الأمن الجماعي في الواقع الدولي
اعداد : جارش عادل – باحث دكتوراه دراسات استراتيجية بالمدرسة العليا للعلوم السياسية (ENSSP) بالجزائر العاصمة، مختص في القضايا المتعلقة بالاستراتيجية والأمن والصراع.
- المركز الديمقراطي العربي
مقدمة
أدركت عدة دول في بدايات القرن التاسع عشر على ضرورة تحقيق التعاون الأمني لردع مختلف التهديدات الصلبة ولتخليص الشعوب من ويلات الحروب التي أنهكتها في الكثير من الحقب الزمنية، ولقد عزز هذا الطرح الفوضى الدولية وظاهرة الهلع والخوف التي شُحنت بها الشعوب آنذاك نتيجة للدمارالذي شهدته في الحرب العالمية الأولى الممتدة (1914-1919).
ومن هذا المنطلق فلقد سعت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى إلى تقنين ومأسسة السلم والأمن الدوليين من خلال إنشاء منظمة دولية تسعى إلى تحقيق السلم والأمن الدوليين في شكل صورة الأمن الجماعي( The Collective Security)، والذي تطورت تطبيقاته ووُسعت حدود استخداماته مع تطور الظاهرة الدولية والأمنية في مرحلة الحرب الباردة(The Cold War)، وبعد تفكك الإتحاد السوفياتي (USSR) رسمياً في مؤتمر مالطا 1989. .
و على هذا الأساس فإن هذه الدراسة في تقديرنا تحاول تقريب الصورة حول حقيقة هذا المفهوم، وأهم استخداماته في الساحة الدولية، وأبرز الانتقادات التي وجهت له في ظل خضوعه لازدواجية المعايير، وعموماًفإن هذا الورقة البحثيةتحاول الإجابة عن سؤال مركزي ورئيسي تمت صياغته كما يلي:
كيف يمكن دراسة أبرز مضامين ودلالات الأمن الجماعي في ظل تعدد تطبيقاته في الساحة الدولية؟
- أولاً: لمحة عامة حول الأمن الجماعي
- ثانياً: المقاربات النظرية الدارسة للأمن الجماعي
- ثالثاً: تأثير نهاية الحرب الباردة على تطبيقات الأمن الجماعي
- رابعاً: الانتقادات الموجهة لممارسات الأمن الجماعي
أولاً: لمحة عامة حول الأمن الجماعي
مفاد هذا المفهوم هو وجود نظام تحكمه قواعد انضباطية عالية بين مجموعة من الدول تهدف إلى الحفاظ على السلم والأمن الدوليين من خلال ردع مختلف التهديدات التي تمس هذه الدول لعدم قدرة نظام توازن القوى المتعدد الأقطاب في تحقيق هذه الغاية قبل الحرب العالمية الأولى (WW1)، ولقد طُرح هذا المفهوم رسمياً من طرف الرئيس الأمريكي “وودر وولسن”Wooder Wilsonفي مؤتمر فرساي 1919 بعد رفض الكونغرس الأمريكي مقترحاتهن ولقد تم تجسيدهتطبيقيا ضمن محاولات عصبة الأمم (Leauge Nations) لإرساء السلم والأمن الدوليين، كما تم تبنيه في المادة 43 من ميثاق هيئة الأمم المتحدة (UNO).
وإثر تفكك الاتحاد السوفياتي رسمياً في مؤتمر مالطا 1989اتسع الإطار المؤسساتي والتنفيذي للأمن الجماعي من خلال التنسيق مع حلف الناتو والمنظمات الإقليمية تماشياً مع التحولات القيمية والبنيوية في النظام الدولي، وبروز العديد من التهديدات الأمنية الجديدة التي تشكل تحدياً كبير أمام تطبيقات الأمن الجماعي، إلا أن هذا المفهوم مازال لحد الآن يخضع لسياسات البيت الأبيض الأمريكي.1
ويعرف “ماكماهون” Mcmahon الأمن الجماعي بأنه:
“محاولة جماعة دولية التحالف مع بعضها البعض للحفاظ على السلام على غرار ما حاولنا عمله في حلف الشمال الأطلسي“2.
إلا أن هذا التعريف يخلط بين الأمن الجماعي والحلف العسكري، فهذا الأخير؛ ما هو إلا أداة لتحقيق الأمن الجماعي كما أن صلاحية انتهائه تتعلق بالعامل البراغماتي أي “المصلحة “Interestمثل حلف “وارسو” VARSOVIE لكن الأمن الجماعي مازال مستمر لتعلقه بظاهرة السلم والأمن الدولي من أجل تفادي الحروب، وهو هدف أساسي ذا أولوية بالنسبة للمجتمع الدولي، وأحد الأسباب الرئيسيةالمساهمةفي نشأة “هيئة الأمم المتحدة” UNO حيث جاء في المادة الأولى من الميثاق “تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعالة لمنع الأسباب التي تهدد الأمن وإزالتها..”.3
- ويُعرف أيضا الأمن الجماعي بأنه عبارة عن:
“إرساء قواعد والتزامات جماعية تتعهد بموجبها كل دولة بالانضمام إلى الجهود المشتركة ضد أولئك الذين يهددون سلامة أراضي الدول الأخرى استقلالها السياسي“4.
- ولقد جاء في الموسوعة السياسية “عبد الوهاب الكيالي” على أن الأمن الجماعي هو:
” نظام تعمل به الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة بهدف الحرص على الأمن والسلام الدوليين وفض النزاعات بالطرق السلمية على أساس أن أمن كل دولة وسلامتها الإقليمية من الأمور التي تضمنها كل الدول“5.
وبناءًا على ما سبق يمكن أن نستشف مجموعة من النقاط التي تشكل الوعاء الحقيقي لمفهوم الأمن الجماعي على النحو التالي:
- أن مفهوم الأمن الجماعي يهدف إلى منع أي استخدام تعسفي للقوة ضد أي دولة منظمة لنظام الأمن الجماعي، ولاسيما من الدول المعادية التي تهدد السلم والأمن الدوليين، وبالتالي فهو “مظلة” Umbrellaللحفاظ على السلم والأمن الدوليين.
- تعد فكرة الأمن الجماعي فكرة مثالية قانونية سوقها الرئيس الأمريكي “وودر وولسن”WooderWilson في مؤتمر فرساي 1919 بعد رفض الكونغرس الأمريكي مقترحاته، ولقد تم تجسيدها بشكل فعلي ضمن محاولات عصبة الأمم (Leauge Nations) في إرساء السلم والأمن الدوليين من خلال تقنيين فكرة الأمن الجماعي في المادة 10 من ميثاق العصبة، ولقد تم الإشارة إلى هذا المفهوم من طرف العديد من المفكرين في حقب زمنية مختلفة.
- يجسد هذا المفهوم تلازمية أساسية، وهي: أمن الدولة = الأمن العالمي.
- يحظى هذ المفهوم بالاعتراف الدولي والمؤسساتي والأكاديمي والقانوني.
- يخضع هذا المفهوم لعدة اعتبارات براغماتية تسعى القوى الدولية لتحقيقها.
و على هذا الأساس يمكن تقديم تصور خاص حول الأمن الجماعي كما يلي:
“هو عبارة عن مفهوم قانوني ومؤسساتي (مرتبطة بتنظيم جماعي) نابع عن إرادة دولية جماعية يهدف إلى الحفاظ على السلم و الأمن الدوليين من خلال مجابهة مختلف التهديدات والمخاطر الصلبة اللينة “.
يضاف إلى هذا فإن تطبيق وتحقيق الأمن الجماعي يتطلب توفر مجموعة من الشروط يمكن اختصارها على النحو التالي:
- توفر الإرادة السياسية لتجسيد فكرة الأمن الجماعي
- ضرورة وجود قوة مشتركة بين الدول الراغبة في تطبيق الأمن الجماعي في النظام الدولي.
- القدرة على الردع والرد المبكر في حال المساس بأمن أحد الدول الأعضاء.
- ضرورة توفر الشرعية الدولية لتطبيق الأمن الجماعي، وهو إشكال كبير تواجهه هيئة الأمم المتحدة لارتباط ممارسات الأمن الجماعي بالعامل البراغماتي للقوى البراغماتية، وخاصة الولايات المتحدة (USA)
- الإحساس بوجود مخاطر تهدد الدول يحفز على قيام نظام الأمن الجماعي6.
وتجدر الإشارة إلى أن فكرة الأمن الجماعي ليست بالجديدة فهي معروفة في التاريخ الدولي، فلقد أُشير وأُطر لها فكرياً في العديد من الكتابات المصلحين والراديكاليين مثل “بيير دو بوا” 1306، و”دوق صولي” 1638، و”كانط” 1795 و”بنتام” 1789، إلا أن ظهورها الرسمي في الواقع الدولي كان منذ الحرب العالمية الأولى (WW1) ويُمكن تفسير أهم ممارسات الأمن الجماعي في الواقع الدولي من خلال المراحل التالية:
- المرحلة الأولى: الأمن الجماعي بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية
نشير بادي ذي بدء إلا أن مفهوم الأمن الجماعي برز رسمياً في مؤتمر فرساي 1919 من خلال تسويق الرئيس الأمريكي “وودر وولسن” لهذا المفهوم دولياً بعد رفض الكونغرس الأمريكي مقترحاته، ولقد لقي هذا المفهوم تأييدا واسعاً خاصة من طرف الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى بعد ازدياد الشعور الرسمي بأن الحرب التي طالت الجميع وأنهكت الشعوب لا بد أن يوضع لها حل جذري عن طريق تجسيد هذا المفهوم،وربطه بمنظمة دولية لها القدرة على التأثير والتي تجسدت في عصبة الأمم فيما بعد حيث كان أحد أولوياتها هو الحفاظ على السلم والأمن الدوليين وتم تقنين ذلك في المادة (10) من ميثاق العصبة7، إلا أن هذه الأخيرة يعتبر سجلها هزيل في ممارسة الأمن الجماعي والحفاظ على السلم والأمن الدوليين لما يلي:
- وجود فجوة كبيرة بين النصوص القانونية المتضمنة لكيفية تحقيق الأمن الجماعي وتجسيده وبين ممارسات الدول الكبرى له .
- غياب الوسائل والقدرة على التأثير من طرف عصبة الأمم، وهما عنصران أساسيان مساهمان في تحقيق الأمن الجماعي، ويظهر ذلك من خلال فشل عصبة الأمم في تسوية وحل عدة نزاعات بعدة مناطق (منشوريا 1931، النمسا عام 1938، فلندا 1940..، وغيرها).
- توقف فعالية عصية الأمم ونجاعتها في فرض السلم والأمن الدوليين لانسحاب اليابان وألمانيا عام 1933وإيطاليا عام 1937،وطرد الإتحاد السوفياتي USSR عام 1939، واندلاع الحرب العالمية الثانية World War 2 .8
- المرحلةالثانية: مرحلة الحرب الباردة( The Cold War)
تبين للدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية(WW2) أنّه لابد من وجود صيغة جديدة لترتيب العلاقات بين الفواعل الدولية في إطار نظام دولي جديد يتميز بالطابع المأسسي بعدما خلفت الحرب دمار وخسائر كبيرة بين الدول لاسيما في أوروبا الغربية والاتحاد السوفيتي.
وبالفعل تمّ تأسيس هيئة الأمم المتحدة (United Nations Organization) سنة 1945كمنظمة دولية تسعى للحفاظ على السلم والأمن الدوليين، وتعمل على تحقيق عدة أهداف ولعب عدة أدوار دولية في مختلف المجالات سطرتها الدول الأعضاء لاسيما القوية والمنتصرة منها في الحرب العالمية الثانية(WW2)، ومن أهم هذه الأدوار هي لعب دور مركزي لتحقيق الأمن الجماعي، فهل بالفعل ساهمت منظمة الأمم المتحدة في تفعيل نظام الأمن الجماعي في فترة الحرب الباردة؟
سارت منظمة الأمم المتحدة نفس خطى عصبة الأمم تقريبا ًفي فترة الحرب الباردة حيث تضمن الفصل السابع من ميثاقها ضرورة وجود تدابير جماعية قصرية ضد الأنظمة المهددة للأمن والسلم الدوليين، لكن بقت النصوص القانونية حبر على ورق، فبالرغم من تفعيل الأمن الجماعي في الحرب الكورية 1950،فهو لم يخضع للشرعية الدولية بسبب تغيب الإتحاد السوفياتي واستبعاد الصين الشعبية، كما أن الأمم المتحدة التزمت بالحياد نظراً لأن الكرة كانت في ملعب المعسكرين اللذان يتحكمان بمتغيرات النظام الدولي، وما ميز الأمن الجماعي في هذه المرحلة ما يلي :
- الأمن الجماعي لم يصبح أداة ردع (Deterrence) بل أصبح أداة إرغام (Coercion) يُسير وفق أفضليات سياسات المعسكر الغربي وليس أفضليات أعضاء الأمم المتحدة، وبالتالي فإن شرعية ممارسة الأمن الجماعي هي شرعية غربية جزئية .
- فشل نظام الأمن الجماعي في الحد من الحروب بالوكالة.
- فُعل نظام الأمن الجماعي بتوافق غربي سوفياتي للحد من الصراع العربي الإسرائيلي عبر نشر قوات أممية تفصل دول الطوق بالكيان الصهيوني للحد من مخاطر مستقبلية تمس الأمن الإسرائيلي.
- أصبح نظام الأمن الجماعي أداة للحفاظ على الوضع القائم (Static)،وحل محله نظام النفوذ في هذه المرحلة.
- تصاعد حدة النزاعات الداخلية ذات البعد الثقافي والهوياتي أصبح هاجس وتحدي كبير أمام الأمم المتحدة9 .
- المرحلة الثالثة: مرحلة ما بعد الحرب الباردة
ظهرت بوادر انتهاء الحرب الباردة مع انعقاد مؤتمر مالطا في ديسمبر 1989، وتحقق ذلك مع التوقيع على ميثاق ندوة باريس للأمن والتعاون الأوربي في 23 ديسمبر 1990، وتصريح كل من “ريغن” و”غورباتشوف” بأن الحرب الباردة انتهت مما انجر عنه فرض الإرادة الأمريكية في النظام الدولي وبالتالي أمركة نظام الأمن الجماعي الذي أصبح يتميز بما يلي :
- ظن البعض أن الأمن الجماعي في هذه الفترة قد بلغ سن الرشد عام 1990تزامناً مع حرب الخليج التي تحالفت فيها 28 دولة ضد العراق بعد غزوه الكويت، إلا أن هذا التفاؤل المبكر حول الأمن الجماعي كان يخفي وراءه رغبة قوية للولايات المتحدة للتخلص من ركودها الاقتصادي عبر تسويقها للأسلحة في المنطقة وخلق حليف نفطي آخر “الكويت”.
- الانتشار الواسع للمنظمات الإقليمية بفعل العولمة والتطور التكنولوجي فرض على هيئة الأمم المتحدة ضرورة التنسيق و التعاون مع الهيئات الإقليمية والجهوية لمواجهة مختلف التهديدات، وهذا لا يعني تقسيم السلام الدولي على عدة أجزاء.
- فرض ظهور التهديدات الجديدة خاصة منها اللاتماثلية وتصاعد حدة النزاعات ذات الطابع الثقافي والديني وقضايا الأمن الإنساني ضرورة تكييف الأمن الجماعي مع مختلف التحولات الجديدة، فتكييف الأمن الجماعي مع قضايا الإرهاب عبرت عنه الحرب الأمريكية مع دول حليفة ضد أفغانستان10.
ثانيا: المقاربات النظرية الدارسة للأمن الجماعي
ارتبط الأمن الجماعي بالمدرسة القانونية والمثالية، فالمدرسة القانونية تدعو إلى تقنين العلاقات الدولية بمجالاتها المتعددة وتسوية النزاعات بالطرق السلمية واستعمال القوة في إطارها المشروع كرد العدوان والدفاع الشرعي…،كما أن المدرسة المثالية رأت أنه لابد من إنشاء منظمة دولية تعمل على إحداث التقارب بين الشعوب و الثقافات المختلفة، وتحريم الحرب عبر تشكيل تحالف جماعي للدول الديمقراطية ضد الأنظمة التي تهدد السلم والأمن الدوليين11، ونجد من بين المفكرين الذين أشاروا وتحدثوا عن الأمن الجماعي ضمن المثالية ما يلي:
- “كانط” Kant : تحدث عن “مشروع السلام” وأنه لا من تأسيس نظام جماعي يعمل على تجسيدهوضرورة تقنين العلاقات الدولية كما أنه يشجع قيام الأنظمة الجمهورية الديمقراطية كطريق للحكومة العالمية.
- “جريمي بنتام”Jeremy Bentham: دافع عنالأخلاق في العلاقات الدولية، وطرح نظرية الحكومة العالمية التي تتوقع إمكانية وجود مؤسسات مركزية عالمية لها من التأثير والفعالية ما يخولها ضبط المصالح الدولية، ومنع وقوع الحرب، ويؤيده في هذا الرأي “غرينفايل كلارك”Grenville Clark و “لويس سوهن” Louis Sohnاللذين وجدوا في الحكومة العالمية نظاما فعالاً من القانون الدولي الجبري الذي يقتصر تطبيقه على الأمور المتصلة بالحرب، ويقصد هنا بالقانون الدولي الجبري إضفاء طابع الإلزام والقوة عن طريق قوات مشتركة من طرف مجموعة من الدول إذا استلزم ذلك .
- “الفلسفة الويلسونية”Wilisonianism : رأى ولسن في مبادئه الأربعة عشر أنه لا بد من تشكيل هيئة دولية تعمل في الحفاظ على السلم و الأمن الدوليين.
أما عن المدرسة الواقعية فتصورها للأمن الجماعي تراه يعبر عن إرادة سيطرة القوي على الضعيف، لذلك نجدها تشجع نظام توازن القوى كآلية للحفاظ على السلم والأمن الدوليين عبر التسلح ونشر الأحلاف العسكرية.
أما عن الليبرالية فلقد اتجهت للبعد الاقتصادي الذي تراه يكفل السلم والأمن الدوليين من خلال تشجيعها على عملية الاعتماد المتبادل و التجارة والمأسسة الاقتصادي12.
تأثير نهاية الحرب الباردة على تطبيقات الأمن الجماعي
غلب على العلاقات الدولية منذ الحرب العالمية الثانية حرب باردة بين المعسكر الغربي (الولايات المتحدة الأمريكية) والمعسكر الشرقي (الاتحاد السوفياتي)، إذّ حاول كل طرف نشر إيديولوجيته وتثبيتها في دول العالم ،إلاّ أنّ هذه الحرب انهارت مع مؤتمر مالطا 1989م مماّ جعل الولايات المتحدة الأمريكية تسيطر بشكل نسبي على مجرى العلاقات الدولية ناهيك عن مجموعة من التغيرات الهامة الدولية بعد الحرب الباردة، وتتمثل فيما يلي:
-التغير في النسق الدولي : ما يميز البيئة الدولية بعد الحرب الباردة أنّها أصبحت تعيش في حالة من الفوضى نظراً لغياب سلطة مركزية فعالة تعمل على تنظيم العلاقات الدولية.
– التغير في طبيعة الفواعل: لم تعدّ الدولة الفاعل الوحيد المحتكر للعلاقات الدولية بل أصبحت تتقاسم سيادتها مع مجموعة من الفواعل الأخرى التّي تؤثر على صنع قراراتها الداخلية والخارجية كالمنظمات الدولية، الشركات المتعددة الجنسيات، الفرد…
– التغير في طبيعة النزاعات: لم يعدّ مفهوم الحرب الإيديولوجية سائداً بكثرة بل طفت إلى السطح النزاعات الإثنوهوياتية،خاصة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وبروز العديد من الحركات الانفصالية التّي تطالب بتشكيل دول قومية.
– بروز المتغير الثقافي كعامل مهم في العلاقات الدولية إضافة إلى كلّ من المتغير الاقتصادي والعسكري .
– بروز العولمة التّي تعني تنميط العالم وفق أنموذج واحد، بحيث أن لها تأثيرات إيجابية وسلبية. 13
إلا أن السؤال المركزي هنا هو كيفية تأثير التحولات الدولية أثناء وبعد نهاية الحرب الباردة في ممارسات الأمن الجماعي؟
اعتقد البعض أن الأمن الجماعي قد بلغ سن الرشد بعد الحرب البارد لاسيما مع الشعارات الأمريكية التي تدعو للسلام، الحرية، الفكر الليبرالي،ومعادية الأنظمة التي تهدد السلم و الأمن الدوليين فكانت حرب الخليج أو عاصفة الصحراء عام 1990 بمثابة تجربة لممارسة الأمن الجماعي في الواقع الدولي، لكن سرعان ما تبين للعيان ومختلف المفكرين أن الأمن الجماعي لم يجد الانطلاقة الحقيقة لتوفير السلم والأمن الدوليين ذلك لأن هناك هوة كبيرة بين التطبيق والنصوص القانونية المتفق عليها لممارسة الأمن الجماعي.
ولقد طرح ايضاً بعد فترة الحرب الباردة مفهوم “الأمن التعاوني” بقوة لا سيما من طرف “خزانات الفكر” Think Thanks، ويقصد بالأمن التعاوني أنه لا بد من الحفاظ على السلم والأمن عبر المؤسسات الإقليمية بالتنسيق مع الأمم المتحدة كتدخل فرنسا وقوات الإيكواس بمالي في11 ديسمبر 2013م بناءاً على القرار الأممي2085،كما ربط الأمن الجماعي ممارستياً بالعديد من المفاهيم الأخرى مثل الأمن الإنساني والإرهاب والتدخل الإنساني.14
دراسة نقدية لممارسات الأمن الجماعي
يمكن القول أن الأمن الجماعي بمثابة ورشة مازال يحتاج للكثير من الإصلاحات، حيث قدمت له عدة انتقادات يمكن اختصارها فيما يلي:
- خضوعه لازدواجية المعايير
- يغلب عليه الطابع البراغماتي وترتبط ممارساته بمصالح البيت الأبيض الأمريكي
- وجود هوة أو فجوة (Gap) بين الممارسة والتطبيق
- هو نظام تستغله الدول الكبرى لتقسيم الكعكة لا سيما في منطقة قوس الأزمات
خاتمة
منذ ظهور الدولة القومية وحتى يومنا هذا جرت محاولتان لتطبيق نظام دولي للأمن الجماعي، فقد ارتبطت المحاولة الأولى بنشأة منظمة عصبة الامم بينما ارتبطت الثانية بنشأة منظمة الأمم المتحدة .
وإذا كانت المحاولة الأولى قد أخفقت نتيجة لفشلها في تسوية وإدارة النزاعات الحيلولة، فإن المحاولة الثانية ما تزال جارية نظريا على الأقل، لأن الأمم المتحدة ما تزال موجودة مع أن الواقع يقول أن منظومة الأمن الجماعي ظلت منذ نشأة الأمم المتحدة محكومة بموازين القوة في النظام الدولي والتي طرأ عليها تطور كبير والذي أدى إلى تطور مماثل في مصادر تهديد الأمن الدولي والعالمي .
وهذا ما يستدعي إعادة النظر في كل مكونات وتفاصيل منظومة الأمن الجماعي بدءاً بالمبادئ والقواعد العامة التي تقوم عليها وانتهاء بمؤسساتها وآليات صنع القرار فيها.
ويمكن القول أنه وفي هذا الوقت تنوعت مصادر التهديد ( الإرهاب، الجريمة المنظمة، تلوث البيئة، ارتفاع حرارة الأرض، الأمراض العابرة للقارات، الجوع والفقر والتخلف…الخ )، وفي زمن العولمة الذي حول العالم إلى قرية يتعين أن تصبح للهيئة المسؤولة عن السلم والأمن العالمي سلطات وصلاحيات أكثر تمكنها من معالجة كل مصادر التهديد السابقة وليس فقط التهديد العسكري.
إضافة إلى أن مجلس الأمن بتشكيله الراهن لا يعبر عن خريطة توزيع موازين القوى في النظام الدولي الجديد وبالتالي فهو ليس جهازا ممثلالحقيقة النسق الدولي الراهن، وسلطاته غير مرهونة بأي نوع من المساءلة السياسية أو القانونية، وهذا هو المأزق الذي تواجهه منظومة الأمن الجماعي.
الإحالات:
- إيفانس غراهامونوينهامجيفري ،تر، مركز الخليج للأبحاث،قاموس بنغوين للعلاقات الدولية ، (دبي:مركز الخليج للأبحاث ، 2008)، ص 83.
- عامر مصباح ، نظريات التحليل الاستراتيجي و الأمني للعلاقات الدولية ،(القاهرة: دار الكتاب الحديث، 2010)، ص 37.
- حسينسهيل الفتلاوي، الأمم المتحدة – أهداف الأمم المتحدة ومبادئها،(عمان: دار ومكتبة الحامد للنشر والتوزيع، 2010
- إيفانس غراهامونوينهامجيفري ، المرجع السابق ، ص84.
- عبد الوهابالكيالي، الموسوعة السياسية ، ج1،(بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،1981)، ص330.
- عامر مصباح ،المرجع السابق ، ص37.
- عبد الوهاب الكيالي، مرجع سابق، ص 83.
- المرجع نفسه، ص 84.
- المرجع نفسه، ص84 .
- عامر مصباح ،المرجع السابق ، ص 39.
- ScoteBurchill , and authors ,Theories of International Relations, Balgrave academic , 2005.p 89.
- عدنان حسين السيد، نظرية العلاقات الدولية، (بيروت:المؤسسة الجامعية للدراسات النشر والتوزيع ، 2009) ، ص 87-111.
- إيفانس غراهامونوينهامجيفري ، المرجع السابق ، ص84.
- المرجع نفسه ،ص84.