زلزال في التجارة العالمية: ترامب يفتتح عهده الثاني بحرب جمركية شاملة

بقلم : د.حمدي سيد محمد محمود – باحث أكاديمي – مدير المركز الديمقراطي العربي – القاهرة – مصر
في سابقة لم يشهدها النظام التجاري العالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، دخلت الولايات المتحدة الأمريكية فجر السبت 5 أبريل 2025 في مواجهة اقتصادية مفتوحة مع غالبية شركائها التجاريين، عبر تفعيل قرار الرئيس دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة 10% على كافة الواردات القادمة من عشرات الدول، في خطوة وُصفت بأنها زلزال اقتصادي مدوٍّ يعيد رسم معالم التجارة الدولية. هذه الرسوم التي تم تنفيذها دون أي فترات سماح للشحنات البحرية أو الجوية الجديدة، شكلت الانطلاقة الفعلية لعقيدة ترامب التجارية “أمريكا أولاً”، والتي تعيد تفسير العلاقات الاقتصادية من منظور الهيمنة التبادلية لا التعاون المتكافئ.
الرسوم التي دخلت حيّز التنفيذ عند الدقيقة الأولى من يوم السبت بتوقيت الساحل الشرقي للولايات المتحدة، جاءت بمثابة إعلان حرب على النظام التجاري المتعدد الأطراف، الذي ظل يحكم العلاقات الاقتصادية العالمية لعقود، ويقوم على مبدأ خفض الحواجز وتكافؤ المعاملة. بل إن تصريحات كبار مستشاري ترامب، ومن بينهم كيلي آن شو، أكدت أن هذا التحول ليس تكتيكيًا، بل “تحول جذري في علاقة أمريكا التجارية مع كل دولة على وجه الأرض”، ما يعني أن العالم بأسره مقبل على إعادة هيكلة شاملة لمعادلات التبادل التجاري والنظام الاقتصادي الدولي.
ما بعد العولمة: عقيدة ترامب التجارية كأداة لتفكيك النظام الليبرالي
تكشف السياسة الجمركية التي فعّلها ترامب عن منظومة فكرية متكاملة تستند إلى رفض صريح لما اعتُبر لعقود “قواعد اللعب العادل” في التجارة. إذ يرى ترامب وفريقه أن العولمة، بصيغتها المؤسسية الحالية، أضرت بالصناعة الأمريكية وأفادت منافسين مثل الصين وألمانيا على حساب الوظائف والعمال الأمريكيين. ومن ثمّ، جاءت الرسوم الجمركية لتكون أكثر من مجرد إجراء اقتصادي؛ بل تعبير عن “ثورة اقتصادية قومية” تعيد الاعتبار للمنتج المحلي، وتفتح الباب أمام نموذج جديد للعلاقات التجارية يقوم على ردع الشركاء بدلًا من جذبهم.
من هذه الزاوية، فإن ما حدث في 5 أبريل 2025 ليس حادثًا اقتصاديًا منعزلاً، بل لحظة مؤسسة لتحوّل بنيوي عالمي. إذ لأول مرة منذ إنشاء منظمة التجارة العالمية، تقرر الولايات المتحدة فرض رسوم شاملة، ومتفاوتة، وأحادية الجانب، دون استناد إلى نزاع قانوني أو سند مؤسسي، في خروج فجّ على قواعد الاقتصاد الليبرالي العالمي. وفي ظل هذا الانقلاب، بات من الواضح أن واشنطن تسعى إلى فرض “قانون الغابة الاقتصادي”، حيث لا تسود القواعد وإنما موازين القوة.
تداعيات فورية: الأسواق تهتز، والثقة الدولية تتآكل
أحدثت هذه الإجراءات دوياً فورياً في الأسواق المالية العالمية. فقد خسرت الشركات المدرجة في مؤشر “ستاندرد آند بورز 500” ما يقرب من 5 تريليونات دولار من قيمتها السوقية في يومين فقط، وهو ما يمثل واحدة من أكبر الانهيارات القيمية في التاريخ الحديث للأسواق. وفي الوقت ذاته، انخفضت أسعار النفط والمعادن الصناعية، في دلالة واضحة على أن العالم يتجه إلى حالة من الركود التجاري، بينما اندفع المستثمرون إلى الأصول الآمنة مثل السندات الحكومية، ما يعكس حالة فزع استثماري من الانهيار المقبل في التجارة العالمية.
تداعيات هذه الإجراءات لم تقتصر على الأسواق، بل بدأت تظهر أيضًا على مستوى الاستجابة الدولية. فقد أعلنت الصين نيتها الرد بإجراءات انتقامية مضادة، تشمل سلعًا زراعية أمريكية، بينما أشار الاتحاد الأوروبي إلى مراجعة كاملة لعلاقاته التجارية مع واشنطن، وفتح الباب أمام آليات للتحكيم التجاري خارج إطار منظمة التجارة العالمية التي أصبحت، في نظر العديد من الدول، مؤسسة فاقدة للفاعلية في ظل تهميشها الأمريكي المتكرر.
التأثيرات على الداخل الأمريكي: من يحمي من؟
رغم ادعاء ترامب أن هذه الرسوم تهدف إلى حماية الصناعة الأمريكية، فإن كثيرًا من المحللين يلفتون النظر إلى حقيقة معقدة: أن الاقتصاد الأمريكي المعولم لم يعد قائمًا فقط على التصدير أو الاستيراد، بل على منظومة متشابكة من سلاسل الإمداد العابرة للحدود. وبالتالي، فإن فرض رسوم على الواردات يعني ارتفاع تكاليف الإنتاج على الشركات الأمريكية نفسها، خاصة في مجالات التكنولوجيا، وصناعة السيارات، والطاقة.
كما أن ارتفاع أسعار السلع المستوردة سيترجم سريعًا إلى تضخم داخلي، سيشعر به المستهلك الأمريكي في صورة ارتفاع أسعار الغذاء، والإلكترونيات، والوقود. ومن ثمّ، فإن هذه الحرب الاقتصادية قد تنقلب على الداخل الأمريكي ذاته، مسببة اضطرابات اجتماعية، واحتجاجات قطاعية، وربما كسادًا اقتصاديًا إذا ما استمرت الرسوم أو تصاعدت إلى مستويات أعلى، كما هو مخطط لها.
تأريخ التحوّل: 5 أبريل 2025 كلحظة قطيعة اقتصادية كبرى
سيُذكر هذا التاريخ بوصفه نقطة تحول فاصلة في التاريخ الاقتصادي العالمي، لا تختلف في أهميتها عن لحظات مثل انهيار بريتون وودز عام 1971، أو انهيار الأسواق عام 2008. لكنه يحمل خصوصية إضافية، كونه لا يُعبر عن أزمة نشأت عن خلل داخلي في الأسواق، بل عن قرار سياسي واعٍ بتفكيك منظومة التجارة العالمية. إنه “زلزال إرادي”، صممه ترامب ليكون صدمة كبرى تدفع الدول الأخرى إلى الركوع أو التفاوض على أسس جديدة، يكون فيها لأمريكا اليد العليا.
لكن هذا الرهان محفوف بالمخاطر. فالعالم لم يعد مستعدًا للانصياع لسياسات القوة بسهولة، وقد بدأت بالفعل ملامح تحالفات تجارية جديدة تتشكل خارج المدار الأمريكي—من آسيا إلى أمريكا اللاتينية إلى أفريقيا—ما يعني أن ترامب، رغم قدرته على الصدمة، قد يفتح بابًا لعالم متعدد الأقطاب اقتصاديًا، لا تهيمن فيه واشنطن كما كانت تأمل.