صنع القرار في الكونجرس الأمريكي : عزيزي كلنا مختطفين ( المقال الثاني )

بقلم : التجاني صلاح عبد الله المبارك – المركز الديمقراطي العربي
انتهيت في المقال السابق عن صنع القرار في الكونجرس الأمريكي، إلى أنه ثمة عدة عوامل ومتغيرات تؤثر في استقلالية قرارت الكونجرس، مثل التأثير المباشر من المؤسسات الاقتصادية الكبيرة العملاقة، التي تمارس نفوذها لتحقيق أهدافها ومصالحها بصورة رئيسية، وجماعات الضغط المختلفة التي تمارس مجهودا ضخما ومباشرا على المشرعين، ومن أكبر جماعات الضغط في الولايات المتحدة التي تقوم بهذا الدور هي جماعة الايباك، التي وصلت حدا كبيرا في التأثير المباشر على المشرعين.
وأشرت إلى أنه في ظل المعارضة المتصاعدة لإسرائيل داخل الكونجرس، في خصوص معاملة إسرائيل غير الإنسانية للفلسطينيين، مثل التهجير القسري والقتل المتعمد كما لو كانت تقتل الكلاب الضالة، فإن المتشددين المؤيدين لإسرائيل وعلى رأسهم الايباك، يرحبون بقيادة “جيفريز” في الحزب الديمقراطي أكثر من أي وقت مضى، في محاولة منهم لوقف هذا التصعيد المتنامي.
ومن أجل ضمان وتأكيد الدعم المتواصل لإسرائيل، وفي سياق التصعيد المتنامي ضد إسرائيل وتزايد شعور الكراهية والعداء لها في الوسط الأمريكي وفي مجالس التشريع، فقد وظفت مجموعة الايباك مشروع الديمقراطية المتحدة، الذي باشر مهامه فورا في ضخ ملايين الدولارات في الحملات الانتخابية قبيل انتخابات التجديد النصفية، لدعم المرشحين الذين يراعون المصلحة الإسرائيلية، وهي استراتيجية تعتمد فيها ايباك على المساومة وتبادل المصالح، ومن خلالها يتم تقديم كافة أشكال الدعم للمشرعين من أجل اكتساح الانتخابات التشريعية، مقابل الحصول على دعم وتأييد للقضايا التي تهمها، وهي الاستراتيجية التي تعتمد عليها ايباك بشكل أساسي ورئيس!
وان أهداف هذه الجماعة، التي من بين أعضائها ليس اليهود وحسب لكن أعضاء جمهوريين وديمقراطيين، تتمثل في تحقيق الدعم الكامل لإسرائيل، وتقوية العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل، من خلال التعاون التام بين أجهزة الاستخبارات في كلا البلدين، والمساعدات العسكرية والاقتصادية، والعمل على منع أي تحالف أو تقارب أمريكي مع الدول العربية يمكن أن يكون ضررا على إسرائيل، وفي الوقت نفسه تسويغ كل أشكال التطبيع بينها وبين الدول العربية، في ظل شعور الكراهية المتصاعد.
وأن “جيفريز” رئيس الديمقراطيين في مجلس النواب الجديد يحتفظ بعلاقات جيدة مع لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية. إلى الحد الذي يقول فيه: في بلدنا، مدينة نيويورك نعتبر القدس الحي السادس..والمساعدات الأمريكية لإسرائيل يجب أن تستمر بدون شروط.
وفي حالة من الفوضى لم يشهدها الكونجرس الأمريكي منذ أكثر من 160 عاما، وبعد 15 جولة تصويت، انتهت الانتخابات في مجلس النواب بفوز “كيفن مكارثي” 57 عام زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب الأميركي، وحصوله على الأصوات اللازمة لانتخابه رئيسا للمجلس، بعد حالة توتر وقلق شديدين لازما نواب الحزب الجمهوري، كما لازمت الرئيس ” جو بايدن” الذي قال: إن عدم قدرة الجمهوريين في مجلس النواب على التوحد خلف مرشح لرئيس المجلس، والذى منع الغرفة من بدء عملها التشريعي، أمر محرج ولا يبدو جيدا للبلاد.. أمل أن يتحدوا معا، فباقي العالم يشاهد المشاهد الفوضوية في مجلس النواب.
وفي الوقت الذي اجمع فيه الديمقراطيون على انتخاب “جيفريز”، انقسم النواب الجمهوريون في كتلتهم بين مؤيد ومعارض ل ” مكارثي” في خطوة ربما تقترب من تحقيق نبؤه “ميدفيديف”(توقع “ديمتري ميدفيديف” نائب الرئيس الروسي عدة أحداث ربما تشهدها الولايات المتحدة في بداية العام الجديد2023 منها تفكك الولايات المتحدة، وتتصاعد الأزمات الداخلية بها، واستقلال كاليفورنيا وتكساس وربما اندماج الأخيرة في وحدة مع المكسيك).
ولأن روسيا تعتبر الولايات المتحدة خصما عنيدا تتمنى إزاحته من الهيمنة والقطبية الواحدة، والسيطرة على النظام العالمي الذي تعتبر فيه الولايات المتحدة بما لها من قوة ضاربة واقتصاد كبير، أنها سيد العالم والمتحكم في حركته وسياساته، فان مشهد انتخاب رئيس مجلس النواب الأمريكي الذي يعتبر ثالث أهم شخصية في المشهد السياسي الأمريكي بعد الرئيس “جو بايدن” ونائبته “كامالا هاريس”، وحالة الفوضى التي لازمت جولاته الأربعة عشر الخاسرة، ربما يكون انتصارا معنويا على الأقل للجانب الروسي.
صحيفة لوتان (e TempsL) السويسرية قالت: إن الزعيم الجمهوري “كيفن مكارثي” واجه المماطلة من أطراف حزبه الأكثر تطرفا، ليجد الجمهوريون أنفسهم (بدلا من الدخول في مواجهة مع الحكومة) يأكل بعضهم بعضا، في صراع مع من يرفضون انتصار الرئيس “جو بايدن” ويعتبرونه مسروقا.
ولأن الحزب الجمهوري انشطر إلى فرقتين منهم المعارض لسياسات “ترامب”، ومنهم المؤيدين له، وبروز الجناح اليميني المتطرف الذي يعارض كل شيء تقريبا، فهذا من شأنه أن يقدم قراءة على ما ستكون عليه طبيعة الحكم في العامين القادمين، أو بصورة أدق تحديد اختطاف القرار الأمريكي.
“مات غايتس” يعتبر من الجمهوريين الفرقة المؤيدة ل “ترامب” ويعارض “مكارثي” الجمهوري أيضا، لأن الأخير يصدق بمزاعم التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية التي نصبت “ترامب” حاكما للأمريكيين. فقد تزايد الشك في ذلك الوقت في الدور الروسي في التأثير على العملية الانتخابية الرئاسية السابقة، عندما أقال “ترامب” مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) “جيمس كومي” من منصبه (وهو المنصب الذي يفترض أن يبقى في إدارته لمدة عشر سنوات بعد أن عينه الرئيس السابق “باراك أوباما “في الرابع من سبتمبر 2013). وقد أثارت إقالته وقتها عديدًا من التساؤلات عن مدى نزاهة العملية الانتخابية الرئاسية، التي كان” جيمس كومي” فتح ملفًا للتحقيق فيها، يشير باتهام وتورط روسيا في التخطيط للتأثير في العملية الانتخابية، بما يضمن هزيمة “هيلاري كلينتون” الديمقراطية، وفوز “ترامب” الجمهوري، وألقت إقالة “كومي” وقتذاك مزيدًا من الشك وعدم اليقين في مصداقية” ترامب”، ومزيدًا من الظن السيئ في الدور الذي تقوم به روسيا تجاه الولايات المتحدة.
الروس من جانبهم بادلوا اتهامات مكتب التحقيقات الفيدرالي بالتهكم والسخرية، ففي الوقت الذي وصفت فيه “هيلاري كلينتون” (الخاسرة في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في الثامن من نوفمبر ، بسبب القرصنة الروسية) ما حدث بأنه ليس هجومًا على شخصها ولا على حملتها فحسب، بل هو هجوم على بلدها، وأن الأمر يتجاوز السياسة ويتعلق بالديمقراطية وأمن الولايات المتحدة، فإن “ديمتري بيسكوف” المتحدث باسم الكرملين، قال إنه في هذه المرحلة بات على الأمريكيين إما التوقف عن التطرق إلى هذا الموضوع أو تقديم أدلة، وإلا فهذا يفوق الوقاحة! ولا أحد يدري عن أي وقاحة يتكلم.
ومن الواضح أن عملية الانتخاب المتعسرة التي شهدتها جنبات مجلس النواب، بعد تنازلات كبيرة قدمها “مكارثي” مثل منح الفرقاء الرافضين تقريباً جميع مطالبهم، مثل إدخالهم في عضوية جميع اللجان النيابية النافذة، وموافقته على مطلبهم بأن يتمكن أي مشرع من المطالبة بإقالته في أي وقت، كانت هي الوسيلة الوحيدة المتاحة لديه لفوزه برئاسة المجلس.
هذا المشهد السياسي المعقد ربما دفع الايباك إلى التخلي عن سياسة سابقة تقضي بعدم التدخل في الحياة السياسية، وبحسب ما نشرته” “جيروساليم بوست” فان لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية عقدت اجتماعا بمشاركة كبار الشخصيات، لوضع استراتيجية انتخابات الرئاسة المقبلة في 2024.ولمراجعة نتائج انتخابات 2022، وتعزيز العلاقات بين أمريكا وإسرائيل وبحث ما يمكنهم فعله لمواصلة تعميق مشاركتهم السياسية.
وضع الكونجرس الحالي بشقيه النواب الذي به أكثرية جمهورية ضئيلة ومجلس شيوخ الذي يسيطر عليه الديمقراطيون بأكثرية ضئيلة أيضا ربما يشير بوضوح إلى طبيعة المرحلة القادمة والتي ربما يغلب عليها تصفية الحسابات والفوضى والاستقطاب والانقسامات واختطاف القرار.