جدلية المصالح وتحقيق السلم والأمن الدوليين ونقيصة “باربرا”
اعداد : التجاني صلاح عبد الله المبارك – المركز الديمقراطي العربي
يوم الإثنين الماضي 18نوفمبر 2024 احبطت روسيا في مجلس الامن الدولي باستخدام حق النقض مشروع قرار تقدمت به كلا من المملكة المتحدة وسيراليون، بقصد وقف إطلاق النار في السودان، بين قوات الجيش السوداني النظامية وميليشيات الدعم السريع الارهابية.
وكانت الخارجية السودانية قد ابدت من جانبها ارتياحا لاستخدام روسيا حق النقض في مجلس الأمن، وقالت -في بيان لها-: إن حكومة السودان ترحّب باستخدام روسيا الاتحادية حق النقض، وتشيد بالموقف الروسي الذي جاء تعبيرا عن الالتزام بمبادئ العدالة واحترام سيادة الدول والقانون الدولي، ودعم استقلال ووحدة السودان ومؤسساته الوطنية. 1
رئيس مجلس السيادة السوداني وقائد الجيش ” عبد الفتاح البرهان ” قال: إن هناك الكثير من المشككين الذين ذكروا أن السودان كان موافقا على هذا القرار، والصحيح هو أن السودان لم يوافق عليه، باعتبار أن القرار منذ البداية كان معيباً ويخدش السيادة السودانية، ولا يلبي متطلبات الشعب. وبين أن القرار لم يتضمن أي إلزام لقوات الدعم السريع بضرورة الخروج من منازل المواطنين حتى يعودوا لمناطقهم ويمارسوا حياتهم الطبيعية، وأضاف: لا توجد فيه (أي القرار) أي إدانة للمتمردين الذين تسببوا في هذه الأزمة. وجدد رفض السودان لـأي تدخلات خارجية تفرض حلولا على البلاد، مشيراً إلى أن الحل لهذه المؤامرة موجود في الداخل. الحل النهائي هو القضاء على التمرد. وجود المتمردين يعني استمرار الأزمة.2
ولأن تحقيق السلم والامن الدوليين هو من أهم وأنبل واجبات مجلس الأمن الدولي ، والذي تمكنه نصوص هيئة الامم المتحدة من تكوين جيش متعدد الجنسيات وفقا للفصل السابع لتحقيق الأمن والسلم الدوليين فيما هو مفترض ومتوقع، فقد باتت هذه المهمة في النظام العالمي الجديد لا تستند إلى الحقائق الناصعة والى الظلم الذي وقع على تلك الدول، لكن إلى المصالح الخاصة، التي توليها الفواعل اهتماما كبيرا ، أكثر من اهتمامها بتحقيق السلم والأمن الدوليين.
من المصالح التي توليها الفواعل اهتماما كبيرا في السودان هي موقعه الاستراتيجي في قلب القارة الإفريقية، ووقوعه على البحر الأحمر، فضلا عن مناجم الذهب، والنفط، والارض الزراعية الخصبة التي يتمتع بها السودان، لذا فقد كان من الطبيعي للفواعل الاستفادة من الصراع المندلع في السودان بين قوات الجيش السوداني النظامي والقوات المشتركة، وبين ميليشيات الدعم السريع الارهابية، وإحماء ذلك الصراع بالوكالة، بتغذية الميليشيات الارهابية بالإمداد العسكري واللوجستي، والمسيرات والمرتزقة وصولا إلى إنهاك قوات الجيش وانهيار الدولة وفشل الدولة.
ولأن حق النقض أو حق الفيتو هو حق تمتلكه خمس دول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا، ويمكنها من رفض اي قرار يقدم للمجلس دون ابداء أسباب ، وعند اعتراض دولة واحدة من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن من أصل 15 عضوا في المجلس يتم رفض القرار وحجبه حتى وان كان مقبولا للدول الاربع عشرة الأخرى، لذا فقد كان استخدام ذلك الحق من روسيا الاتحادية يصب في خدمة السودان باعتباره دولة ذات سيادة، ويحبط في الوقت نفسه آمال “باربرا” ممثل بريطانيا الدائم في مجلس الأمن، وحفيدة الملكة فكتوريا التي ذرفت الدمع السخين على غردون الذي احتز السودانيون رأسه في الخرطوم.
مشروع القرار الذي تقدمت به بريطانيا انطوي على عدة أخطاء جسيمة وفادحة، وبوسع أي متابع أن يلاحظها، وعلى رأسها أنه تجاهل الحكومة الشرعية في السودان، التي تدافع عن سيادة الدولة وسلامة اراضيها من الهجمات البربرية التي تقوم بها ميليشيات الدعم السريع الارهابية في ولايات السودان المختلفة، ليست الهجمات الوحشية على قيادة الجيش ومعسكراته، بل صوبت تلك المجموعات والعصابات المتفلته هجماتها على المواطنين الابرياء، فمارست القتل الوحشي بصورة مفزعة، ليس ارساء للديمقراطية والحرية في السودان لكن من اجل المال والذهب والمتاع.
المندوب الروسي الدائم في مجلس الأمن ارجع رفض روسيا تمرير القرار واحباطه، لأنه تجنب الإشارة صراحة إلى الحكومة السودانية الشرعية معتبراً أنه ” أمر غير مقبول”، وأضاف: ليس لدينا شك في أن حكومة السودان فقط هي التي يجب أن تقوم بهذا الدور، لكن بريطانيا تحاول سلبها هذا الحق.3
قال “ديمتري بوليانسكي ” نائب المندوب الروسي في مجلس الأمن إن مشروع القرار البريطاني حاول حرمان حق الحكومة الشرعية من حقها في ترتيب مسألة المساعدات الإنسانية. كما اتهم “بوليانسكي” بريطانيا وحلفاءها ، بمحاولة استغلال القرار لإعطاء أنفسهم الفرصة للتدخل في شؤون السودان، وتسهيل مشاركتهم في مزيد من الهندسة السياسية والاجتماعية في البلاد. 4
في ذات السياق كانت روسيا الاتحادية تضع نصب عينيها عدة تصورات وقراءات، تدعوها مجتمعة إلى تعطيل مشروع القرار منها:
1_التدخل السافر في الشؤون السودانية
تمرير مشروع القرار من شأنه اتاحة المزيد من الفرص للتدخل في الشؤون السودانية، ويعطى تسهيلا كبيرا لمحاولات التغيير في الداخل السوداني السياسي والاجتماعي.
2_تغييب الدور الحكومي السوداني
تعتقد روسيا ان قرار وقف إطلاق النار والرغبة في ايقاف الحرب ينبغي ان تكون باتفاق من طرفي الصراع المتقاتلين، ويكون دور مجلس الامن الدولي هو مساعدة كليهما في تنفيذ وتحقيق هذه الرغبة المشتركة لديهما، لكن على العكس من ذلك فقد كان مشروع القرار الذي قدمته بريطانيا متجاهلا الطرف السوداني الحكومي، يرافق ذلك تصورا خاطئا من الادارة البريطانية بشأن من يحق له اتخاذ القرارات في دعوة القوات الدولية إلى السودان ، وهذا حق أصيل ينبغي ان تحتكره دولة السودان.
3_ رفض التدخل الخارجي
وعلاوة على ذلك، يضيف المندوب الروسي أن موسكو ترفض رفضا قاطعا اقتراح مشروع القرار باستخدام آليات خارجية لضمان المساءلة عن أعمال العنف. فقد أثبتت هيئات مثل المحكمة الجنائية الدولية بالفعل عجزها التام فيما يتصل بالسودان وغيره من الأوضاع، “ونحن على قناعة بأن إدارة العدالة ينبغي أن تظل من اختصاص الحكومة السودانية وحدها ولا تقبل التجزئة”. 5
4_الدوافع الحقيقية
ولأن الدعوات والنداءات السابقة التي وجهها مجلس الأمن لقوات الدعم السريع لأنهاء الحصار المضروب على مدينة الفاشر، تم تغييرها في نص مشروع القرار الجديد بلغة أقرب ما تكون بأنها تدعو الى وقف الهجمات والعمليات العسكرية ضد المواطنين المدنيين، فهذا القرار من شأنه ان يدعو الى استمرار ومواصلة العمليات العسكرية ضد قوات الجيش السوداني، مما يثير تساؤلا كبيرا عن الدوافع الحقيقية.
5_نشر قوات دولية
وبحسب “بوليانسكي” فإن الظروف ما زالت غير ناضجة لنشر قوات دولية في البلاد لحماية المدنيين، علاوة على عدم وجود اتفاق لوقف إطلاق النار، ولا تفاهم بشأن المكان المحدد الذي سيتم فيه نشر هذه القوات في البلاد، وما الأغراض التي قد تكون لها. وفضلا عن ذلك، فإن طلب مثل هذا الوجود يجب أن ينبع فقط من القيادة السودانية الحالية.6
6_التخلص من المعايير المزدوجة
خلص المندوب الروسي إلى ضرورة التخلص من المعايير المزدوجة، التي تبدو فادحة بشكل خاص في حالة السودان. فعندما يتعلق الأمر بالسودان، تنادي بعض البلدان بصوت عال بوقف إطلاق النار، وتطالب الجانبين بوقف العنف وحماية المدنيين، بينما في حالة غزة، تعطي هذه البلدان ذاتها “تفويضا مطلقا” لإسرائيل حتى تواصل التصعيد، متجاهلة الانتهاكات الصارخة للقانون الإنساني الدولي من قبل الجيش الإسرائيلي. وعلى نحو مماثل، تعطي هذه البلدان الأولوية لحق إسرائيل في الدفاع عن النفس وحماية مواطنيها، ولكن عندما يتعلق الأمر بالسودان، فإنها تنكر بطريقة أو بأخرى الحق نفسه لحكومته وتتهم الجيش السوداني بكل الشرور. 7
7_ملف الوضع الإنساني
شدد المندوب الروسي على أن بلاده تختلف تماما مع الرواية التي يروج لها القائمون على مشروع القرار حول الوضع الإنساني المزرى وتجاهلهم المتعمد لآراء وبيانات الوكالات السودانية المعنية، ورأى أنه من غير المناسب المطالبة بأن يفتح السودان جميع حدوده أمام وصول المساعدات الإنسانية مع عدم استخدام المعابر الحدودية العديدة التي توفرها سلطات الدولة لتقديم المساعدات.8
نخلص مما سبق إلى ان تمرير مشروع القرار والتصويت لصالحه، يعتبر في تقديري تواطؤا من المجتمع الدولي، ونقيصة وقعت فيها “باربرا” الممثل الدائم للمملكة المتحدة لدى مجلس الأمن وذلك للأسباب الاتية:
1_ التصويت لصالح مشروع القرار يعني اولا اعترافا ضمنيا بمليشيات الدعم السريع الارهابية، لأن نص مشروع القرار يطلب من كلا الطرفين التوقف عن الأعمال العدائية ووقف اطلاق النار، فهو يسوي بين الطرفين المتقاتلين ويعطي طرف الميليشيات شرعية ، واعترافا مستترا.
2_مشروع القرار اذا تم التصويت لصالحه يحمل أيضا معنى التغاضي والتعامي عن الجرائم التي ترتكبها ميليشيات الدعم السريع ، المتمثلة في ارتكاب جرائم الحرب المروعة، والجرائم ضد الانسانية ، مثل قتل الابرياء والتمثيل بالجثث، والعنف الجنسي، ودفن الأبرياء وهم أحياء، في واحدة من أسواء وأفظع المشاهد في التاريخ الحديث.
3_يمثل التصويت لصالح مشروع القرار مساندة ودعم بريطانيا ومجلس الأمن للميلشيات الارهابية في كل اصقاع العالم.
4_رغبة بريطانيا الدفينة في استعادة تاريخها الاستعماري الامبراطوري على السودان، والاستفادة من المصالح التي يذخر بها السودان، مثل الأرض الزراعية الخصبة ومناجم الذهب والنفط.
5_عجز مجلس الأمن الدولي عن تدبير القضايا المرتبطة بالأمن والسلم الدوليين.
6_المساواة بين الطرفين المتصارعين، بين قوات الجيش السوداني النظامية الشرعية، التي تمثل المدافع الأول عن سيادة الدولة وحدودها وسلامة اراضيها، وبين قوات الميليشيا والمرتزقة والعصابات التي تقتل الابرياء، وتسرق، وتنهب، وتغتصب، وتهجر المواطنين من ديارهم في أسواء عمليات تهجير قسري يشهدها العالم.
7_يمكن قراءة وصف التجريم لكلا الطرفين من ثنايا مشروع القرار، وهذا الوصف يدل على اجحاف وظلم بريطانيا وعدم انصافها، ومجافاتها للحقائق، ومن ناحية ثانية انصراف الفواعل ومجلس الامن الدولي من ايجاد الحلول المنصفة للنزاعات التي تهدد الاستقرار العالمي، وتحقيق السلم والأمن الدوليين بسبب النزعات الفردية، وازدواجية المعايير،وتحصيل المصالح.
8_تمرير مشروع القرار يعطي ضوء اخضرا للتدخل الغربي في شئون السودان الداخلية تحت عنوان حماية المدنيين، بما يعني نزع سيادة الدولة واستقلالها، وتقديم خريطة غير عادلة للقوى في العالم.
9_تقديم مشروع القرار لمنصة مجلس الأمن الدولي بخصوص وقف اطلاق النار يمثل ازدواجية ظاهرة للمعايير، والتي ما انفكت بريطانيا والولايات المتحدة تمارسها بشكل واضح ومكشوف في المجتمع الدولي، الذي تمثل فيه الولايات المتحدة قطبا احاديا ومهيمنا على الوحدات السياسية في المجتمع الدولي.
المصادر:
[1] _أحمد حافظ، خبراء وسياسيون يعلقون على مشروع القرار البريطاني حول السودان، موقع الجزيرة، 20نوفمبر/تشرين الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 28 نوفمبر /تشرين الثاني 2024): https://tinyurl.com/4f49zkm4 [2] _ميعاد مبارك، البرهان: مشروع القرار البريطاني في مجلس الأمن «معيب ويخدش السيادة الوطنية، موقع صحيفة القدس، 19نوفمبر/تشرين الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 28 نوفمبر /تشرين الثاني 2024): https://tinyurl.com/mrxyn4vm [3] _تسلسل زمني لأهم الأحداث في السودان حتى فشل إقرار المقترح البريطاني في مجلس الأمن، موقع بي بي سي، 20نوفمبر/تشرين الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 28 نوفمبر /تشرين الثاني 2024): https://tinyurl.com/5dbjw9d2 [4]_ لهذا أفشلت موسكو مشروع قرار مجلس الأمن حول السودان.. تجاهل الحكومة الشرعية، موقع صحيفة عربي 21، 19نوفمبر/تشرين الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 28 نوفمبر /تشرين الثاني 2024): https://tinyurl.com/2bbaxxej [5]_ روسيا تبرر الفيتو ضد مشروع قرار بريطانيا بشأن السودان بـ7 نقاط، موقع الجزيرة، 19نوفمبر/تشرين الثاني 2024،(تاريخ الدخول: 28 نوفمبر /تشرين الثاني 2024): https://tinyurl.com/3c3jbpz5 [6]_ لهذا أفشلت موسكو مشروع قرار مجلس الأمن حول السودان.. تجاهل الحكومة الشرعية، مصدر سابق [7]_روسيا تبرر الفيتو ضد مشروع قرار بريطانيا بشأن السودان بـ7 نقاط، مصدر سابق [8]_المصدر السابق