تقاطعات القانوني والسياسي في تونس وآفاق تدبُّر الحل

اعداد : محمد العربي العياري/مركز الدراسات المتوسطية والدولية/تونس
- المركز الديمقراطي العربي
لازالت الساحة السياسية في تونس تتداول في آثار وتداعيات ما حصل في 25 جويلية 2021. حيث يتفق جّل الفاعلين على أن رئيس الدولة ماض في تفعيل جُملة من الإجراءات القانونية المتعلقة بتغيير النظام السياسي وتنقيح المنظومة الانتخابية ومراجعة قانون الأحزاب. غير أن هذه الإجراءات لم توضع على محك التطبيق إلى حد اليوم، حيث ينتظر الشارع التونسي بمختلف مشاربه الفكرية وإصطفافاته الحزبية، أن يُقدم رئيس الدولة على تعيين رئيس حكومة ومن ثمة الشروع فيما أسماه “الإصلاحات” التي تمُس مختلف القطاعات والمؤسسات، وخاصة تلك المتعلقة بما ذكرناه حول المنظومة السياسية برمتها.
تبدو هذه التنقيحات والمراجعات نقطة الارتكاز فيما يتعلق بمستقبل العملية السياسية في تونس، ومآلات الانتقال الديمقراطي برمته. غير أننا نلاحظ جملة من ردود الأفعال التي نعتبرها لم تخّض بالشكل المطلوب بل ولم تلامس جوهر الحل، حيث لم تغادر مدار الطواف حول المشكل ومحاولات المسك بالحل. يمكن تلخيص هذه الردود في ثلاث مواقف كبرى.
- الموقف الأول يتمثل في اختصار النقاش بين مختلف الفاعلين الرافضين لمسار 25 جويلية وما بعده حول الإخلالات القانونية والتعدي على الدستور ومكتسبات الانتقال الديمقراطي. من المفيد أن نتطرق إلى مجموع الإخلالات القانونية والدستورية التي رافقت مسار 25 جويلية وما بعده. لكن طبيعة الحدث السياسي تفرض الانتقال من القانوني إلى السياسي، بمعنى أن يكون تحليل الحدث واستشراف مآلاته مُقترنا بالسياسي أكثر منه بالقانوني. لا يمكن للمعطى القانوني أن يتجاوز محطة الإدانة وكشف الخروقات، لكن الحكم الصادر يجب أن يتحول إلى موقف سياسي يتجاوز استعمال القانون فقط إلى بناء فكرة سياسية تُستعمل إما للضغط السياسي والحقوقي أو لإجبار الطرف الآخر مُمثّلا في رئاسة الجمهورية على الأخذ في عين الاعتبار بعض النقاط التي تتمفصل داخلها وحولها معطيات القانون بإكراهات السياسية. لا يمكن التعويل كثيرا على تأويلات قانونية هي في الأصل محل اختلاف لنصل إلى صياغة موقف موحد قد لا يُعيد ترتيب الساحة السياسية كما هي قبل 25 جويلية أو على الأقل في صورة أقل قتامة مما هو متوقع.
- الموقف الثاني يتمثل في ردود أفعال الأحزاب والمنظمات والشخصيات الأكاديمية والإعلامية المساندة لرئيس الدولة. حيث تقف هذه المجموعة على خط الحياد فيما يتعلق بطرح بديل سياسي يتعلق بطبيعة النظام السياسي والمنظومة الانتخابية برمتها. بل وصل الأمر في بعض الأحيان إلى تحوّل هؤلاء إلى مفسرين ومبررين لجملة القرارات والمواقف التي يتبناها ويُقرّها رئيس الجمهورية. أن يساند جزء من الفاعلين السياسيين والنخب طرفا سياسيا دون آخر، فهو من طبيعة الفعل السياسي، لكن الحالة التونسية تتجاوز مواقف التأييد والتخندق في صف رئيس الدولة دون تقديم تصورات وبدائل تساهم في تحريك الجمود السياسي القائم. نتحدث هنا على رئيس دولة لا يؤمن بالعمل الحزبي وطريقة الانتخاب والعملية التواصلية بين الناخب والنائب وبين الفاعل السياسي والنخب والشعب، وبصورة أكثر وضوحا، يأتي تحرك 25 جويلية كإشارة انطلاق لمسح صورة العمل السياسي كما كانت منذ 2011، ومن الطبيعي أن تشمل حملة المسح كامل الطيف السياسي بصرف النظر على مواقفه. عوض أن ينشغل المؤيدون لرئيس الدولة على صياغة رؤية متكاملة حول مآلات السياسة في تونس من جانب ما يجب أن تكون عليه، تقف مجموعة المساندة في صف التأييد الأعمى- رغم بعض المواقف القليلة- التي نعتبرها تتنزل في إطار المناورة أكثر منه اقتناع كلي ومبدئي. في هذه الحالة، ستتحول هذه المجموعة المؤيدة إلى تطبيق رؤية الرئيس حول كيفية التنظم والفعل السياسي، وربما يصبحون حزب الرئيس غير المعلن.
- الموقف الثالث يتردد عبر بيانات وتصريحات الأحزاب والمنظمات وغيرهم ممن عبروا على رفضهم لما قام به رئيس الدولة في 25 جويلية 2021. حيث لازالت هذه الأحزاب والمنظمات تراوح مكانها النقدي منشغلة بتقييم حجمها ووزنها الشعبي والانتخابي وقدراتها على التأثير بعد تمكن الرئيس من كامل مؤسسات الدولة. لا يجب إغفال مسألة النقد الذاتي والجرأة على الإصلاح وترتيب البيت الداخلي، لكن مواقف البعض منها والمتمثل في تسليم كلي ومطلق بالمرحلة الجديدة التي تتمثل في عزف منفرد لرئيس الدولة على أوتار السياسة، ومن ثمة انتظار تفاعلات بعض قوى الداخل وضغط بعض القوى الخارجية، واصطياد أخطاء من الوارد أن تصدر عن رئيس الدولة، كل ذلك لن يجعل من الساحة السياسية تتحرك في اتجاه معاكس للوجهة التي اتخذتها منذ 25 جويلية 2021. بل من الوارد أن يُؤدي ذلك إلى اندثار هذه الكيانات وفقدانها لجزء كبير من الأنصار والقيادات. من الطبيعي أن يتراجع الجسم السياسي في مرحلة الأزمة خطوات إلى الوراء، لكن التراجع يجب أن يكون متساوقا مع الانهماك في ورشة تفكير حول صياغة رؤية سياسية توضع على طاولة المفاوضات المعلنة وغير المعلنة، وليس الانشغال في تصفية حسابات الداخل ومن ثمة تصديرها نحو الدولة.
جملة هذه المواقف، تجعلنا نفكر في مآلات الساحة السياسية في تونس والتي أصبحنا نلاحظ مدى تعويلها على الفاعل من خارج الدولة ممثلا في قوى خارجية قد تحمل الحل داخل باقة ورد. هذا الأمر يفتح باب الخلافات على مصراعيها، خاصة ونحن في عمق الأزمة والانغماس الواضح في لعبة المحاور الإقليمية والدولية.
يجب على مختلف القوى الوطنية أن تنغمس في تحليل شروط لحظة 25 جويلية 2021 ومنها ينطلق النقاش السياسي حول:
- ما يمكن نسجه من تحالفات لمواجهة ما حدث وما سوف يحدث.
- التفكير في بدائل سياسية على مستوى الأفكار والأطروحات المضادة لتلك التي يعتزم رئيس الدولة فرضها بقوة القانون وأشياء أخرى.
- اختيار أشكال النضال والتواصل مع مختلف الفاعلين السياسيين والمدنيين والفئات الاجتماعية.
- تحيين متواصل ويومي لأشكال التحرك والضغط.
قد تكون هذه المقترحات بداية لتشكل وعى معارض سياسيا لما هو مفروض بقوة لحظة 25 جويلية 2021، لكن هذه الرؤى قد تتخذ شكلها النهائي متى استمات الفاعل السياسي والمدني في دفاعه على مسار ديمقراطي لا يمكن تجاوزه رغم هناته وتعثراته.