الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

التفاوض تحت النار: هل يتحول لبنان إلى نموذج تشومسكي للهيمنة والتفكيك؟

بقلم : د. محمد حسين سبيتي_باحث سياسي – المركز الديمقراطي العربي

 

يقف لبنان في أواخر عام 2025 عند مفترق تاريخي بالغ الحساسية، تتقاطع فيه مسارات السياسة والهيمنة والأمن الإقليمي. ففي ظل تصاعد الضغوط الأميركية و”الإسرائيلية” عبر ما يُعرف بـ “لجنة الميكانيزم”، يجد لبنان نفسه أمام معادلة معقّدة؛ إما القبول بشروط تفاوض تُفرض تحت النار، وإما مواجهة عزلة اقتصادية وسياسية متصاعدة. هذا الواقع يُعيد إلى الواجهة التحليل الذي قدّمه المفكر الأميركي نعوم تشومسكي في كتابه “الدول الفاشلة”، حيث يرى أن الولايات المتحدة تمارس سياسة خارجية قائمة على إعادة تشكيل الدول بما يخدم مصالحها الإستراتيجية، مستخدمة شعارات الديمقراطية والإصلاح كغطاء لمشاريع تفكيك ممنهج للدول الوطنية. ويصف السياسة الخارجية الأمريكية بأنها استمرار لإمبريالية ناعمة تُعيد تعريف السيادة على أنها “قابلية الطاعة”، وتُقيّم شرعية الدول بمدى خدمتها لمصالح واشنطن.

يؤكد تشومسكي في كتابه أن واشنطن لا تتدخل لإرساء الديمقراطية كما تدّعي، بل لتفكيك منظومات القوّة المحلية وإعادة بناء الدول على أسس تابعة، تُبقي القرار السيادي مرتهنًا.

تاريخيًا، يُظهر مسار التدخلات الأميركية نمطًا متكرّرًا يصب في فهم سياستها العقيمة المدمرة. ففي العراق (2003)، بدأ الغزو تحت شعار “إسقاط الدكتاتورية” وانتهى إلى انهيار الدولة وولادة تنظيم “داعش” من رماد الاحتلال. وفي ليبيا (2011)، رُفع شعار “حماية المدنيين”، فسقط النظام وتفككت البلاد إلى جماعات متناحرة، وانسحبت واشنطن تاركة فراغًا ملأته قوى إقليمية. وكذلك في أفغانستان (2001-2021)، حيث انسحبت الولايات المتحدة بعد عقدين من الحرب تاركة طالبان في الحكم ودولة هشة تُهدّد أمن المنطقة. حتّى في سورية، أدى الدعم الأميركي للفصائل المسلحة والعقوبات الاقتصادية إلى تعميق الانهيار دون تحقيق أي انتقال سياسي حقيقي. هذه النماذج لا تعكس فشلًا في السياسة الأميركية بقدر ما تُجسّد منهجًا متعمدًا يُفضي إلى خلق دول ضعيفة ومنقسمة، قادرة على خدمة مصالح واشنطن دون الحاجة إلى احتلال مباشر.

التفاوض تحت النار
وفي آلياتها لتحقيق ما تقدّم، يُظهر التاريخ أن “التفاوض تحت الضغط العسكري” يمثل أحد أبرز أدوات السياسة الإمبراطورية الأميركية. ففي اليابان (1945)، فُرض الاستسلام بعد القصف النووي مما أدى إلى فرض دستور 1947 يحظّر الجيش الهجومي، وتحوّل البلد إلى قاعدة عسكرية واقتصادية أميركية تخدم مصالح واشنطن في شرق آسيا. وفي فيتنام (1973)، وقَّعت حكومة ثيو اتفاقًا تحت القصف المكثف ينهي القتال الأمريكي المباشر، مقابل تنازلات حول قواعد ودعم سياسي. انسحبت واشنطن جزئيًا، لكن سقوط سايغون في 1975 أدى إلى توحيد فيتنام تحت الشماليين، مع فشل النظام المدعوم أمريكيًا.

في الحالة اللبنانية اليوم، تتجسّد هذه المعادلة من خلال أداة “الميكانيزم”؛ اللجنة التي تشكّلت في نهاية عام 2024 لمتابعة اتفاق وقف إطلاق النار. وبعد ذلك فُرِض على لبنان مشاركة وفد مدني في اللجنة، رغم أنه اُشترط في البداية وقف الغارات “”الإسرائيلية”” قبل ذلك، إلا أن الضغوط الأميركية المتكرّرة – الأمنية والسياسية والاقتصادية – دفعت إلى القبول بالمشاركة من دون ضمانات واضحة. تزامن ذلك مع استمرار الغارات شبه اليومية التي تستهدف مدنيين ومنازل ومرافق مدنية، ما جعل التفاوض يتم في ظل واقع ميداني غير متكافئ، ما يُعيد إلى الأذهان تجارب فرض الإذعان العسكري في الشرق الأوسط. إن الخطورة في هذا النمط لا تكمن فقط في محتوى التفاوض، بل في آليته، فالقبول بالتفاوض تحت الضغط يُكرّس سابقة سياسية تضعف مفهوم السيادة، وتحوّل القرار الوطني إلى رهينة لميزان القوى الخارجي.

تجارب الإذعان العسكري في الشرق الأوسط

وبالاستناد الى نماذج مختلفة لتظهير خطورة القبول بالتفاوض تحت النار بشكل جلي، فإن تاريخ الشرق الأوسط حافل بتجارب تُظهر كيف يُستَخدم الضغط العسكري كأداة لإنتاج “سلام الإذعان” لا “سلام التوازن”. فبعد حرب 1973، فُرض على مصر عبر اتفاقية كامب ديفيد نموذجٌ من التسوية التي حيّدتها عن الصراع العربي- “الإسرائيلي”، بينما حُوّل العراق بعد غزوه عام 2003 إلى دولة ضعيفة خاضعة لبنية سياسية أُعيدت صياغتها تحت سلطة الاحتلال الأميركي. وفي لبنان عام 1983، فُرض اتفاق 17 أيار تحت حصار بيروت وقصفها، قبل أن يسقط بفعل المقاومة، كما أُجبرت سورية بعد حرب تشرين على اتفاق فصلٍ للقوات أبقى الاحتلال في الجولان أمرًا واقعًا. أما السلطة الفلسطينية، فكانت تجربتها مع اتفاق أوسلو (1993) نتيجة توازن قوى مختلٍّ قاد إلى إذعان سياسي مغلف بخطاب “السلام”، في حين مثّلت ليبيا (2011) ويمن ما بعد اتفاق ستوكهولم (2018) أمثلة حديثة على استخدام الحرب أو التهديد بها لفرض ترتيباتٍ أمنية وسياسية تُضعف مفهوم السيادة الوطنية.

هذه النماذج، التي يستشهد بها تشومسكي في نقده الجذري للهيمنة الأميركية، تكشف أن “التفاوض تحت النار” هو أداة لإخضاع الدول وإفراغ سيادتها من مضمونها وليس وسيلة لاحلال “السلام”. فالقوة التي تبدأ بفرض شروطها العسكرية لا تتوقف عندها، بل تمتد إلى الاقتصاد والإدارة والسياسة، لتعيد تشكيل بنية الدولة وفق مصالحها. كما يمكن أن نخلص إلى أن التجارب تُظهر أن تفكيك منظومات المقاومة المحلية أو العسكرية تحت ذريعة الاستقرار يؤدي غالبًا إلى فراغ أمني تُملؤه جماعات متطرّفة أو قوى خارجية.

هذه السياسة الأميركية، هي امتداد لمنطق البراغماتية الواقعية الذي ينتقده تشومسكي، حيث تُقيَّم الدول “الفاشلة” بمدى خدمتها للهيمنة الأمريكية؛ فبعد سقوط القذافي، الذي كان قد تخلَّى عن برنامجه النووي مقابل رفع العقوبات، أصبحت ليبيا عبئًا غير مجدٍ اقتصاديًا، فانسحبت واشنطن تاركةً دولة مفككة تُصْدِر الإرهاب إلى الساحل الإفريقي. اليوم، نجد أن التدخل الأميركي في ليبيا أدى إلى تضاعف الإرهاب بنسبة 500% بحسب تقارير الأمم المتحدة، وأصبحت البلاد أكبر مصدر للنفط المهدور في الفوضى.

في السياق اللبناني، واشنطن تلوّح بالمساعدات والاستثمارات مقابل تفكيك عناصر القوة الداخلية، فيما تُبقي “إسرائيل” الضغط الميداني قائمًا، والنتيجة دولةٌ منزوعة القرار الوطني، تشبه ما آلت إليه الأمور في ليبيا وسورية على سبيل المثال بعد التدخل العسكري الأميركي. فالقبول بالتفاوض في ظل العدوان، ومن دون ضمانات توقف القصف أو احترام السيادة، يعني عمليًا تسليم أوراق القوة الوطنية مقابل وعود لا تُنفّذ.

من هنا، يرقى التحذير في ظل هذا الوضع إلى درجة الإنذار الخطير، لأن نزع سلاح المقاومة في ظل العدوان، من دون استراتيجية دفاعية متفق عليها داخليًا يمكن أن تتمثل بمنظومة دفاع وطنية بديلة، قد يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من اللااستقرار السياسي والأمني، شبيهة بما شهدته ليبيا وسورية وغيرهما بعد سقوط أنظمتها المركزية. ومن هنا، يصبح الحفاظ على التوازن الداخلي بين الدولة والمقاومة – ضمن إطار سيادي منضبط – ضرورة إستراتيجية لتجنّب مصير “الدول الفاشلة” التي تُدار من الخارج.

إن قراءة التجربة اللبنانية الراهنة في ضوء النظرية التشومسكية تكشف أن الهيمنة اليوم تُمارَس عبر الدبلوماسية المشروطة، والعقوبات الاقتصادية، واتفاقات الأمن المفروضة. فلبنان، وهو يتفاوض تحت النار، يواجه لحظة مفصلية؛ إما أن يُثبت قدرته على صياغة قرار وطني مستقل يحافظ على توازن الردع والسيادة، أو أن ينزلق تدريجيًا إلى نموذج آخر من نماذج “الدول الفاشلة” التي تُصنع باسم “السلام والتنمية”.

5/5 - (2 صوتين)

المركز الديمقراطي العربي

مؤسسة بحثية مستقلة تعمل فى إطار البحث العلمي الأكاديمي، وتعنى بنشر البحوث والدراسات في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية والعلوم التطبيقية، وذلك من خلال منافذ رصينة كالمجلات المحكمة والمؤتمرات العلمية ومشاريع الكتب الجماعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى