الولايات المتحدة الأمريكية تريد الآن استقلالًا إستراتيجيًا أوروبيًا
The United States Now Wants European Strategic Autonomy
بقلم: ماكس بيرغمان[1] – مراجعة وتحرير: د. طالب عبد الجبّار الدغيم
- المركز الديمقراطي العربي
إن اِنتخاب دونالد ترامب لفترة رئاسية ثانية من المرجح أن يُحدث تحولاً كبيرًا في العلاقات التحالفية عبر الأطلسي. فالأجندة التي ستتبناها إدارته الجديدة ستُمثِّل تحولًا هائلًا في السياسة الأمريكية تجاه أوروبا بعد الحرب الباردة. وبدلاً من السعي إلى الحفاظ على الدور المهيمن للولايات المتحدة في أوروبا، من المرجح أن تسعى إدارة ترامب إلى التراجع، وترك أوروبا للأوروبيين بدرجة كبيرة، أو ما يسمى بــ “الاستقلالية الإستراتيجيةالأوروبية”[2].
ولكن هدف إدارة ترامب لا ينبغي أن يقتصر على الانسحاب من أوروبا، بل يجب أن يتم ذلك بطريقة تعزز من قوة أوروبا. هذا الهدف قابل للتحقيق ولا يتطلب جهدًا دبلوماسيًا مكلفًا أو مستنزفًا. ومع ذلك، فإن تحقيق ذلك يستلزم التخلي عن تكتيكات “فرق تسد” التي تبنتها الولايات المتحدة تجاه أوروبا منذ نهاية الحرب الباردة، إلى جانب دعم الجهود الأوروبية المشتركة في مجال الدفاع. قد يتعارض ذلك مع الحمض النووي السياسي للإدارة القادمة، ولكن انسحابًا مفاجئًا يترك أوروبا في حالة فوضى لا يصب في مصلحة أحد، وسيدفع أوروبا بلا شك إلى المناورة في المنافسة بين الولايات المتحدة والصين. وباختصار، يجب أن تسعى إدارة ترامب إلى أوروبا بتعاون منظم وأقوى، وليس فوضوي وأضعف، وهذا يتطلب قدرًا من المشاركة الفعالة.
تحول في النموذج
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة الأمريكية الضامن الأمني لأوروبا. وفي البداية، اضطلعت الولايات المتحدة بهذا الدور على مضض، إذ كانت تسعى إلى إعادة قواتها إلى الوطن، وتقليص ميزانية الدفاع. إلا أن اندلاع الحرب الباردة، والمخاوف من القدرات والنوايا العسكرية السوفيتية تجاه أوروبا الغربية دفع الولايات المتحدة إلى تشكيل حلف شمال الأطلسي (الناتو) في عام 1949. ومع ذلك، لم تكن الولايات المتحدة والأطراف الأوروبية الموقعة على الاتفاق في نفس التوجه والأهداف تمامًا بشأن غرض الناتو.
وكان الجميع متفقين على أن الحلف يهدف إلى ردع روسيا، ولكن فكرة أن الحلف شُكِّل لإبقاء “الأمريكيين في أوروبا” كانت هدفًا أوروبيًا أكثر منه أمريكيًا. وبمعنى آخر، لم ترغب الولايات المتحدة في البقاء في أوروبا فحسب، بل سعت أيضًا إلى تحويل أوروبا، ودعمت بقوة جهود التكامل الأوروبي، بما في ذلك في مجال الدفاع.
وبعد نهاية الحرب الباردة، اِضطرت واشنطن إلى إعادة تقييم حلف الناتو ومستقبل مشاركتها في أمن أوروبا. وفي نهاية المطاف، قررت الولايات المتحدة أنها تريد البقاء في أوروبا. ومنذ ذلك الحين، سعت الولايات المتحدة عمدًا إلى الحفاظ على امتيازها في أوروبا. ففي نهاية المطاف، تقود الولايات المتحدة دفة القرار داخل الناتو، ولديها نفوذ أكبر في أوروبا مقارنة بأي منطقة أخرى في العالم.
ومع ذلك، فإن وجود الولايات المتحدة في أوروبا قلل من الحافز والضغط على أوروبا لتستثمر بشكل كافٍ في قدراتها الدفاعية. ورغم أن الولايات المتحدة لطالما دعت الدول الأوروبية إلى زيادة إنفاقها العسكري، فإنها أمضت السنوات الـ25 الماضية في معارضة المبادرات الدفاعية التي تقودها الاتحاد الأوروبي بشدة. وحتى عندما زادت الدول الأوروبية إنفاقها على الدفاع، كما هو الحال حاليًا، فإنها غير قادرة على إدارة أمنها الجماعي بشكل مستقل، لأن الأمن الأوروبي الجماعي هو مسؤولية الناتو، أيّ الولايات المتحدة الأمريكية.
ولقد شعر بعض القادة الأمريكيين، وأعضاء المؤسسة الأمنية الوطنية في واشنطن بإحباط متزايد إزاء ما يُعتبر تقاعسًا أوروبيًا عن المساهمة، وأصبحوا ينظرون إلى أوروبا بازدراء خلال العقدين الماضيين. ومع ذلك، عندما بدأ نقاش في أوروبا حول “الاِستقلالية الإستراتيجيةالأوروبية” مع انتخاب دونالد ترامب والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ردت المؤسسة الأمنية الوطنية الأمريكية بمعارضة شديدة.
رأت الولايات المتحدة أن “الاستقلالية الإستراتيجيةالأورروبية” تعني الطلاق عبر الأطلسي. وقد علق مسؤول دفاعي أمريكي كبير قبل سنوات قائلاً: “أخبرت زوجتي هذا الصباح أنني أريد المزيد من الاستقلالية الإستراتيجية، وها أنا الليلة أقيم في فندق”. وعندما اِقترح الاتحاد الأوروبي مبادرات دفاعية متواضعة، عارضتها بشدة وزارتا الخارجية والدفاع في إدارة ترامب. ورغم نفور ترامب من الناتو، إلا أن إدارته سعت إلى ضمان الهيمنة الأمريكية في أوروبا، وهو ما استمر خلال إدارة بايدن. ومع ذلك، حدث تحول هادئ ودقيق، حيث توقفت الولايات المتحدة عن معارضة المبادرات التي يقودها الاتحاد الأوروبي صراحة، لكنها لم تقدم لها الدعم النشط أيضًا.
دخول ترامب (من جديد)
هذا النقاش يقودنا إلى انتخاب ترامب لولاية ثانية. وعلى الرغم من أن ترامب خلال فترته الأولى استعان بخبراء تقليديين في السياسة الخارجية؛ يدعمون حلف الناتو والعلاقة عبر الأطلسي، فإن ولايته الثانية من المحتمل أن تتبع مسارًا مختلفًا تمامًا. وللرئيس ترامب وجهات نظر راسخة وطويلة الأمد حول التحالفات الخارجية. وخلال السنوات الأربع الماضية ظهرت نقاشات سياسية أكثر شمولاً حول كيفية تقليل الالتزامات الأمنية الأمريكية تجاه أوروبا، مما يتيح لرؤية ترامب لدور الولايات المتحدة في حلف الناتو أن تتحقق. علاوةً على ذلك، فإن تركيز البنتاغون ينصب على “التحدي الإستراتيجي” الذي تشكله الصين. وعلى الرغم من قلق العديد من الدول الأوروبية بشأن تهديد روسيا لحلف الناتو، فإن سنوات روسيا من الكفاح في أوكرانيا تجعل العديد من المحللين يرون أن التهديد ليس بالقدر الذي كان يُعتقد سابقًا.
ولذلك، من المرجح أن يتبع مسؤولو الأمن القومي في إدارة ترامب إستراتيجية انسحاب مدروسة من حلف الناتو. ولكن ماذا يعني ذلك عمليًا؟ قد تنسحب إدارة ترامب من القوات والقدرات الأمريكية في أوروبا أو ترفض تقديم الأصول الأساسية لتخطيط الناتو. وقد لا تعين سفيرًا جديدًا للناتو أو قائدًا أعلى جديدًا للحلف. وربما لن يحضر ترامب قمة العام المقبل في لاهاي.
تتمثل النظرية التي تدعم رؤية ترامب في أن الانسحاب الحاد والمباشر سيشكل صدمة لأوروبا تدفعها إلى تحسين أدائها. قد تنجح هذه الخطة، لكنها قد تفشل أيضًا بشكل كارثي، مما يؤدي إلى تفكك الأمن الأوروبي وخلق فراغ أمني قد تُلام إدارة ترامب على التسبب فيه. وعلى الرغم من أن أوروبا قد لا تبدو ذات أهمية بالنسبة للخبراء الأمنيين الوطنيين المعاصرين، إلا أن الأمن الأوروبي كان الشغل الشاغل للسياسة الخارجية الأمريكية منذ تأسيسها. ومن هذا المنظور، فإن العقود الأخيرة تمثل انحرافًا، وأي وضع تكون فيه أوروبا غير آمنة سيتطلب تدخلًا أمريكيًا عميقًا.
من منظور إدارة ترامب، فإنه توجد نقطتان رئيسيتان لسلبيات حدوث صدع في العلاقات عبر الأطلسي:
أولاً. العلاقة الأمنية عبر الأطلسي عامل أساسي في التعاون بشأن الصين” أدركت إدارة بايدن أهمية سوق الاتحاد الأوروبي (الذي يضم 450 مليون نسمة واقتصادًا بحجم اقتصاد الصين) وقامت بتشكيل مجلس التجارة والتكنولوجيا بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. كما ضغطت الولايات المتحدة على الدول الأوروبية لفرض قيود تقنية مهمة، كانت صعبة بشكل خاص على هولندا وشركة ASML الإستراتيجيةالتي تنتج آلات الطباعة الحجرية الضوئية اللازمة لسلسلة توريد أشباه الموصلات العالمية. كان الحافز الرئيسي الذي دفع أوروبا لقبول بعض قيود التصدير هو أن الولايات المتحدة توفر لها ضمانًا أمنيًا. لذا، فإن انسحابًا مفاجئًا من الالتزامات الأمنية الأمريكية سيؤدي إلى صدع كبير ويجعل الدول الأوروبية أقل احتمالاً لدعم سياسات الولايات المتحدة تجاه الصين.
ثانيًا. المصالح التجارية الأمريكية ستتضرر: من المحتمل أن يؤدي الانسحاب المفاجئ إلى تراجع كبير في مبيعات الأسلحة الأمريكية لأوروبا، حيث ستتجه الدول الأوروبية لشراء الأسلحة الأوروبية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاتحاد الأوروبي يمضي قدمًا في مبادرات مثل “الاتفاق الأخضر الأوروبي”، ومبادرات تنظيمية أخرى تستهدف شركات التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي الأمريكية، مما يؤثر على المصالح الاقتصادية الأمريكية. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك نفوذًا اقتصاديًا تجاه أوروبا، فإن الميزة الرئيسية لترامب كانت أن واشنطن توفر ضمانًا أمنيًا لأوروبا. وإذا زال هذا الضمان، فمن المحتمل أن تشعر أوروبا بحرية أكبر في مواجهة الشركات الأمريكية.
تقديم خارطة طريق لأوروبا لتعزيز أدائها
يجب ألا تنسحب إدارة ترامب دون استراتيجية موازية تهدف إلى إعادة تنظيم الأمن الأوروبي. لن يتطلب هذا الأمر الكثير من الجهد من جانب الإدارة، لكنه سيحتاج إلى درجة من القيادة الأمريكية لتوجيه أوروبا في الاتجاه الصحيح. إعادة هيكلة الدفاع الأوروبي حول أوروبا بدلاً من الولايات المتحدة ليس أمرًا سهلاً وسيستغرق وقتًا.
أولاً. ينبغي أن تدعو إدارة ترامب الدول الأوروبية إلى إنشاء “ركيزة أوروبية” ضمن حلف الناتو. تحدث القادة الأوروبيون عن الحاجة إلى ذلك بشكل نظري، لكنهم لم يقدموا تفاصيل واضحة. الضغط على القادة الأوروبيين لوضع خطة محددة لتشكيل هذه الركيزة سيكون أمرًا حيويًا.
ثانيًا. يجب على إدارة ترامب تشجيع الإنفاق الأوروبي الجماعي. ليس كافيًا أن تنفق الدول الأوروبية المزيد على الدفاع. حتى إذا أنفقت جميع الدول الأوروبية 3% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، كما دعا ترامب، فإنها قد لا تزال غير قادرة على الدفاع عن أوروبا. المشكلة هي أن الجيوش الأوروبية ليست مجهزة للتعاون القتالي بدون الولايات المتحدة. في الاتحاد الأوروبي، هناك 27 جيشًا متفرقًا تفتقر إلى القدرات الأساسية لخوض حرب. لا تركز الدول الأوروبية على الدفاع الأوروبي، بل على الدفاع الوطني. لذلك تحتاج أوروبا إلى إنشاء صندوق تمويل مشترك لمعالجة الفجوات في القدرات التي تسدها الولايات المتحدة حاليًا، مثل أنظمة الدفاع الصاروخي ومعدات الدفاع الجوي. من الضروري أن يزيد الاتحاد الأوروبي تمويل مبادراته الدفاعية ويركز على دمج الجيوش الأوروبية في قوة قتالية يمكنها الدفاع عن أوروبا.
ثالثًا. يجب على إدارة ترامب دعم مبادرات الدفاع التي يتبناها الاتحاد الأوروبي وأخذ جهوده بجدية. هناك تصورات متباينة بين المحللين المحافظين للأمن القومي، تتراوح بين العداء الصريح للاتحاد الأوروبي، كما ظهر في سياسات جون بولتون مستشار الأمن القومي السابق لترامب، وبين اللامبالاة. ويجب أن تدرك إدارة ترامب أن الاتحاد الأوروبي كيان جيوسياسي ذو صلة. إنه أقوى وأكثر ديمومة مما أدركته واشنطن، ولن يختفي. بل إن الكتلة قد تصبح أقوى وأكثر أهمية. يجب أن ترى إدارة ترامب في زيادة دور الاتحاد الأوروبي في الدفاع جزءًا من تحسين الأداء الأوروبي. على سبيل المثال، اقترح أندريوس كوبيلوس، المفوض الدفاعي الجديد للاتحاد الأوروبي، أفكارًا طموحة مثل إنشاء الاتحاد الأوروبي مستودعات أسلحة مشتركة أو تحفيز الدول الأوروبية على شراء المعدات ذاتها، مما يسهل عمليات التعاون القتالي. يجب أن تشجع إدارة ترامب هذه الجهود.
بدون دعوة إدارة ترامب للعمل الأوروبي الموحد، هناك خطر من أن تفشل الدول الأوروبية في التنظيم والوحدة، مما قد يؤدي إلى تفاقم الانقسامات داخل أوروبا. من المرجح أن تلجأ الدول الأوروبية، وخاصة في أوروبا الشرقية، إلى الرئيس لعقد “صفقات” للحفاظ على المشاركة الأمريكية. وفي الوقت نفسه، قد يدفع المسؤولون الأمريكيون نحو معارضة الجهود الأوروبية المشتركة، كما حدث خلال إدارة ترامب الأولى والإدارات الأمريكية السابقة. يجب أن ترفض إدارة ترامب هذه الدعوات وتتجنب عقد صفقات ثنائية مع دول تُقوض النهج الأوروبي الجماعي. بدلاً من ذلك، إذا كانت إدارة ترامب عازمة على الانسحاب من الناتو، فيجب أن يتم ذلك بطريقة مُدارة ومدروسة، تضغط على أوروبا لكنها تمنحها الوقت لتقوية قدراتها الخاصة.
وإن الانتقال المدروس سيساعد في الحفاظ على دعم أوروبا، وضمان استقرار العلاقات عبر الأطلسي، وهو عامل أساسي في المنافسة الجيوسياسية مع الصين. من خلال تبني هذا النهج، يمكن لواشنطن أن تُمكِّن أوروبا من أن تصبح ليس فقط أقوى، بل أيضًا شريكًا أكثر كفاءة وفعالية للولايات المتحدة.
منشور في: مركز الدراسات الإستراتيجيةوالدولية في واشنطن CSIS
رابط المقال الأصلي:
The United States Now Wants European Strategic Autonomy
[1] ماكس بيرغمان: مدير برنامج أوروبا وروسيا وأوراسيا ومركز ستيوارت للدراسات الأوروبية والأطلسية الشمالية في مركز الدراسات الإستراتيجيةوالدولية في واشنطن العاصمة.
[2] يشير مصطلح “الاِستقلالية الإستراتيجيةالأوروبية” إلى قدرة الاتحاد الأوروبي على اِتباع سياسات أمنية ودفاعية مستقلة دون الاعتماد المفرط على القوى الخارجية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية. ويشمل هذا المفهوم قدرة الاتحاد الأوروبي على التصرف بشكل حاسم في محيطه، وفي الساحة العالمية بما يتماشى مع مصالحه وقِيمه. ومن أكثر من نظّر لهذا المصطلح: جان كلود جونكر (Jean-Claude Juncker) وهو رئيس المفوضية الأوروبية الأسبق، و دعا إلى إنشاء جيش أوروبي وتعزيز التنسيق الدفاعي. وإيمانويل ماكرون (Emmanuel Macron): الرئيس الفرنسي. وجوزيب بوريل (Josep Borrell): الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي. وهنري كيسنجر (Henry Kissinger): وزير الخارجية الأمريكي الأسبق ومفكر سياسي. وروبرت كاجان (Robert Kagan): محلل سياسي وخبير في العلاقات الدولية. وجون بولتون (John Bolton): مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق. وباسكال لامي (Pascal Lamy): الرئيس السابق لمنظمة التجارة العالمية. وكارل بيلدت (Carl Bildt): رئيس وزراء السويد الأسبق. ومارك ليونارد (Mark Leonard): مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ECFR).