سيادة المستقبل: كيف يقود الناتو استراتيجيات الدفاع في الفضاء السيبراني؟
اعداد : علي فرجاني – باحث وأكاديمي في صحافة الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني
- المركز الديمقراطي العربي
في زمنٍ تماهت فيه الحدود المادية، وامتزجت فيه السياسة بالتكنولوجيا، بات الفضاء السيبراني مسرحًا جديدًا لصراعات النفوذ بين القوى الكبرى. لم تعد الحروب تُدار عبر الجيوش فقط، بل باتت الشيفرات والهجمات الرقمية أدواتٍ استراتيجية تُعيد تشكيل مفاهيم الأمن والسيادة.
ومع تصاعد المواجهات بين الولايات المتحدة والصين في هذا المجال، يتجاوز الصراع حدوده التقليدية ليصبح سباقًا محمومًا نحو الهيمنة على التكنولوجيا الحديثة والبيانات العالمية.
في هذا المشهد الجديد، يصبح التحكم في الفضاء السيبراني المفتاح لفهم معادلة القوة المستقبلية.
القوة السيبرانية: البداية والتحولات
في أواخر القرن العشرين ومع تسارع ثورة المعلومات والاتصالات، شهد العالم تحولًا جذريًا في مفهوم القوة. لم تعد القوة تُقاس بعدد الجيوش أو مدى انتشار الأساطيل البحرية؛ بل أصبحت تُقاس بقدرة الدول على السيطرة على تدفق المعلومات. هذا التحول قاد علماء السياسة إلى إعادة تعريف مفاهيم مثل “القوة” و”الأمن القومي”. ويُعد أستاذ العلاقات الدولية “جوزيف ناي” من أبرز من تناولوا هذا المفهوم، واصفًا “القوة السيبرانية” بأنها القدرة على تحقيق الأهداف عبر أدوات إلكترونية تُدار في فضاء خفي.
مع بروز الفضاء السيبراني، ظهرت أشكال جديدة للصراع. “حرب الشبكات” كصراعات منخفضة الحدة تعتمد على تعطيل المعلومات وتوجيه الرأي العام، و”حرب الفضاء الإلكتروني”، حيث تُستخدم الهجمات الإلكترونية لتعطيل البنى التحتية وشلّ قدرات الخصوم.
الصعود السيبراني: واشنطن وبكين في مواجهة صامتة
وسط تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين، ظهرت مجموعة قرصنة إلكترونية تُعرف باسم “Volt Typhoon”، مدعومة من الحكومة الصينية، كتهديد خطير للأمن السيبراني العالمي. منذ عام 2021، استهدفت هذه المجموعة البنية التحتية الحيوية في دول عدة، خاصة في الولايات المتحدة .
اعتمد القراصنة على استغلال ثغرات أمنية مثل كلمات المرور الضعيفة والأجهزة غير المحدثة لاختراق قطاعات حيوية تشمل الاتصالات والطاقة والنقل والمياه. وفي مارس 2024، حذرت مجموعة “العيون الخمس” الاستخباراتية من خطورة هذه الهجمات، التي قد تكون جزءًا من صراع أكبر على الهيمنة التكنولوجية.
ذكرت شركة مايكروسوفت أن هذه الهجمات قد تعطل البنية التحتية الحيوية في أوقات الأزمات. ورغم تدخل مكتب التحقيقات الفيدرالي في يناير 2024 لتعطيل البرامج الضارة التي استخدمتها المجموعة، فإن تأثير هذه الهجمات على الأمن السيبراني في الولايات المتحدة لم يُحسم بعد.
وللتصدي لمثل هذه التهديدات، يُنصح بتحديث الأنظمة بانتظام، واستخدام كلمات مرور قوية، وتفعيل المصادقة متعددة العوامل. تسلط هذه الهجمات الضوء على أهمية الأمن السيبراني ودوره المتزايد في عالم يشهد ارتباطًا متزايدًا بين التكنولوجيا والسياسة الدولية.
الصين ترد: اتهامات بـ”حرب تضليل“
في مواجهة الاتهامات المتزايدة بالتورط في هجمات سيبرانية استهدفت البنية التحتية الحيوية للولايات المتحدة، نفت الصين رسميًا أي علاقة لها بهذه الأنشطة. جاء هذا النفي عبر تقرير أصدره المركز الوطني للاستجابة للطوارئ السيبرانية، حيث وصفت بكين الاتهامات بأنها غير مبررة وتستند إلى معلومات مضللة.
واتهمت الصين بدورها الولايات المتحدة بشن ما وصفته بـ”حرب تضليل إعلامية”. وأشارت إلى أن واشنطن تلجأ إلى تقنيات مثل “العلم الكاذب“، وهي استراتيجية تُستخدم لإخفاء الجهة الحقيقية المنفذة للهجوم وإلقاء اللوم على أطراف أخرى. يعكس هذا التصعيد السيبراني توترًا متزايدًا في العلاقات الثنائية، حيث أصبحت التكنولوجيا والأمن السيبراني ساحتي صراع بين القوتين العظميين.
الناتو: الفضاء السيبراني في قلب الاستراتيجيات الدفاعية
في أعقاب الحرب الروسية-الأوكرانية، بات واضحًا أن الفضاء السيبراني لم يعد مجرد عنصر مساعد في النزاعات، بل أصبح ميدانًا رئيسيًا للعمليات العسكرية. استجابة لهذا التحول، أعلن **حلف الناتو** في عام 2020 عن إنشاء **مركز عمليات سيبرانية** في بروكسل، ليكون نقطة ارتكاز لجهوده في مواجهة التهديدات الرقمية.
ما يميز هذه الخطوة هو إدراج الهجمات السيبرانية تحت مظلة المادة الخامسة من ميثاق الناتو، التي تنص على مبدأ الدفاع الجماعي. هذا يعني أن أي هجوم سيبراني كبير على أحد الأعضاء يمكن أن يُعتبر هجومًا على الحلف بأكمله، مما يستدعي ردًا مشتركًا.
تبنى الناتو استراتيجيات متطورة لردع الهجمات السيبرانية، شملت تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء وتطوير أدوات هجومية ودفاعية في الفضاء السيبراني. كما اعتمد على استخدام الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الكبيرة لتحديد الأنماط المشبوهة ومنع الهجمات قبل وقوعها. أصبح الناتو نموذجًا عالميًا في التعامل مع الأمن السيبراني، مشددًا على أن حماية شبكاته وأنظمته أصبحت جزءًا لا يتجزأ من استراتيجيته الدفاعية في العصر الرقمي.