مقومات التحول من الشرطة السلطوية الي الشرطة الخدمية
لواء دكتور / شادن نصير
عضو هيئة التدريس بأكاديمية الشرطة
• مدخل عام:
أن إشكالية العلاقة بين الشرطة المصرية والجماهير تؤثر بشكل مباشر على مدي نجاح أجهزة الشرطة في اداء مهمتها في حفظ الامن و حماية الحقوق و صون الحريات ، فالانطباعات التي كونها الجمهور المصري عن الشرطة ليست وليدة الساعة، ولكنها انطباعات تكونت تدريجياً وتاريخياً عبر ميراث من العلاقات التي سادت بين الشرطة والجمهور في مصر، وعبر فترات تاريخية طويلة شهدت العديد من حركات المد والجذر في العلاقة بين الطرفين، ومن الصعب أن ننسب لمتغير أو عامل بعينه ملامح علاقة الجماهيربأجهزة الشرطة ، بل يفرض الحياد العلمي القول بتعدد المتغيرات والعوامل التي أسهمت ولا تزال تسهم بشكل واضح ومباشر، أو غير مباشر في تشكيل هذه العلاقة.
إن الصورة العامة للشرطة في مصر غالباً ما تكون جزءاً من مركب اتجاهي أكبر نحو المؤسسات السياسية، والاجتماعية، والقانونية للدولة، فالواقع العملي قد أثبت أن الشرطة تعد مرآة عاكسة في أدائها وتوجهاتها للسياق الاجتماعي الذي تعمل فيه، ففي المجتمعات التي تحكم بالنظم الاستبدادية تميل الشرطة للنزعة التسلطية، وإقرار الأمن والنظام بالقوة، واستخدام العنف دفاعاً عن نظام الحكم السائد، بل وتحقيق رغباته، أما في المجتمعات الديمقراطية فتعمل الشرطة على تحقيق الأمن من منظور خدمي بحيث تحقق الأمن والاستقرار في إطار حماية حقوق الإنسان، والعمل بمقتضى الدستور وسيادة القانون.
• أولا : الشرطة كمؤسسة سلطوية :
والواقع أنه يصعب تصنيف النظام الذي كانت تسير عليه مصر خلال الأربعين عاماً التي سبقت الثورة وفقاً لأي أسس لتصنيف نظم الحكم المعروفة، فالتصنيف على الأساس الاقتصادي إلى اشتراكي ورأسمالي لا ينطبق؛ فقد كان اقتصاداً نهبوياً فوضوياً، كما تدل على ذلك الشواهد التي تضمنتها محاكمات رموز النظام السابق، كما أن التصنيف على أساس سياسي إلى ديمقراطي وديكتاتوري لا ينطبق أيضاً؛ فلكل من هذه النظم رؤية لمستقبل المجتمع لها ملامحها الواضحة، أما النظام السابق فلم تكن له رؤية تتعلق بمستقبل مصر سوى استمرارية الزمرة الحاكمة في السيطرة على مقدرات البلاد وتوريث الحكم،
وقد ترتب على ذلك تبديد ثروات الوطن من جهة وحدوث استقطاب اجتماعي/ اقتصادي/ ثقافي/ سياسي حاد، حيث انقسم المجتمع المصري إلى قلة محدودة تستأثر بالسلطة والثروة، وأغلبية عظمى تعاني من الفقر والتهميش السياسي.
هذا النظام النهبوي الفوضوي طبع معظم مؤسسات الدولة بطابعه الفوضوي النهبوي الاستبدادي (وليس معنى إجبار المؤسسات على اتباع سياسات فاسدة أن كل العاملين بها فاسدون بطبعهم وإلا كان معنى ذلك إدانة الشعب المصري بأسره، ولما قامت الثورة أبداً)، وعلى الرغم من أن المؤسسة الأمنية المصرية شأنها في ذلك شأن كل مؤسسات الدولة تتسم بالعراقة باعتبارها من أهم مؤسسات الضبط الاجتماعي على مدار تاريخها حيث قامت بدور فعال في تحقيق الاستقرار والأمن للمواطنين، فقد كانت تسخر أيضاً لتحقيق امن الحكام، وأهدافهم، وإن اختلف الوزن النسبي لأمن المجتمع وأمن النظام من فترة لأخرى من التاريخ المصري، ويمكن القول ـ على ضوء ما تقدم ـ أن أهم خصائص المؤسسة الأمنية قبل ثورة 25 يناير 2011 تتمثل في الآتي :
1. دعم قاعدة إعلاء الأمن السياسي على الأمن الاجتماعي بشقيه الجنائي والمدني، وتسخير معظم إمكانات المؤسسة الأمنية لهذا الغرض، وسيطرة جهاز مباحث أمن الدولة على إدارات الشرطة، وكل مؤسسات المجتمع.
2. المعاملة الفارقة، والتمييز في تطبيق القانون على المواطنين لصالح المنتمين للنظام، وذوي النفوذ، والأثرياء، ليس فقط في إفلات هؤلاء من تطبيق القانون عند الإخلال بقواعده، بل تلفيق الاتهامات وسوء المعاملة، وانتهاك حقوق الإنسان، واللجوء للتعذيب لانتزاع الاعترافات من المتهمين الجنائيين والسياسيين على السواء.
3. الافتقار للإمكانيات (وبخاصة في أقسام ومراكز الشرطة) اللازمة للبحث الجنائي وأعمال الأمن العام، على عكس توافرها وأكثرها تطوراً لجهاز الأمن السياسي.
4. استمرارية موروث الاستهانة بالمواطنين العاديين، وبكرامتهم، وبحقوق الإنسان منذ عهود الاستعمار والذي يتمثل في كل أشكال التعامل بدءاً من الاشتباه، إلى التحقيقات، وتنفيذ الأحكام، والاحتجاز بأقسام الشرطة والخدمات الأمنية. وامتدت هذه الاستهانة إلى الجمهور الداخلي للمؤسسة الأمنية أنفسهم في شئونهم الوظيفية والمادية.
5. اعتماد النظام على المؤسسة الأمنية لمواجهة المشكلات ذات الطابع السياسي والاقتصادي التي يعجز عن حلها، أو لا يرغب في التعامل معها فيحيلها إلى مشكلة أمنية، ومن قبيل ذلك مطالبة الجمهور بالديمقراطية، أو الاحتجاجات على الفساد، وغيرها، مما يترتب عليه إفساد العلاقة بين الشعب والشرطة، وخلق أزمة ثقة بين الطرفين، مفيدة للنظام.
6. اعتماد العنف والتعذيب والإرهاب وسيلة أساسية في التحقيقات الجنائية والسياسية للحصول على المعلومات وانتزاع الاعترافات من المتهمين والذي كان يمتد إلى ذويهم، وسيلة لردع من يفكر في تحدي النظام.
7. الاستعانة بقوات غير نظامية من البلطجية والمسجلين خطر ذوي السوابق الإجرامية بمثابة جيش احتياطي للقوات النظامية في المعارك الانتخابية وفض المظاهرات والحركات الاحتجاجية، الأمر الذي أتضح أثناء الثورة.
• ثانيا : الشرطة كمؤسسة خدمية :
مع قيام الثورة في 25 يناير 2011 وسقوط نظام مبارك دخلت مصر في آتون معترك سياسي يتسم بالعشوائية وتعدد القرارات لتعدد القوى الفاعلة على الساحة السياسية كل منها يرغب في الاستئثار بالسلطة، وهو ماواكب سقوط للشرطة وتدنى هيبتها، خاصة مع محاكمات قيادات الشرطة وتقليص دور جهاز الأمن السياسي (الأمن الوطني)، و كان من المفروض ان يمهد ذلك لتحول العقيدة الشرطية من أداة لحماية الحاكم إلى أداة لحماية الشعب وتأمينه.
وفى ضوء التغيرات السياسية التى شهدتها مصربعد الثورة، حدث تغيير نسبي طفيف فيما يتصل بوظائف وأدوار أجهزة الشرطة بتغير ملامح الخريطة السياسية للمجتمع المصرى، فبينما كان جوهر وظيفة الشرطة فى عهد الحزب الواحد الانخراط فى العمل السياسى بصورة مباشرة، وهذا ما أدى إلى تبديل دوره من دور دفاعى عن المجتمع إلى دور هجومى، ومن ثم انقلاب رسالته الإنسانية إلى وظيفة تحركها الاعتبارات السياسية، وجدت الشرطة نفسها في حرج امام الساحة السياسية فأحيانا كثيرة تبدو للجماهير كطرف يعمل لصالح النظام السياسى ، و انها نادرا ما تنحاز لنبض الجماهير. وهذا الدور بطبيعة الحال يعكسه تساؤل هام و هو : هل علاقة الشرطة بالنظام السياسي علاقة تبعية؟ ام علاقة استقلال؟ ام علاقة تجمع بين التبعية و الاستقلال ؟ الواقع ان الاجابه عن هذا السؤال تتحدد علي ضؤ ما يطلبه النظام السياسي الحاكم من الشرطة ، غير ان واقع الحال و معطيات التاريخ تدلنا علي ان الشرطة هي الساحة التي يصطدم بها الحاكم دائما بالجماهير
• و اذا اردنا وضع ملامح رئيسية حاكمه لدور الشرطة في المرحلة المقبلة فهناك مجموعة من المبادئ التي تدعم فهم الفروق الجوهرية بين مهمة الشرطة قبل 25 يناير 2011، والتصور المفترض تحقيقه للشرطة مع التحول الديمقراطي في مصر، لأن عمل الشرطة في خدمة الشعب يقتضي تحول التوجه الأمني من (الطابع التسلطي) إلى (الطابع الخدمي) والذي يعني أن الشرطة ليست سلطة بقدر ما هي خدمة عامة، وتم صياغة هذه المبادئ في خمسة محاور تحدد الإطار الخدمي والديمقراطي لعمل الشرطة لكي يصبح مؤهلاً لخدمة الشعب، وهي :
المحور الأول : التزام الشرطة بسيادة القانون:
وذلك من خلال مجموعة من الإجراءات الآتية :
1. اتفاق السياسات الأمنية والأهداف والغايات مع القيم الديمقراطية، والقوانين والدستور والمعايير الدولية الخاصة بموظفي إنفاذ القانون.
2. امتناع الشرطة عن تنفيذ الأوامر المخالفة للقانون مهما كانت سلطة وصلاحية مصدرها.
3. التحقق من الصفة القانونية لأية مهام أو أعمال مطلوبة قبل البدء في تنفيذها، والالتزام بالقانون بغض النظر عن مكانة المشتبه فيه أو انتمائه.
4. عدم استعمال القوة إلا في حالة الضرورة القصوى، وعدم التذرع بأوامر عليا أو بظروف استثنائية لتبرير التعذيب.
المحور الثاني : حماية الشرطة للحقوق الخاصة بسلامة وأمن المواطنين:
وذلك من خلال مجموعة الإجراءات الآتية :
1. الالتزام بالنزاهة عند إجراء محاضر جمع الاستدلالات للمواطنين، والالتزام بالمعايير القانونية الآتية:
أ ـ تعريف أنفسهم، وتوضيح مهمتهم لمن سيتم سؤالهم، وتوضيح طبيعة حقوقهم خلال إجراء المحضر.
ب ـ تحرى الدقة في المعلومات التي يدلى بها العامة والتأكد من صدق البلاغات قبل اتخاذ أي إجراء عملي بشأنها.
ج ـ ضمان خلو اللغة التي تدار بها الأسئلة من أي استعلاء وألا تمس الكرامة الإنسانية بأي سوء.
د ـ إيلاء أهمية تامة للفئات الخاصة كالنساء وكبار السن والأطفال وذوي الإعاقة.
هـ ـ تجنب إجبار المحتجزين أثناء سؤالهم على الاعتراف بما اقترفوه، أو الرد على أي أسئلة لا يرغبون في الإجابة عنها، على أن يسري ذلك في الظروف الاستثنائية أيضاً.
2. إقامة التوازن بين اعتبارات الأمن واحترام خصوصية المواطنين في مجال التحريات السرية، والامتناع عن استخدام التقنيات العلمية الحديثة في انتهاك الحياة الشخصية للمواطنين دون إذن قضائي.
3. اتخاذ التدابير المناسبة لحماية الشهود من خلال عدم إبلاغ أي جهة بمضمون الشهادة مهما كانت طبيعة وثقل هذه الجهة، فضلاً عن عدم تهديد الشرطة للشهود أو مساومتهم.
4. الحد من استخدام القوة إلا في الضرورة القصوى، والالتزام بالشروط الواجبة قبل استخدام القوة وأهمها تدريب رجال الشرطة على المعايير المهنية الحاكمة لاستخدام القوة، وكيفية استخدام السلاح، وأساليب حل النزاعات سلمياً، والوعي بالأبعاد النفسية المرتبطة بالحشود والتظاهرات.
المحور الثالث : إعلاء قيمة الشراكة المجتمعية الفعالة :
وذلك من خلال مجموعة الإجراءات الآتية :
1. التركيز على الأمن المجتمعي وليس الأمن السياسي، فيجب على الشرطة أن تقدم خدماتها الأمنية من منظور مجتمعي.
2. توزيع حيز المسئولية الأمنية عبر المكان، ليشعر الناس بتواجد أمني واضح يمكن الوصول إليه، ويتضمن هذا المبدأ تناوب أفراد الشرطة في الخدمة من مكان لآخر.
3. التأكيد على الطابع الإنساني لوظيفة الشرطة، فيكون التعامل الودي والحازم في ذات الوقت هو القاعدة العامة، واستخدام القوة المشروعة هو الاستثناء ويقتضي ذلك:
أ ـ فتح قنوات التواصل المباشرة مع الجمهور، فضلاً عن الاتصال الإلكتروني في شبكات التواصل الاجتماعي.
ب ـ التخلص من الطابع البيروقراطي، والمبالغات الأمنية عند الحصول على الخدمات الأمنية.
ج ـ الالتزام بقواعد الاحترام واللياقة الاجتماعية التي تفرضها التقاليد عند التعامل مع الفئات الخاصة، والأقليات.
4. الأخذ في الاعتبار أن العمل الوقائي لمنع حدوث الجريمة هو معيار مهم في الحكم على كفاءة الدور المجتمعي للشرطة في تحقيق الأمن، فضلاً عن الاستجابة السريعة للبلاغات المقدمة من جميع المواطنين بصورة متساوية.
5. الاعتماد على دوريات الشرطة المترجلة أكثر من استخدام السيارات كلما أمكن لتحقيق الاتصال المباشر مع الجمهور لاسيما في مناطق التسوق والمناطق السكنية.
6. إشراك المواطنين في مناقشة الأوضاع الأمنية التي تخص مجتمعاتهم المحلية، بحيث لا تحتكر الشرطة وحدها الوظيفة الأمنية، للحصول على المساندة المجتمعية، وتجسير الفجوة بين الشرطة والجمهور، وذلك من خلال:
أ ـ منح المواطنين الراغبين في التعاون مع الشرطة الحق في حماية أحيائهم من خلال مساعدة الشرطة في الدوريات الأمنية.
ب ـ تفعيل التعاون مع الجمعيات الأهلية في مجال الوقاية من الجريمة.
7. العمل المشترك مع الأشخاص الأكثر دراية بشئون مجتمعاتهم المحلية بدرجة تفوق دراية الشرطة دون المساس بسيادة القانون، وخاصة الأقليات كالبدو والنوبة وبعض الطوائف الدينية والفقراء والمهمشين.
المحور الرابع : اعتماد قيم وقواعد النزاهة والشفافية ومواجهة الفساد :
وذلك من خلال الإجراءات الآتية :
1. يجب ألا يسمح لكل من يعمل بالشرطة بتداخل مصالحهم الخاصة مع مناصبهم، وعليهم أن يبرهنوا على نزاهتهم من خلال الاستعداد القوي لمقاومة أي إغراءات.
2. تجنب الفساد بكل صوره باعتباره جريمة جنائية خطيرة، ويلحق الضرر بسمعة الشرطة وثقة المواطنين في الحكومة بصفة عامة، واتخاذ التدابير الوقائية في كل قطاعات الشرطة وخاصة القطاعات التي تتيح فرصاً أكبر لتلقي الرشوة، والتدقيق في مراجعة إقرار الذمة المالية للعنصر البشري بالشرطة قبل التحاقهم وأثناء عملهم بالشرطة سنوياً، وإجراء حراك وظيفي مستمر لا يتيح الفرصة لنمو علاقات وشبكات مصالح قد تهئ الفرص للفساد.
3. بناء وتطوير آليات فعالة لرصد الفساد بين أفراد الشرطة، وتطبيق المعايير اللازمة لمكافحة الفساد، واهتمام مؤسسات مراقبة فساد الشرطة من المجتمع المدني والإعلام والمؤسسات الحكومية بشكاوى المواطنين ضد الشرطة، وإقرار حق أفراد الشرطة في تقديم الشكاوى عن إساءة السلوك داخل الجهاز، وإعلام الجمهور بالمعلومات ذات الصلة لتعزيز ثقة الجمهور في الشرطة.
المحور الخامس : احترافية وجودة العمل الشرطي :
وذلك من خلال مجموعة الإجراءات الآتية :
1. تمثيل الشرطة بكافة فئات المجتمع في العمل بها، وخاصة الأقليات على أن يشمل ذلك كافة السكان في كافة المناطق الجغرافية، وعدم ممارسة أي نوع من الاستبعاد لبعض الفئات الاجتماعية داخل السلم الوظيفي والرتب الشرطية.
2. عدم تدخل السلطة (الحكام) في اختيار المناصب القيادية داخل الشرطة، واعتبار تعيين كبار قيادات الشرطة شأناً داخلياً لها، وفي الوقت ذاته يحق للسلطات مساءلة الشرطة حول شفافية عمليات اختيارهم.
3. تجسير الفجوة بين الشرطة والجمهور من خلال التدريب، حيث يمكن لبرامج التدريب أن تتاح الفرصة لرفع وعي الشرطة بدورها في المجتمع، وبناء معتقدات شرطية على أسس ديمقراطية، ووجود قناعة لدى أفرادها أن المجتمع الديمقراطي يحتاج إلى شرطة تعمل بعقلية ديمقراطية.
4. مراعاة طبيعة عمل أفراد الشرطة في نيل حقوقهم، حيث يعملون في ظل ظروف صعبة تتسم بالمخاطرة، ومن ثم يحق لهم المكانة الاجتماعية اللائقة بما لا يشعرهم بالمهانة أو النقص مقارنة بغيرهم.