هل يمكن للرئاسات الثلاث في العراق ان تكون تداولية؟

بفلم : ماجد حميد خضير \ استاذ العلوم السياسية والسياسة الخارجية \ كلية العلوم السياسية \ جامعة النهرين
- المركز الديمقراطي العربي
لقد مثلت الديمقراطية منذ نشأتها الاولى نزوعًا فكريًا إذ عبرت في الوهلة الاولى عن ترف فكري تقدم به المفكرون في اليونان القديمة مثل سقراط وافلاطون ومن ارسطو ، وهي أيضا حالة من التأمل العقلي أرادوا من خلالها دراسة تجربة الحكم وانتقال السلطة وتقسيمها والمشاركة فيها من قبل الحكام والمحكومين على حد سواء بما يحقق مواطنة حقيقية ومساواة في الحقوق والواجبات ، على الرغم من اختلاف وزن ونسبة هذه المشاركة وطريقة تنظيمها سواء اكانت بشكل مباشر او غير مباشر بمعنى وجود المعنى الحالي للديموقراطية الذي تمثله صناديق الاقتراع والطريقة التداولية السلمية للسلطة عبر ما رسخ حاضرًا ومعاصرة وهو الديمقراطية التمثيلية او النيابية بعد ان تم الاتفاق ولو بشكل مثالي ان الشعب هو مصدر هذه السلطة ومنبعها وهو يجدد عهده بممثليه او يعيد تقييم ادائم عبر عمر السلطة المنتخبة بعد كل عملية انتخابية.
ان الملفت للانتباه والذي يمكن الجزم من خلاله ان الديموقراطية وعبر تاريخها الطويل ومعايشتها ومعايشة الشعوب والمجتمعات المتعددة لم تأت دفعة واحدة ولا تكاد تجربة مجتمع او دولة ما هي نسخة تشابه الاخرى. ولم يكثر مؤيدوها او تتناقص اعدادهم في ظرف تاريخي واحد على مر الحقب الزمنية المتعددة ، لكن عالم اليوم اصبح لديه نزوع واسع نحو الديموقراطية عبر هيمنة الفكر السياسي الغربي الحديث والمعاصر فضلا عن تراجع وفشل الكثير من التجارب الاخرى لبناء انموذج ديمقراطي يقوم على طريقة الاستفتاء او تجربة الحزب الواحد ، بمعنى تراجع ذلك الحاجز الايديولوجي الذي مثل عائقًا كبيرا امام انتشار الديموقراطية في ألعالم.
ومراعاة لظروف كل دولة والتمايز القيمي بين المجتمعات تعددت صور الديموقراطية اليوم باتجاه ان تكون معالجة لاوضاع مجتمعات ما بعد الاستبداد ومجتمعات ما بعد الحرب. ومن ثم ينبغي لفهم الديموقراطية اقتضاء ان يتم النظر اليها ليس بوصفها فكرا او آلية فحسب ، بل بوصفها تعبر عن نهج تفاعلي مستدام بين الفكر والعمل والغاية وسبل تحقيقها .
ان السائد الناجح اليوم في الانظمة السياسية الديموقراطية يعبر عن مزيج بين النخبوي الارستقراطي وبين الشعبي الداعم للحريات ذلك النموذج الذي يود وأد الصراع بين الاقلية والاغلبية في بناءً نظام سياسي يحمي الاقلية من طغيان الاغلبية وهذا ما سارت عليه المملكة المتحدة في بريطانيا والولايات المتحدة الامريكية على الرغم من كلا الدولتين تختلفان في طبيعة الانظمة السياسية وانظمة الحكم لديها ونقصد هنا النظام السياسي البرلماني ونظام حكم ملكي في الاولى ونظام سياسي رئاسي ونظام حكم جمهوري في الأخيرة.
ان هناك ما يمكن تسميته بالحتمية التاريخية في لو تم استحضار التجارب الناجحة للديموقراطية والاخرى غير الناجحة عبر الزمان والمكان في مختلف المجتمعات لوجدنا ان التجانس والتماسك الاجتماعي والنقاء القومي يمكن ان ينتج من خلالها نموذج لحكم ديموقراطي مستقر واستثناءً من هذا القياس نورد مثالًا حصريًا لنموذج ديمقراطي يمثل التجربة الاولى والوحيدة على مر التاريخ وهي ديمقراطية اثنيا في اليونان القديمة التي كانت تشهد توافقًا في المكان والزمان وعدد من السكان يعد مثاليًا لممارسة الانتخاب المباشر ام ما تلى ذلك من مشروعات لاقامة الديموقراطية فهي تقوم على اساس الديموقراطية غير المباشرة أو النيابية.
اما عن التجارب المعاصرة للديمقراطية في عالمنا العربي فانها قدمت إنموذجا للديموقراطية التي تعتاش على التضاد الاجتماعي وتدخر الكثير من الخطاب السياسي الذي يحاول البعض من خلاله ترسيخ ثقافة الانقسام المجتمعي بما يشبه وجود زبائنية سياسية وان تعيد انتاج نفسها بنفسها عبر ترسيخ ديمقراطية التوافق او الديموقراطية التوافقية وهي تجربة عاشتها لبنان .
وفقًا الى الكاتب (آرثر لويس ) في كتابه ” السياسة في افريقيا الغربية ” الذي يرى استحالة بناء الديموقراطية بشكلها التقليدي حكومة ومعارضة داخل المجتمعات التعددية هو امر صعب ان لم يكن مستحيلًا ، وربما انه لا يلائمها سوى الديموقراطية التوافقية وإلا فإن البديل هو العودة الى حالة الصراع وعدم الاستقرار والاستبداد. فمثلا ديمقراطية بريطانيا او المملكة المتحدة قد بنيت على مراحل تاريخية طويلة وعلى اساس طبقي مكنها من التعامل على اساسه ووضعت تجربة حزبية ثنائية لم تكن سابقة لوجود الدولة بل متفقة معها ومنقادة لاهدافها ومن ثم على اساس نظام انتخابي ذي تمثيل مطلق يعكس وجود الثنائية الحزبية وديموقراطية فائزين في السلطة ومن هم دونهم في المعارضة يراقبون اداء الحكومة ، والامر على وتيرة مماثلة في الولايات المتحدة الامريكية، ويرى لويس ان ما هو صالح لمجتمع طبقي ربما هو شيءٍ ومضر لمجتمع تعددي .
واذا ما اريد للتجربة الديموقراطية ان تنجح في العراق فلابد من التفكير في أسسها ومن ثم صعودًا ومن ثم ما تحتاجه الديموقراطية في المجتمعات الديموقراطية هو حكومة ائتلافية وليس استقطابًا بين الحكومة والمعارضة وهي حالة استثنائية ومرحلية في الوقت نفسه وما يكون استثناءً لا يكون أساسًا سائدا يوما ولا عرفاً مستساغًا.
تكمن المشكلة في الديموقراطية التوافقية في العراق بما ساد من قناعات متعددة المستويات في استحالة التخلي عن حالة التوافقية بما انتجته من قناعات واحجام انتخابية وتفكير مرحلي يغلب عليه الوصول الى مجلس النواب كل اربعة سنوات في ظل رتابة تسود المشهد السياسي ومداولات مطولة لتشكيل ائتلافات سياسية قبل وبعد الانتخابات والاختلاف حول الكتلة الاكبر ووأد اي محاولة لايجاد حكومة اغلبية لاننا لم نتفق على طبيعة وشكل ومضمون هذه الاغلبية.
لم يشير الدستور العراقي الدائم لعام ٢٠٠٥ في اية اشارة الى تسمية صريحة او ضمنية في من يشغل الرئاسات الثلاث لكنه اشار في الباب الثالث الى السلطات الاتحادية في المادة ٤٨ ” تتكون السلطة التشريعية من مجلس نواب ومجلس الاتحاد وتوالت باقي المواد وصولا الى المادة ٦٥ من الدستور في تفصيل طريقة التصويت واختصاصات السلطة التشريعية بمجلسيها وغيرها في حين فصلت المواد من ٦٦ الى ٨٦ كل ما يتعلق بمنصبي رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ولا توجد مثلما ذكرنا اي اشارة لنوعية من يشغل الرئاسات الثلاث ولم تحصر في مكون دون الاخر ومن ثم فان حالة السعي لدعم الاستقرار السياسي والامني في العراق منذ اول انتخابات تشريعية جرى تغليب العرف السياسي على النص الدستوري في شخصية من يتولى شغل الرئاسات الثلاث في اشارة الى الاستئناس بالتجربة اللبنانية على الرغم من كل اثير حولها من انتقادات .
وانتقادات اخرى طالت الانموذج التوافقي في العراق في ظل غياب محاسبة الهدر في المال العام والاثراء على حسابه وعدم وجود رقابة ضد الكثير من اداء الحكومات العراقية المتعاقبة منذ اول انتخابات جرت في عام ٢٠٠٥ ولغاية الان.
أكتفى المواطن العراقي في اداء ما عليه من واجب المشاركة في تجربة الاقتراع كما هو منصوص عليه في الدستور واعدت المفوضية العليا للانتخابات في العراق الكثير من القوانين والانظمة الانتخابية التي تخدم ضمان استمرار التجربة الديموقراطية التوافقية الوليدة في العراق على امل تجاوز كل العقبات التي تقف امامها ، ان المواطن العراقي باعتباره صاحب السيادة ومن يمارسها شهد حماسًا عاليًا جدا في التجارب الانتخابية السابقة لكن وتيرة هذا الحماس بدأت تخف في اشارة الى التلويح بالمعاقبة لمن لم يكونوا امناء على صوته وهذا ما اسماه الكثير من المراقبين للشأن الانتخابي في العراق باغلبية مقاطعة على الرغم من ان الدستور ولضرورة الحفاظ على الديموقراطية لم يشر في اي من ابوابه ولا مواده الى وجود نسبة مشاركة يمكن اعتمادها كمعيار للحكم على نجاح الانتخابات من عدمه.
ان اهمية المشاركة الواسعة مهمة لاستمرار الديموقراطية وان الاهم من ذلك تغيير نمط التواصل ما بين الاحزاب والمرشحين والناخبين وما بين النخب وعامة الشعب والحرص على تجديد الثقة بينهم ومحاولة تقديم انموذج ديموقراطي لا يعمل بالاستثناء كقاعدة مسلم بها ، لان الصورة النمطية السائدة تدفع بالمواطن نحو العزوف اكثر من المشاركة وما تقتضيه مغادرة الصورة النمطية هو وجود حالة من اغلبية سياسية وطنية عابرة للاختلاف الديني والمذهبي والقومي السائد وصولا الى وجود تداول بين شخصيات من مختلف مكونات ألشعب العراقي تتداول شغل الرئاسات الثلاث وتكون في الوقت نفسه تحظى بالمقبولية الدولية.



