التجارب الطبية على الانسان بين الضرورات العلمية والضمانات القانونية
Medical Experiments on Humans: Reconciling Scientific Necessity with Legal Safeguards

اعداد : أسامة محمد سلعوس – كلية القانون، جامعة الاستقلال، أريحا، فلسطين
المركز الديمقراطي العربي : –
-
مجلة العلوم السياسية والقانون : العدد الخامس والأربعون أيلول – سبتمبر 2025 – المجلد 11 – وهي مجلة دولية محكمة تصدر عن #المركز_الديمقراطي_العربي المانيا- برلين.
- تُعنى المجلة في الدراسات والبحوث والأوراق البحثية عمومًا في مجالات العلوم السياسية والعلاقات الدولية،والقانون والسياسات المقارنة، والنظم المؤسسية الوطنية أو الإقليمية والدولية.
Nationales ISSN-Zentrum für Deutschland
Journal of Political Science and Law
للأطلاع على البحث من خلال الرابط المرفق : –
ملخص |
تتناول هذه الدراسة الأبعاد القانونية والأخلاقية للتجارب الطبية على الإنسان، مركزةً على تحقيق التوازن الدقيق بين الضرورات العلمية والضمانات القانونية في ظل التطور السريع للعلوم الطبية والتكنولوجية. وتوضح الدراسة أن التجارب الطبية أصبحت ضرورة أساسية لتطوير وسائل العلاج المبتكرة واكتشاف أدوية جديدة، إلا أنها تثير في الوقت نفسه إشكالات جوهرية تتعلق بحماية كرامة الإنسان وصون سلامة جسده. وتمحورت اشكالية هذه الدراسة في البحث عن الضمانات القانونية اللازمة لتحقيق التوازن بين ضرورة التجارب الطبية على الإنسان ومخاطرها، وضمان فعالية التشريعات في حماية الأفراد وخدمة التقدم العلمي؟.
وقد ميّزت الدراسة بين نوعين رئيسيين من التجارب: التجارب العلاجية التي تهدف إلى معالجة المريض وتحقيق الشفاء، والتجارب العلمية غير العلاجية التي تُجرى أساسًا لخدمة البحث العلمي دون أن تحقق منفعة مباشرة للمشارك. كما تناولت الدراسة الأسس الشرعية والقانونية المنظمة لمشروعية هذه التجارب من خلال استعراض مواقف الفقه الإسلامي، والاتفاقيات الدولية، والتشريعات المقارنة. واعتمدت الدراسة المنهج الوصفي التحليلي في تحليل النصوص القانونية والأحكام الفقهية ذات الصلة، مؤكدةً على أهمية الرضا المستنير، والأهلية القانونية الكاملة، والكفاءة الطبية، إلى جانب ضرورة إجراء التجارب في مراكز مرخصة ووفق ضوابط صارمة تكفل حماية حقوق المشاركين.. وتخلص الدراسة إلى ضرورة وضع إطار قانوني شامل ينظم إجراء التجارب الطبية في فلسطين، وذلك من خلال سن تشريع خاص، وتشكيل لجان وطنية مستقلة لأخلاقيات البحث العلمي، وتعزيز التوعية المجتمعية بحقوق المشاركين في الأبحاث الطبية. وعلى المشرع اشتراط أن تحقق التجربة الطبية على منافع تفوق المخاطر التي يتعرض لها الخاضع. الكلمات المفتاحية: التجارب الطبية، البحث العلمي، الرضا المستنير، الضمانات القانونية، التجارب العلاجية، التجارب غير العلاجية. |
Abstract |
This study addresses the legal and ethical dimensions of medical experiments on humans, focusing on achieving a precise balance between scientific necessities and legal safeguards in light of the rapid development of medical and technological sciences. The study highlights that medical experiments have become essential for developing innovative treatments and discovering new drugs, yet they simultaneously raise fundamental issues concerning the protection of human dignity and the safeguarding of bodily integrity.The central problem of this study revolves around the question of the legal guarantees required to balance the necessity of medical experiments on humans with their associated risks, and to ensure the effectiveness of legislation in protecting individuals while serving scientific progress.
The study distinguishes between two main types of experiments: therapeutic experiments, which aim to treat the patient and achieve recovery, and non-therapeutic scientific experiments, conducted primarily for the advancement of research without providing direct benefit to the participant. It also examines the legal and religious foundations governing the legitimacy of these experiments, reviewing the positions of Islamic jurisprudence, international conventions, and comparative legislation. The study employs a descriptive-analytical methodology in analyzing relevant legal texts and jurisprudential rulings, emphasizing the importance of informed consent, full legal capacity, and medical competence, in addition to the necessity of conducting experiments in licensed centers under strict regulations that ensure the protection of participants’ rights.The study concludes with the necessity of establishing a comprehensive legal framework to regulate medical experiments in Palestine, including enacting specific legislation, forming independent national committees for research ethics, and enhancing public awareness of participants’ rights in medical research. It also emphasizes that any medical experiment should ensure that the expected benefits outweigh the risks to the participant. Keywords: Medical experiments, scientific research, informed consent, legal safeguards, therapeutic experiments, non-therapeutic experiments. |
المقدمة:
شهد الطب في العقود الأخيرة تطوراً ملحوظاً على صعيد العلوم الطبية، إذ شهدت الأجهزة والمعدات الطبية تحسينات نوعية، بما ساهم في تعزيز القدرة على تشخيص وعلاج الأمراض. ومع ذلك، أدى انتشار أمراض معدية خطيرة تهدد البشرية، مثل فيروس كوفيد-19، إلى إظهار محدودية قدرات العلم الحديث في مواجهتها.
وقد استدعت هذه التحديات الطبية ضرورة إجراء تجارب سريرية وطبية لاكتشاف العلاجات المناسبة، لتصبح هذه التجارب جزءاً لا يتجزأ من الممارسة الطبية الحديثة. غير أن هذه التجارب، رغم أهميتها العلمية، تحمل في طياتها مخاطر كبيرة قد تؤثر على حياة الإنسان وصحته، إذ لا يضمن نجاحها دائما، وقد تكون العواقب أحيانا أكثر من منافعها.
بجواز هذه التجارب الطبية على جسم الانسان رغم خطورتها كان لا بد من تدخل المشرع في الكثير من الدول لتنظيم ممارستها بما يكفل الاستقرار والطمأنينة، سواء بالنسبة للأطباء أو بالنسبة للمرضى في مواجهة قواعد المسؤولية عن الاخطاء التي ترتكب أثناء ممارسة هذه التجارب، كما تترتب مسؤولية جنائية عند هذه التدخلات الطبية في حالة عدم موافقتها مع الشروط المحددة قانونا وذلك حماية لحق الشخص في السلامة البدنية.
وهذه النقلة النوعية التي صاحبت التجارب العلاجية وغير العلاجية تتطلب مراعاة التوازن الدقيق بين متطلبات البحوث العلمية والاحترام الواجب لجسم الانسان وحمايته من المخاطر والاضرار التي قد تصيبه جراء هذه العمليات، إذ إن موافقة الافراد على هذه التجارب مرتبطة بالمحافظة على سلامة جسدهم ولضمان أن توجه هذه التجارب لخدمة الانسانية.
وغني عن البيان أن هذه التجارب لا تقتصر على اختبار دواء معين؛ بل هي من الاتساع بحيث تشمل كافة الابحاث المتعلقة بالهندسة الوراثية، ودراسة الامراض بمختلف أنواعها سواء كانت وراثية أو مكتسبة أو جراحية، ليصل الباحث من خلالها إلى اكتشاف مدى فاعلية وسيلة معينة في مجالات التشخيص أو العلاج أو الوقاية ومدى المخاطر المتوقعة. لذلك تثير التجارب العلمية إشكالات قانونية كبيرة بسبب معصومية جسم الانسان ولغياب مصلحة مباشرة تعود للفرد محل التجربة مما يستلزم البحث عن مزيداً من الضمانات لحمايته..
مشكلة الدراسة وتساؤلاتها:
إن مشكلة الدراسة تتمحور حول السؤال الرئيس وهو : ما الضمانات القانونية اللازمة لتحقيق التوازن بين ضرورة التجارب الطبية على الإنسان ومخاطرها، وضمان فعالية التشريعات في حماية الأفراد وخدمة التقدم العلمي؟ ويتفرع عن هذا السؤال الرئيس عدد من الاسئلة الفرعية الاتية:
- ما مشروعية اجراء التجارب الطبية على جسم الانسان؟
- ما الضوابط التي تحكم التجربة الطبية على جسم الانسان؟
- ما موقف التشريعات من التجارب الطبية؟
- ما موقف الفقه الاسلامي من هذه التجارب؟
أهداف الدراسة:
تقوم الدراسة على تحقيق مجموعة من الأهداف لعل أبرزها ما يلي:
- ضبط مفاهيم التجارب الطبية وبيان أنواعها.
- تحديد مشروعية إجراء التجارب الطبية في الفقه الاسلامي والقانوني.
- تبيان موقف التشريعات العربية والمقارنة من التجارب الطبية.
- التعرف على شروط إجراء التجارب على جسم الانسان.
- التعرف على القيود القانونية بتنفيذ التجارب على جسم الانسان.
أهمية الدراسة:
تنبع أهمية هذا البحث من كونه يعالج إحدى القضايا القانونية والطبية الحساسة، وهي التجارب الطبية والعلمية على جسم الإنسان، والتي تمثل نقطة التقاء بين حماية حقوق الإنسان والتقدم العلمي. هذه التجارب أثارت جدلاً واسعاً بين الفقهاء حول مشروعية القيام بها، نظرا لتعلقها بجسم الإنسان وحقوقه الأساسية، وفي الوقت نفسه فهي تمثل أداة حيوية لتطوير الطب واكتشاف علاجات للأمراض المستعصية. لذلك، يصبح من الضروري دراسة وضع نظام قانوني متوازن يحقق هدفين متلازمين: حماية الأفراد المشاركين في هذه التجارب من أي أذى، ومنح الباحثين مجالا كافيا للقيام بتجاربهم بما يساهم في خدمة البشرية وتقدم العلوم الطبية.
منهجية الدراسة:
اعتمد الباحث في هذه الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي، بهدف وصف وتحليل النصوص القانونية المنظمة للتجارب الطبية في التشريعات ، إلى جانب استعراض وتحليل الآراء الفقهية ذات الصلة. كما حرصت الدراسة على توظيف المنهج المقارن، لا سيما عند مقارنة الفقه الإسلامي بالتشريعات المقارنة، مثل المشرع الفرنسي والمشرع المصري، لتحديد أوجه الاتفاق والاختلاف واستنباط المبادئ القانونية التي تكفل حماية الإنسان وضمان سلامة التجارب الطبية.
تقسيم الدراسة:
سيتناول هذا البحث مبحثين رئيسيين:
- المبحث الاول: يركز على ماهية التجارب الطبية، تعريفها وأهميتها، وأنواعها، ودورها في تطوير العلوم الطبية.
- المبحث الثاني: عالج الضمانات القانونية المتعلقة بإجراء التجارب الطبية على جسم الإنسان، بما يشمل القواعد التشريعية والفقهية التي تكفل حماية المشاركين وضمان توازن بين المصلحة العلمية وحماية حقوق الإنسان.
المبحث الأول: ماهية التجارب الطبية على جسم الانسان ومبدأ مشروعيتها
تعد التجارب الطبية الركن الاساس للتواصل للعلم والمعرفة وتتصف بالأهمية الكبيرة، لإنها تساعد على التوصل إلى كافة المعلومات بشأن مسألة معينة واثباتها وتقديم الأدلة العلمية حولها ، ومن ناحية أخرى تهدف هذه الاعمال الطبية الفنية الحديثة إلى مواجهة الظروف الصعبة والامراض الخطيرة التي يتعرض لها الانسان والتي انتشرت في هذا العصر بصورة كبيرة، ومما هو معروف فإن كافة الوسائل العلاجية التي تستخدم لشفاء الامراض والقضاء عليها، تمر بمراحل تجريبية عديدة بدء من أثر الادوية والعقاقير المراد استخدامها إلى البحث في أعراضها الجانبية، ولا يبق بعد ذلك إلا تجربتها على المريض لعلاجه وهذا يستدعي الوقوف على مفهوم التجارب الطبية ( المطلب الاول) وضوابط وأساس مشروعيتها وأنواعها (المطلب الثاني).
المطلب الأول: مفهوم التجارب الطبية.
إن استمرارية العلم في تقدمه وتطوره بجميع مجالاته يلزم منه الاستمرار في تنفيذ التجارب العلمية المختلفة، ولقد حظيت هذه الاخيرة باهتمام خاص في كثير من الدول حاليا بسبب المشاكل القانونية التي تثيرها ، والتي تدور أساسا حول حماية السلامة البدنية والعقلية للإنسان، ونجد أن آخر من يتعرض له العالم اليوم هو “فيروس كورونا” الذي ضرب كافة دول العالم و التي كرست جهدها وسخرت امكانياتها في سبيل توفير ما يمكن توفيره من الحماية لمواطنيها من آثار هذا الفيروس والحد من انتشاره والقضاء عليه، وبناء عليه تفرض الدراسة الاجابة على سؤال مهم ما حقيقة التجارب الطبية وما مفهومها؟.
الفرع الأول: تعريف التجارب الطبية
أولاً: مفهوم التجربة لغة:
التجربة من مصدر “جرب” وتعني باللغة الاختبار، أي جرب الرجل تجربة: أي إختبره وجربه تجريباً. وتجربة إختبره مرة بعد مرة. (ابن منظور،1994،262). وجاء في الوسيط أن التجربة هي اختيار منظم لظاهرة أو عدة ظواهر يراد ملاحظتها ملاحظة دقيقة وممنهجة للكشف عن نتيجة ما أو تحقيق غرض معين، وهي ايضا ما يعمل أولا لتلافي النقص في شيء واصلاحه (إبراهيم وآخرون،1972،ص 262). وعليه يتضح من التعريف أعلاه في بيان مفهوم التجربة في العصر الحديث عما كانت عليه سابقا إذ جاء بدقة معناها حسب مراحلها وخطواتها وذلك بالطبع بسبب تطور العلم والمعرفة والامكانات.
ثانياً: التعريف الاصطلاحي للتجربة الطبية
تطلق التجربة في الاصطلاح على الحالة التي يقوم بها الانسان لاستحداث الاشياء في كافة مناحي الحياة فالتجربة يمكن أن تكون في أي مجال كالزراعة والصناعة والطب وكل هذا بهدف الرفع بالمستوى العلمي في كل جوانب الحياة، (فهمي،2014،ص1). أما التجربة الطبية فهي في تلك الاعمال العملية أو الفنية الطبية التي تجرى دون ضرورة تمليها حالة المريض ذاته لإشباع رغبة علمية أو لخدمة الطب والبشرية (عفاف،2002،ص 2). أما تعريف التجربة في الاصطلاح العلمي أو الفني في مجال العلوم الطبية والحيوية، فهي انحراف عن الاصول الطبية الفنية المتعارف عليها، لغرض جمع معطيات علمية أو فنية، أو اكتساب معارف طبية جديدة (بلحاج،2013،ص23)، فهي تلك الاعمال العلمية أو الفنية الطبية التي يقوم بتنفيذها الطبيب الباحث على مريضه أو الشخص المتطوع، بهدف تجريب أثر دواء معين أو نجاح عملية جراحية معينة لم تعرف نتائجها من قبل، للحصول على معلومات جديدة، لخدمة الطب والبشرية (آل داود،2013،ص 20).
وقد عرفت أيضاً بأنها كل بحث من شأنه أن يحقق تقدماً أو يوصل إلى ابتكار علمي، وذلك فيما يتعلق بوظائف أعضاء جسم الانسان سواء كان في حالة الصحة أو في حالة المرض، ويكون قابلا لان ينطبق عليه (جابر، 1999، ص 294).
إذن يمكن القول أن التجارب الطبية العلاجية هي عبارة عن تجارب يلجأ إليها الاطباء للوصول إلى وسيلة علاجية لا يزال تطبيقها محدوداً وهنا يرى الطبيب المثابر أنها أكثر فاعلية إما في تشخيص المرض أو في علاجه بحيث لم توضح التجارب السابقة والاصول العلمية التقليدية المتعارف عليها في تحقيق حل المسألة المراد فهمها.
أما من الناحية التشريعية تعرف المادة 209/1 من قانون الصحة العامة الفرنسي الصادر في 22 ديسمبر التجارب الطبية بأنها الابحاث والدراسات التي تجري على الكائن البشري بهدف تطوير العلوم والحيوية والطبية. وعرفها قانون الصحة الجزائري من خلال القانون رقم 11-18 الصادر بتاريخ 2 يوليو 2018 بقوله “يتمثل البحث في مجال طب الاحياء في إجراء دراسات على الكائن البشري بغرض تطوير المعارف الوبائية والتشخيصية والبيولوجية والعلاجية وتحسين الممارسات الطبية”.
نلاحظ مما سبق أن الغرض الاساس من هذه التجارب هو محاولة ايجاد علاج لمريض من خلال تجريب طرق جديدة سواء بالأدوية أو اللقاحات أو الاشعة ( ابو الديوك، 2021،ص 27)، أو أي وسيلة حديثة. بناء على ما سبق نتسأل في هذا الاطار عن أنواع التجارب الطبية التي يمكن ن تنفذ على جسم الانسان؟ وما مدى مشروعيتها؟.
الفرع الثاني: أنواع التجارب الطبية
هي التجارب الطبية التي تهدف إلى تحقيق غاية علاجية، أي محاولة الوصول إلى إيجاد علاج للمريض من خلال تجربة طرق جديدة في التشخيص واقتراح العلاج كالأدوية الجديدة، أو الاشعة، أو غيرها من الوسائل الطبية الحديثة (BENDJEDDOU, 2025, P1227) فإجراء التجربة الطبية يكون في إطار محاولة علاجية للمريض.
ويمكن تعريفها ايضا بأنها مجموعة من الاعمال التي يلجأ اليها الباحثون والاطباء حين توجد حالة مرضية عجزت الاصول الطبية التقليدية والعلمية الثابتة من إيجاد علاج لها، بحيث يعتبر الهدف الاساس في هذه الحالة الاخيرة البحث عن علاج جديد يحتمل الامل والشفاء للمريض (طه،2001،ص 290)، وعرفت كذلك بأنها التجارب التي يكون الغرض منها علاج المريض وتحقيق شفائه وتخفيف آلامه.( بلحاج،2013، ص 41).
وبناء على ما سبق فالتجارب العلاجية هي التي تمليها حالة المريض ذاته ويتم إجراؤها بقصد علاج المريض ولمصلحته، ويكون ذلك باستخدام طرق ووسائل حديثة، وذلك لعجز وقصور الطرق التقليدية المتاحة والمعروفة لشفائه، ويجب أن يتم عمل هذه الوسائل والطرق على بعض الحيوانات وليس على الشخص المريض . وغالباً ما يتم تجربتها في المعمل ويكون قصد الطبيب في نهاية الامر التجريب للتوصل إلى أبحاث ونتائج معينة ( عبد القادر،2009،ص 160).
بالتالي فإن تجريم مثل هذا النوع من التجارب يؤدي وبلا شك إلى تباطؤ التطور في مجال العلوم الطبية وجمودها، ويقضي على روح الابتكار لدى الاطباء في معرفة علاجات جديدة قد تكون هي الأمل الأخير في العلاج، لذلك أجازها الفقه والقانون، مع ضمان توفر شروط معينة.
وعليه متى أجريت هذه التجربة وبالضوابط التي نص عليها القانون، مع وجود تناسب خطورة المرض واحتمالية الفشل، أو نجاح التجربة فإن القائم بالتجربة لا يسأل وفقاً للقواعد الزجرية (التميمي،2015،298).
والرأي فيما نعتقد أن الهدف من هذا النوع من التجارب هو علاج المريض وشفائه ، وبالتالي فأنها تراعي هدف فردي ويكون للطبيب الحق في الاختيار من أفضل عدة وسائل للعلاج وله حق التجريب لمصلحة المريض وفق ضوابط سيأتي التفصيل لاحقاً عنها.
ويتسع مجال التجربة أمام الطبيب كلما كانت حالة المريض غاية في الخطورة، ولا تجدي معه العقاقير والطرق العلاجية المألوفة، وبالتالي فلا مسؤولية على الطبيب إذا استخدم طرقاً علاجية وعقاقير حديثة على سبيل التجربة بقصد شفائه، فقد يكون في التجربة إنقاذ لحياته، وبالتالي تنتفي مسؤولية الطبيب الذي يجرب دواء جديد وخطير على المريض الميؤوس من حياته، إذا كان الغرض من التجربة شفاؤه.
إذن نخلص بالأخير إلى أن الغرض الاساس من هذا النوع من التجارب هو محاولة إيجاد علاج من خلال تجريب طرق جديدة كالأدوية الجديدة، أو الجراحات الحديثة، أو عمليات زرع الاعضاء، أو غيرها من وسائل التكنولوجيا المتطورة باستمرار، ويشبه هذا النوع من التجارب التدخلات العلاجية المحضة من حيث الغرض وهو علاج المريض، غير أن لهذا النوع من التجارب ميزة أخرى، وهي إمكانية استفادة المرضى الاخرين من المعارف المكتسبة منها (شندي،2010،ص 25).
ثانياً: التجارب العلمية غير العلاجية
يعتبر هذا النوع من التجارب مختلف تماما عن سابقه، اذ يتم اجراؤه على أشخاص أصحاء وعلى الاغلب متطوعين لمصلحة التقدم العلمي والمجتمع ووفقا لضوابط دقيقة. فهي الاعمال الطبية العلمية أو التجربية الخالصة التي يباشرها الطبيب أو الباحث على جسم المتطوع، بهدف البحث العلمي لاكتساب معارف جديدة بخصوص الوقاية من الامراض أو المعالجة الوقائية أو العلاج (اعبيه،2019،ص 289).
وقد تتداخل عدة مفاهيم في إطار التجربة الطبية خاصة في مسألة العلاج اليومي إذ من الصعب التمييز بين التجارب الطبية والممارسة اليومية للطب ؛ لان الامراض وخطورتها تختلف من شخص لأخر وهو ما يجعل الطبيب يباشر عمل تجريبيا في كل مرة يقوم بفحص وعلاج أحد مرضاه، ففي كل مرة يقدم الطبيب فيها أحد العقاقير للمريض فإنه في الحقيقة يقوم بالتجريب معه. أضف إلى ذلك أنه يلاحظ أن التمييز بين التجارب العلاجية وغير العلاجية ليس دائما واضحا في التطبيق العملي، إذ قد تبدأ تجربة باعتبارها علاجية لمريض يعاني من مرض عضال، لكن نتائجها تستغل لاحقا لأغراض بحثية عامة، مما يجعل الحدود بين النوعين متداخلة. وهذا يطرح إشكالية قانونية تتعلق بكيفية توصيف هذه التجارب عند وقوع نزاع قضائي حول مشروعيتها أو حول المسؤولية الناشئة عنها.
وبذلك يمكن القول بأن إجراء التجربة غير العلاجية على الانسان لا يقتصر فقط على تجربة عقاقير جديدة بل تمتد إلى الابحاث التطبيقية أو البيولوجية كدراسة الهندسة الوراثية ودراسة مختلف الامراض المستعصية، سواء أكانت وراثية أو مكتسبة، وتشمل هذه التجربة أيضاً إجراء الابحاث الهادفة إلى تطوير المعطيات البيولوجية أو الطبية لمصلحة الانسان في حال الصحة والمرض.( صالحي،2009،ص 341).
بعد كل ما تقدم نستطيع التميز ما بين التجارب الطبية العلاجية عن التجارب العلمية وهو الغرض الذي يسعى لتحقيقه الباحث أو الطبيب من وراء اجرائها، فالأولى هدفها الوصول إلى أفضل وسيلة علاجية لصالح المريض مع إمكانية تعميم التجربة والفائدة المستخلصة منها على مرضى آخرين يعانون نفس المرض. بينما التجارب العلمية تهدف إلى غاية مختلفة هي الحصول على معلومات ومعارف وخبرات جديدة غير موجودة من قبل بخصوص العلاج أو التشخيص، ويتم عمل هذه التجربة على أشخاص متطوعين أو حتى مرضى لا يكون لهم مصلحة شخصية مباشرة (آل داود،2013،ص 22).
المطلب الثاني: أساس مشروعية اجراء التجارب الطبية
يثار الجدل بخصوص مشروعية عمل التجارب الطبية بين مؤيد ومعارض، وقد تناولنا التفرقة بين نموذجين أحدهما علاجي والاخر علمي غير علاجي. لذلك تستلزم الدراسة البحث بمشروعية كل من النوعين الآنف ذكرهما بخصوص التجارب، مبرزين أساس المشروعية في الفقه القانوني والشرعي على النحو الآتي:
الفرع الأول: الاساس الشرعي والقانوني للتجارب الطبية العلاجية
تسابق العلم مع التكنولوجيا ليصلا بالإنسان إلى شاطئ الرفاهية ويقدما له الجديد دوماً في كل مجال (EDRIS,2025,P30)، إلا أن هذا الأمر يتطلب مشواراً طويلاً ويحتاج فيه إلى اجتياز جولات عدة من التجارب المتتالية للوصول إلى هذه الغايات. وقد حظيت التجارب الطبية على جسم الانسان باهتمام واسع في الكثير من الدول نتيجة التقدم العلمي خاصة في المجتمعات المتقدمة، لارتباطها بحق الانسان في سلامة جسده، لذلك فقد شرعت الكثير من الصكوك الدولية وأكدته الكثير من الاتفاقات والمؤتمرات الدولية على الصعيدين الدولي والاقليمي. ولا شك أن موضوع التجارب الطبية قد حظي باهتمام بالغ من فقهاء الشريعة الاسلامية ( أولا) والكثير من الدول من خلال سن تشريعات تنظم عملها ( ثانياً).
أولاً: الضوابط الشرعية للتجارب الطبية العلاجية
لم يتطرق الفقه الاسلامي إلى حكم الشريعة الاسلامية بشأن التجارب الطبية العلاجية ، إلا أن بعض الفقهاء المحدثين استخلصوا مشروعية التجارب العلاجية من بعض الآيات القرآنية و الاحاديث النبوية الشريفة، وكذا القواعد العامة في الشريعة الاسلامية. ولا ريب أن من مقتضيات حق الانسان في سلامة جسده، حظر كل عمل أو فعل من شأنه أن يشكل اعتداء عليه حتى ولو صدر من صاحب الحق نفسه، ذلك أن حرمة الجسم البشري للإنسان غير قابل للتنازل عنه ولو بموافقته، لأن هذا الحق من الحقوق المشتملة على حق الله، ومع ذلك فهذا الحق ليس مطلقاً، وإنما قد ترد بعض الاستثناءات عليه في إطار الحاجة والضرورة التي من بينها الاذن بالمساس بهذا الحق بغرض العلاج.
1- الأدلة من الكتاب
المتتبع الى آيات القرآن الكريم يجد فيه أن آيات كثيرة تحث الانسان على التدبر والتفكر في كل ما خلق الله، وهذا دليل صريح على أن الله يريد من عباده أن يجدو حلولا لكل أمور حياتهم في الطرق المباحة والتي منها التجارب الطبية العلاجية. ومن الآيات التي استدل بها الفقهاء للقول بشرعية التجارب العلاجية قوله تعالى: “فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ” (البقرة، الآية 173).
ووجه الدلالة في هذه الآية إلى قاعدة كلية مفادها أن الضرورات تفيد المحظورات وأن الضرورة تقدر بقدرها (النوي، 2010، ص 64) ، ولقد استند الفقهاء إلى هذه القاعدة للقول بأن الانسان المريض الذي لم تفلح الطرق المعروفة في علاجه يكون مضطر لتجريب أدوية أو طرق علاجية جديدة، ذلك بسبب إباحة التداوي مع ضرورة استخدام الوسائل المسخرة للتداوي ، لإن الوسائل حكم المقاصد (بلحاج،2011،ص 2011). ووجه الدلالة في قوله تعالى أيضاً “فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيه” (المائدة، الآية، 23).
لذلك تقوم التجربة على مبدأ الملاحظة والمشاهدة و الاستنتاج، واستخلاص العلم والمعرفة النافعة، وهذا ما حصل مع قابيل وأخيه المقتول هابيل، حيث لاحظ قابيل ما فعله الغراب بعد قتل أخيه، الذي حفر بمنقاره وبرجله حتى مكن له ثم دفعه برأسه حتى ألقاه في الحفرة، ثم جثى عليه برجله حتى وراه بالتراب، فتنبه قابيل الحائر بجثة أخيه إلى فعل الغراب، وحصلت لديه المعرفة بطريقة المشاهدة و الملاحظة، واستنتج من تجربة الغراب عن طريق مواراة سوأة أخيه، ولقد كانت التجربة بداية لسنة دفن الموتى في الارض، وهي معرفة علمية تحققت لقابيل ويمكن اعتبار هذه الحادثة أصلا لجواز إجراء التجارب بالمشاهدة والملاحظة واستخلاص المعرفة ( أبو مطر، 2011، ص8).
فالتجارب تحقق مقصد الشرع بالوصول من خلال نتائجها للمحافظة على مقصد حفظ النفس والذي هو أحد الكليات الخمس وبفضل نتائجها نصل للفرضيات التي تساهم في الحفاظ على النفس من كل ما يعترضها، وهذا واضح في اللجوء إلى عمل التجارب واكتشاف كل ما من شأنه أن يحقق المصالح ويدرء المفاسد.
2- الأدلة من السنة
أما في السنة النبوية الشريفة، فقد تداوى الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، وأمر أهله وأصحابه بالتداوي عند إصابتهم بالمرض، ودرج بعده أصحابه الكرام على التدواي والعلاج، وقال العلامة العز بن عبد السالم: “الطب كالشرع، وضع لجلب مصالح السلامة والعافية، ودرء المعاطب والاسقام” (عز الدين، 1994، ص 8)، فقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: “لكل داء دواء، فإذا أصاب دواء داء برئ بإذن الله عز وجل” (النيسابوري، 1221، ص32).
ومن الأدلة الأخرى، ما ورد في الصحيحين عن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد يسأل عما عولج به جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فقال: “جرح وجهه وكسرت رباعيته وهشمت البضة على رأسه وبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم، وكان علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه –يسكب عليها بالمجن، فلما رأت فاطمة الدم لا يزيد إلا كثرة، أخذت قطعة حصير فأحرقتها حتى صارت رمادا ثم ألصقته بالجرح، فاستمسك الدم (النيسابوري، 1221، ص91). ولم ينكر عليها الرسول صلى الله عليه وسلم تلك التجربة، وهو ما يدل على جواز إباحة تجريب الادوية الجديدة في حالة عدم نجاح الطرق المعروفة.
تستند هذه الاستدلالات الشرعية إلى مبدأ حماية النفس وسلامة المجتمع، وهو أحد المقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية. من هذا المنطلق، يُستدل بأن المشرع الإسلامي لا يحرم ممارسة الطب أو التدخلات الطبية، بل يدعو إلى استخدام معرفة الطب ووسائله بما يحقق سلامة الفرد والمجتمع. وبناءً على ذلك، يُعد ما يقوم به الطبيب من أفعال طبية وفق الضوابط الشرعية مباحاً، طالما أن الهدف منها علاج المرضى وتحقيق المنافع وتقليل الضرر.
ومن القواعد العامة التي استدل بها الفقهاء للقول بشرعية التجارب العلاجية ايضاً، إباحة الله عز وجل للتداوي من الامراض بغير المحرم، وبجميع الوسائل الجائزة شرعا، بل إنه واجباً، لأن حفظ النفس من الأمور التي أوجبت الشريعة حفظها. والقاعدة العامة أن الله تعالى إذا أباح شيئا أباح الوسائل المؤدية إليه. فإباحة التداوي تبيح بالضرورة استخدام الوسائل المسخرة للتداوي، فإنه من الاحكام التي قصدت حفظ النفس، حكم طلب الدواء لعلاج الامراض، وعدم ترك الانسان نفسه فريسة لها ، دون اتخاذ أي إجراء يؤدي إلى الشفاء بإذن الله تعالى.
ويُستشف من موقف الفقه الإسلامي أن القاعدة العامة هي الحظر حمايةً للجسد الإنساني، والاستثناء هو الإباحة في حالة الضرورة، غير أن إشكالية “الضرورة” تطرح نفسها بقوة، إذ أن النصوص الشرعية لم تضع معياراً موضوعياً محددً لقياسها، بل تُركت لتقدير المجتهدين والفقهاء. وهنا تتبدى معضلة عملية: فهل تُحدد الضرورة استناداً إلى حالة المريض الفردية ومدى خطورة وضعه الصحي، أم يمكن توسيعها لتشمل مصلحة المجتمع العلمية في تطوير علاجات جديدة؟
إن تبني المعيار الأول (حالة المريض) يضمن حماية أكبر للفرد لكنه قد يبطئ تقدم البحث العلمي، بينما تبني المعيار الثاني (المصلحة العامة) يفتح الباب أمام تبرير واسع لتجارب قد تُعرّض الأفراد لمخاطر جسيمة دون مصلحة شخصية مباشرة. ومن ثم، فإن غياب معيار محدد يؤدي إلى تفاوت الأحكام القضائية والفقهية بين التشدد والمرونة، ويُظهر الحاجة إلى إطار تشريعي معاصر يوازن بين حفظ النفس كأصل، والسماح بالتجريب كاستثناء مضبوط. وخلاصة الأمر جاءت الشريعة الاسلامية لتحقيق مصالح العباد وطبقا للقاعدة الشرعية “حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله”، فإن كل ما يحقق مصالح الناس يعتبر مباحا، ولما كانت التجارب العلاجية تفيد هذا المعنى فهي تدخل في نطاق الاباحة.
ثانياً: موقف التشريعات من التجارب الطبية
من المعروف أن التجارب العلاجية التي يباشرها الطبيب بقصد معالجة مرضاه المصابين بمرض معروف أو مألوف لا تثير تساؤلات فقهية كثيرة، مادام الطبيب يباشر ذلك ضمن ضوابط قانونية وضمانات صحية وأخلاقية مهنية، وتملك معظم دول العالم تشريعات خاصة، تتضمن القواعد والمبادئ المتعلقة بإجراء الطبيب للتجارب الطبية العلاجية، وحيث أن التجارب الطبية العلاجية الغرض منها لا يختلف عن الغرض من الاعمال الطبية العادية التي تهدف الى علاج المريض، فقد تم الاستناد الى الهدف العلاجي من هذا النوع من التجارب كأساس لتبريرها. فأساس مشروعية هذا النوع من التجارب الطبية هو نية الشفاء.
ذهب هذا الاتجاه إلى إباحة التجارب الطبية العملية على جسم الانسان مع توفر أكبر قدر من الضمانات والحماية لحق الفرد في سلامة جسده من خلال فرض ضوابط وشروط معينة لإجراء هذا النوع من التجارب. ويتزعم هذا الاتجاه الفقه الانجلوسكسوني (المأمون،2009،ص707)، وسايرهم جانب من الفقه الفرنسي والايطالي والالماني والمصري وذهبوا إلى الاعتراف بمشروعية هذا النوع من التجارب (طه،2001،ص292)، وسندهم أنه إذا كان إجراؤها بغرض علاجي في مصلحة الشخص المريض لتخفيف معاناته وإنقاذ حياته فلا بأس، ووضعوا شرط أن تكون احتمالات النجاح فيها على قدر من التوثيق من الناحية العلمية، وضرورة كون الخطر المترتب على التجربة العلاجية أقل ضررا للشخص من الفائدة المتوقعة بالنسبة للعلم والمجتمع وهو رأي معتبر خاصة إذا أخذ على حرفيته.
الفرع الثاني: مشروعية التجارب الطبية غير العلاجية( العلمية)
اختلفت الاتجاهات الفقهية وتشريعات الدول حول إباحة مثل هذا النوع من التجارب، فمنها ما يبيح هذه التجارب ومنها ما يمنع قيامها، وقبل الخوض في غمار هذا التباين نعرض أولا لموقف الشريعة الإسلامية ومن ثمة موقف التشريعات.
أولاً: موقف الشريعة الاسلامية من التجارب العلمية
من خلال الاطلاع على موقف فقهاء الشريعة الإسلامية المتأخرين نحد أهم متشددين في الاخذ بهذه التجارب و أغلبهم رافض لها وسندهم في ذلك قوله تعالى: “وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا” (سورة البقرة،الأية،195)، والآية “وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ” (النساء، الآية 29) .يفهم من الآيتين السابقتين، أن الله حرم تعريض النفس للخطر من غير مصلحة مقصودة شرعا، وبالتالي فإن تحقيق هذه المصلحة غير مؤكدة في هذه التجارب وبذلك لا يمكن إباحة هذه التجارب و اضفاء الشرعية عليها، حيث أنها تفتقد لعنصر الضرورة المشروعة التي تبيح في بعض الحالات تعرض الانسان للخطر كحالات إنقاذ الغرقى والحرقى (المأمون،2009،ص 714).
إن الشريعة الاسلامية حريصة على الانسان وقد ورد ذلك ضمن الكليات الخمس للشريعة وحفظ الحياة من هذه الكليات التي أمرت بحفظها، وهي أثمن ما يمتلكه الانسان، وقد جعل الاسلام حق الحياة قاعدة أساسية بنى عليها كثيراً من الاحكام للمحافظة على هذا الحق، فاعتبر الاعتداء عليها بالقتل جريمة، وكذلك الاعتداء على جزء منها.
أما ما ورد في السنة النبوية والذي يفيد تجريم إجراء التجارب العلمية نذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا ضرر ولا ضرار” (ابن ماجه ، 2011،ص542)، حيث يفيد هذا الحديث أنه لا يجوز للإنسان أن يضر نفسه كما لا يجوز له أن يضر غيره، وأن التجارب العلمية فيها تعريض الانسان للخطر المنهي عنه شرعاً.
ثانياً: موقف التشريعات من إجراء التجارب العلمية غير العلاجية
احتدم الجدل بين الفقهاء حول مدى قانونية ومشروعية إجراء التجارب الطبية العلمية على الانسان، وذلك على عكس التجارب الطبية العلاجية التي استقر الفقه على مشروعيتها وضرورتها لتخليص المرضى من الامراض الخطيرة التي تفتك بهم وتهدد حياتهم.
ومرد هذا الاختلاف راجع إلى تأرحج هذه المسألة بين اعتباريين وجيهين، الاول يتمثل بحرية البحث العلمي وما يقتضيه من إطلاق حرية الطبيب في عمل التجارب، والثاني يتمثل في حرمه الجسد البشري وضرورة احترام السلامة الصحية والبدنية للإنسان. ويمكن عرض كلا الاتجاهين على النحو الآتي:
1- الاتجاه المؤيد للتجارب العلمية
استند أنصار هذا الاتجاه والذين يمثلون غالبية الفقه الانجليزي والفرنسي والايطالي والمصري وبعض الالمان إلى العديد من الحجج لتأييد قولهم بعدم مشروعية إجراء التجارب الطبية العلمية، ويستند هذا الاتجاه إلى قاعدة أساسية في الشريعة العامة مفادها أن رضا المجني عليه بوقوع أي اعتداء على جسمه أو ماله يحول دون قيام الجريمة متى لم يترتب على الفعل أي ضرر (بوشي،2016،ص 160).
ويعلق الفقه الانجلوسكسوني أهمية كبيرة على الرضا المستنير للشخص الخاضع للتجربة ويستند إليه لإضفاء الشرعية للتجربة العلمية، وبذلك يمكن القول بأن المبدأ السائد في الانظمة الانجلوسكسونية هو الاقرار بحق الشخص على جسده والتصرف به بما لا يتناقض مع مقتضيات النظام العام والآداب، وبالتالي يحق للفرد في ظل هذا النظام أن يتطوع وبإرادته المستنيرة لإجراء التجارب غير العلاجية عليه (الصالحي،2009،343).
أما بالنسبة للفقه الاتيني، فنجد كل من الفقه الايطالي الذي يرى جانب منه بأن هذا النوع من التجارب مشروع سواء كان الغرض منه الحصول إلى علاج مرض مستعص أو لمجرد اكتساب معارف جديدة في العلوم الطبية واسعاد البشرية من الناحية الصحي (بن النوي،2010،ص68،مرعي،2001،ص 114. نصر محمد،2016،ص40).
وأيضاً جانب من الفقه الفرنسي أيد هذا الاتجاه، إذ يعتبر أن إضفاء الشرعية على هذه التجارب تستمد من مشروعية السبب في الاتفاق بين صاحب التجربة والشخص الخاضع لها، حيث إن سبب الاتفاق لا يخالف النظام العام والآداب، وأن الهدف من هذا الاتفاق هو إجراء تجارب علمية تستهدف الوصول إلى معارف جديدة لخدمة الشعوب والامم (مأمون،2009،ص 709).
خلاصة الأمر يستند هذا الاتجاه الذي يؤيد التجارب العلمية على جسم الانسان على المصلحة العامة لعلاج الامراض المستعصية بشرط صلاحيتها، وعدم مخالفتها للآداب العامة، ورضى الشخص الخاضع للتجربة الطبية العلمية.
ويمكن القول هنا أن التشريعات المقارنة تكشف المقارنة عن اختلاف عميق في الفلسفة القانونية: فالتشريعات الأنجلوسكسونية (كالإنجليزية والأمريكية) تميل إلى إعلاء مبدأ حرية الفرد في تقرير مصيره، بحيث يُعتبر الرضا المستنير كافيا لإضفاء المشروعية على التجارب، حتى لو لم يكن لها هدف علاجي مباشر. في المقابل، فإن التشريعات ذات الجذور اللاتينية (كالفرنسية والإيطالية) تُقيّد الإباحة بوجود مصلحة علاجية مباشرة للمشارك، أي أنها تُقدّم حماية أشد لسلامة الجسد الإنساني.
ويؤدي هذا التباين إلى نتائج عملية مهمة: ففي الأنظمة الأنجلوسكسونية يمكن للأفراد التطوع في تجارب علمية بحتة، مما يُسرّع من وتيرة الاكتشافات الطبية، لكنه في الوقت نفسه يُعرّضهم لمخاطر عالية. بينما في الأنظمة اللاتينية يكون الطبيب مقيدًا أكثر، فلا يستطيع إدخال شخص سليم في تجربة غير علاجية، مما يحمي الأفراد لكن قد يُبطئ التقدم العلمي. ومن هنا يتضح أن الخيار بين هذين النموذجين ليس مجرد مسألة تقنية، بل يعكس فلسفة قانونية حول موقع الفرد في المجتمع: هل يُعتبر الفرد سيد قراره ولو على حساب صحته، أم أن القانون يتدخل لحمايته حتى من نفسه؟ هذه الثنائية تبرز الحاجة إلى إيجاد نموذج توازني يأخذ بمرونة النظام الأول وحماية النظام الثاني.
وأرى أيضاً اضافة لقناعتي بالموافقة على إجراء التجارب الطبية على جسم الانسان أنها ضرورة ملحة نظرا لتزايد الامراض الجديدة وغير المعروفة، بشرط أن يتسم هذا الامر بالحذر والانضباط الشديدين، استناداً الى مبدأ احترام الكرامة الانسانية وحقوق الانسان، وهذا باعتقادي التوجه الذي اتخذته ايضاً اتفاقية أوفييدو المعروفة رسميا بأسم اتفاقية حماية حقوق الانسان وكرامة الكائن البشري فيما يتعلق بتطبيقات علم الاحياء والطب التي اعتمدها مجلس أوروبا عام 1997.في وضع ضوابط صارمة توازن بين تطور العلم وحقوق الافراد وكرامتهم.
2- الاتجاه الرافض للتجارب العلمية
يمثل هذا الاتجاه جانب من الفقه الفرنسي والمصري، ويذهب انصاره الى عدم مشروعية التجارب غير العلاجية على الانسان، ما لم تكن للشخص محل التجربة مصلحة شفائية مباشرة، ويدعم رأيهم أن الاباحة في أي عمل طبي لا تتحقق بمجرد رضى الشخص، بل إن قصد العلاج هو أحد عناصر تلك الاباحة التي لا غنى عنها لإخراج عمل الطبيب من نطاق التجريم إلى نطاق الاباحة (بلحاج،2013،ص 63).
إضافة إلى ذلك لا توجد أية ضرورة ملحة لتعريض سلامة وصحة أشخاص أصحاء لمخاطر إجراء بحوث أو تجريب طرق علاجية أو عقاقير جديدة عليهم، مادام هناك إمكانية لتجريبه على المرضى المصابين بأمراض مستعصية، وبالتالي فالتفكير في تجربة علاج جديد لا تكون إلا بعد ظهور مرض لا علاج له، أو له علاج ولكن لا يحقق النتيجة المرجوة من جراء استعماله. ومن ثمة يمكن تجربة الدواء الجديد على المرضى أو المصابين به، ومراعاة الآثار الجانبية المترتبة على استعماله من قبل الانسان، وفي نفس الوقت يتحقق قصد العلاج (شديفات،2011،ص 276).
أما الفقه العربي فقد استقر على أن الطبيب حر في اختياره طريقة المعالجة التي يعتقد أنها أفضل من غيرها لصالح مريضه، فمن حقه أن يطبق أسلوباً غير تقليدي أو غير معروف كثيرا أو جديد لم يسبق تجريبه إذا كان مقتنعا به لصالح مريضه، و يميل للقول بعدم مشروعية التجربة العلمية، فالطبيب الذي يجري العملية الجراحية أو أي عمل طبي يستهدف به التجربة العلمية في ذاتها لا يعد ملتزما بحدود حقه، وبالتالي لا يتمتع بسبب من أسباب الاباحة وذلك مهما كان رضا الشخص الخاضع للتجربة متوفرا، وبغض النظر عن الباعث على إجراءها ومدى فائدة نتائجها بالنسبة للمجتمع، فعمل مثل هذا النوع من التجارب غير مشروع بل إنها تكون خطأ يستوجب مسؤولية الطبيب عن جريمة عمدية أو متجاوزة القصد بحسب الاحوال (الغريب،1989،ص63). بناء على ما سبق في احترام وجه نظر هذا الاتجاه الرافض لأجراء التجارب على جسم الانسان إلا انني أرى أنه بالغ في حرصه العميق على كرامة الانسان، وأن موقفه المتشدد قد يقيد التقدم العلمي، خصوصا في مجالات تتطلب تجريبا بشريا كالأدوية الجديدة أو العلاجات الجينية. وبناء عليه نرى أن الحل لا يكون في الرفض المطلق بل في وضع ضوابط صارمة تضمن اخلاقيات الابحاث وتطوعها في خدمة الانسانية.
المبحث الثاني: ضمانات إجراء التجارب الطبية
تحتل التجارب الطبية الصدارة في نطاق الأعمال المستحدثة في الطب نظرا لأهميتها في الوصول إلى اكتشاف أدوية وطرق علاجية حديثة للقضاء على الكثير من الأمراض بعد أن تم تجريب كل الوسائل المعروفة، وثبت عدم نجاحها وخاصة مع انتشار أمراض لم تكن معروفة من قبل، ويجب الانتباه هنا إلى الحاجة إلى الموازنة ما بين حرمة الكيان الجسدي للإنسان وبين تحقيق التقدم العلمي من أساليب طبية حديثة. ولإضفاء المشروعية على التجارب الطبية، لا بد من توافر جملة من الشروط التي تكفل ضبط إجرائها على جسم الإنسان، بما يمنع خضوعها للأهواء أو الاستغلال من قبل الطبيب، ويُلزمه بالتقيد بضوابط محددة. وتتنوع هذه الشروط بين ما يتعلق بالشخص الخاضع للتجربة، وما يرتبط بالطبيب القائم عليها، وهو ما سنعالجه في الفرعين التاليين.
المطلب الأول: شروط إباحة إجراء التجارب بالنسبة للخاضعين لها.
يشترط في الشخص الخاضع للتجربة ان يعبر عن رغبته بالمشاركة بالتجربة وهو ما يعرف بالرضا (الفرع الاول) ويستلزم لصحة رضا الخاضع للتجربة أن يكون متمتعا بالأهلية للازمة لذلك (الفرع الثاني).
الفرع الأول: رضا الخاضع للتجربة
إن اشتراط رضا المريض في إجراء التجربة الطبية يحمي مصالح كل الاطراف المعنية، إذ بمباشرة حقه في الموافقة أو رفض الاعمال الطبية يحمي المريض سلامته الجسدية والعقلية، أما الطبيب فإن حصوله على رضا قانوني من المريض يحميه من كل متابعة قضائية مستقبلية مؤسسة على تدخله غير الشرعي، لذلك يبدو أنه من مصلحة كلا الطرفين ألا يباشر العلاج إلا بعد الحصول على موافقة المريض(بركات،2019،ص119). لكن ما شروط هذا الرضا؟.
أولاً : أن يكون الرضا كاملاً
يلزم لصحة رضاء الشخص بصفة عامة، أن يكون حراً، بمعنى أنه يتعين أن تكون إرادة الشخص سليمة مما يعيبها لكي يعتد بالرضا الصادر عنها، فلا يكون لرضاء الشخص أية قيمة قانونية، إذا كان ضحية غلط، أو تدليس أو إكراه أو استغلال، أو كان ضحية خداع أو أي سبب آخر من شأنه أن يعيب أو يعدم الاختيار، وتبدو أهمية ذلك بصفة خاصة في مجال التجارب الطبية(سهير،1998،ص25).
والمقصود بالرضا قانونا في مجال بحثنا هو حصول الطبيب على الموافقة من المريض أو ممن يمثله قانونا في حالة عدم القدرة على الحصول منه شخصياً بإجرائها (حماد،1996،ص110.خنوشي،2020،ص271).
لذلك يشترط أو يكون الرضا إرادياً وحراً وصادراً عن موافقة الشخص الذي سوف يخضع لها، كما يجب منحه الوقت الكافي للتعبير عن رأيه بالموافقة على المشاركة أم لا، وعليه لا بد أن تكون ارادة الخاضع للتجربة خالية من أي ضغط اجتماعي أو اقتصادي أو نفسي (عبد المجيد،1997،ص18).
أضف إلى ذلك لا يكون التدخل الطبي في التجارب الطبية مشروعاً إلا إذا وافق عليه المريض، بناء على القاعدة العامة التي تقول: “لا يجوز إرغام المريض على علاج معين أياً كانت نتائجه وأياً كانت درجة خطورة حالة الفرد الصحية”، ويستثنى طبعاً من هذه القاعدة بعض الحالات التي يكون فيها المريض مصاب بمرض خطير معدي قد يتنقل إلى أفراد المجتمع ويهدد الصحة العامة، وكذلك في حالة الضرورة. وقد اشترطت القاعدة الاولى من قواعد نورمبرج بالقول على ضرورة الحصول على رضا الشخص الذي تجري عليه التجربة وأن يكون هذا الرضا حرا، كما نص على شرط توفر الرضا في التجارب الطبية والعلمية في إعلان هلسنكي في القاعدة الرابعة بضرورة الحصول على رضا الشخص المستنير وتزويده بكافة المعلومات المتعلقة بالتجربة. وقد نص على هذا الامر ايضا القانون الاساسي الفلسطيني في الفقرة الاولى منه حيث نصت على حظر التجارب الطبية بقولها “لا يجوز إجراء أي تجربة طبية أو علمية على أحد دون رضاء قانوني مسبق، كما لا يجوز إخضاع أحد للفحص الطبي أو للعلاج أو لعملية جراحية إلا بموجب قانون”.
ولا نغفل في هذا الاطار التشريعات التي نصت ضمن قوانينها على ضرورة حصول الرضا من الشخص المشارك للتجربة، فالتشريع الفرنسي نص من خلال قانون الصحة العامة في المادة 209/9 منه على أنه يتعين قبل إجراء اي بحث طبي على الشخص الحصول على الرضا الحر المستنير.
كما تضمنت المادة 65 من قانون آداب المهنة المصري على أنه يلتزم الطبيب الباحث بالحصول على موافقة كتابية مبنية على المعرفة من المتطوع على إجراء البحث عليه وذلك بطريقة رسمية وفي حضور شهود إثبات، وفي حالة ما إذا كان المتطوع قاصراً أو معاقاً أو ناقصاً الاهلية فإنه يلزم الحصول على الموافقة من الوصي الرسمي أو القيم ويشترط أن يكون البحث خاصاً بحالته المرضية.
أما في التشريع الفلسطيني من خلال قانون الاخطاء الطبية رقم 31 لسنة 2018 فقد نص على وجوب إعلام متلقي الخدمة أو من ينوب عنه قانوناً، وأن يتم أخذ موافقة طبيبين مختصين على الأقل للقيام بالإجراء الطبي الواجب العمل به لإيقاف الخطر عن متلقي الخدمة. وهذا الأمر من وجه نظري لا يعتبر تنظيما حقيقا قريبا من الدراسة التي بين أيدينا إذ أن المشرع الفلسطيني لم يعالج بشكل صريح ومباشر مسألة إجراء التجارب الطبية على الانسان في تشريعات خاصة أو مستقلة كما هو في بعض الأنظمة القانونية الاخرى ، وحتى القوانيين الفلسطينية المنظمة للنظام القانوني الطبي التي قد تمس الموضوع بشكل مباشر لم تعالج الأمر، مثال ذلك قانون الصحة العامة الفلسطيني رقم 20 لسنة 2004 الذي عدل بقانون رقم 25 لسنة 2018 الا يحتوي على أحكام تفصيلية أو صريحة تتعلق بالموضوع ،إذ يركز على تنظيم مزاولة المهن الصحية والوقاية من الامراض والصحة الوقائية والعلاجية.
خلاصة القول إن أي عمل طبي أو تجربة طبية، يتم إجراؤه دون الحصول على رضا صاحب الشأن يمثل خروجاً عن قواعد القانون، سواء دعت إلى هذه التجربة ضرورة طبية لمصلحة المريض أم لا، ويجب أن يكون الرضا حراً ومستنيراً، أي عن اختيار كامل وعن علم بالظروف والنتائج المرتبطة بإجراء العلاج الطبي أو التجربة.
ثانياً: أن يكون الرضا مستنيراً
لا يكفي أن يكون الرضا حرا فقط ، بل يتعين أن يكون صادراً عن بصيرة بعواقب التجربة الطبية، بمعنى أن يكون الرضا مستنيراً، فالطبيب بالنسبة للمريض وفي أغلب الاحيان يواجه جاهل في صدد العلوم الطبية ومعلوماتها، التي لا تجعل المريض أو الخاضع للتجربة في مركز متعادل معه، وحتى يكون رضا الشخص محل التجربة صحيحا، فإنه يقع على عاتق القائم بالتجربة التزام بإحاطته علماً بطبيعة التجربة وأهدافها ومدتها، والطرق المستخدمة فيها، والاضرار والمخاطر المحتملة (العبيدي،2007،ص172).
وبالتالي على الطبيب الذي سوف يقوم بالتجربة الطبية واجب التبصير والاعلام، خاصة أن الأمر يتعلق بجسم الانسان وهو أمر خطير وممكن أن تؤدي هذه الخطورة إلى فقدان حياته، فلا بد أن يكون رضا المتطوع حراً وصريحاً بعد تبصيره بكافة المعلومات حول التجربة وكافة المخاطر المحتملة (حسين،2006،ص22).
وتجدر الاشارة إلى ضرورة إفراغ هذا الرضا كتابة في وثيقة مكتوبة ما يضمن الحد الأدنى لحقوق الخاضع للتجربة، وقد اشار القانون المصري لهذا الأمر من خلال المادة 55 من لائحة آداب مهنة الطب بقوله “يلتزم الطبيب الباحث بالحصول على موافقة كتابية (مبينة على المعرفة) من المتطوع على إجراء البحث عليه”.
ويجب التنبيه إلى أن حق الشخص الخاضع للتجربة في الموافقة لا يقتصر على منحه قبل إجراء التجربة، بل يجب أن يبقى هذا الاخير موافقاً على إجرائها إلى آخر مرحلة من مراحلها، ويعني ذلك أنه من حقه العدول عن رضائه في أية مرحلة من هذه المراحل دون تبعات قانونية عليه. وبالرغم من الحصول على الرضا المكتوب في هذا المجال يعد دليلا على موافقة الشخص إلا أنه ليس حجة كافية على حصول الخاضع للتجربة على الاعلام اللازم قبل موافقته (مأمون،2009،ص531)، وقد رتبت المادة 1121-1 من القانون الفرنسي المتعلق بالصحة العامة عقوبة الحبس لمدة ثلاثة اعوام وغرامة مالية قدرها 45.000 يورو على كل من يقوم بإجراء تجربة طبية على شخص دون أن يحصل على رضائه الحر أو المتبصر، أو يستمر في إجراء التجربة رغم عدول الشخص عن رضائه.
الفرع الثاني: الأهلية
يشترط لصحة الرضاء كمال الاهلية وهي طبقا للقواعد العامة بلوغ السن القانوني وفقاً لما حددته اغلب التشريعات، مع تمتع الشخص بكامل قواه العقلية، وهو شرط منطقي بالنظر إلى طبيعة التجارب الطبية التي تقتضي الموافقة عليها أن يكون للشخص القدر الكافي من الوعي والادراك.
فينبغي بهذا الصدد أن يكون الشخص الخاضع للتجربة متمتعا بالأهلية لكي يتمكن من فهم طبيعة التجربة وبالتالي تقدير آثارها، إذ أن العلاقة التي تربط القائم بالتجربة مع الخاضع لها علاقة عقدية توجب الرضا الذي يجب أن يكون خالياً من العيوب (عبد الرحمن،2003،ص57). وأن كامل الاهلية لا يثير أي إشكالات إلا أن الامر يتوقف عند بعض الفئات غير الكاملين الأهلية ومن في حكمهم، والحديث يدور عن الحماية القانونية للأطفال والقاصرين والمصابين بالأمراض العقلية.
أولاً: القصر ومن في حكمهم
الأصل أنه ليس لرضاء القصر ومن في حكمهم أية قيمة قانونية في مجال التجارب الطبية، لأنهم لا يملكون القدرة على كشف وتمييز طبيعة التجربة التي يرضون بها، وبذلك لا بد من الرجوع إلى القواعد العامة المتعلقة بالوصاية على الاشخاص، الأمر الذي يستلزم اخذ موافقة من له الولاية والوصاية عليه، ويتشدد الفقه بهذه النقطة ويشترط عدة ضوابط لصحة إجراء التجربة على القاصر(محجوب،2000ص،55) وهي:
- وجوب أخذ موافقة الولي أو الوصي عن القاصر.
- أن تكون هناك منفعة مباشرة من إجراء التجربة الطبية.
- ألا تشكل خطرا محتملا على صحتهم أو أن آثارها الجانبية أكثر من فائدتها.
- أخذ موافقة القاصر والبالغ تحت الوصاية القادرين على التعبير عن ارادتهم في حالة طلب الوقف أو العدول عن التجربة.
- ألا يكون القاصر سليماً طبياً، هذا يعني أن موافقة القيم أو الوصي مرتبطة بأن تكون التجربة متعلقة بحالة مرضية عند القاصر (فهمي،2014،ص145) فإذا كان معاف وليس به أي مرض فلا يجوز إجراء التجربة ولو وافق الوصي.
وهذا ما أكده المشرع الفرنسي من خلال قانون الصحة العامة في المادة 7/1121 التي اجازت إجراء التجارب على القصر ومن في حكمهم، في حالة استحالة إجراء هذه التجارب على البالغين، وأن تكون الفوائد المرجوة من إجراء التجارب الطبية تبرر المخاطر المتوقعة التي قد يتعرضون لها، أو أن تكون مفيدة لأشخاص آخرين يوجدون في نفس وضعية الشخص الخاضع للتجربة، وهنا يجب أن تقلص المخاطر المتوقعة إلى أدنى درجة.
ونفس الأمر أقره المشرع المصري من خلال المادة 56 من لائحة آداب مهنة الطب على أنه يجب أن يكون المتطوع أهلا للتصرف، وفي حالة ما إذا كان المتطوع ناقص الاهلية أو معاقا فإنه يلزم الحصول على الموافقة من الوصي الرسمي أو القيم، ويشترط أن يكون البحث خاصاً بحالته المرضية. ويجب التنبه إلى أنه إذا كانت الغاية من التجربة هي علاج المريض القاصر فإنه تتوقف التجربة على موافقة من يمثل القاصر من الناحية القانونية، بخلاف ما إذا كانت تجربة علمية فلا يجوز اقرارها حتى ولو كانت هناك موافقة من جانب الولي أو الوصي إلا بحدود ضيقة جداً (بلحاج،2013،ص150).
ثانياً: المصابين بأمراض عقلية (المجانين)
الجنون هو عدم القدرة على الادراك، والمجنون في حكم الصغير غير المميز فلا يكون لرضائه أي قيمة قانونية لأنه لا يملك القدرة على كشف وتمييز طبيعة الافعال التي يرضى القيام بها ، ومن ثمة فهو يعجز عن التعبير عن رضاء مستنير خاصة إذا تعلق الأمر بأمر طبي (محجوب،2000،ص43)، كما أن إجراء مثل هذه التجارب –العلمية- لا يجوز الاعتماد عليها في حالة خلوها من المصلحة والمنفعة المباشرة للمصابين بأمراض عقلية، أما التجارب العلاجية التي تصب بمصلحتهم فيجوز إجرائها بموافقة الممثل القانوني للشخص الخاضع لها (فهمي،2014،ص136).
وهو ما نصت عليه المادة 6-209 من قانون الصحة العامة الفرنسي بقولها لا يمكن طلب موافقة الاشخاص المقيمين في مؤسسة صحية (المرضى عقليا) اجتماعيا (المعاقين او العجزة) من أجل القيام بأبحاث أو تجارب طبية إلا إذا كان يتوقع من إجراؤها تحقيق منفعة مباشرة تفيد صحتهم. وكذلك مبادئ حماية الاشخاص المصابين بمرض عقلي وتحسين العناية بالصحة العقلية في المبدأ رقم 15 على أنه لا يجوز مطلقاً إجراء تجارب إكلينيكية وعلاجية تجريبية على أي مريض دون موافقته عن علم، ويستثنى من ذلك حالة عجز المريض عن إعطاء الموافقة، حيث لا يجوز عندئذ أن تجري عليه تجربة إكلينيكية أو أن يعطي علاجا تجريبياً الا بموافقة هيئة فحص مختصة ومستقلة تستعرض حالته، ويتم تشكيلها خصيصا لهذا الغرض.
وبناء على ما سبق قد اجاز البعض إجراء التجارب الطبية على هذا الفئة ضمن شروط دقيقة منها أن يرد البحث أو التجربة على مرض عقلي بالذات وأن يكون للمريض منفعة ومصلحة مباشرة منها، وذلك حتى لا تستغل هذه الطائفة وتخضع لإجراء تجارب لخدمة طائفة أخرى بدون فائدة تعود عليهم.
المطلب الثاني: الشروط الخاصة لإجراء التجربة الطبية
من أكبر المخاطر والسلبيات التي تتعرض لها في إطار البحث العلمي أو التجارب الطبية أنه يستحيل وضع تنظيم بشكل مفصل يمكن التحكم فيه، وسبب ذلك أن الحالات التي تكون موضوعا للبحث العلمي يصعب تحديد مضمونها ومشكلاتها وآثارها بصورة سابقة عن اجراء التجربة الطبية (شديفات،2011،ص281)، فلا يكفي شرط الرضاء للقيام بأية تجربة طبية، إذ لا بد أن يكون الغرض من التجربة الطبية علاجيا، والهدف من وضع هذا الشرط الحفاظ على صحة الخاضع لها وتفادي الأضرار التي قد تسببه له هذه التدخلات التجريبية.
وقد تمثل التجارب الطبية بصفة عامة خطورة على صحة الانسان، لذلك كان من الضرورة ايجاد ضوابط وشروط يجب توافرها لإجراء التجربة الطبية وذلك لتفادي الاخطار التي من الممكن أن تنتج عنها وبالتالي توفير حماية للشخص الخاضع لها. وهذه الشروط يمكن تصنيفها الى شروط موضوعية واخرى شكلية، وهو ما سيكون محلا للدراسة من خلال الفروع الاتية:
الفرع الأول: الشروط الموضوعية لإجراء التجارب الطبية
فرضت الابحاث الطبية كضرورة اجتماعية واتخذت أهمية لا يمكن الاستغناء عنها في المجال الطبي، لذلك تم وضع ضوابط وشروط موضوعية تتمثل في أن تكون المزايا والفوائد المرجوة من التجربة اكبر من مخاطرها، وأن تتم التجربة على الحيوانات أولاً، ولا بد من الحديث عن كفاءة الطبيب العلمية في هذا الاطار، وأخيرا أن تكون التجربة ضرورية لتحقيق غاية علاجية أو غاية علمية نافعة، وهو ما سنوضحه من خلال هذا الفرع.
أولاً: أن تكون المزايا والفوائد المرجوة من التجربة أكثر من مخاطرها
يشترط في التجارب الطبية أن تكون فوائد التجربة أكثر من مضارها، ويقصد بذلك أن تكون المزايا أكثر من المخاطر التي ستحدثها التجربة، على اعتبار أن هذه التجارب هي استثناء من الاصل، وبالتالي يجب أن تكون الغاية منها هي العلاج، لن نجاح مثل هذه التجارب فائدة عامة للبشرية جمعاء (بوشي،2013،ص114.عماد الدين،2020،ص10)، لذلك يجب أن تكون النتائج الايجابية المتوقعة الوصول إليها من خلال التجارب الطبية تفوق بكثير النتائج السلبية والاخطار المتوقع حدوثها بسبب
اجرائها، بمعنى أن تكون الفوائد والمزايا التي يسعى للوصول إ ليها من التجربة تفوق الآثار السلبية لها وأن يكون الخطر والاضرار المترتبة عنها أقل من الفوائد والمزايا المرجوة والمأمولة من التجربة ذاتها (الفضل،2010،ص22).
أضف إلى ذلك أن الهدف الاساس الذي من أجله أباح القانون العمل الطبي هي شفاء المريض وتخفيف ما يشعر به من ألم، فإذا انحرف عمل الطبيب عن الهدف لم يعد تدخله مشروعاً بسبب انتفاء قصد العالج، فلا يجوز إجراء أبحاث أو تجارب يترتب عليها خطر على حياة المريض لا مبرر لها أو بدون توفر غرض طبي جاد، كأن تكون لغرض إشباع شهوة علمية أو تحقيق مجد علمي (مبروكة،2016،ص98).
وفي هذا الاطار نصت المادة 20 من مدونة أخلاقيات مهنة الطب الفرنسي على أنه” لا يجب إجراء أبحاث أو فحوص أو وصف علاج يترتب عليها أخطاراً للمريض لا مبرر لها او بدون توفر غرض طبي جاد”. وهو ما أكده ايضا اعلان هلسنكي في المادة 16 منه بقولها” لا يجوز اجراء البحوث الطبية التي تشمل البشر إلا إذا كانت أهمية الهدف تفوق المخاطر والاعباء على المشاركين في البحث”. وأكد الميثاق نفسه على الطبيب عدم المشاركة في أي بحث يتضمن التجارب على الانسان إلا بعد المامه بالمخاطر المحتملة ، كما أن عليه إنهاء التجربة فورا إذا فاقت الخطورة المتوقعة الفائدة المرجوة.
بناء على ما سبق تبرز هذه النصوص أن المشروعية في التجارب الطبية لا تتحقق إلا بتوافر ضوابط أساسية، في مقدمتها وجود غرض طبي جاد يبرر إجراؤها، وضمان أن تفوق المنافع المرجوة المخاطر المحتملة على المشارك. كما أنها تُحمل الطبيب التزاما مباشرا بوقف التجربة فورا إذا تبين أن الأضرار باتت تفوق الفوائد، الأمر الذي يعكس تكريسا لمبدأ التناسب بين حماية الإنسان وصون كرامته من جهة، وخدمة التقدم العلمي من جهة أخرى. وبهذا وضعت هذه المواثيق أساسا قانونيا وأخلاقيا يوازن بين المصلحة العامة في تطوير الطب، والحق الفردي في السلامة الجسدية.
ونلاحظ ايضاً أهمية ما ورد أعلاه في الحرص على عدم تعريض الشخص لعلاجات وتجارب طبية أو علمية، تكون فيها نسبة المخاطر مرتفعة مقارنة بالفائدة المرجوة منه حفاظاً على صحة المريض الخاضع للعلاج أو للتجارب الطبية، العلاجية كانت أو غير علاجية .
ثانياً: أن يتم اجراء التجارب الطبية على الحيوانات أولاً
أثبتت الدراسات التي أجرها العلماء في التجارب الطبية على الحيوان على مر التاريخ أنها قد أدت بصورة ناجحة وفعالة في تحقيق التقدم ومصالح الانسان في الطب ، فتمت التجربة على الحيوانات القريبة من تركيبة الانسان، الامر الذي أدى إلى اكتشاف العلاجات وتفادي الاخطاء ومحاولة تفاديها عند تجربتها على الانسان، لذلك يشترط لإجراء التجربة الطبية على الانسان أن تكون قد سبقها عملها على الحيوانات وأن تكون نتائجها مشجعة وايجابية لأجرائها على الانسان.
ثالثاً: كفاءة الطبيب العلمية
تعتبر الكفاءة العلمية شرطا موضوعيا ومن أهم الشروط الواجبة في الطبيب على الاطلاق ليخفف من حلات الخطر التي قد يقع فيها الشخص المشارك بالتجربة، فيستخدم فيها الوسائل المناسبة. بالإضافة إلى المساعدين له في الاختصاص المطلوب لتفادي ما قد يحصل من أمور طارئة أثناء ممارسة هذه التجربة، فهو نشاط إنساني يتسم بالغموض والتعقيد مع احترام الاصول العلمية والمبادئ المتفق عليه في القانون الطبي وكذا المبادئ الاخلاقية. (Benazza،2024،P35)
وتأسيساً على ما سبق يجب ان يكون الطبيب أو البيحث القائم على التجربة على قدر كبير من المعرفة والكفاءة التي تمكنه من إجرائها، كما يجب أن يكون ضمن حقول تخصصه خاصة في نوعية المرض الذي عليه التجربة، وذلك لكشف اسلوب وطريقة ناجحة لعلاج المريض، اضافة إلى ذلك أن لا يتجاوز كفاءته وخبراته العلمية إلى أبعد من امكانياته( طه،2001،ص302)، وايضا ضرورة أن يتوافر نفس الشروط السابقة للفريق الطبي الذي يعمل معه سواء على مستوى البحث العلمي أو مستوى إجراء التجربة .
وهو نفس الامر الذي نص عليه المشرع المصري في المادة 54 من لائحة آداب المهنة التي نصت على انه:” يقتصر إجراء هذه البحوث على المتخصصين المؤهلين علمياً لإجراء البحث تحت إشراف مباشر لطبيب على درجة عالية من الكفاءة والتخصص وتقع مسؤولية الحماية الصحية للمتطوعين لإجراء البحث على الطبيب المشرف عليه”. وسايره المشرع الأردني في قانون إجراء الدراسات الدوائية رقم 67 لسنة 2001 من خلال المادة 9 التي نصت على أنه “أ- تلتزم الجهة التي تقوم بإجراء الدراسة الدوائية بما يلي: 1- تشكيل فريق بحث من اعضاء مؤهلين علميا تتوافر لديهم الخبرة العملية لجرائها وفقاً لمتطلبات الدراسة، ويكون رئيس الفريق مسؤول عن حسن تنفيذ هذه الدراسة. 2- تأمين وجود طبيب يشرف على اجراء الدراسة ويتحمل مسؤولية الرعاية الطبية اثناء اجرائها. ب. تتحمل الجهة التي تقوم بإجراء الدراسة المسؤولية القانونية عن أي ضرر قد يلحق بالمتطوع”. إذن نخلص أنه يحب على الطبيب أن يكون ملماً بالأصول العلمية الحديثة، ويشترط أيضاً سبق اجراء التجربة في المعامل، ثم على حيوانات التجارب قبل إجرائها على الانسان، فلا يجوز للطبيب الاقدام على تجربة لا علم له فيها.
رابعاً: أن تكون التجربة ضرورية لتحقيق غاية علاجية أو علمية نافعة
يعتبر قصد العلاج سببا لإباحة كل الأعمال الطبية بما فيها التجارب الطبية العلاجية، إذ أن الغاية من مزاولة العمل الطبي عامة هو علاج المريض وتحسين حالته الصحية بتحقيق شفائه أو التخفيف من معاناته، فيشترط لمشروعية العمل الطبي أن يكون تدخل الطبيب بقصد العلاج والشفاء، وأن يكون هدفه من عمله تحقيق مصلحة المريض لا الإضرار به، حماية للمرضى ومنعا من انحراف الأطباء وتعسفهم في ممارسة مهنة الطب. وعليه يجب على الطبيب أو الباحث او القائم على التجربة أن يستهدف علاج الشخص الخاضع للتجربة، فإن انتفى قصد العلاج يعد الطبيب مخالفا للقواعد القانونية وتوجب مسألته، لذلك عليه أن يبتعد عن التجارب والابحاث التي لا تحقق أي منفعة للعلوم الطبية.
الفرع الثاني: الشروط الشكلية لإجراء التجارب الطبية
وضعت أغلب التشريعات شروط شكلية ذات طابع اجرائي بهدف ضمان سلامة الاشخاص الخاضعين للتجارب الطبية وتعزيز الحماية القانونية لهم والامر يتعلق بضرورة القيام بالتجربة الطبية في أماكن مرخصة ومناسبة (أولاً) وكذا الترخيص الازم الخاص بإجراء التجربة الطبية أو العلمية ( ثانياً).
أولاً: شرط إجراء التجربة في المستشفيات المؤهلة لذلك
يشترط أن تجرى التجارب الطبية والعلمية في مكان مجهز بالإمكانيات والمعدات الازمة ومرخص له بإجراء هذه الابحاث والتجارب على جسم الانسان كضمانة من الضمانات الاساسية لحماية الاشخاص الخاضعين لإجراء التجارب على أجسادهم (بلحاج،2013،ص111).
حيث اتجه الفقه إلى التأكيد على ضرورة أن تكون ظروف إجراء هذه العمليات داخل مستشفيات ومراكز متخصصة يتولى القانون تنظيمها، لأنها تتطلب إمكانيات ضخمة و معدات مما يجعلها تمثل نفقات لا يستهان بها، وعليه فإن المستشفيات هي المكان الطبيعي لإجراء مثل هذه العمليات الدقيقة والخطيرة (السايب،2018،ص290)، وتأكيداً على ذلك نصت المادة 1124-4-1 من قانون الصحة العامة الفرنسي على أنه: “لا يجوز اجراء التجارب الطبية بدون فائدة مباشرة فريدة إلا في أماكن مجهزة بالوسائل والمعدات الفنية المناسبة للبحث أو التجربة والتي تتفق مع ضرورات أمن وسلامة الاشخاص المتطوعين ومرخص لها من قبل وزير الصحة المكلف”.
ثانياً: ضرورة توفر الترخيص لإجراء التجربة الطبية والعلمية
كما تنص الفقرة الاخيرة من نفس المادة على أنه” يجوز لوزير الصحة في أي وقت حالة خطر على الصحة العامة أن يعلق أو يسحب الموافقة أو الترخيص بإجراء التجربة الطبية إذا ثبت من المتابعة عدم الالتزام بالضمانات والضوابط المقررة في القانون”. كما تنص المادة 53 من لائحة آداب المهنة. المصرية على أنه: “يحظر على الطبيب إجراء آية تجارب لأدوية والتقنيات على الآدميين قبل إقرارها من الجهات المختصة”. واشترطت المادة 15-2 من قانون المسؤولية الطبية الليبي ضرورة الحصول على الترخيص للازم بقولها: “يحظر إجراء التجارب الطبية على جسم الانسان الحي، الا بمعرفة أطباء مرخص لهم بإجرائها طبقاً للأسس العلمية المتعارف عليها”.
بناء على ما سبق تضح من هذه النصوص السابقة الاشارة اليها أن المشرّع الفرنسي معه المصري نوعا ما قد اعتمدا مقاربة وقائية صارمة، حيث وضع شبكة من الضمانات متعددة المستويات، ضمانات شخصية (الرضا المستنير، الأهلية القانونية، الحق في الانسحاب). وضمانات مؤسسية (إجراء التجربة في مؤسسات مرخصة ومجهزة)، وضمانات رقابية (إشراف لجان أخلاقيات، وسلطة وزير الصحة في تعليق أو سحب الترخيص). هذه الضمانات تعكس فلسفة القانون الفرنسي التي تُعلي من شأن السلامة الجسدية للفرد وتضعها فوق اعتبارات البحث العلمي الخالص. فالمصلحة العلاجية المباشرة تُعتبر حجر الأساس في المشروعية، بينما يظل الرضا المستنير شرطًا لازماً لكنه غير كاف بمفرده، وبالمقارنة مع النظام الأنجلوسكسوني، فإن القانون الفرنسي يبرز بوضوح توجهه الأبوي الحمائي حيث يتدخل لحماية الإنسان حتى من قراراته الذاتية إذا رآها محفوفة بالمخاطر. وهذا يعكس فلسفة قانونية وأخلاقية تعتبر الجسد الإنساني غير قابل للتصرف المطلق حتى بموافقة صاحبه.
صفوة القول أنه يستخلص مما سبق أن أغلب التشريعات لا تجيز مزاولة مهنة الابحاث والتجارب الطبية الحيوية على جسم الانسان إلا إذا كان من أجراها مرخصاً له لذلك قانوناً ووفق ضوابط صارمة، وأن مجرد الحصول على الشهادة العلمية من الجامعات المعترف بها أو ثبوت دراية الطبيب القائم بالتجربة لا يكفي لممارسة مهنة الابحاث الطبية، بل يلزم بإضافة إلى ذلك موافقة الجهة المختصة بمنح الترخيص الازم بمزاولة المهنة وإجراء التجارب الطبية. نصت أغلب التشريعات المقارنة على ضرورة حصول الطبيب أو الباحث قبل إجراء التجربة على الترخيص بإجرائها، ومما لا شك فيه أن هذا الأمر يعد ضمانة اضافية لحماية الخاضع للتجربة، وهو ما أكده القانون الفرنسي في المادة 209/12 من قانون الصحة العامة الذي نص على أنه “لا يجوز للمتعهد الطبيب أو مؤسسة الابحاث والتجارب الطبية مزاولة مهنة الابحاث والتجارب الطبية الحيوية الا بعد التقدم بطلب إلى وزير الصحة مشفوعاً برأي لجنة الاطلاع والمشورة للحصول على الموافقة المبدئية بإجراء البحث أو التجربة”.
الخاتمة:
تظل التجارب الطبية على جسم الانسان مسألة دقيقة تتطلب وجوبا الموازنة الحذرة بين السعي نحو المعرفة وتطور العلم وانقاذ البشرية من جهة ، وبين صون كرامة الانسان وحماية جسمه من جهة أخرى. وقد حاولت هذه الدراسة إبراز الأهمية البالغة لوضع إطار قانوني وأخلاقي لتنظيم ممارسة إجراء التجارب الطبية على جسم الانسان وأن هذه الحماية في سياق التجريب الطبي لا تعد تقييداً، بل شرطاً ضرورياً لضمان أن يكون هذا التقدم انسانياً واخلاقياً في جوهره وأهدافه. وقد توصل الباحث في هذا الاطار إلى أهم النتائج والتوصيات نوردها على الشكل الاتي:
النتائج:
- تتجلى أهمية التجارب الطبية على الإنسان في دورها الحيوي في تطوير العلوم الطبية واكتشاف علاجات للأمراض المستعصية، مما يجعلها ضرورية للتقدم الطبي وخدمة البشرية.
- يمكن تمييز التجارب الطبية العلاجية، التي تجرى بهدف علاج المرضى وتحقيق الشفاء لهم، عن التجارب العلمية غير العلاجية، التي تهدف إلى اكتساب معارف جديدة لفائدة المجتمع والبحث العلمي، مع ملاحظة أن الحدود بين النوعين قد تتداخل في التطبيق العملي.
- كان دور الاتفاقيات الدولية والتشريعات الاثر الاكبر في تنظيم إجراء التجارب الطبية على جسم ويعتبر القانون الفرنسي من القوانين التي نظمت العملية بشكل موسع ويوفر حماية للخاضعين للتجارب.
- هناك شروط يجب ان تتوفر للخاضعين للتجارب منها خاصة واخرى عامة تتمثل في ضرورة الحصول على الرضا الكامل وأن يكون متمتعا بأهلية قانونية.
التوصيات:
- إصدار قانون فلسطيني خاص ينظم التجارب الطبية والدوائية، مع تضمين نصوص واضحة حول الشروط والضوابط والمسؤوليات.
- التأكد من أن الفوائد الطبية للتجربة تفوق المخاطر المحتملة على المشاركين.
- تكليف القائمين على التجارب من ذوي الاختصاص، وتوفير الأماكن والمختبرات المجهزة لذلك.
- إنشاء لجان وطنية مستقلة لأخلاقيات البحث العلمي لمتابعة التجارب ومنح الموافقات أو رفضها.
- حظر التجارب على الفئات الضعيفة (الأطفال، فاقدو الأهلية، الأسرى) إلا في حالات استثنائية وبموافقة أولياء الأمور أو الأوصياء القانونيين.
- تعزيز التوعية المجتمعية بحقوق الإنسان في المجال الطبي ومبادئ المشاركة الطوعية في التجارب.
قائمة المصادر والمراجع
المراجع العربية:
القرآن الكريم.
ابن منظور جمال الدين بن مكرم الانصاري(1994) .لسان العرب. دار صادر .بيروت .
مصطفى ابراهيم واخرون،(1972) المعجم الوسيط. الجزء الاول. المكتبة الاسلامية للطباعة والنشر. اسيتنبول 1972.
أبي الحسن مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري(1221) .صحيح مسلم، دار طيبة، الرياض، الطبعة 1 ، ،باب لكل داء دواء واستحباب التداوي، الحديث رقم 1124 .
أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة الربعي القزويني، سنن ابن ماجة، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، الحديث رقم 1142 ،دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الاولى.
اشرف جابر،(1999) التأمين من السؤولية المدنية للاطباء.دار النهضة. القاهرة.
بلحاج العربي،(2011) الحدود الشرعية والخلافية للتجارب الطبية على الانسان في ضوء القانون الطبي الجزائري. دراسة مقارنة. ديوان المطبوعات الجامعية.الجزائر .
بلحاج عربي،2013) أحكام التجارب الطبية على الانسان في ضوء الشريعة والقوانين المعاصرة.دار الثقافة . عمان. الاردن .
جابر علي محجوب،(2000)، الرضا عن الغير في مجال الاعمال الطبية.دار النهضة العربية.القاهرة.
خالد النوي،(2010)، ضوابط مشروعية التجارب الطبية واثرها على المسؤولية المدنية.دار الفكر والقانون. القاهرة.
خالد مصطفى فهمي،(2014 ).النظام القانوني لاجراء التجارب الطبية وتغيير الجنس ومسؤولية الطبيب الجنائية والمدنية، دار الفكر الجامعي، الاسكندرية.
رأفت محمد حماد ،(1996). أحكام العمليات الجراحية. دراسة مقارنة بين القانون المدني والفقه الاسلامي. دار النهضة العربية. مصر.
زينة غانم يونس العبيدي،(2007)،.إرادة المريض في العقد الطبي، دار النهضة العربية للنشر، القاهرة
سهير منتصر،(1998)، الالتزام بالتبصير. دار النهضة العربية الزقازيق.
صفوان محمد شديفات،(2011)،.المسؤولية الجنائية عن الاعمال الطبية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان.
عبد القادر الحسيني ابراهيم،(2009)، المسؤولية الجنائية للاشخاص المعنوية في المجال الطبي. دار النهضة العربية. القاهرة.
عبد الكريم مأمونة (2009)، رضا المريض عن الاعمال الطبية والجراحية، دراسة مقارنة، دار المطبوعات الجامعية، الاسكندرية، .
عز الدين عبد العزيز،(1994)، قواعد الاحكام في مصالح الانام.الجزء1 .مكتبة الكليات الازهرية. القاهرة.
محمد عيد الغريب،(19989)، التجارب الطبية والعلمية وحرمة الكيان الجسدي للانسان، دراسة مقارنة، مطبعة أبناء وهبة حسان، القاهرة، ط1. القاهرة .
محمد نصر محمد،(2016)، المسؤولية الجنائية والدولية عن استخدام تطبيقات النانو الطبية، مركز الدراسات العربية للنشر والتوزيع، مصر، الطبعة الاولى.
محمود احمد طه،(2001)، المسؤولية الجنائية لحظة الوفاة. اكاديمية نايف للعلوم الامنية. الرياض.
يوسف بوشي،(2016)، الحق في سلامة الجسم وأثر التطور الطبي على حمايته جنائيا، دراسة مقارنة، دار الفكر الجامعي، الاسكندرية.
خليل سعيد اعبية،(2019)، مسؤولية الطبيب الجزائية واثباتها. دار النشر للنشر والتوزيع. عمان.
ميرفت حسن منصور،(2013)،التجارب الطبية والعلمية.دار الجامعة الجديدة.الاسكندرية.
مرعي منصور عبد الرحيم،(2001)، الجوانب الجنائية للتجارب العلمية على جسم الانسان.دار الجامعة الجديدة.الاسكندرية .
ابراهيم عبد العزيز ال داود، (2013) ، المسؤولية الجنائية عن التجارب الطبية على الانسان.رسالة ماجستير. كلية الدراسات العليا . جامعة نايف. السعودية.
امير طالب التميمي،(2015)، المسؤولية الناشئة عن التدخلات الطبية في الجنين. دراسة مقارنة. اطروحة دكتوراه. جامعة عين شمس. الاسكندرية.
بركات عماد الدين ،(2019)،التجارب العلمية والطبية على جسم الانسان في ضوء قواعد المسؤولية المدنية.دراسة مقارنة.اطروحة لنيل الدكتوارة في القانون. جامعة احمد دراية.الجزائر.
بوشي يوسف،(2013) الجسم البشري واثر التطور الطبي على نطاق حمايته جنائيا-دراسة مقارنة– اطروحة دكتوارة في القانون الخاص. جامعة ابو بكر بلقايد.تلمسان.
حلمي عبد الحكيم شندي،(2010)، رؤية الفقه الاسلامي لمدى مشروعية اجراء التجارب الطبية على الانسان. اطروحة لنيل الدكتوارة بالقانون جامعة الازهر. القاهرة.
عفاف عطية كامل،(2002)، حكم اجراء التجارب الطبية العلاجية على جسم الانسان والحيوان. رسالة ماجستير. كلية الشريعة.الاسلامية . جامعة اليرموك.الاردن.
فاتن ابو الديوك ،(2021)، النظام القانوني للتجارب الطبية على جسم الانسان في التشريع الاردني.رسالة ماجستير.جامعة آل البيت.الاردن.
مبروكة يحيى احمد،(2016)، المسؤولية المدنية عن التجارب الطبية في القانون الليبي –دراسة مقارنة- اطروحة دكتوراة في القانون الخاص. جامعة حلوان.مصر.
محمد عبد الوهاب عبد المجيد،(1997)، المسؤولية الجنائية للاطباء الناشئة عن استخدام الاساليب العلمية الحديثة في الطب ( دراسة مقارنة بالشريعة الاسلامية. رسالة لنيل شهادة الدكتوراه في الحقوق، جامعة القاهرة، مصر.
ناريمان وفيق محمد أبو مطر،(2011) التجارب العلمية على جسم الانسان د ارسة فقهية مقارنة، رسالة الماجستير في الفقه المقارن، الجامعة الاسلامية، غزة.
أكرم محمود حسين،(2006) تبصير المريض في العقد الطبي، مجلة الرافدين للحقوق، مجلد 8.العدد 30.السنة 11.العراق
بركات عماد الدين: الضوابط القانونية المستحدثة لاجراء التجارب الطبية على جسم الانسان في ضوء قانون الصحة الجزائري الجديد 18-11. الناشر جامعة عبد الحميد بن باديس مستغانم.كلية الحقوق والعلوم الساسية.مخبر القانون الدولي للتنمية المستدامة. العد 2. الجزائر
سليمة خنوشي،(2020)، الاطار القانوني لابحاث الطب الحيوي على الانسان وفقا للقانون الجزائري رقم 11-18 المتعلق بالصحة.مركز البحث و تطوير الموارد البشرية. رماح.المجلد 3.العدد 3. الجزائر .
كمران صالحي ،(2009)،الطبيعة القانونية للبحوث و التجارب الطبية غير العلاجية على الانسان. اعمال ندوة المسؤولية الطبية في ظل القانون الاتحادي رقم 10 لسنة 2008 .جامعة الامارات .
منذر الفضل ،(2010)، التجربة الطبية على جسم الانسان البشري ومدى الحماية التي يكفلها القانون المدني والقوانين العقابية.مجلة الكوفة.العدد 7.
خالد حمدي عبد الرحمن،(2003)، العقد الطبي ومشكلات مشروعية المحل.مجلة العلوم القانونية والاقتصادية -العد 25-جامعة المنوفية.
المراجع الأجنبية:
Amel BENAZZA,(2024) Civil protection of the human body from medical. The Algerian and Comparative Public Law Journal, Vol. 09, N 02 / April 2024, pp. 29- 38.
-Khaled Edris,(2025), Ethical and Legal Standards in Clinical Research: Protecting Human Integrity and Advancing Science. AlSalam International Journal of Pharmacy, 1(1): 19-49.
BENDJEDDOU FATIMA,(2025). ). Medical Experimentation on Humans in ALgerian Law -“LIMITS OF LEGITIMACY AND CRIMINAL LIABILITY”.RUSSIAN LAW JOURNAL Volume XIII .Issue 1