لماذا الاتفاقيةٌ العربية للمواطنة الرقمية ضرورةٌ حتمية؟

بقلم : د. محمد صبحي الفار – مدرس مساعد بقسم القانون الدولي – كلية الحقوق جامعه الزقازيق – مصر
- المركز الديمقراطي العربي
يتجلّى التحوّل الرقمي في العالم العربي اليوم بوصفه ظاهرةً عميقة ومتسارعة، تُعيد تشكيل أسس الحياة الاجتماعية والاقتصادية وتنقلها من فضاءٍ واقعي محدود إلى فضاءٍ رقميٍّ مفتوحٍ تبدو حدوده عصيّةً على التحديد. فحينما نتأمّل ما يُعرَف بالثورة الصناعية الرابعة، نجد أنفسنا أمام ابتكاراتٍ تقنية نوعية تشمل الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، وتقنيات الحوسبة السحابية، وتحليلات البيانات الضخمة، وغيرها من الأدوات التي تسارع نحو دمجها في مفاصل الحياة اليومية. في خضمّ هذه التحوّلات الجذرية، لم يعد الحديث مقتصرًا على الجوانب التقنية الصرفة، بل أضحى يتناول الحقوق والواجبات والحريات ضمن نطاقٍ رقمي، الأمر الذي استولد مفهوم “المواطنة الرقمية”. وهذه المواطنة لا تنفصل بأي حالٍ عن المواطنة بمفهومها الكلاسيكي، بل هي امتدادٌ لها في عصرٍ تتشابك فيه المصالح والحدود بفضل المنصّات الإلكترونية. ومن هنا يُطرح السؤال حول مدى حاجة المنطقة العربية إلى بلورة إطارٍ قانوني متكاملٍ يُسمّى مجازًا “اتفاقيةً عربيةً للمواطنة الرقمية”، وكيف يمكن لهذه الاتفاقية أن ترسّخ حقوقًا دستورية مهمّة، ولا سيما الاقتصادية والاجتماعية، داخل الفضاء الرقمي.
يُعَدّ الحق في التعليم والصحة والعمل والضمان الاجتماعي والسكن وحرية التجارة والصناعة والملكية جزءًا من الحقوق التي تتبنّاها أغلب الدساتير العربية بوصفها ركائز أساسية لأي دولةٍ حديثةٍ تسعى إلى إعلاء قيمة الإنسان وضمان رفاهيته. وقد جرى التركيز على هذه الحقوق منذ أواسط القرن الماضي تحت تأثير الحركات الاجتماعية والفكرية التي اهتمّت بإرساء عدالةٍ اجتماعيةٍ تتجاوز الحدود الطبقية. بيد أنّ التطوّر الرقمي الراهن كشف النقاب عن إمكاناتٍ جديدة لهذه الحقوق، فتوسّع نطاقها من الحيّز الواقعي إلى الحيّز الافتراضي. على سبيل المثال، الحقّ في التعليم لم يعُد مقتصرًا على المدرسة أو الجامعة التقليدية، حيث باتت المجتمعات تشهد صعود منصّات التعلم الإلكتروني التي تُتيح محتوىً أكاديميًّا واحترافيًّا لملايين الأفراد عبر الإنترنت. وبالتوازي، أخذ الحقّ في الصحة منحى “التطبيب عن بُعد”، حيث يمكن استشارة الأطباء عبر تطبيقاتٍ رقمية من أي مكانٍ وفي أي وقت، ما يخلق فرصةً ثمينةً لسدّ النقص في الخدمات الصحية بالمناطق النائية أو لدى الشرائح الاجتماعية المعوزة. ويأتي الحقّ في العمل كمثالٍ واضحٍ على هذا الامتداد الرقمي للحقوق، إذ إنّ الفرص الوظيفية لم تعد حكرًا على الوظائف التقليدية داخل المؤسسات العامة أو الخاصة، بل تشمل أعمالًا حُرّة في فضاء الإنترنت، كما سنبيِّن لاحقًا.
إنّ ما يميّز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية -فضلاً عن شمولها وتفرّعها- هو أنّها الأكثر استفادةً من التحوّل الرقمي والأكثر تأثرًا به، لا سيّما أنّ التكنولوجيا تيسّر سبل تطبيقها وتعزّز فاعليتها في تحسين الحياة اليومية للمواطن. فإذا نظرنا إلى الحق في التعليم، فسنرى كيف غدت المنصّات الرقمية قادرةً على إتاحة فرصة التعلّم للإناث في المجتمعات المحافظة، أو لكبار السنّ الذين يصعب تحرّكهم، ولذوي الإعاقة الذين يواجهون عقباتٍ في البيئة الواقعية. ومن جهةٍ أخرى، يوفّر التعلم عن بُعد محتوىً عالي الجودة في مجالاتٍ تخصّصية مختلفة، فيزيد من خبرات المتعلّم ويُكسبه مهاراتٍ جديدة بعيدًا عن بيروقراطية التعليم الورقي والتقليدي. وهذا بدوره ينطبق على الصحّة، حيث تُختزل المسافات وتقلّ التكاليف إذا ما أتيح التطبيب الافتراضي لكل مواطنٍ على نحوٍ دستوريٍّ ملزم، فتسهل متابعة المرضى المزمنين وجلسات الاستشارة النفسية، وتُختصر مسافة التنقّل وتُحلّ مشكلة النقص في الكوادر الطبية.
ويفرض هذا التحوّل الرقمي ضرورة اللجوء إلى “التفسير الدستوري الموسّع” لتلك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بغية استيعاب الأبعاد الحديثة النشأة. فالدساتير بطبيعتها نُظّمت في حقبٍ تاريخية سابقة، حين لم يكن ثمّة إنترنت أو منصّات رقمية أو هواتف ذكية، وبالتالي فإنّ النصوص التقليدية حول حق العمل أو حق التعليم قد لا توفّر مباشرةً ضمانًا صريحًا للعمل الرقمي أو التعلم الافتراضي. لكنّ القاعدة الذهبية في العلوم الدستورية تقول إنّ النص لا يُفسَّر في فراغ، بل في ضوء تطوّر الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وانطلاقًا من هذه القاعدة، بات من المعقول أن يُشمَل “الحقّ في الإنترنت” أو “الحقّ في حماية البيانات الشخصية” تحت مظلّة النصوص الدستورية الأعمّ التي تتحدّث عن الحق في الخصوصية أو الحق في التعبير أو الحق في الملكية. وتلك هي مقاربة الدول المتقدّمة التي سبقتنا في هذا المضمار، حيث أضافت -صراحةً- بنودًا لحماية هذه الحقوق الرقمية في دساتيرها أو في تشريعاتٍ دستورية موازية.
إنّ منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي في العقود الأخيرة شهدت حراكًا تشريعيًّا لافتًا في المسائل الرقميّة، فصدرت قوانين مكافحة جرائم تقنية المعلومات، وأُقيمت هيئات لحوكمة الفضاء السيبراني وحماية البيانات الشخصية. وقد جاء ذلك استجابةً طبيعيّةً لتنامي الجرائم الرقميّة كالنصب والاحتيال الإلكتروني، والاعتداء على خصوصية الأفراد، والاختراقات السيبرانية التي تهدّد المنشآت الحيوية. غير أنّ هذا التطوّر التشريعي ظلّ يركّز في معظم الأحيان على البُعد الجنائي أو الأمني، متجاهلًا الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للفضاء الرقمي. فمثلًا، أُبرمت الاتفاقية العربية لمكافحة جرائم تقنية المعلومات عام 2010، لكن نطاقها انحصر في ضبط النواحي الجنائية دون التطرّق إلى الحقوق الرقمية ودسترتها في الفضاء الإلكتروني. ومع أنّ التجربة أثبتت نجاح الاتفاقية في تكوين أرضيةٍ مشتركةٍ لمحاصرة الجرائم السيبرانية، فإنّها كشفت عن ثغرةٍ واضحة: غياب إطارٍ إقليمي متكامل يعزّز المواطنة الرقمية بما فيها من حقوقٍ وواجبات.
ينبثق من هذه الثغرة تحدٍّ جديد يتطلّب إنشاء اتفاقيةٍ عربيةٍ شاملة للمواطنة الرقمية، تتجاوز مجرّد المعالجات الأمنية أو الجزائية لتشمل الأبعاد التي تُمكّن الفرد والمجتمع من الاستفادة المثلى من المنجزات التقنية، وتحمي حقوقهم الدستورية في الفضاء الإلكتروني. إنّ مثل هذه الاتفاقية ستكون أشبه بعقدٍ اجتماعيٍّ جديد يعترف للدول من جهةٍ بحق سنّ تشريعاتٍ منظّمة للأنشطة الرقمية، ويعترف للمواطن من جهةٍ أخرى بحقه في الولوج العادل والمتكافئ إلى الإنترنت، وتمتّعه بحمايةٍ دستورية تردع أي انتهاكٍ لحقوقه. وهذا التوازن بين الحق والواجب يهيّئ بيئةً آمنةً للاستثمار الرقمي والتجارة الإلكترونية، ويرتقي بمستوى الثقة لدى المواطنين في التعاملات الإلكترونية، كما يشجّع على توطين التكنولوجيا وتطوير البنى التحتية الرقمية على مستوى الوطن العربي برمّته.
من أبرز المجالات التي تتجلّى فيها ضرورة حماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الفضاء الرقمي هو “الحق في العمل الرقمي”. بالإضافة إلى كونه منفعةً اقتصاديةً مباشرة، فإنّ “العمل الرقمي” أصبح رافدًا مهمًّا للتوظيف في عصر العولمة. يندرج تحته “العمل عن بُعد”، و”الاقتصاد التشاركي” (Gig Economy) والمنصّات الإلكترونية التي تتيح للأفراد تقديم خدماتهم في الترجمة أو التصميم أو الاستشارات عبر الإنترنت. إذا كان الدستور يضمن حقّ العمل، فلا بدّ أن يمتدّ نطاق هذا الضمان إلى فضاء الإنترنت، بحيث لا يُحرم أي مواطنٍ من فرص العمل الرقمي تحت ذرائع تشريعية أو تنظيمية غير عادلة، كتقييد وسائل الدفع الإلكتروني أو حجب المواقع المتخصّصة. إنّ إدماج العمل الرقمي تحت الحماية الدستورية يعني أنّ الدولة بمؤسّساتها المختلفة ملتزمةٌ بفتح آفاقٍ جديدةٍ للتوظيف، وإتاحة فرص العمل الحرّ على منصّاتٍ تقنية عصرية، وتوفير البنية التحتية الرقمية اللازمة لممارسة هذا الحق على قدم المساواة بين الجميع. ويشمل ذلك سنّ تشريعاتٍ لتنظيم شروط العمل الرقمي والحفاظ على حقوق العاملين في المنصّات الإلكترونية من جهة، وحماية المستهلك أو المستخدم النهائي من جهةٍ أخرى، إضافةً إلى نشر الثقافة الرقمية وتشجيع الريادة والابتكار بين الشباب.
وليس العمل الرقمي سوى نموذجٍ واحدٍ من نماذج متعدّدة تكشف كيف يمكن للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن تتطوّر لتواكب عالمًا تتسارع فيه الابتكارات. فالحقّ في التعليم، كما سلف القول، يمكن أن يغدو تعليمًا افتراضيًّا أو هجينًا، يمزج بين المحاضرات التقليدية والورش التدريبية الإلكترونية، ممّا يوسّع دائرة المستفيدين من العملية التعليمية، ويضيف أبعادًا تفاعليةً كانت مفقودةً في منظومات التعليم التقليدي. على المنوال ذاته، يمثّل التطبيب الرقمي فرصةً ذهبيةً لتوفير الرعاية الصحية على نطاقٍ أوسع، خصوصًا في مناطق العالم العربي التي تفتقر إلى عددٍ كافٍ من المستشفيات أو الأطباء المتخصّصين. وإذا كانت الدساتير العربية تمنح المواطن حق الحصول على العلاج والرعاية الصحية، فإنّ التقنية تمكّن من تعزيز هذا الحق وإيصاله إلى فئاتٍ كانت مهمشةً أو محرومةً بسبب الظروف الجغرافية أو الاقتصادية. ومع كلّ هذا التحوّل الإلكتروني، يطفو على السطح سؤال حماية البيانات الشخصية والخصوصية الرقمية، فلا يخفى أنّ المعاملات الصحيّة والتعليمية والوظيفية تتضمّن بياناتٍ حساسة، ما يستدعي وجود ضماناتٍ صريحة تعاقب كلّ من يستغلّ تلك البيانات أو يتصرّف بها دون موافقة أصحابها.
يتّضح إذن أنّ المسألة ليست مسألة رفاهيةٍ أو اختيارٍ؛ بل هي ضرورة قانونيةٌ وسياسيةٌ واجتماعيةٌ تفرض نفسها. إذ بقدر ما يتعلّق الأمر بالاستفادة من الفرص التي يوفّرها العالم الرقمي، يتعلّق أيضًا بتجسير الهوّة الرقمية بين مختلف الدول العربية. فالذي يحدث غالبًا هو تفاوتٌ تشريعيّ كبير، حيث نرى بعض الدول تسارع إلى تقنين الاقتصاد الرقمي وتنظيم العمل عن بُعد، بينما تظلّ دولٌ أخرى تفتقر إلى أبسط الأطر القانونية لحماية البيانات الشخصية أو تشجيع التجارة الإلكترونية. وهذا التفاوت يشكّل عائقًا رئيسًا أمام بناء سوقٍ رقميةٍ عربيةٍ موحّدة، يمكن لها أن تنافس الأسواق العالمية الأخرى. وعندما نفتش في تجارب التكتّلات الدولية الناجحة، سنلحظ أنّ الاتحاد الأوروبي مثلًا اعتمد قبل سنواتٍ لائحةً عامة لحماية البيانات (GDPR)، هدفت إلى توحيد القوانين في مجال الخصوصية الإلكترونية وضمان المساواة بين مواطني الاتحاد في هذا الحق. ووجدت الشركات العالمية نفسها مضطرّةً للامتثال لهذه اللائحة إذا أرادت مواصلة الاستثمار في دول أوروبا. وبصورةٍ مشابهة، يمكن للدول العربية، من خلال الاتفاقية العربية للمواطنة الرقمية، أن تتخذ خطوةً شبيهةً توحّد القواعد الأساسية للعمل الرقمي وحماية الحقوق في الفضاء الإلكتروني، فتزيد جاذبية المنطقة العربية للاستثمار الخارجي وتخلق نموًا اقتصاديًا مشتركًا.
وفي هذا الإطار، لا يمكن تجاهل الدور الحيوي لأي كيانٍ قضائي يراقب تنفيذ الاتفاقية ويضمن الالتزام بمعاييرها. وتلوح المحكمة العربية لحقوق الإنسان -التي طُرحت فكرتها ولم تفعل بشكلٍ كاملٍ بعد- كجهةٍ مؤسسيةٍ يمكن توسيع اختصاصاتها لتشمل النظر في الانتهاكات الرقمية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. فإذا شكت مجموعةٌ من العاملين الرقميين في دولةٍ ما من انتهاك حقهم في الأجر أو مصادرة منصة أعمالهم الإلكترونية دون وجهٍ حقّ، فينبغي أن تتوافر لهم إمكانية اللجوء إلى قضاءٍ عربيٍّ مشتركٍ يضمن الإنصاف والعدالة. وهكذا، تُكرَّس حقوق المواطنة الرقمية عربيًّا على غرار التجارب الإقليمية في القارّة الأوروبية أو الأمريكية. فهذه الأخيرة نجحت إلى حدٍّ كبيرٍ في إرساء منظوماتٍ قضائيةٍ إقليمية تحمي الحقوق والحريات، ما عزّز بالتبعية مناخًا مشجّعًا للتكامل الاقتصادي والتنموي.
ومن نافلة القول إنّ التعاون بين الدول العربية في مجال المواطنة الرقمية لا يقتصر على البعد التشريعي أو القضائي فحسب، بل يشمل أيضًا الجوانب التقنيّة والاقتصادية. إذ يمكن للاتفاقية العربية المرتقبة أن تنصّ على تعاونٍ شامل في مجال البنى التحتية الرقمية، من تعزيز كابلات الألياف الضوئية العابرة للحدود إلى تبادل الخبرات في مجال الشبكات الداعمة للجيل الخامس والسادس من الاتصالات. كما يمكن لهذه الاتفاقية أن تدعم مشاريع حاضنات الأعمال في مجال التكنولوجيا المالية والصحة الرقمية والتعليم الافتراضي، الأمر الذي يفتح باب الشراكات بين الشركات الناشئة العربية ويخلق فرصًا للتمويل والاستثمار المشترك. وحينما تقترن الحماية الدستورية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في فضائها الرقمي بهذا الانفتاح التقني والتعاون الاستثماري، تتكوّن بيئةٌ عربيةٌ خصبةٌ للاقتصاد الرقمي قد تتحوّل في غضون سنواتٍ إلى محرّكٍ رئيس للنموّ في المنطقة.
وإذا أردنا أن نرسم مسارًا واضحًا نحو هذا المستقبل الرقمي المشترك، فعلينا أولًا الاعتراف بأهمية دسترة الحقوق الرقمية باعتبارها امتدادًا لحقوقٍ نصّت عليها الدساتير العربية بالفعل، مع مراعاة أن يُعاد صياغة هذه الدساتير أو تفسيرها بما يضمن إدراج الحقوق الرقمية صراحةً، أو على الأقل تأويل النصوص القائمة على نحوٍ يستوعبها. وفي غضون ذلك، نحتاج إلى تطوير ثقافة رقمية مجتمعية تشجّع المواطن على معرفة حقوقه الرقمية واستيعاب الأسس الأخلاقية للتعامل مع التكنولوجيا. وهذه الثقافة لا تقتصر على الأفراد، بل يجب أن تشمل المؤسّسات الحكومية والقطاع الخاص حتى يلتزموا بممارساتٍ عادلةٍ وشفافةٍ في الفضاء الإلكتروني. تلك النتيجة ستنعكس بالضرورة على مستوى الشفافية في التجارة والصناعة الرقمية، فتتراجع احتمالات الفساد الإلكتروني وتزيد الثقة في المعاملات التجارية العابرة للحدود. ومع الوقت، ستتبدّى ثمرة هذا الجهد المشترك في صورة منصّاتٍ عربيةٍ رائدةٍ تنافس منصّاتٍ عالمية معروفة، وتوظّف آلاف الشباب العربي، وتحقّق قفزةً نوعية في الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية.
وختامًا، فإنّ العالم العربي لم يعد بوسعه تجاهل حقيقة أنّ المستقبل رقمي بامتياز، وأنّ الحقوق الاقتصادية والاجتماعية المكفولة في الدساتير تقليديًّا لا بد أن تُوسّع لتشمل الحيّز الافتراضي بجديةٍ وإلزامٍ. إنّ الدساتير لا تُكتب للأمس، بل للمستقبل، ومن واجب المشرّع الدستوري والمفكّرين الدستوريين في العالم العربي أن يواكبوا هذه اللحظة التاريخية التي تتداخل فيها التكنولوجيا بالمجتمع والاقتصاد والسياسة على نحوٍ غير مسبوق. وارتقاء المواطنة الرقمية إلى مرتبة المواطنة الدستورية سيزوّد المواطن العربي بالأدوات اللازمة لتحصيل حقوقه والاستفادة من فرصٍ هائلة يتيحها الاقتصاد الرقمي، وفي الوقت ذاته، سيحميه من التعسّف أو التقييد غير المبرّر تحت ذريعة أمنيةٍ أو تنظيمية. من هنا تتبلور قناعةٌ راسخةٌ بأنّ اتفاقيةً عربيةً شاملةً للمواطنة الرقمية قد باتت ضرورةً لا ترفًا، وأنّ المضي قُدمًا نحو توحيد التشريعات ورسم إطارٍ مشتركٍ للحقوق والواجبات الرقمية كفيلٌ بإرساء أرضيةٍ متينةٍ لتعاونٍ اقتصادي وتقني أوسع، يمكنه أن ينتشل المنطقة من هامشيةٍ رقميةٍ ويضعها في صدارة المشهد العالمي، بشرط أن تتضافر الإرادة السياسية والرؤى التشريعية في آنٍ واحد، وأن يُمنَح المواطن دورًا فاعلًا في مسيرة التحوّل نحو اقتصادٍ معرفيٍّ جامع، تظلّ فيه الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الدستورية هي الأساس الذي تنطلق منه طموحاتنا وتحالفاتنا المستقبلية.