيدتها الوقائع والتجارب على نحو خال من الثغرات الهامة ارتقت إلى مرتبة النظريات …” ( عبد العزيز: 2006، ص18) ؛ ومن ثَمَّ يتمركز المسعى الأساسي للدراسة الحالية على تلك “الفرضية” من خلال عدة تساؤلات تطرحها في ذلك الإطار ، وهي :

  • كيف تشكّل الأساس المعرفي الذي قامت عليه تلك الفرضية ؟ أو لنقل ما ملامح الخلفية التي بُنيت على أساسها من خلال السياق المقالي الذي ظهرت فيه داخل كلام المؤلفين ؟
  • هل تسهم تلك الفرضية في إنجلاء بعض المعالم المظلمة في تحليل النحويين ، وما هو موضعها من هذا التحليل ؟
  • والسؤال الأهم هل تصلح لأنْ تكون نظرية مفسرة لجانب من الجوانب التحليلية داخل النظرية النحوية العربية ؟

تأخذ هذه التساؤلات بأيدينا إلى إجابات فارقة في موضعها لحل الكثير من المعضلات التي لازمت تراثنا اللغوي على مدار القرون ، وتلك التي أثارث المئات من القرائح في قضايا نحوية استقطعت كمًا كبيرًا من الجهد والوقت والصفحات ، وإبراز القيمة العلمية التي لازمت كتاب ” سيبويه ” على مر التاريخ وصنعت منه محورًا مركزيًّا للنظر لكلِّ من يقتحم مكتنزات ذلك التراث اللغوي المعجز الذي تركه لنا علماؤنا الأوائل ، كما تتحرى الكشف عن جانب من جوانب التحليل النحوي كان أصلًا له في مواقف خاصة بالمقام المتلفظ فيه ؛ أي المعنى الاستعمالي في إطار تحليله كلاميًّا من قِبَل الحاضرين الشاهدين لمقتضيات ذلك المقام ، والملاحظين الأُوّل للقواعد الكلامية التي تمظهرت فيه من خلال التلفظ به ، والحاكمين للاتجاه الصائب الذي لابد وأن يتخذه المتكلم في تلك الحال الشاهدة أو الخاصة .

  • التراث النحوي العربي :

يُعدُّ ” التراث اللغوي ” نصًا يحمل في داخل طياته تاريخيته من لغته إلى هيكله العام الذي يتمظهر داخل مفرداته؛ مما يحتم على من يتصدى لقراءته لدرسه والإفادة منه خصوصية معرفية يمتاز بها فكره القارئ ، وكان افتقاد تلك الخاصة هو السبب الرئيسي في أي حكم خاطئ يصدر من لدن أي باحث يتصدى لذلك التراث ، وتتمفصل هذه الخصوصية في عدة محاور ذهنية منها أن يتمتع القارئ الدراس بالرؤية المنصفة لهذا التراث، والاعتراف بالقيمة التي يحتلها بجانب تراث الأمم الأخرى ، وكان ذلك نقطة البدء في فعل قراءته بوجه الإفادة منه ، كخطوة لابد منها للقيام بالنظر الموضوعي له والإفادة منه لا الحكم عليه حكمًا مسبقًا يَحُولُ دون تلك الإفادة إلى مصلحة مشخصَّة من قِبَل القارئ لصالح تراثه أو رؤيته التي تتبنى فكرًا ما يجعله مسارًا يسري في كل توجهاته داخل بحثه ، كما أنه يندرج بعد تلك الخطوة الاستعداد العلمي لمقابلة ذلك التراث الذي استنفذ العقول منذ أن خرج إلى النور ؛ فأي قراءة ترى كل الخير في التراث قبل الولوج لدرسه وتفتقر إلى العلم اللازم للقدرة على استكشاف ذلك التراث حتى يتسنى لها الإمساك بالدلائل العلمية المبرهنة على ذلك الخير المعجز ، ونبّه بوهاس وجيوم وكولوغلي في تقديمهم لدراستهم للتراث اللغوي العربي إلى تلك الأهمية التي تُناط بالاستعداد الممنهج لقراءة ذلك التراث بامتلاك تلك الإمكانيات المعرفية ؛ فقد بدأوا حديثهم بالتنويه بأهمية التراث العربي داخل الدراسات اللغوية في العالم (بوهاس وجيوم وكولوغلي : 2006م،ص 18) ، وإلى إرجاع الفشل في توثيق تلك الأهمية إلى عدم تقديره وخلوص المتخصصين لفهمه ، ويكمن ذلك الخلوص في ” أن يهتموا بمعرفة اللغة ومصادرها الخاصة ، وأن ينظروا إليها على أنها أعمال علمية متخصصة وقابلة للفهم ، وليس ركامًا يستعصي على الفهم . وكان عليهم أيضًا أن يزوِّدوا أنفسهم بالأدوات الفكرية واللغوية التي تقدرهم على فهم هذه المصادر قبل أن يتورطوا في الزعم بأنهم على دراية بتصورات النحاة العرب في هذه القضية أو تلك ” (بوهاس وآخرون : ت 2006،ص18) ، ونضع خطًا تحت تركيب ” أن يهتموا ” و”أن ينظروا” و “أن يزودوا” تلك الإشارات إلى مؤهلات الناظر في ذلك التراث . ويأتي الدور الأهم الذي يتنزل بعد الاهتمام والنظر والتزود كمستلزمات معرفية في تحديد الرؤية المستهدفة من فعل القراءة بِدءًا ، وذلك ما يحقق إفادة حقيقة من تلك القراءة ، وكان ذلك نقطة فاصلة في رسم الخطوط الفكرية أو المسارات الأساسية التي يجب النظر إليها بعين الاعتبار ، ولننظر للتراث النحوي العربي الذي تلقى مجاميع لا تُحصى من الأبحاث والدراسات على مدار التاريخ ، ولم يتوافر له دراسة تقول القول الفصل في النظرية التي يتبناها ؛ فقد ظل هذا الباب مفتوحًا يجولُ داخله الكثيرون بمحاولات لا نقلل من قيمتها ، ولكنها لم تصل إلى النظرية الأصل التي لا تأتي بعدها نظرية أخرى مختلفة برؤية أخرى ، وكان السبب الرئيسي في ذلك الجولان هو ترك النحاة لنا نظريتهم مطبقة في ثنايا نصوصهم دون أن نجد نحوي يصنف كتابًا يعنونه بمصطلح ” نظرية”، لكن تركوا لنا التطبيق العملي لها مصحوبًا بإشارات تنير لنا الطريق إلى ذلك ، ليس داخل الكتب النحوية ككتب قواعد فقط ، وإنما بالسياق الذي نبنيه من الأطراف المتناثرة في كتب المجالس وفي المناظرات وفي كتب الطبقات وغيرها ؛ فكانت النظرية تستحق الدرس المستقل الذي يضعها نصب أعيننا كمساحة مختصة بأنفسها بعيدًا عن أي قضية أخرى ف ” تشكل نظرية النحاة العرب – بغض النظر عن أي دراسة مقارنة للمصادر والمؤثرات – موضوعًا مستقلًا يستحق البحث في حد ذاته ” (بوهاس وآخرون ، 2006، ص18) ، ولعل ما يجمل كل ذلك العبارة الأثيرة لأورو التي أوردها المؤلفين في خضم حديثهم كمَعلَم على ما قصدوا توضيحه للقارئ حتى يكون على بينة بالمنهج العقلي العلمي الذي يتبنونه ، وهي: ” إننا في عصر يتعلق فيه عمل مؤرخ النظريات اللغوية بالوصف الدقيق للنظريات لا بتاريخ الأفكار” ، كما يتسنى ذلك الخلوص لنظرية النحو العربي كموضوع مستقل يستحق الدراسة المنفردة ،  أن نحاور شخص التراث النحوي بلغته ومنهجه ،وليس بمنهج آخر نفرضه عليه ، وإذا كان ذلك التراث يحتاج إلى مُسَيّرَات تأخذ بأيدينا إلى الحديث معه وخطابه وفهمه ؛ فلا مانع من أن يكون ذلك المنهج أو النظرية الأخرى وسيلة إلى ذلك ، ولا يكون التراث وسيلة لتحققه وإثبات فاعليته وإنما يكون غاية ،  وتكون الإفادة من أي منهج أو نظرية كوسيلة إلى تحقيق تلك الغاية ؛ مما يحبذ الإفادة من كل ما تطول اليد من أدوات وإجراءات نظرية وتحليلية في المنهج اللساني على الصعيد العالمي ، وعدم الإلزام بإحداها دون الأخرى ، في خدمة النظرية الأم التي ننحو إليها ، ونجمل هنا النقاط الرئيسية التي اعتمدها بوهاس وجيوم وكولوغلي  في قراءتهم للتراث اللغوي العربي ، وهي :

  • إنه يستحق الدراسة المستقلة لمكانته وأهميته .
  • النظر المنصف لمفرادته بِدايةً ، والتي تتمثل في مصادره التي تولّدت في خضمه .
  • التحصن بالأدوات الفكرية اللازمة كضرورة للولوج إلى ثناياه بما يتناسب وطبيعته الداخلية من حيث أسلوبه ولغته ومصطلحاته و جذوره التاريخية ..
  • الفصل بين درس النظرية وبين البحث عن دراسة جوانب التأثير والتأثر ، بوصف البحث في تلك النظرية موضوع يستحق النظر المستقل له .
  • النحو العربي ونصوصه مصدر لا غنى عنه في القيام بأي عمل يهدف لتقديم رؤية سليمة عن التراث اللغوي العربي.
  • النظريات اللغوية المستجدة على الصعيد العالمي ليست إلا وسيلة للتحاور مع التراث اللغوي العربي ، وليس لفرضها عليه.
  • لا يمكن إهمال السياقين الاجتماعي والتاريخي في دراسة النظرية اللغوية العربية وتطبيقاتها المتمثلة في نصوصها؛ لأنّه هو اليد الصانعة لها والمُشكِل لها ، لذا يبدو أنه من الضروري أن نتتبع المعالم التي تتركها آثار تلك اليد داخلها .

ومن خلال تلك الأسس التي بنى المؤلفون بحثهم عليها ، يبدو لنا انعكاس المعرفة الحقة التي يجب أن تكون عماد البناء المعرفي لتكوّن كل عمل قيّم ، نستشرف منه أن يقدم لنا رؤية تفيد المسار البحثي في نظرية العرب اللغوية النحوية خاصةً ، وليست هذه المحاور تختص بتلك الدراسة فقط ، وإنما هي تُنَبئنا أننا أمام عمل قَيّم يستحق القراءة والنقد ، وفي الوقت ذاته  كانت خطوات أُوّل لابد وأن يبدأ بتفهمها وتمثلها أي عمل يدق أبواب العمل البحثي في هذه المنطقة التي لا تزال متعطشة لمزيد من الدراسات المتمركزة حول “النظرية” داخل الدراسات اللغوية العربية.

وفي مضمار التراث النحوي تُثار عدة قضايا التي تستحوذ على حيز كبير من الجدال والاختلاف بين النحاة ، ومنها قضايا لم تُحسم بَعدُ ك :

  • إشكالية “واضع النحو الأول ” بين روايات عديدة ( كتلك التي تنسب ابتكار علم النحو إلى علي ابن أبي طالب ، وأخرى تنسبه إلى أبي الأسود وهو الأرجح ،..) ، والتي تطلعنا عليها كل الكتب التي تتناول تاريخ النحو العربي منذ نشأته ، وقد قدم بوهاس وأقرانه البت في الإجهاد المتواصل في سبيل إعطاء رأي يقيني يخص واضع النحو الأول الذي يُنسب إليه الابتكار دون أي آخر ، نقول فصّلوا النقاش في ذلك بأن السعي وراء الخلوص كناتج برهاني بأن رواية /شخصًا ممن نُسِب إليه وضع النحو ليس بفائدة تثري في طريق البحث العلمي لذلك العلم ، ولكن الإفادة الحقة في مجمل تلك المرويات كسياق لا غنى عنه في فهم البدايات الأولي للنشاط النحوي ، ونحن نرى أن ذلك مما يُحمَد في نظرنا لتاريخ النحو العربي ؛ لأننا أحوج إلى تحليل متفحص لكل ما وصلنا مما يخص هذا التاريخ ، وذلك حتى يتسنى لنا تكوين أقرب صورة للخلفية المعرفية التي تبنتها عقلية النحاة ، وجعلوا منها مناط الاتجاه الفكري الذي امتد في منهجيتهم التي قامت عليها أعمالهم ، مع ملاحظة التطور الملاحق لتلك المنهجية عبر القرون الأولى من نحوي إلى آخر ، وفقا للظرف التاريخي الذي يعضد هذا الاتجاه الفكري ويشكله وَفقه .
  • قضية وجود مدارس في النحو العربي من عدمه ، وهل يصح القول بأنها مدارس أم إنها مذاهب أو اتجاهات فكرية ؟ سؤال احتل ركنًا كبيرًا من الدراسات النحوية ، وكان أنْ اختص كل فريق من الآراء المبثوثة في تلك المعضلة بوجهة النظر التي يتبناها مع الحجج التي يبثها في مضمار إثبات الرؤية التي يتبناها ويَقنع بها ، وذلك في جهتين : جهة تقول بوجود مدارس متمثلة في : البصرة والكوفة والبغدادية …، والأخرى تنفي ذلك وتقول بوجود مذاهب أو اتجاهات تتمثلها، وكان المُشْكِلُ يرجع إلى تحاكم أذهاننا بالمفاهيم العصرية إلى التراث النحوي ، وكانت الرؤية التي قدمها بوهاس وزملائه في الحقيقة تتجاوز أي معضلة تقف أمام الغرض الرئيسي الذي يرمون إليه ؛ فلم يجعلوا كثيرًا من التفاصيل تحيد بهم عن الطريق الذي يريدونه ؛ فكانت الوقفة عند تلك القضية وقفة إضافة أكثر منها نقلية ، وكان الاستناد فيها إلى المعرفة بالمقام المعرفي الذي أنشأت في ظله تلك الاتجاهات النحوية ، وكانت بوادر ذلك أن مصطلح مدرسة أو مذهب داخل هذا المقام ،  ” لا يشير إلى فكر معين بقدر ما يشير إلى سلسلة من الرجال تناقلوا العلم بينهم بالاتصال الشخصي بين الأستاذ والتلميذ ..” 0(بوهاس وآخرون : 2006، ص35) ، والحقيقة أن تلك الخلافات التي صنعت من اختلافات في فروع تندرج تحت مسمى مدرسة أو مذهب قائم بنفسه ؛ لأننا ببساطة لم نجد نحونًا بصريًّا مستقلًا تمامًا عن نظير مختلف تنظيرًا وتطبيقًا عنه (نحو كوفي) ، وذلك يُثبته أن بعض النحويين كان بصري ويتبنى في مصنفه آراء كوفية والعكس صحيح ، وبعضهم كان يترك ما هو عليه من آراء عند ثبوت الأقوى عنده كما انتقل الزجاج فيما يُروى من حلقة ثعلب إلى تلمذته للمبرد وملازمته له بمجرد مفاتشته له وثبات قوة حجته فيما يجيب عليه من الآراء عند قدومه إلى بغداد ، وقد صرح الزجاج نفسه بذلك في الرواية التي سجلها لنا الزجاجي في ” مجالس العلماء ” ؛ فابتدأت الرواية بقوله : ” كنت في ابتداء أمري قد نظرت في علم الكوفيين وانقطعت إليه فاستكثرت منه حتى وقع لي أني لم أترك منه شيئًا ، وأني قد استغنيت به عن غيره .فلما قدم محمد بن يزيد بغداد قصدته يومًا وأنا عندي أنه إذا ناظرني قطعته لا شك فيه …” ، وينتهي المجلس بقوله : ” فقلت في نفسي : هذا هو الحق ، وما سوى ذلك باطل. وانصرفت من عنده ، ثم بكرت إليه كالمعتذر ، ولزمته ” (الزجاجي : 1999، ص125- انظر : الزبيدي : ، ص109، 110) ، والحقيقة أننا إذا أردنا أن نقول بوجود مذاهب أو مدارس في نحونا العربي ، فلنا أن نجعل من كل نحوي مدرسة مستقلة بنفسها تتبنى في بنائها مجمل آرائها واتجاهاتها التي تمثل نظريتها المطبقة في تراكب الهيكل التنظيمي الذي يجسده المُصَنَف الذي يقع تحت أيدينا الآن.

وبعدُ ، فإن ما سبق الحديث عنه من قضايا تختص بنحونا العربي واستأثرت بكمٍ غير قليل من المناقشة من قبَل النحاة ، ليست إلا أبرز الأمثلة على تلك القضايا ، وإذا كنا نتحدث عن مساهمات قراءة دقيقة ومجملة لتلك القضايا في ضوء المؤلَف الذي نقصد إليه ؛ ففي هذا الإطار نجد العديد من القضايا المطروحة في المساحة التي خُصصت لنقاش التراث النحوي ومصادره ، ولكنّا لا يسعنا المقام هنا للقيام بمناقشة وتحليل كل النقاط التي طُرحت هناك ؛ لأن غرض الدراسة هنا التركيز على الفرضية الإفصاحية التي طُرحت في مجال التصدي للتحليل النحوي في “الكتاب” لسيبويه .

  • كتاب ” الكتاب ” لسيبويه : أهميته ومنزلته في التراث اللغوي العربي عامةً والنحوي خاصةً :

إن كتاب سيبويه المُعَنون ب ” الكتاب ” حظا بمكانة لم يحظَ بها كتاب على مر الزمن ، واسنحق بجدارة أنْ يُوسَم بأنه ” قرآن النحو ” ؛ فقد كان محط الأنظار عبر القرون تحقيقًا وشرحًا ودراسةً … ، وما زال يحتفظ بتلك المكانة العظيمة ، وما تزال تُقام عليه دراسات متنوعة شرقًا وغربًا محاولة لاستكناه ما بسطه لنا سيبويه بين دفتي مصنفه .

والشئ الأكثر حجية على قيمته كان إضافته السبق للغة العربية في تطبيق نظريات لسانية حديثة كالتداولية ، واللسانيات التواصلية ، وتحليل الخطاب …، وما يقع تحت هذه النظريات من مبادئ تقوم عليها ، واللافت للنظر أنه كان مادة تتشرب كل هذه النظريات في داخل مادتها وأكثر ، ولكن تظل نظريته هي اللغز الذي اُستثمرت فيه عقول الباحثين في مجال الدراسة النحوية واللغوية عبر القرون .

ونكتفي في مقامنا هذا بإيراد الإشارات التي تركها لنا علماؤنا الأجلاء توثيقًا للأهمية التي ظلت إلى يومنا هذا  ملازمة ل ” الكتاب ” ، والتي تعددت أبعادها ما بين :

  • إعجاز ” الكتاب ” بمجمل ما يحويه من أسلوبه ولغته ومادته ومنهجه وترتيبه وتنظيمه و… ؛ فجاءت عبارات ما زالت تمثل خلفية معرفية متمحورة داخل ذهن أي قارئ للكتاب ، بأنه لم يسبقه أحد ولن يلحقه أحد ، وأنه يحتاج قدر كبير من المعرفة والعلم مع قوة من الصبر والتأمل حتى يتسنى فهمه أو على الأقل قراءته ، ومن الأقوال المأثورة في ذلك :
  • قول المبرد إذا أراد مريد أن يقرأ عليه كتاب سيبويه ؛ فكان يقول له : ” ركبت البحر ، تعظيمًا لكتاب سيبويه واستصعابًا لما فيه ” (السيوطي : 1965، 2: 229 – القفطي : 1986، 2: 348).
  • قول المديني : ” من أراد أن يعمل كتابًا كبيرًا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحِ” (القفطي : 2: 348) .
  • ورُوي في ترجمته : ” ..وطلب النحو ، وأخذ عن الخليل بن أحمد وعن يونس بن حبيب وعيسى بن عمر وغيرهم ، وبرع في النحو ، وصنف كتابه الذي لم يسبقه أحد إلى مثله ولا لحقه أحد من بعده ” (السيوطي : 1986، 2: 229) .

ومن تَفَرُد ” الكتاب ” و إعجازه الذي وُسم به المصنف وعقلية صاحبه إلى الحد الذي خرج فيه سيبويه من حد البشر إلى أن يكون من الجن :

  • قال أبو عمر الزاهد محمد بن عبد الواحد قال ابن كيسان : سهرت ليلة أدرس ، قال ثم نمت فرأيت جماعة من الجن يتذاكرون الفقه والحديث والحساب والنحو والشعر قال فقلت لهم : أفيكم علماء ؟ قالوا نعم قال فقلت : من همِّي في النحو ، إلى من تميلون من النحويين ؟ قالوا إلى سيبويه ، قال أبو عمر ، فحدثت بها أبا موسى وكان يغبطه لحسد كان بينهما ، فقال لي أبا موسى : إنما مالوا إليه لأن سيبويه من الجن ” (البغدادي : 2001، 14: 102- القفطي : 1986، 2: 356).
  • تمثلت أيضًا أهمية كتاب سيبويه من خُلُق مؤلفه الذي اتسم بالرفعة والأمانة ؛ ومن الإشارات على ذلك :
  • قول ابن سلام : ” كان سيبويه النحوي غاية في الخلق ، وكتابه في النحو هو الإمام فيه ” (القفطي : 1986، 2: 101/102).
  • قال أبو عبيدة : ” قيل ليونس بعد موت سيبويه ؛ إن سيبويه صنّف كتابًا في ألف ورقة من عِلم الخليل ، فقال : ومتى سمع سيبويه هذا كله من الخليل ! جيئوني بكتابه ؛ فلما رآه قال: يجب أن يكون صَدَقَ فيما حكاه عن الخليل ، كما صدق فيما حكاه عنّي ” (السيرافي : 1955، ص37 – القفطي : 1986، 2: 259).
  • وحظا ” الكتاب ” بأهمية كبيرة في السياق التاريخي الذي نشأ فيه ، والتي صبغته بقيمة ثمينة اكتسبها من مادته التي كُتب لها من الذيع والانتشار ما لم يُكتب لغيرها ، ومن منزلته العليا التى أضفاها عليه الظرف الذي خرج فيه ، ومن ذلك :
  • ” كان كتاب سيبويه لشهرته وفضله عَلَمًا عند النحويين . فكان يقال بالبصرة : ” قرأ فلان الكتاب ” ، فيعلم أنه كتاب سيبويه ، وقرأ نصف الكتاب ، ولا يُشك أنه كتاب سيبويه ” (القفطي : 1986، 2:351)
  • فيما رُوي عن الجاحظ أنه قال : أردت الخروج إلى محمد بن عبد الملك ففكرت في شئ أهديه له ، فلم أجد شيئًا أشرف من ” كتاب ” سيبويه . فقلت له : أردت أن أهدي لك شيئًا ففكرت فإذا كل شئ عندك فلم أر أشرف من هذا الكتاب ، فقال : والله ما أهديت إليّ شيئًا أحب إليّ منه ” (البغدادي : 2001،14: 101-  ابن خلكان : 1978، 3: 463 – القفطي : 1986، 2: 463).

والحديث لا ينتهي عند الوقوف عند هذا المصنف الذي كان التاريخ أكبر شاهد على أهميته وقيمته التي لم يضاهيه فيها أي مؤلَف آخر ، وعلى العقول التي لا زالت تحار في مادته عبر القرون .

  • الفرضية الإفصاحية :

تتمثل تلك الفرضية المطروحة في التركيز على تقنية تحليلية اعتمدها سيبويه في ثنايا نص عرضه للمواد النحوية ، وهذه التقنية كانت تندرج في بعض المواضع داخل شرح سيبويه أو لنقل هي صورة من صور الهيكل التنظيمي الذي توخاه داخل شرحه ، وهي تتبنى في رؤيتها القول ب ” …أن سيبويه لا يحلل في العادة منطوقات مفردة ، بل مجموعات من المنطوقات ، وذلك لإظهار وجوه الشبه والخلاف فيما بينها من خلال عمليات إفصاحية تؤدَّى على مستويات مختلفة …” (بوهاس وآخرون : 2006، ص73) ؛ ومن ثم يمثل المنطوق الذي يضعه سيبويه في الصدارة كممثل على التركيب الأصح سماعيًّا وكتابيًّا في مقابل منطوقات أخرى يتخللها خطأ ينزل بها درجات عديدة عن درجة الصحة الدلالية التي يحوزها هذا المنطوق الأمثل ؛ ومن ثم يُعَدّ ذلك المنطوق النهائي هو نتاج “… لسلسلة من العمليات يؤديها المتكلم ، كل واحدة منها شكلية ودلالية في الوقت نفسه ووبصورة مكتملة ” (بوهاس وآخرون : 2006، ص73) ، وبذلك تبرز قيمة اتصالية في صنع المقولات تتدخل في توضيح مسار القاعدة  بشكلٍ جلي ، والتي تمثل قانون يحكم هذا النمط من الكلام الذي يمثله هذا المسار ، من نقطة البدء (عمليات ما قبل التلفظ) إلى نقطة النهاية (التلفظ وإنتاج الكلام)، والنقطتان يمثلان ما يُسمى عند سيبويه ب “نية المتكلم و إرادته ” في صنع كلامه  ؛ فتمثل البداية الانتقاءات الذهنية التي ينتقيها المتكلم من معجمه الذهني ، والربط بينها لتكوين ما يمثل كلامًا مفيدًا، ويخضع في سبيل ذلك لاحتمالات متعددة لصور كثيرة تمثل محاولات القيام بهذا الربط الذي يجعل من مفردات معجمية ، تراكيب تُدخِل هذه المفردات من مجال الثبات المعجمي إلى الاستعمال الكلامي لها ، ويمثل ذلك صناعة الكلام المفيد ، وتكون النهاية التي تمثل قمة هذه الصناعة في إنتاج سلسلة من الاحتمالات المختلفة من التراكيب التي تتفاوت في درجة صحتها الدلالية التي تتمايز من تركيب إلى آخر ما بين جيد إلى قبيح إلى خبيث ، ردئ، جيد ،…إلى معايير كثيرة تصادفنا في التقييم الدلالي لكل منطوق أو قول يحلله ، وكل مرحلة من هذه المراحل المتفاوتة فيما بين تلك الدرجات تعطي الإشارة بتدخل إرادة المتكلم  وتحريك مفردات تركيبه وفقًا لما ينويه ؛ فيقدم ويؤخر ويحذف ويزيد في سبيل تحقق ما يريده من خطابه الممثل في هذا التركيب ، ويكون مناط الحكم بدرجة استحسان ذلك الخطاب وتقييمه هو كلام العرب ؛ فتكون العرب المثل الأعلى المتوخى ويكون مدى قرب  المتكلم في حديثه في تحقق إرادته من هذا المثل  ومدى بعده هو المؤشر على الوسم المناسب له و الحاكم الأول عليه .

ولعل التساؤل الذي يحقق الإفادة من تلك الفرضية ومن الإشارة إليها ، هو مدى استثمارها في إجلاء العديد من الجوانب المهمة في المنهج التحليلي عند النحاة ، وكان افتراضها بِدءًا من قِبَل مفترضيها مُؤسس على تحققها في باب “الإعمال والإلغاء ” في ظن وأخواتها ، وذلك بإحداث التقديم والتأخير بين ظن و العناصر المجاورة لها في التركيب ، وارتباط ذلك بنية المتكلم، وتأثير ذلك في صنع التوزيع الإعرابي أو لنقل التحكم في وقع العلامة الإعرابية بتغيير المواضع ،  وذلك بإعمال ظن في حال وإلغائها في أخرى ؛ مما يسبب اختلافًا في الشكل الإعرابي الممثل بين المنطوقات المتعددة التي أدرجها سيبويه في هذا الباب ، وفي هذا المجرى لنا أن نتناول جزئيتين برزا في النقاش السابق :

  • مَن المتكلم الذي حرّكت إرادته كل المنطوقات التي أوردها النحاة في سبيل صنع القوانين الكلامية وتحليلها ؟ وكيف نفيد منه الآن في درسنا لنحو لساننا اليوم أو لنقل كيف يساعدنا هذا المتكلم في تطوير تعامل متكلمنا مع المفهوم الحقيقي لما يكون نحونًا لأصول منطوقاتنا ؟
  • ما مدى إسهام الفرضية الإفصاحية في درسنا للتراث النحوي العربي ؟

في إطار التساؤل الأول الناشئ عن أننا منذ أن انفتحت أعيننا وأذهاننا على تراثنا النحوي، ونحن نتسائل عن الصانع الأول للقواعد النحوية بصورتها التي وصلتنا ، وكانت تلك الصورة مناط نقد شنيع شُنّ على النحاة من سيبويه وحتى اللاحقين به ، بكونهم تفلسفوا في تقديمهم للمادة النحوية ، وبوسم القواعد نفسها بالصعوبة والتقعيد الغير معللين ، فإذا ما نسبنا ذلك الصنع والتقديم لإرادة متكلم نفترض فيه أنه يمثل كل متكلم عربي ، يكون ذلك افتراضًا مجازيًّا لشخص العرب الذي اُمتثل كلامه كنمط يُستوجَب حفظه والقياس عليه ؛ فكانت العرب هي الإرادة الفاعلة وراء توجيه القواعد النحوية التي برزت في نص النحاة ، وكان المتكلم المفترض في حديث النحاة هو المتكلم المبتغى من تسنين القواعد الكلامية عند العرب ، ويكون توجيه المتحدثين وفق هذا الهدف مستلزم من المادة المسموعة المتلفظ بها بأفواه العرب والتي جُمعت من قِبَل النحاة كأضخم عملية للحفاظ على اللغة العربية الفصحى شفاهيًّا وكتابيًّا .

أما عن إسهام الفرضية الإفصاحية في إلقاء الضوء على بعض الجوانب الاتصالية داخل الشروح والتحليلات النحوية وخاصةً عند سيبويه ، الحقيقة أن الفرضية الإفصاحية تتمحور داخل التحليل النحوي عند سيبويه كآلية مندرجة في أثناء شرحه يقصد بها زيادة توضيح جهته التي ينحو نحوها ، كمسار تسري القواعد فيه طريقًا ممهدًا يقف وراء صناعة كلام عربي سليم ، وتبرز قيمة اتصالية تعضد دور العقل العربي في تمييز ما يتفق والبيئة اللغوية التي ينتمي إليها في انتقاءاته التي يقوم بها في تراكب منطوقه وفقًا للعرف الكلامي لفصيلته العربية ، كما تضفي مَعلَمًا جوهريًّا في تعليمية النحو عند علماءنا الأوائل.

ويتمثل هذا الإسهام عند سيبويه خاصةً في عدة مواضع داخل تحليلاته المندرجة في ثنايا نص كتابه في أثناء عرض مادته النحوية وشرحها ، وتندرج كل هذه المواضع تحت بند “بناء الباب النحوي” ، وذلك أما ب :

  • تصدير الباب بزمرة من المنطوقات التي تمثل الاختيار الأصوب المتوافق مع مستوى الفصاحة المستهدَف ، ثم يردف سيبويه تلك المنطوقات بما يعضد صوابها في نفس المتعلم بتفنيد كل الاحتمالات التي يطرحها ذهنه في منطقة صناعة المنطوق وإنتاجه ، ويأخذ في ذلك السبيل حتى يستظهر الحجج على صحة ما ينحو إليه والذي يتمثل في منطوقاته التي ابتدء بها حديثه ، ومن ذلك :
  • في باب “الفاعل الذي يتعداه فعلُه إلى مفعول” يبدأ الباب ب ” وذلك قولك : ضرب عبدُالله زيدًا . فعبدُ الله ارتفع ههناكما ارتفع في ذَهبَ ، وشغلت ضربَ به كما شغلت به ذهب ، وانتصب زيدٌ لأنه مفعول تعدى إليه فعل الفاعل “(سيبويه : 1988، 1: 34) يمثل ذلك التصدير التطبيق الأمثل للقاعدة التى يسطرها الباب ويتبناها ، ويكون الحديث بعدُ عن الاحتمالات الأخرى التي يمكن أن تتمثلها منطوقات أخرى تتموضع داخلها نفس عناصر هذا المنطوق الأصح من الناحية القاعدية ، والتي هي صدى لإرادة المتكلم وما تتركه داخل ملفوظاته من بصمة تعكس ما يعنيه وتحقق له الفائدة التي يرجوها من خطابه  ؛ فيعرض سيبويه بعد تلك العبارة المجملة المفسرة للباب لاحتمال التقديم والتأخير بين الفاعل والمفعول (بين زيد وعبد الله ) ، وما يعكسه ذلك من قاعدة تتمحور في ثقافة المتكلم العربي وتتأصل في كلامهم وهي أنهم ” …يقدمون الذي بيانه أهمُّ لهم وهم ببيانه أعنى ، وإن كانا جميعًا يُهمّانِهم ويَعْنِيانهم ” (سيبويه : 1988، 1: 34) ، ثم يكمل بقية الباب في الإشارة إلى تفاصيل يعلقها بالمسألة النحوية الأساسية التي يطرحها في هذا الباب ، وهذا التقليد يتبعه سيبويه في كثرة من الأبواب النحوية التي يُضمنها في مصنفه.
  • توضيح الإضافات المتنوعة التي يقوم بها المتكلم على الهيكل اللفظي الكلامي الحامل للمعنى الذي يريده ، وذلك من خلال الزيادة أو الحذف أو التقديم أو التأخير ….إلى غير ذلك ، إلا أن تقنية التقديم والتأخير كانت الأبرز في تمظهر تلك التمحورات التي يصنعها المتكلم داخل معنى يدور حوله ، ويكون ذلك بالوصول لأقرب طريق (تركيب) ييسر عملية تلقي هذا المعنى كما يريده إلى المخاطَب به ، ومثّل لذلك بوهاس وزملائه في عرض فرضيتهم بباب ” الأفعال التي تُستعمل وتُلغى ” ، واستقطبوا من ذلك المنطوقات التي استعاض بها سيبويه في تحليلاته داخل شرحه في الباب المشار إليه ؛ ففي باب “الإعمال والإلغاء ” يسرد سيبويه المنطوقات التي بها إعمال ل “ظن” وأخرى التي ملغاة ، يُفترض فيها جميعًا أنها تتركب من عناصر معجمية واحدة مع اختلاف في مواضعها من التركيب ، لكن منها ما يتوائم تركيبه مع الغرض الذي تنحو إليه نفسه ؛ فيعمل وفقًا لشروط التكلم العربي السليم التي تلتزم العرف النحوي المتموضع في كلام العرب نفسه وممتثل له ، والذي يستلزم تراتبًا معينًا للتركيب الصحيح يتوافق والمعنى المستقطب من قِبَل المتكلم ،  يكون الاستعمال والإلغاء وفقًا لذلك التراتب الذي يمَوضِع العناصر داخله بحسب ملكية كل حيز لعنصره (ظننت/جَسِبت/خِلت/رأيت/زعمتُ + مفعوليها) ؛ فالتأخير مناط الإلغاء والتقديم مناط الإعمال ارتباطًا بإمضاء الكلام بحسب ما يرتضي إمضاء كلامه عليه من يقين يتبعه شك ؛ فيؤخر فعل الشك حتى يعمل أول كلامه على اليقين ثم يدركه الشك ، و وفقًا لإرادته هذه يُلغَى عمل “ظن” ؛ ” لأن الحد أن يكون الفعل مبتدأ إذا عَمِلَ”(سيبويه : 1988، 1: 47، 48) ، أما إذا أراد الشك بدءًا ومضى كلامه على تلك النية عمل “الظن” تقديمًا وتأخيرًا، مما يبرز قوة الإرادة المتكلمة في تحقق النية في منطوقها ؛ “فإذا ابتدأ كلامه على ما في نيته من الشك أعمل قدّم أو أخّر..”(سيبويه : 1988، 1: 120) . والحقيقة أن الناظر المدقق في نصوص النحاة التي تركوها لنا يرى بشكلٍ جليٍّ الخلفية القوية التي تصنعها “نية المتكلم” داخل الإطار التحليلي والتطبيقي فيها ، وذلك أنها كانت دائمًا الفاعل الأقوى في توجيه نمط التراكيب ومن ثَمَّ توجيه وتسيير الإعراب ، وذلك من خلال الإفصاح عن هذه النية في المنطوق المنتج من قِبَل المتكلم . ويجدر بنا في هذا الموضع تتبع الخط التحليلي الذي تمثلته هذه الفرضية الإفصاحية داخل نص كتاب سيبويه في سرد تمفصلات الهيكل التركيبي السليم عند ابتداء خطاب مفيد بين متكلم ومخاطَب ؛ ف :
  • يبدأ سيبويه بالمنطوق الأصح الذي يمثل التطبيق الأمثل للقاعدة نجد ذلك مثلًا في حديثه عن الابتداء بالمعرفة أو لنقل الابتداء بما هو معروف ومشترك بين طرفي الكلام ؛ فيضع أمامنا تمثيلًا لذلك ثلاث منطوقات ، وهي : { كان زيدٌ حليمًا – كان حليمًا زيدٌ – كان حليمٌ } ، يُعتبر المنطوقان المبتَدَأ بهما الأصح ، ويعلل سيبويه ذلك بالابتداء بما هو معروف للمتكلم ومن يُوجَّه إليه خطابه ( زيد ) أو البدء بصفة المتحدث عنه منونة ثم إلحاق المبتدأ المعرَّف بها مراعاةً للاتساق الفكري للخطاب في مواجهة المخاطَب ” فإذا قلت : كان زيدٌ فقد ابتدأتَ بما هو معروفٌ عنده مثلَه عندك فإنما ينتظر الخبر. فإذا قلت : حليمًا فقد أعلمته مثل ما علمتَ. فإذا قلتَ كان حليمًا فإنما ينتظرُ أن تعرِّفه صاحبَ الصفة ، فهو مبدوءٌ به في الفعل وإن كان مؤخرًا في اللفظ ” ( سيبويه : 1988، 1: 120) ، أما المنطوق الثالث يعتبر خطأ في إقامة كلام عربي سليم يحقق فائدة تواصلية بين متكلم ومخاطب عربيان يُعد هذا الخطأ خلل جلل في تحقيق الفهم والإفهام بينها ، وذلك يحدث بالابتداء بالنكرة المحدِث للبس في الفهم بأن يكون الحديث عما هو عام ينطبق على كل ما يصح دخوله تحته ، وينبه سيبويه على ذلك بقوله : ” ولا يبدأ بما يكون فيه اللبسُ ، وهو النكرة . ألا ترى أنّك لو قلت : كان إنسانُ حليما أو كان رجل منطلقًا ، كنت تُلْبسُ ، لأنه لا يُستنكرُ أن يكونَ في الدنيا إنسانٌ هكذا ، فكرهوا أن يبدءوا بما فيه اللبس ويجعلوا المعرفة خبرًا لما يكون فيه هذا اللبس …” (سيبويه : 1988، 1: 48) ، وكل تلك الاحتمالات الكلامية التي تندرج تحت معنى واحد هو (حلم زيد أو اتصاف زيد بالحلم) ، تتنزل كل منها قيمة دلالية تصاحبها بحسب قدرتها على توصيل هذا المعنى إلى المخاطَب وفقًا لمعرفته التي تُراعى في المقام الأول ، والتي تُعد الجالب الأول لتلك القيمة والمحدد الأهم لها .

ويجب أن ننتبه جيدًا إلى أنّ تحليل سيبويه وشرحه وتقديمه للمواد النحوية لا تستحوذ عليهم تقنية تحليلية منفردة ؛ فلا يمكن الزعم بأن فرضية أو نظرية ما تستطيع أن تستأثر بكل مسارات تحليله ؛ فمثلا في حال الفرضية المتبناة في تلك الدراسة ؛ فهي تلقي الضوء على خط من خطوط الفكر التحليلي لكن لا يقوم هذا الخط بالتحليل كله ولا يكون هو نفسه إلا بتضافر وتكامل بينه وبين باقي تلك الخطوط الأخرى ؛ فالنظام التحليلي عنده سيبويه وعند النحاة الأوائل بشكل عام نظام متكامل متماسك يؤازر أجزاءه بعضها البعض .

وفي مواضع متمحورة داخل ثنايا شرح وتحليل سيبويه للمادة التي أسس عليها عمله نجده يحقق التوجيه النحوي لمادته بشكل طردي بين متكلم + إرادة + نية و بين المنطوق + المنتج المتلفظ به + الإشارات الإعرابية ، بين مضمر ذهني غير مرئي ومظهر منطوق مرئي يتضافرا معًا في صنع الكلام وتحقيق الفائدة المرجوة منه .

نخلص من دراستنا لفرضية بوهاس وزملائه إلى أنها تمثل أحد الخيوط التحليلية التي تسهم في الكشف عن الربط الحادث بين القاعدة النحوية والموقف الاستعمالي التي أصبحت قانونًا حاكمًا له بحكم استنباطها المنطوق الأمثل فيه من خلال الاحتكام لقوانين الخطاب الموثوق المُستقرَأ من كلام العرب ، كما أنها تنفى التجريد والتصنع عن المادة النحوية التي تركها لنا نحاتنا الأوائل بتفنيد كل الاحتمالات المنطوق بها من قِبَل المتكلم في حال اتصاله لغويًّا بمخاطَبه ، وإسناد القيمة الدلالية الأعلى للمنطوق الذي يتوخى تطبيق مثالي للقانون الكلامي الحاكم لتركيبه ، وذلك مع توضيح القيم التي تصحب المنطوقات الأخرى بحسب قدرتها على تحقيق الفائدة المرجوة من الخطاب .

المصادر والمراجع :

  • بوهاس ، جيوم ، كولوغلي ، التراث اللغوي العربي ، ترجمة : محمد حسن عبد العزيز ، وكمال شاهين، دار السلام، مصر، 2008م.
  • البغدادي ، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت ، تاريخ مدينة السلام ، تحقيق : بشار عواد معروف ، ج14،  دار الغرب الإسلامي ،  ط1، بيروت، 2001م.
  • ابن خلكان ، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر ، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان ، تحقيق : إحسان عباس ،  ج3، دارصادر، بيروت ، 1978م.

–    الزبيدي ، أبو بكر محمد بن الحسن ، طبقات النحويين واللغويين ، تحقيق : محمد أبوالفضل إبراهيم ، دار المعارف ، ط2، مصر.

–    الزجاجي ،  أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق ، مجالس العلماء ، تحقيق : عبد السلام هارون ،  مكتبة الخانجي ، ط3 ، مصر 1999م.

–    سيبويه ، أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر ، الكتاب ، تحقيق : عبد السلام هارون ، ط3، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، 1988م.

–  السيرافي ، الحسن بن عبد الله بن المرزبان ، أخبار النحويين ، تحقيق : طه محمد الزيني ، ومحمد عبد المنعم خفاجي ، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده ، ط1، مصر، 1955م.

–  السيوطي ،  جلال الدين عبد الرحمن ، بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة ، تحقيق: محمد أبوالفضل إبراهيم ، ج2،  مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه ، ط1، مصر، 1965م.

–   عبد العزيز ، محمد ، النظرية اللغوية في التراث العربي ، ج1،  دارالسلام،  ط1، مصر، 2006م.

–   القفطي ، جمال الدين أبي الحسن علي بن يوسف ،  اِنباه الرواة على أنباهِ النحاة، تحقيق: محمد أبوالفضل إبراهيم ، دارالفكرالعربي ، ط1 ،  مصر ، 1986م.

  • مراجع أجنبية:
  • Bohas,J.-P.Guillaume,D.E.Kouloughli , The Arabic Linguistic Tradition ,first published, Routledge , London and New York ,   1990.
4.5/5 - (10 أصوات)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى