الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

الانتخابات الليبية: هل يُعيد التاريخ السياسي إنتاج خيباته؟

بقلم : محمد العربي العياري/ مركز الدراسات المتوسطية والدولية – معهد تونس للسياسة/ تونس.

  • المركز الديمقراطي العربي

 

 يبدو أن طريق الانتخابات اللبيبة لازالت تُعاني من تعرُّجات ومطبّات لم تُفلح عشرية “الجمر” في رتق ما تفّتق منها، حيث عاود دبيب الخلافات في الظهور مجددا. تلتقي جُملة من العراقيل الذاتية والموضوعية لتُطبق باب التوافقات، وتفتح بوّابة الخلافات على مصراعيها.  من المفترض أن يتم إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في الرابع والعشرين من ديسمبر- كانون الأول- 2021 بمقتضى نص الاتفاق الذي أمضته الأطراف المتحاورة في تونس في العام المنصرم.

غير أن مُخرجات خارطة الطريق التي التزمت بها جميع الأطراف، لم تجد طريقها إلى التفعيل خصوصا مع اقتراب موعد الاستحقاق الانتخابي، وانطلاق أشغال المفوضية العليا للانتخابات المشرفة تقنيا على تفاصيل العملية الانتخابية. لازال هنالك العديد من التفاصيل التي تهم تهيئة الظروف الملائمة لنجاح الانتخابات، عصيّة على الحل بين مختلف الفرقاء السياسيين، مما يُهدد بصفة جدية بنسف مسار التسوية السلمية ويُلغي نهائيا خارطة الطريق المُوقعة في تونس.

تتعدد أسباب ودوافع الخلافات، وتتباين وجهات النظر بين الفاعلين السياسيين، حيث يمكن تعداد أهمّها في النقاط التالية:

  • عدم الاتفاق على مسألة سحب الميليشيات المتواجدة على الأراضي الليبية. وقد مثّلت هذه النقطة بالذات إشكالية رئيسية أثّرت بعمق على مختلف مسارات التفاوض السياسي. هذه النقطة بالذات تُثير جملة من الإشكاليات التي تتجاوز الفاعل السياسي الليبي، هذا لأنها ترتبط بدول فاعلة في الإقليم لا يمكن أن تسمح بتراجع حجم ونوع نفوذها في الداخل الليبي.
  • الخلافات بين رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة ونائبه الأول حسين القطراني (ممثل إقليم برقة) حول تفاصيل تهم التسيير الإداري وحدود تدخل كل منهما وعلاقاته بالسلطة المركزية والمحلية.
  • تصريحات بعض ممثلي “ملتقى الحوار السياسي” حول عدم التوافق فيما يخص القوانين المنظمة للعملية الانتخابية. هذا، رغم تعديل بعض شروط الترشح وخاصة منها النقطة المتعلقة بتعديل سن الترشح من 40 سنة إلى 35 سنة.
  • تكثيف الضغوطات الدولية على ليبيا ومنها ما صدر عن السفير الأمريكي مؤخرا والتي تتمحور حول الدعوة إلى الالتزام بالاتفاقيات المنظمة للعملية الانتخابية، أو التعرض إلى عقوبات دولية وفقا لقرارات مجلس الأمن عدد 1970 و1973.
  • استقالة مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا “يان كوبيش” مما يدل على تعسّر مسارات التفاوض بين الفاعلين السياسيين وصعوبة الاتفاق حول تفاصيل تهم الانتخابات وترتيب البيت السياسي الداخلي.
  • عدم إيفاء بعض الشخصيات السياسية بتعهداتها بمقتضى خارطة الطريق الموقعة في تونس أواخر العام الماضي، حيث تفرض هذه الاتفاقية عدم ترشح رئيس الحكومة الحالي عبد الحميد الدبيبة ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح وغيرهم من الشخصيات. غير أن بعضهم (عبد الحميد الدبيبة) نقض ما تعهّد به وقام بتقديم ترشحه للانتخابات المقبلة.

سوف تُؤثر هذه الخلافات بعمق على سيرورة العملية السياسية، وربما تنسف بآخر الحلول التي ترجمها الفرقاء السياسيون الليبيون في شكل خارطة طريق مُلزمة وفق اتفاق تونس 2020. من المؤكد أن حُمّى الصراعات والرغبة في التموقع وكسب نقاط سياسية، لا يمكن لها أن تسمح ولو بولوج نقطة ضوء عبر جدار الخلافات.

تُمثّل هذه القراءة مشهدا رأسيا للساحة السياسية الليبية، غير أن الواقع يُخفي ما هو أشد تأثيرا في تفاصيل ترتيب السياسة ومواقف الفاعلين وتعقّد ملف التدخلات الخارجية ولقاءات المصالح.

إلى ذلك، لم تشهد الساحة الليبية استقرارا منذ عملية “فجر الأوديسا” التي أطاحت بنظام معمر القذافي، حيث دخلت البلاد في نفق مظلم وحدث “المحظور السياسي” في أكثر من مرة: اغتيالات سياسية، فوضى السلاح، التقاتل والإحتراب الأهلي… وغيرها من عوامل وصنوف زعزعة الاستقرار. وقد مثلت ليبيا – ولا زالت – أرضا خصبة للتنافس الدولي من أجل وضع اليد على مصادر الثروة البترولية والغازية الهائلة التي تُناهز 35% من الإنتاج الاجمالي للقارة الافريقية. ومع تغيّر قواعد الاشتباك وخارطة التحالفات الجيواستراتيجية، مثّلت ليبيا أرضا ملائمة وجاهزة – بحكم عدم الاستقرار السياسي – لبناء “منصّات” سياسية لبعض الدول، وكسب مواطن الثروة. لذلك، تعدد الفاعلون الدوليون في ليبيا، وتقاطعت المصالح تارة، وتنافرت تارة أخرى. من مشروع “السيل التركي”  الذي تُديره الدولتان الروسية والتركية والذي يُترجم بلغة الأرقام بما قيمته 35 مليار دولار، إلى مشاريع إعادة الإعمار فيما يخص البنية التحتية التي وقعتها الجارة الشمالية مصر شراكة مع الإمارات العربية المتحدة وبعض دول الخليج العربي، والتسابق المحموم التقليدي بين الشركات الفرنسية والإيطالية، والتي تسببت في وقت ما في تبادل اتهامات ديبلوماسية بين البلدين، إلى حدود العودة القوية للولايات المتحدة الأمريكية واهتمامها بالملف الليبي بصورة أكثر عمقا مما كانت عليه منذ اغتيال سفيرها هناك في 2012، والتي تُريد أن تكون  من المساهمين في ملف التسوية السياسية الليبية برأس مال  يضمن لها أكبر قدر ممكن من العائدات الجيوسياسية في مواجهة التغلغل الصيني في شمال القارة الإفريقية، وتحرك جزء من “صفائح” السياسة في اتجاه فاعلين جُدد.

كل هذه “الاكراهات” مضافا إليها غُموض الوضع التونسي المُؤثّر جوهريا في الداخل الليبي، ومع جار جزائري يبدو أنه في “حالة تأهب قصوى” لمواجهة مفتوحة على كل الاحتمالات مع المغرب، مضافا إلى ذلك عامل الوقت واستنفاذ كل بالونات الأكسجين الممكنة، جعلت من الحل السياسي الليبي “مرتهنا” بأجندات خارجية تضمن للفاعل السياسي الدعم المالي والسياسي، وتُمكنه من “مشروعية” تُغذيها تحالفاته الدولية. من هذه الزاوية، نفهم أسباب تعدد الترشحات للانتخابات الرئاسية الليبية وظهور أسماء كان من المفترض أن يقتصر دورها على قيادة المرحلة الانتقالية مثل رئيس الحكومة الحالي عبد الحميد الدبيبة ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، هذا بالإضافة إلى ترشح شخصيات قد لا تكون بطاقة سوابقها السياسية مُطابقة لشروط الترشح، مثل المشير خليفة حفتر وسيف الإسلام القذافي الذي يُمثّل – وفق بعض القراءات – ورقة روسية بامتياز استثمرت روسيا في رمزيتها منذ 2014.

بصرف النظر عن المترشحين أو خارطة تحالفاتهم، تبدو السياسة في ليبيا وفية لدولة ما قبل 2011 حيث تلعب القبيلة والوجاهة الاجتماعية أدوارا حاسمة في عملية اختيار الفاعل السياسي، ومع انصراف الفاعلين السياسيين نحو البحث على دعم من قوى خارجية ربما كان بعضها سببا في الازمة الليبية، يتعمق الشرخ بين انتظارات الشعب الليبي وبين ما سوف تُفصح عنه تفاصيل ترتيبات الساعة صفر.

لا يمكن ان ننتظر انفراجا للازمة الليبية بمثل ما ذكرناه من “اكراهات” يتحمّل وزرها الفاعل السياسي الذي يبحث عن فرص لسد فراغ مؤسساتي باستعمال آلية الانتخابات، لكنه يُفرغ هذه المؤسسات من أدوارها الحقيقية، ويترك رياح الخلافات تعصف بما تبقى من الدولة.

إلى حد اللحظة، لازالت هناك فرصة – ربما هي الأخيرة – للاتفاق حول ما يجب أن يكون ليبيّا شرطا وواجبا، دون أن يُسمح للقوى الخارجية بأن تتمدد أكثر على طول الجسم الليبي، وحتى يضمن الجميع دورة أخرى للتاريخ السياسي الليبي في اتجاه إعادة بناء الدولة وليس إعادة انتاج خيباته.

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى