هل لدى إفريقيا وسائل لمحاكمة جبابرتها بعد الانسحاب الجماعي من”الجنائية الدولية” ؟
مبادرة الاتحاد الافريقي تأتي ضمن سياق يحمل في جرابه العديد من الأحداث المحمّلة بمعاني مختلفة، وتوقيت يتزامن مع افتتاح قضية الرئيس الإيفواري السابق لوران غباغبو (2000- 2011)، القابع، منذ 2011، في سجن لاهاي مقرّ المحكمة الجنائية الدولية، بتهمة ارتكاب “جرائم ضد الإنسانية” ، خلال الأزمة الإيفوارية التي أودت بحياة أكثر من 3 آلاف شخص في عام 2010، بحسب الأمم المتحدة.
شكل جديد للتصدّي للإفلات من العقاب يبدو أنّ القارة الإفريقية تتجه نحو تبنّيه عقب اعتماد دراسة مقترح، طرح خلال القمة 26 للاتحاد الإفريقي المنعقدة يومي 30 و31 يناير/ كانون الثاني الماضي، في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، ما قد يفتح الطريق نحو انسحاب جماعي افريقي من المحكمة الجنائية الدولية.
غير ان هذه الخطوة يتوقّع بعض المراقبين لو تمت أن تصطدم بعقبات أبرزها القيود المفروضة على عملية صنع القرار في المؤسسات الإفريقية، غير أنّ التضامن الإقليمي يمكن أن يطغى على العدالة الدولية، ليطرح تساؤلات حول مدى استقلالية “المحكمة الإفريقية”، والتي يمكن أن يشكّل تمويلها إشكالا في حدّ ذاته.
وبالعودة إلى أصل المبادرة، يتبيّن أنّ الرئيس الكيني، أوهورو كينياتا، والذي كان مطلوبا من قبل المحكمة الجنائية الدولية، ضمن تحقيق تجريه الأخيرة في تهم جرائم حرب تتعلّق بعمليات قتل جماعية، هو من تقدّم بهذا المقترح الى القمة الافريقية، ما منحه البعض من الشرعية في ما يتعلّق بمبادرته.
ويعتبر كنياتا أوّل رئيس مباشر لمهامه يمثل أمام المحكمة الدولية، وذلك في أكتوبر/ تشرين الأول 2014، بتهمة ارتكاب “جرائم ضد الإنسانية”، قبل أن تسقط المحكمة التهم الموجهة إليه لعدم توفر أدلة كافية “لإثبات مسؤوليته الجنائية”، في أحداث العنف التي أعقبت انتخابات 2007 في كينيا.
ويستند المقترح الإفريقي، الذي يؤيده بقوة الرئيس التشادي إدريس ديبي، وهو أيضا الرئيس الدوري للاتحاد الإفريقي، في كلمة ألقاها خلال القمة 26 للاتحاد الإفريقي، بقوله إن المحكمة الجنائية “لا تستهدف غير الأفارقة”، داعيا إلى خارطة طريق تنظم انسحاب الدول الإفريقية من المحكمة.
غير أن العقبة الرئيسية، التي من شانها أن تؤرق الاتحاد الإفريقي، تتمثل في مدى قدرته على إيجاد بديل لتحقيق العدالة في إفريقيا، وفرض التضامن الإفريقي على العدالة الدولية. وكدليل على ما يسمّى غالبا بـ “الإرادة الإفريقية السيئة”، تم السماح للرئيس السوداني عمر البشير بمغادرة جوهانسبورغ بجنوب إفريقياالعام الماضي دون مشاكل، رغم صدور مذكرة اعتقال دولية بحقه، بتهم تشمل جرائم الإبادة الجماعية في إقليم دارفور غرب السودان في 2009.
ويبقى السؤال الأهم، هل لدى إفريقيا الوسائل الضرورية لمحاكمة جبابرتها؟
غير أنّ الإجابات تظلّ غير أكيدة، رغم النماذج الخجولة التي ترتسم كبدائل إفريقية في الوقت الراهن.
وفي هذا الصدد، يوجد مثالان على ما تقدّم، أوّلهما محاكمة الرئيس التشادي الأسبق حسين حبري (1982- 1990) والذي يمثل أمام “الغرف الإفريقية الاستثنائية”، وهي مجموعة محاكم مختصة مقرها العاصمة السنغالية داكار، تأسست عام 2013، وتعتبر ثمرة تنسيق بين تشاد والسنغال والاتحاد الإفريقي، لتحقيق العدالة.
وقالت منظمة “هيومن رايتس واتش” (دولية غير حكومية)، بهذا الخصوص، إنّ “قضية حبري هي خطوة حاسمة في طريق تحمّل الدول الإفريقية مسؤولية محاكمة أخطر الجرائم الدولية”.
أمّا النموذج الثاني، فيهمّ كوت ديفوار، حيث يرفض الرئيس، الحسن واتارا تسليم سيمون غباغبو، زوجة الرئيس الأسبق لوران غباغبو (2000- 2011)، للمحكمة الجنائية الدولية، وتقديمها للعدالة في البلاد. في المقابل، أثبتت أبيدجان قدرتها على محاكمة السيدة غباغبو، والتي نالت حكما بالسجن لمدة 20 عاما، بتهمة “المساس بأمن الدولة”.
أمثلة عديدة غذّت الجدل القائم حول هذه الإشكالية التي تعود جذورها إلى سنوات مضت. ففي عام 2009، شن رئيس المفوضية الإفريقية، جون بينج، هجوما لاذعا، ضد ما اعتبره سياسة “ازدواجية المعايير”، التي تنتهجها المحكمة الجنائية الدولية.
وقال بينغ، في مذكرته: “ألا يوجد غير الأفارقة ليحاكموا؟ هذا السؤال الذي نطرحه، إذ توجد مشاكل في سيريلانكا ولم يتدخل (مدعي المحكمة الجنائية الدولية)، لفعل أي شيء، بل لم يجرؤ على ذلك. وهنالك مشاكل في غزة كما تعلمون، ولم يحرك ساكنا، وفي وضعيات أخرى، مثل العراق، قتل نصف مليون شخص، استنادا على الأكاذيب، ولم يفعل شيئا”، قبل أن يختم مذكّرته بجملته الشهيرة: “وكأنه لا توجد إشكالات إلا في إفريقيا”.
ولقي موقف بينغ صدى واسعا لدى الرأي العام الإفريقي، وأجج شعورا جماعيا بأن المحكمة ليست سوى وجها لـ “استعمار جديد” يستهدف القارة السمراء.
وتأسست المحكمة الجنائية الدولية في 2002، وتضمّ 123 دولة، بينها 34 بلدا إفريقيا. ومنذ إنشائها، فتحت المحكمة تحقيقات في 7 قضايا تعلقت جميعها بالقارة الإفريقية، وهي أوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وإفريقيا الوسطى ودارفور (السودان) وكينيا وليبيا وكوت ديفوار.
وفي سياق متصل، يرى مراقبون أن الاقتراح الإفريقي بالانسحاب الجماعي من المحكمة الجنائية الدولية، يرتكز على “أسباب واهية”، وفق مقال نشر مؤخرا، في صحيفة “لوموند”، الفرنسية، والتي تساءلت، فيما لو كان المقترح الكيني يحمل بين طياته “ترخيصا للقتل”، في وقت تتواصل فيه المجازر التي تهز القارة السمراء، وخصوصا في بوروندي التي تعيش منذ 10 أشهر على وقع أزمة سياسية وأمنية خانقة؟
وحتى لا يتحوّل التضامن الإفريقي إلى نقمة لسكان القارة، بات من الحري على إفريقيا إرساء آليات لمحاسبة قادتها المتورطين في “جرائم ضد الإنسانية”، وتقديم الدعم السياسي اللازم وترسانة من القوانين، تؤطر هذا البديل، الذي يجب أن يحقق الاستقرار لدول القارة، بحسب المصادر نفسها.
وفي “هفوة” للمنظمة القارية فسرها عدد من المسؤولين الأفارقة، بحدوث “خطأ اتصالي”، ناقضت القمة الإفريقية الأخيرة قرارا وافق عليه مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي، بإرسال قوة لحفظ السلام في بوروندي، وقد تم تأجيله لأجل غير مسمى.
وإلى ذلك تضاف العديد من التساؤلات الأخيرة التي تلقي بثقلها على توجّه يبدو أنه ينوء تحت عجز الاتحاد الإفريقي عن تجميع الأموال اللازمة لتشكيل محكمة إقليمية، سيما وأن المنظمة الإفريقية لا تزال حتى الآن تكابد في سبيل تعبئة الموارد المالية اللازمة للإطلاق الفعلي للقوة الإفريقية المشتركة للتصدي لانتهاكات “بوكو حرام” في حوض بحيرة تشاد (الكاميرون ونيجيريا وتشاد والنيجر)، وفي وقت تقدّر فيه ميزانية المحكمة الجنائية الدولية سنويا بـ121 مليون يورو (135 مليون دولار)، وتعدّ نحو 800 موظّف، بحسب موقع المحكمة.