موازين القوى الهيدرواستراتيجية في حوض النيل : قراءة في معضلة سد النهضة

إعداد : محمود سامح همام – باحث مصري سياسي متخصص في الشئون الأفريقية
- المركز الديمقراطي العربي
تعمل أحواض الأنهار العابرة للحدود كنقاط تماس جيوسياسية تتقاطع فيها ضرورات التنمية مع حسابات الأمن القومي، وهو ما يتجلى بوضوح في تفاعلات دول حوض النيل، ولا سيما مصر والسودان وإثيوبيا. فقد أعادت الفيضانات الأخيرة، الناتجة عن الأمطار الغزيرة على المرتفعات الإثيوبية وما ترتب عليها من غمرٍ واسع في شمال مصر، إشعال الجدل حول جدلية السيادة المائية وإدارة سد النهضة. وبينما تُقدّم أديس أبابا السد بوصفه مشروعًا تنمويًا حاسمًا، ترى القاهرة والخرطوم في الإدارة الأحادية للمشروع تهديدًا استراتيجيًا متصاعدًا. وتفاقم غياب الشفافية في البيانات وتباين السرديات الرسمية حدة الأزمة، إذ حمّلت مصر إثيوبيا مسؤولية التصريفات المفاجئة، في حين أكدت أديس أبابا التزامها بالبروتوكولات الفنية. وفي خضم هذا التوتر، برز تحول في الموقف الأمريكي، مع إعلان واشنطن دعم مقاربة “فنية لا سياسية” تركز على تبادل البيانات والتنسيق العملياتي وتخفيف المخاطر المشتركة، بما يعكس إعادة تموضع دبلوماسي في واحدة من أكثر القضايا المائية حساسية في المنطقة.
أولًا: تحولات سدّ النهضة ومعادلات الضغط المائي في مصر
يمثل سدّ النهضة الإثيوبي الكبير نقطة ارتكاز جوهرية في إعادة صياغة ميزان القوى المائية في حوض النيل، ليس فقط بحجمه وتمويله الذي يبلغ نحو خمسة مليارات دولار، بل بموقعه المحوري على بُعد أربعة عشر كيلومترًا من الحدود السودانية وقدرته الاستيعابية الضخمة البالغة 74 مليار متر مكعب، ما يجعله أضخم محطة للطاقة الكهرومائية في أفريقيا. ومع إعلان أديس أبابا اكتمال الملء الرابع في سبتمبر 2023 وتشغيل السد بكامل طاقته، دخلت المنطقة مرحلة جديدة تُعزّز فيها إثيوبيا حضورها كقوة منتجة ومصدّرة للطاقة، وتُعيد ترتيب أولوياتها الداخلية والإقليمية على نحو ينعكس مباشرة على التوازنات الهيدرواستراتيجية مع دول المصب، وعلى رأسها مصر.
تكمن خطورة السد بالنسبة للقاهرة في طبيعة الضغوط الهيدرولوجية التي يفرضها على دلتا النيل في المدى القريب والبعيد على السواء. فمن جانب، قد تتحول عمليات الإطلاق السريعة أو غير المنسقة من خزان المنبع إلى مصدر ضغط مباشر على شبكة الصرف القديمة، بما يهدد بفيضانات مفاجئة ويعطّل دورات الري الزراعي، وهو ما ظهر جليًا في عدد من موجات الفيضانات الأخيرة. ومن جانب آخر، فإن تغيير نمط التدفقات الموسمية الناجم عن نظام التشغيل الدائم للسد سيؤثر تدريجيًا على معدلات تغذية المياه الجوفية واستقرار مستويات الملوحة، ما سيضع قطاعات الزراعة والبنية التحتية في مواجهة تحديات متراكمة. وبدون آليات مُحكمة لتبادل البيانات والتنسيق الفني، ستظل قدرة مصر على التنبؤ بالتحولات المائية والحدّ من آثارها محدودة.
وتتعمق هذه الإشكالية مع الحجم السكاني الكبير لمصر، الذي يتجاوز 118 مليون نسمة، واعتماد البلاد شبه الكامل على مياه النيل التي توفر نحو 97% من احتياجاتها المائية. وقد شهد متوسط نصيب الفرد من المياه انهيارًا حادًا من 1900 متر مكعب عام 1959 إلى أقل من 600 متر مكعب اليوم، وهو مستوى أدنى بكثير من خط الفقر المائي الذي تحدده الأمم المتحدة، مع توقعات بانخفاضه إلى أقل من 500 متر مكعب بحلول عام 2050. ويتضافر تغير المناخ وارتفاع مستوى سطح البحر وضعف الكفاءة المائية في الريّ لتشكيل بيئة ضاغطة تهدد الإنتاج الغذائي والاستقرار الاجتماعي في آن واحد.
وفي ظل هذا الواقع، تبدو القاهرة أمام معادلة مزدوجة: تحديث منظومتها التقليدية للري والصرف على نحو جذري، وتأمين تدفقات النهر في مواجهة أي سياسات upstream قد تُقيد أو تُعيد هندسة التوزيع الطبيعي للمياه. في المقابل، تواجه إثيوبيا نفسها مفارقة هيكلية؛ فبرغم مساهمتها بنحو 86% من موارد النيل المائية، لا تزال واحدة من أقل الدول الأفريقية استهلاكًا للمياه، وتعاني من دورات جفاف حادة ونقص مزمن في الكهرباء، ما يجعل سدّ النهضة بالنسبة لها مشروعًا استراتيجيًا تتجاوز دلالاته حدود التنمية إلى بناء شرعية داخلية وإقليمية على حد سواء.
ثانيًا: الإرث القانوني للنزاعات المائية وتصلّب المواقف الجيوسياسية
تتجذر الأزمة المائية الراهنة بين مصر والسودان وإثيوبيا في تراكم تاريخي معقّد من الاتفاقيات القانونية التي تعود جذورها إلى الحقبة الاستعمارية، والتي شكَّلت الأساس المبكر لمعادلات توزيع المياه في حوض النيل. فقد أرست اتفاقية 1929، التي صاغتها بريطانيا بين مصر والسودان كمستعمرتين تابعتين لها آنذاك، قواعد تمنح القاهرة 48 مليار متر مكعب والسودان 4 مليارات، مع منح مصر حق النقض على أي مشروعات تقيمها دول المنبع. ولأن إثيوبيا لم تكن طرفًا في تلك الاتفاقية ولم تُستشار أو يُؤخذ رأيها، فقد رفضت شرعيتها منذ البداية، معتبرةً أنها تجسيد لعلاقات هيمنة استعمارية لا يمكن لدولة مستقلة أن تُلزم نفسها بها. وجاءت اتفاقية 1959 بين مصر والسودان لتعزز هذا الاختلال؛ إذ منحت البلدين معًا نحو 84% من تدفقات النهر، وأنشأت لجنة مشتركة لإدارة المياه دون أن تشمل إثيوبيا أو أي دولة من دول المنبع الأخرى، الأمر الذي اعتبرته أديس أبابا تعزيزًا لإقصائها الممنهج من ترتيبات الحوكمة المائية.
وقد شكّلت هذه الاتفاقيات إرثًا قانونيًا ودبلوماسيًا عميق التأثير، رسّخ مطالبة مصر بـ”حقوق تاريخية” مائية، في حين نظرت دول المنبع إلى تلك الحقوق كموروثات استعمارية تُقيد طموحاتها التنموية، مما خلق تناقضًا بنيويًا مستمرًا بين الشرعية القانونية كما تراها القاهرة والخرطوم، والواقع الهيدرولوجي والسياسي الذي تسعى دول المنبع لإعادة تشكيله. وقد بلغ هذا التوتر ذروته عام 2011 مع شروع أديس أبابا في بناء سد النهضة، حيث فشلت سنوات من الوساطات، سواء برعاية الاتحاد الأفريقي أو الولايات المتحدة أو البنك الدولي، في الوصول إلى اتفاق ملزم، تاركة المشهد في حالة اضطراب دبلوماسي وهيدرولوجي مفتوح.
وفي إطار هذا الانسداد السياسي، تحولت إدارة المياه إلى ملف أمني بامتياز، مرتبط بحسابات الطاقة وبالهندسة الجيوسياسية الإقليمية. فبينما تُصرّ إثيوبيا على أن تتبع عمليات ملء وتشغيل السد منطق التدفق الموسمي وأولويات الطاقة الكهرومائية، ترى مصر أن غياب الشفافية في البيانات يمثل خرقًا لروح إعلان مبادئ 2015 الذي ينص على الاستخدام العادل والمنصف للمياه. ويدلّ تجدد التوترات خلال الأشهر الأخيرة على عودة خطاب متصلّب يُغذي احتمالات مواجهة جيوسياسية طويلة، خاصة في ظل غياب إطار قانوني ملزم يُحدد آليات الملء والتشغيل خلال فترات الجفاف أو سنوات الفيضانات.
ولا تقتصر تداعيات الأزمة على البُعد المائي وحده؛ إذ تتفاعل العوامل الاجتماعية والسياسية الداخلية مع الضغوط الخارجية لتضخيم التوترات. فالفيضانات الأخيرة والتهديدات المتصوَّرة للأمن المائي تُعمّق الاستقطاب الداخلي وتُحفّز الخطاب القومي، ما قد يدفع صانعي القرار إلى خيارات أكثر تشددًا، سواء عبر مسارات قانونية دولية أو من خلال التلويح بقدرات الضغط السياسي وربما – في أقصى السيناريوهات – الخيار العسكري. وبذلك تصبح مياه النيل، بما تمثله من ركيزة للهوية الوطنية والأمن القومي، محورًا لمعادلة جيوسياسية تتجاوز حدود القانون الدولي لتشكل صراعًا ممتدًا على الشرعية، والسيادة، وبناء النفوذ الإقليمي.
ثالثًا: هندسة توازنات القوة بين مصر والسودان وإثيوبيا في إدارة معادلة الأمن المائي الإقليمي
تُظهر الأزمة الحالية وجود ثلاث ثغرات مترابطة تقوّض أي جهود فعّالة لحوكمة مشتركة لحوض النيل: عجز فني يتمثل في غياب بيانات آنية وموثوقة عن الإطلاقات والتدفقات، وعجز تشغيلي ناتج عن غياب قواعد متفق عليها لإدارة فترات الجفاف والفيضانات، وعجز سياسي يرتبط بانعدام الثقة وتضارب السرديات الوطنية بين الدول الثلاث. وتوضح الفيضانات الأخيرة حجم التكلفة المتراكمة لهذه الاختلالات، بينما يعكس التأكيد المصري على أن النيل “خط أحمر” تداخلاً عميقًا بين الأمن المائي والسيادة الوطنية، ما يجعل التوصل إلى تسوية سياسية أكثر تعقيدًا.
في هذا السياق، يتطلب الموقف المصري مقاربة مزدوجة تتكامل فيها الخطوات الدبلوماسية الإقليمية والدولية مع إجراءات التكيّف الداخلي لتعزيز الصمود الوطني.
أولًا، على المستوى الإقليمي والفني، يتعين إنشاء لجنة فنية ثلاثية مستقلة تضم مصر والسودان وإثيوبيا تحت إطار الاتحاد الأفريقي، تتولى تحليل البيانات الهيدرولوجية وتطوير نماذج تنبؤية للفيضانات والجفاف، ووضع بروتوكولات واضحة لملء وتشغيل السد. كما يجب دعم ذلك بنظام متكامل للإنذار المبكر يربط بين منصات الرصد الهيدرولوجي والأرصاد الجوية وتشغيل السدود في الدول الثلاث، مع تبادل البيانات في الوقت الفعلي لضمان إدارة منسقة للأزمات وتقليل المخاطر الإنسانية. ويُعد الاتفاق على ضمانات تشغيلية ملزمة—even لو كانت محدودة—عاملًا ضروريًا لترسيخ الثقة السياسية وبناء أرضية مشتركة يمكن البناء عليها لاحقًا. وقد بدأ الشركاء الدوليون، بما في ذلك الولايات المتحدة، في دعم تدابير بناء الثقة مثل تركيب مقاييس تدفق آلية والرصد الفضائي، لكن فعاليتها تظل مشروطة بوجود إطار سياسي مُحكم للتعاون.
ثانيًا، على المستوى الدولي، ينبغي للاتحاد الأوروبي تكثيف دوره في إعادة صياغة النزاع ضمن منظور قانوني وتقني، عبر دعم مسارات التسوية القانونية في محكمة العدل الدولية—دون أن يحل ذلك محل المفاوضات الإقليمية—وتوفير غطاء دبلوماسي للمحادثات الجارية داخل الاتحاد الأفريقي. أما الولايات المتحدة، باعتبارها من بين القوى القليلة القادرة على التأثير على العواصم الثلاث، فعليها مواصلة الدفع نحو منهج “فني لا سياسي” يهدف إلى توحيد معايير التشغيل ويمنع توظيف المياه أداة للضغط السياسي. وتُمثل هذه المقاربة مخرجًا واقعيًا لتخفيف التوترات وفتح مسار تفاوضي أكثر مرونة واستدامة.
ثالثًا، على المستوى الوطني، ينبغي لمصر إعطاء الأولوية لاستراتيجية متكاملة للتكيّف المحلي تُقلل من هشاشتها المائية، عبر الاستثمار في كفاءة استخدام المياه، وتوسيع تحلية المياه، وتطوير أنظمة الصرف والضخ، وتوسيع برامج التأمين الزراعي لحماية الفئات الأكثر عرضة للضرر. إن تعزيز القدرة الداخلية على الصمود لا يُضعف الموقف التفاوضي المصري، بل يمنحه مدىً أوسع للحركة ويُخفف من أثر أي تقلبات قد تنجم عن السياسات المائية في دول المنبع.
استكمالًا، تُعد الفيضانات الأخيرة مؤشرًا واضحًا على أن التعاون التقني لا يمكن أن يبقى أسير التنافس السياسي. فمصير سد النهضة—سواء كأداة للتكامل الإقليمي أو كبؤرة صراع ممتد—مرهون بمدى قدرة الدول الثلاث على الانتقال من منطق الاتهامات المتبادلة إلى منطق الإدارة المشتركة. فالبديل، المتمثل في استمرار الفيضانات المتكررة، وتصاعد انعدام الثقة، وتحول سياسات المياه إلى أدوات أمنية، لن يهدد فقط دلتا النيل، بل سيوسع دائرة عدم الاستقرار لتشمل القرن الأفريقي وشرق المتوسط بأسره.
في الختام، يبرز ملف سد النهضة بوصفه أحد أكثر الملفات الإستراتيجية حساسية في القارة الأفريقية، إذ يعكس تشابك الأمن المائي المصري مع التحولات الجيوسياسية في كلٍّ من إثيوبيا والسودان ومنطقة حوض النيل الأوسع. فبينما تسعى أديس أبابا إلى تثبيت موقعها كقوة صاعدة في إنتاج وتبادل الطاقة، تواجه القاهرة تحديًا وجوديًا يتعلق بالحفاظ على استقرارها المائي وضمان استدامة قطاعاتها الزراعية والغذائية. وتبقى المعادلة الأساسية واضحة: لا يمكن تحقيق الاستقرار الإقليمي من دون تسوية مؤسسية ملزمة تُعيد هيكلة إدارة موارد النيل وفق قواعد قانونية واضحة، وتشمل آليات إنذار وتنسيق ومراقبة مشتركة. ومن دون ذلك، سيظل ميزان القوى في حوض النيل قابلاً للاهتزاز، وسيظل النهر—شرياناً للحياة في مصر—رهينة حسابات الجغرافيا السياسية ومتطلبات التنمية غير المنسقة في upstream الدول. إن مستقبل الأمن المائي في المنطقة لن يُصان إلا عبر مقاربة شاملة تُوازن بين الحقوق التاريخية، وضرورات التنمية، ومقتضيات الأمن الجماعي



