تاريخيّة العنف الدّيني في تونس بعد الثورة
اعداد : عبيد خليفي – باحث جامعي من تونس مختص في الاسلام السياسي والجماعات الجهادية المسلحة
- المركز الديمقراطي العربي
المقدمة:
تعالج هذه الدراسة بدايات الفعل الجهادي في تونس ما بعد ثورة 14 جانفي 2011، وهو فعل حركي لتيّار إسلامي جهادي جمع بين خبرة الخارج للعائدين من تجارب التنظيمات الجهادية العالميّة في أفغانستان واليمن والعراق، وبين طموح الدّاخل للخارجين من السجون التونسية تحت طائلة قانون مكافحة الإرهاب الذي زجّ بأكثر من ثلاثة آلاف شاب في سجون نظام زين العابدين بن علي، وتسعى هذه الدّراسة إلى ترصّد الظاهرة بروزا وإنتشارا وإنتصارا، تلك البدايات التي رسمت معالم العنف الدّيني في تونس بعد الثورة.
بعد الثورة مباشرة تداولت الأوساط العارفة في الحقل السياسي والأمني مسألة على غاية من الأهميّة والخطورة بمكان، وهي مسألة إنتشار السّلاح في تونس وتهريبه من الأراضي اللّيبيّة نحو البلاد التونسية، وبعيدا عن التّحقيقات الصحفيّة والمتابعات الإخباريّة التي تحاول أن تكشف بعضا من تفاصيل المشهد تشخيصا لا تحليلا، نجد أنفسنا في لحظة الذّعر والرّعب التي تُسلّط علينا حالة من التوتّر قد يغيب معها العقل والتحليل العميق للأبعاد الخطيرة لهذه المسألة، لكنّ مسافة الباحث العارف تفرض علينا التفكير في تجلّيات هذه الظاهرة وتداعياتها دون تشنّج أو تعصّب وبكلّ رويّة دون أحكام مُسبّقة لفهمها أوّلا، والتعجيل بالتصدّي لها وإيجاد الحلول لها ثانيا، وذلك قبل وقوع المحظور، وعلينا أن لا نستسلم لتلك التطمينات التّبسيطيّة حين ترى بعفويّة طفوليّة أنّ البلاد التونسيّة محصّنة عن السّلاح ومفرداته، وهي ليست أرضا للإقتتال الحزبي أو الطائفي، لكنّ التاريخ يقول أنّ الفتنة تبدأ بإغتيال فرديّ ذو دوافع سياسيّة عقائديّة، فبعد جوّ من التشنّج المُمنهج بخلايا مدنيّة تحت مُسمّى “روابط حماية الثّورة” جاءت عملية سحل السياسي لطفي نقّض بعد قتله، لتتبعها عمليّة نوعية أشبه بجريمة دولة عند إغتيال السياسي اليساري شكري بلعيد صبيحة 6 فيفري 2013، تلاها إغتيال ثاني للسياسي القومي محمّد البراهمي صبيحة 25 جويلية 2013، ثمّ سقوط ثمانية جنود في كمين وذبح بعضهم والتنكيل بجثامينهم، وهو ما أخذ يرسّخ ثقافة تبدو غريبة عن الحقل السياسي التونسي، فهل تجاوزنا مخاطر الفتنة والإقتتال المسلّح؟ أم هي الفتنة نائمة حتّى حين، وتنتظر من يُوقدها؟ كل ذلك ونحن في خشية أن تتحوّل تونس من بلد الأمن والآمان القمعي برعاية الدّولة البوليسيّة نحو بلد الرّعب الحرّ رهين الفوضى والإرتجال ثم الإقتتال.
- فوضى السّلاح:
إنّ تونس التي لم تعرف فوضى السّلاح بعد الإستقلال تحت وطأة إرادة سياسيّة متصلّبة وعنيفة أحيانا، سعت إلى الإستحواذ والتفرّد بالعنف تسلّطه على معارضيها (يمكن التذكير بموقف دولة الإستقلال من حمل السلاح تجاه الثوّار أو الفلاّقة، والصراع البورقيبي اليوسفي، أحداث قفصة..)، تجد نفسها اليوم وجها لوجه أمام أنواع شتّى من الأسلحة التي كان التونسي يشاهدها عبر وسائل الإعلام، أو يسافر/”يهاجر” نحوها مقاتلا/مجاهدا، وبالتالي نجد أنفسنا بين الحيرة والإستهتار والخوف موزّعين بلا تأمل أو تفكير في ما قد يدخل البلاد في دوامة الإقتتال السياسي بأدوات صارت في المتناول على مستوى الأفراد والجماعات(1).
تشير المغامرات الصحفيّة والصدمات الأمنيّة إلى دخول كمّ هائل من الأسلحة المتنوّعة موزّعة عبر خارطة جغرافيّة توحي بالتخطيط والتنظيم المنهجي ذو أبعاد قصديّة تتداخل فيها المصالح الماليّة بالسياسية مع رؤى عقائديّة كامنة في المجتمع التونسي، ولدى فئة شبابيّة تشكّلت هويّتها عبر وسائط متعدّدة ، هناك في مدن الجنوب الشرقي للبلاد التونسيّة (بن قردان وما حولها) ينتشر السلاح بصورة فلكلوريّة الظاهر منها يشي بالمخفيّ من حيث النوعيّة والكميّة، وليس الحديث عن أسلحة فرديّة محدودة، ولكنّ الحديث عن مخازن السلاح يضخّم من هوله، وتشتدّ المخاطر حين يبلغ الإحتمال درجة القول بأنّ هذا المجال الجغرافي خارج عن سيطرة الدولة التونسيّة، التي عرفت هزّات أمنيّة بعد الثورة، ولكن في إعتقادي أنّ الطرف السياسي/الجهادي الذي يقف خلف هذا الإمداد الحربي يفكّر في هذا المجال الجغرافي وفق ثلاثة فرضيات ربّما كانت متلازمة من حيث الوسيلة والغاية:
فرضيّة أولى: أن هذا المجال هو بوّابة عبور وإمداد وتموين تجاه مدن المواجهة ربّما كان مقصدها أطراف العاصمة وأحوازها، أو الإنتقال لمعسكرات الكُمون والتدريب في جبال “الشعانبي”(2).
فرضية ثانية: أنّ هذا المجال “قاعدة” للجهاد المستقبلي بالنظر للسند الذي قد يأتي من الجار الشرقي (ليبيا) وما تحته في المثلث التونسي اللّيبي الجزائري.
فرضيّة ثالثة: تكوين المقاتلين وتدريبهم بالمعسكرات الظرفيّة في مرحلة أولى، ثمّ تذويبهم وتلاشيهم في المدن والقرى في مرحلة ثانية، وهو ما قد يمنح التحصين لتلك التنظيمات الجهادية.
كما كشفت المعطيات الأخيرة عن انتشار واسع للسلاح في مناطق معيّنة من وسط البلاد (سيدي بوزيد، القيروان..)، لكن الأخطر هو مخازن الأسلحة في الحزام الدّائري بالعاصمة التونسيّة، وهو ما يثير الرّيبة والمخاوف، فالتيّار الجهادي في تونس يكتفي اليوم بالإستعراض والتّمكين، ولم يبلغ بعد مرحلة التّمكّن والمواجهة، وهذا لسبب يقيني تبريري لديهم، وهو أنّ حكومتنا حكومة إسلاميّة بالنظر لمرجعياتها، لكن ماذا لو تنحّت هذه الحكومة إنتخابيا، وجاءت مكانها حكومة “علمانية”، وماذا لو ذهبت الإجتهادات الفقهيّة الجهاديّة إلى إعتبار هذه الحكومة منحرفة عن الدين وبالتالي تكفيرها ورميها في دائرة “جاهليّة المجتمع”؟ سيكون ذلك منعرجا خطيرا في مسار الأحداث وبالتالي التعجيل بالمواجهة والصّدام.
واليقين لدينا أنّ هذا السلاح يخرج من دائرة الفوضى نحو التنظيم المحكم الواعي للمقاصد والغايات، ولا نكاد نجزم أنّ طرفا بعينه يرى في هذا السلاح مصيره وأفقه المستقبلي لتحقيق مشروعه في إقامة دولة دينيّة كما يعتقد الكثيرون، بل يفترض أنّ التّرهيب المتبادل بين طرفي الصراع رجال النفوذ المالي والسياسي ورجال الدّولة الدينيّة القادمة كان بوّابة لخلق أفق الصراع في أبعاده الإقليميّة والدوليّة، وقد تدعّم ذلك بظهور نواة “تنظيم الدولة الإسلاميّة” في المشرق في سوريا والعراق مع طموح جارف لتوحيد الفعل الجهادي في المنطقة العربية والإسلامية.
نعتقد أنّ طرفا آخر يدخل في معادلة السّلاح والتسليح، فلئن كنّا نذهب مباشرة في إتهام صريح للتيّار الدّيني المتطرّف بالرغبة في التسلّح، فإنّنا لا نستبعد الطرف الثاني الذي كان ضحيّة للثورة ونقصد به مراكز النفوذ المالي والسياسي والأمني للعهد السّابق، فهذه المراكز المتنفّذة لم تغادر البلاد ولم تهرب وخيّرت الإنحناء أمام عاصفة الثّورة والمرور نحو المواجهة في وقت لاحق، ومن ثمّ فهي لن تسكت وتبقى مكتوفة الأيدي أمام عدوّ يتربّص بها ويتسلّح لنسفها وتقويض مصالحها، إنّ رأس المال الفاسد مُستعد لإسالة الكثير من الدّماء في سبيل المحافظة على مصالحه، ومن الإسفاف الإعتقاد أنّ النظام المافيوزي قد تفكّك نهائيا لكي يعيد إنتاج نفسه بنكهة ثوريّة، فسياسة توريط المُورّط أصلا تبدو خيارا ممكنا، والفوضى الأمنية وإشاعة الخوف فضاء لإنعاش الطموحات السياسيّة السلطويّة، ليبقى الشعب التونسي أسيرا لتلك المعادلة التحكّميّة: الشعور بالأمن مقابل التنازل عن الحريّة، وهو شعار رفعه طرف سياسي يستجمع إرث النظام السّابق (حزب نداء تونس).
طرفان يتسلّحان وفق دافعين إثنين هما: العقيدة والغنيمة، فالعقيدة هي التي تدفع بطرف سياسيّ ديني إلى تسليح إخوانهم في الدّين والجهاد لتحقيق حلم الدولة الإسلاميّة، والغنيمة هي التي تدفع تجّار السلاح للّعب في هذا المكسب المالي الوفير نحو تأمين أصحاب مراكز المال والأعمال.. ولعلّ شبكات التهريب زادت من تعقيد الملف الأمني للإرتباط العضوي بين المُهرّبين والإرهابيين.. هنا بالضبط لن تكون تونس مجال عبور لتلك الأسلحة ولكنّها صارت قرارا ومستقرّا للسلاح، فقد كشفت بعض المصادر أنّ الكميّات المهولة للسلاح القادم من الغرب ومن قطر الدّاعم للثورة اللّيبيّة لم يتحوّل بأكمله لليبيا إبّان ثورتها، جزء من ذاك السلاح بقي في تونس على ذمّة الوسطاء الذين لا يعرفهم أحد، وجزء آخر من ذاك السلاح هاجر ليُزيل عن ليبيا نظام معمّر القذّافي، ثمّ عاد لتونس من خلال الجبهة الشرقية وانتشر في كل أرجاء تونس، بين جبالها ومدنها، ولا أحد يعرف مصيره وجدواه(3)، ورغم المنجز الأمني في الكشف عن عديد مخازن السلاح فإنّ شبكات التهريب تظلّ هي سيّدة على الأرض.
- لغز وزارة الدّاخليّة: من يحكم من؟
لأكثر من نصف قرن كانت وزارة الدّاخليّة أو “الوزارة الرّماديّة” وزارة النفوذ الأقوى في تونس، تجثم على قلب العاصمة لتستأثر بلبّ شارع الحبيب بورقيبة كفضاء للرّعب والرّهبة، وبتنظيم إداري مُحكم ومُعقّد ورثت دولة الإستقلال عن دولة الحماية الفرنسيّة هذا الجهاز الهيكلي بكلّ فروعه ووحداته وكوادره، وظلّت هذه الوزارة هي العصب الرّئيسيّ للحكم في تونس، وتغوّلت على المشهد السياسي والإجتماعي زمن بن علي الذي ترعرع فيها مُتدرّجا في مناصب عليا ومُحاطا بقيادات أمنيّة وجهاز بوليس سياسي يُسيّر البلاد ويرسم ملامحها وسياساتها، وفي ظلّ حياد المؤسّسة العسكريّة وتقاليدها القائمة على النّأي بالنفس كانت وزارة الدّاخليّة هي الحاكم الفعلي لتونس، وأصبح المجتمع بهياكله وشرائحه وتنظيماته الحزبيّة والمدنيّة تحت سيطرة وزارة الداخليّة، بل في خدمتها وطوع أمرها وتوجيهاتها، وصار الحزب الحاكم، حزب التجمّع الدستوري، خليّة تشتغل لصالح هذه الوزارة أو هو الواجهة المدنيّة لحكم بوليسيّ.
لقد عجزت الثّورة عن تفكيك المنظومة الأمنيّة الصارمة لهذه الوزارة، وخرجت بريئة من كل شبهة أو تهمة في قتل المتظاهرين، بإستثناء بعض الأفراد من ذوي الرّتب البسيطة والذين وقع التضحية بهم كأكباش فداء، عجزت الثورة عن ذلك لأنّ الحكّام الجدد من حكومة السّبسي إلى حكومة التروكيا بقيادة حركة النّهضة لم تكن لهم إرادة ثوريّة في تفكيك هذا اللّغز/اللّغم وإصلاحه في المرحلة الإنتقاليّة، ومن كان هاجسه السيطرة والسلطة المُطلقة سيكون بالضرورة نفعيّا لا إصلاحيّا وثوريّا، ومن ثمّ فإنّ الإرتباك الحاصل في المنظومة الأمنيّة هو معركة خفيّة لأطراف ترغب في إعادة هيبة المنظومة والجهاز لصالح مشروع السيطرة والحكم.
بعد إنتخابات المجلس التأسيسي في 23 أكتوبر 2011 خضعت وزارة الدّاخليّة للتجاذبات السياسيّة بعد محاولة الحزب الفائز في الإنتخابات (حركة النهضة الإسلامية) إختراق هذا الجهاز التنفيذي وعيا منهم أنّ مقاليد الحكم تمرّ عبر السّيطرة على هذا الجهاز الأمني، وإن يكن هذا الحزب الفائز قد توغّل وتغوّل في هذا الجهاز بشكل لافت عبر تلك التّعيينات الولائيّة وإستمالة البعض الآخر من القيادات الأمنيّة الفاسدة بالإغراء والتّهديد، لكن بروز طرف سياسي آخر (حركة نداء تونس) أنعش تلك القيادات الأمنية المُنكمشة على نفسها، وبرزت النقابات الأمنيّة بتعدّدها وتنوّعها لتزيد من قتامة المشهد الأمني، فما بين التصريحات الرّسميّة للوزارة والتصريحات الجانبيّة للنقابات أو بعض التسريبات صار لدينا اليقين أنّ الحكّام الجدد صاروا أسرى لدى الجهاز الأمني، وأن لا سلطة لهم على الجهاز التنفيذي، فدخلوا في نوع من المهادنة والمراوغة والعجز ورهانهم في ذلك التغلغل ببطء في دواليب الجهاز الأمني، وتجلّى ذلك في الوثائق التي وقع تسريبها من وزارة الداخليّة عن التحذير من طرف المخابرات الأجنبيّة من إغتيال الشهيد الحاج محمّد البراهمي، وبالتالي سقوط هذا الجهاز في التواطؤ وتوريط الطرف الحاكم.
إنّ العنف الرّمزي المُسلّط على الشعب التونسي بالخوف من جهاز أمني لا ثقة للتونسي فيه، يجعله بين نارين: نار إرهاب الدّولة العميقة، ونار إرهاب الجماعات المسلّحة، وبالتّالي سيندفع هذا الشعب إلى الإنطواء بحثا عن الأمل وعزوفا عن مرحلة الإنتقال الديمقراطي التي طالت بالنسبة للمواطن البسيط وغاب معها الشعور بالأمن والآمان الذي كان يشعر به زمن النظام البائد، والإحباط تجاه ثورة أنجزها وندم عليها أحيانا، لأنّ الثورة صارت قرينا بالفوضى والإرهاب.
لا أعتقد أنّ الفاعل السّياسي الحالي أو حتى القادم في الإنتخابات القادمة قادر على تجاوز حاجز وزارة الدّاخليّة بعنفها المّادي وإرثها التسلّطي ما لم يقع تفكيك المنظومة الأمنيّة القادرة على صنع الإرهاب لإستعادة سيطرتها وبسط نفوذها، ولنا في المثال المصري خير دليل على سطوة المؤسّسة العسكريّة وتحكّمها في الشأن السياسي وإجهاض المسار الديمقراطي بكلّ عيوبه وهناته، ونخشى أن يكون الفاعلون السّياسيون رهائن لدى المؤسّسة الأمنيّة التي تسعى إلى إستعادة هيبتها وقوّتها وفعلها في المشهد السياسي الحاضر، ويقيني أن الجهاز الأمني واقع لا محالة في مربّع العنف المُرعب الذي تعيشه تونس اليوم إن لم يكن تنفيذا وتخطيطا كان بالتواطؤ والصّمت المشبوه.
- العنف المرتدّ:
حتى نفهم السّياق العام لمسألة السلاح في تونس كان لزاما علينا النظر بعمق في المجال الجيو-سياسي لتونس ما بعد “الرّبيع العربي”، ولنقُل بكل تواضع ودون تجريح لثورة تونس أنّ الثورة التونسيّة كـثورة معزولة لا قيمة لها بذاتها دون عمقها الجيوستراتيجي، ولكنّ الثورات التالية هي التي عمّقت دلالات التحوّلات السياسية في المنطقة خاصة بعد صعود تيارات إسلاميّة إلى سدّة الحكم في مصر خاصة (المشهد الليبي مازال غامضا: ليبراليون على الكراسي وإسلاميون في الشوارع)، والتي كانت إلى وقت غير بعيد خيارا مُستبعدا في منظومة السيطرة الغربية على المجال العربي الإسلامي، إنّ اللقاءات التي جمعت القيادات الإسلامية من مصر وتونس بصانعي القرار الأمريكي في العشريّة الأخيرة عبّرت عن “تقارب كبير في وجهات النظر” والدّفع بنفس التعهّدات والإلتزامات التي كانت الأنظمة السابقة تمنحها لأمريكا، والطريف في الأمر أنّ التعهّد بمحاربة الإرهاب لم يعد له معنى بإعتبار أنّ الحكّام الجدد هم من سيواجهون الإرهاب في بلدانهم ومجالهم، وباختصار أن تعامل الغرب مع الإسلام السياسي هو شرّ لا بدّ منه، ولا بدّ من تطويعه للمصالح الإستراتيجيّة لأمريكا، وهذا ما فعلته الحكومة التونسيّة حين صنّفت تنظيم “أنصار الشّريعة” كتنظيم إرهابي(4).
حدث تحوّل مهم في الإستراتيجية الأمريكيّة-الغربيّة تجاه مسألة العنف الديني الإسلامي (الإرهاب)، وهو تحوّل جاء ثمرة دراسات عميقة أنجزتها مراكز البحوث الأمريكيّة بعد تفجيرات برجي التجارة العالمي، وتفجيرات مدريد، وعمليات القاعدة في العراق واليمن وشرق آسيا… وغاية هذه الإستراتيجية هي:
- نقل مجال معركة “الإرهاب” من الجغرافيا الأورو-أمريكيّة إلى الجغرافيا العربية الإسلامية، وتحويل الصّراع من صراع إسلامي-غربي إلى صراع إسلامي- إسلامي، أو ديني – مدني، وتفتيت المجتمعات العربية إلى مسلم-كافر لإدارة الصراع من بعيد دون خسائر تذكر، وعلينا التذكير بالصراع الدّائر حاليا في سوريا بين فصائل دولة العراق والشام وجبهة النصرة من جهة، والجيش الحر والمليشيات الكردية من جهة أخرى.
- دعم الإسلام السياسي مع المحافظة على علاقات متينة بالحركات اللّيبرالية في العالم العربي، وخلق توازن بينهما لتوجيه طاقة العنف الكامن بينهما، بل وتوجيه الصّراع بينهما وفق مفهوم الولاء والطاعة والمصالح لغايتين: الحفاظ على المصالح الإقتصادية الغربية، وحفظ أمن الكيان الصهيوني.
- خوض الحروب بالوكالة: فلا الخزينة الأمريكيّة ولا المواطن الأمريكيّ معنيّ بتكلفة الحروب ضد “الإرهاب”، وهنا يتشكّل الدّور القطري-السعودي تمويلا وتخطيطا، و”المجاهدون” تنفيذا، وهذا ما عبّر عنه أحد الخبراء في حديثه عن التدخّل العسكري في سوريا “أن تبكي أمهاتهم أفضل عندنا من أن تبكي أمّهات جنودنا“، وفي النهاية تقليص الإنتشار الجغرافي للحركات الجهادية بعيدا عن الغرب.
- هناك قناعة لدى الدوائر الغربيّة بأنّ السيطرة على المنطقة العربيّة قد تمّ عبر أنظمة عسكريّة وملكيّة خلال نصف قرن، منذ الحرب العالميّة الثانية، وأنّ صلوحيتها انتهت، وعليه هناك تصوّر لإستبدال تلك الأنظمة بالتيارات الإسلامية “المعتدلة/الطيّعة”، إنّه التحوّل من الخادم العسكري الملكي إلى الخادم السلفي/الجهادي/الإخواني (المثال المصري يطرح إشكالا مركّبا خاصة بعد سقوط حكم مرسي على يد العسكر بمؤازرة شعبية عارمة)
إنّ هذه الزيجة بين الإستراتيجيّة الأمريكية لمفهوم السيطرة والصراع، وبين تيّار ديني مهوس بالسلطة و”التّدافع”، تجعل كل القوى الليبرالية في مأزق وجودي يتعلّق بآفاق الصّراع مع طرف يُعدّ العدّة ليفرض علينا مفهوم “التدافع” بالسلاح والقوّة، وأحيانا يبدو لي أنّ السياسة الأمريكيّة لم تعد تصنع الحدث، بقدر ما أصبحت تنتظر وقوعه والتفاعل معه بتوظيفه لصالحها ولمصالحها، وهكذا تفاعلت مع الثورتين التونسيّة والمصريّة، حتى وإن بدت تونس أقلّ تأثيرا في الفضاء العربي الإسلامي مقارنة بمصر وموقعها، ومع ذلك فإنّ تونس يمكن أن تكون الشوكة التي تغرس في خصر الجار الغربي: الجزائر لتطويعها وترويضها على الأقل إقتصاديّا، وتحت وطأة التّرهيب تبتزّ الدول الغربيّة الجزائر لتقتني معدّات حربيّة وطائرات عسكريّة بفائض عائدات النفط والغاز.
- الشّام: سوريا القاعدة
إبّان الثورة اللّيبيّة تحوّل عدد محدود من الشباب للجهاد في ليبيا،وفي خطوط التماس كان هناك إحتكاك بين الجمعيات الخيريّة التونسيّة و”ثوّار ليبيا”، وهو احتكاك لتمتين صلة ترمي للمستقبل تحت رعاية قطريّة-أمريكيّة في إطار مشروع شامل لمواجهة الإرهاب وتطويع الإسلام السياسي في المجال العربي الإسلامي، وهنا في “الثورة السوريّة” تأسّست قنوات ممنهجة منظّمة لنقل “المجاهدين” من تونس نحو معسكرات التدريب في ليبيا(5)، ولئن كانت الأرقام متضاربة بين الألف مقاتل و3500 مقاتل (قد يصل الرقم إلى 7000 عند البعض، وهو رقم فيه الكثير من المبالغة) توجّهوا نحو سوريا، فإنّ الخوف كلّه يتأتّى من مصير هؤلاء المقاتلين العائدين إلى تونس محمّلين بطاقة عنف جهاديّة لا حدود لها.
وأكاد أشكّك في ذهاب كلّ المقاتلين إلى جبهة الجهاد السوريّة، ويبدو لي أنّ أغلبهم يتوّجهون للتدريب في ليبيا وجنوب تركيا، والعودة إلى تونس نظرا لإستحالة تأسيس معسكرات للتدريب داخل تونس، وهي إستحالة منطقيّة وعمليّة، وتجميع المعطيات الأخيرة إن صحّت تدعم رأينا أبرزها إشراف جهات رسمية في ليبيا على تدريب المقاتلين التونسيّين، يضاف إلى ذلك التعبئة الشبابيّة من خلال المساجد، كما أنّ تدريب الشباب التونسي في جنوب تركيا وشمال سوريا كان على يديّ: جيش النصرة المنتمي عقائديا لتنظيم القاعدة بالتوازي مع ظهور نواة “تنظيم الدولة الإسلامية” وبداية الإنشقاق بين الطرفين، والجيش الحر الذي يجد دعما من مجموعة أصدقاء سوريا وطبعا الدولة التونسية وحكومتها وقيادات الحزب الفاعل في تونس أي حركة النّهضة، وما بين الجيشين لا فخر بأنّ شباب تونس المجاهد عائد لا محالة محمّل بطاقة عنيفة فعّالة للهدم والبناء وفق منظور عقائديّ مغلق الزوايا: عقيدة ومصلحة وتأسيس.
سُئل أحد المقاتلين التونسيّين العائدين من سوريا مؤخّرا: “متى تكون تونس أرض جهاد؟”، فكان جوابه: “متى آل الحكم في تونس لحكّام لا يحكمون بشرع الله يكون الجهاد…”، من هنا ندرك جيّدا أنّ مرحلة التكفير هي المرحلة السابقة لمرحلة المواجهة والجهاد، تخزين السلاح وتدريب الرّجال كلها مهيّئات لعسكرة السّاحة السياسية في تونس بعد الإنتخابات القادمة إن حصلت، هذا إن لم تكن المواجهة قبل الإنتخابات تحسّبا لكل مفاجأة انتخابيّة قد تعيد المجاهدين للسجون تحت طائلة قانون “مكافحة الإرهاب”، ويقيني أنّ فرضيّة تغيير الخارطة السياسيّة بعد الإنتخابات القادمة قد يدخل البلاد في دوّامة من العنف لا مثيل لها، فوجود حركة النهضة بتوجّهاتها الإسلامية في الحكم اليوم يعتبر كافيا لدى بعض التيارات الجهادية في تونس لعدم الخروج الآن لجهاد الكافرين المارقين، وربّما كانت تلك الحركات الجهاديّة قوّة ضاغطة على الوعي البسيط بأنّ خيار النهضة كحركة سياسيّة هو ملجأ وخيار إستراتيجي للهروب من خيار مرير هو خيار السلفيّة الجهاديّة والقاعدة.
منح الصراع في سوريا فرصة للتيارات الإسلاميّة الجهادية الفرصة حتى تبني مقدّراتها، وتؤسّس القاعدة الجهادية في المشرق العربي على خطوط التّماس مع قاعدة الجهاد في العراق، يضاف إلى ذلك الجماعات المسلّحة في شبه جزيرة سيناء بمصر، وفي غياب الدّولة في ليبيا الواقعة تحت سيطرة الثّوار ذوي التوجّهات الإسلامية الجهادية.. كل هذه المفاصل هي التي ترسم خارطة الحركات الجهادية في العالم العربي، بعد ضربات أفغانستان وباكستان، وفي خضم هذا المشهد تصدّرت تونس وسائل الإعلام بالحديث عن انتشار السّلاح وتدفّق المجاهدين نحو ليبيا وسوريا، بل يصبح المشهد سرياليّا هزليّا بالحديث عن “جهاد النكاح” حين تتصدّر مشهده المجاهدات التونسيات.
- مزالق الفتنة:
للحريّة ثمنها،وللحريّة عفّتها، أفرز المشهد الثوريّ نتوءات الكبت التسلّطي الذي عاشته تونس لعقود طويلة، وليس هناك وعي بحدّة المأزق الذي يعيشه شعب لم يعرف الإختلاف من قبل لا سياسيا ولا ثقافيا..بسط نظام زين العابدين بن علي سيطرته على البلاد تحت وطأة التّخيير: بين نظام قمعيّ ينتهك الحريات ويوفّر الأمن للمواطن أو حكم المجهول مع الإسلاميّين، فسار من سار في دربه بقناعة مطلقة أنّ شرّ النظام النوفمبري أخف ألما من حكم الإسلاميّين، ورأينا من حكم بن علي نار الجحيم من سجون وتنكيل وحصار وانغلاق سياسي مطلق وفق نظام بوليسيّ محكم، والطّريف في الأمر أنّ الحكّام الجدد ينتهجون نفس المقولة، فمن يتأمّل خطاب حركة النهضة الحاكمة سيكتشف أنّنا واقعون في خيار قياسيّ آخر: إمّا حكم إسلامي “معتدل” براغماتي أو حكم سلفي جهادي “قاعديّ”، وفي أقسى الحالات العودة للنظام السابق عبر بوابة “نداء تونس”، فالمأزق النفسي والتمزّق الشعبي بين النّار والعار: نار الإسلام السياسي/الجهادي وعار النظام الساقط العائد هو الذي يخلق عزوفا إجتماعيّا لكل ما هو سياسي، تشير إحصائيات النوايا الإنتخابية إلى نسبة هامة (قد تصل النصف أحيانا) تحمل رؤية ضبابيّة لنوايا التصويت في المرحلة القادمة(6).
ترتكز محدّدات الفتنة عبر تمظهرات معزولة، لكنّها مترابطة من حيث نتائجها الموضوعيّة، وهذه التمظهرات هي المشترك الحقيقي بين مختلف الحركات الدّينيّة المعاصرة في تونس: حركة النهضة وحزب التّحرير والسلفيّة وأنصار الشّريعة بمختلف تشكيلاتها الوهميّة علميّة أو جهاديّة.. فكلّها تصبّ في خانة واحدة، وليس أدلّ على ذلك من حضورها الميداني في مختلف التظاهرات حيث تغيب الفوارق بينها، هذه الحركات ذات المرجعيّة تشتغل كلّها كرصيد للأخ الدّيني، فيكون عدوّها المشترك واحدا هو العدوّ “العلمانيّ” الحامل لأفكار غربيّة تحديثيّة، ورغم أنّ حركة النهضة ومن وخلفها حكومة الترويكا قد أدانت تنظيم “أنصار الشّريعة” وصنّفتهم كتنظيم إرهابي، فقد كان ذلك التصنيف مُتسرّعا تحت وطأة الضغط الخارجي والداخلي المُسلّط على من بيده سدّة الحكم.
إنّ الوحدة الإجتماعيّة/النفسية، والحضاريّة للمجتمع التونسي تاريخا وتكوينا، أصبحت مهدّدة بالزوال اليوم، لأن تلك الوحدة من طبعها كانت هشّة ومرنة، فلم تترسّخ في تونس مقوّمات الوحدة على أسس متينة، لأنّ دولة الإستقلال لم تؤسس مجتمعا قائما على مفهوم المواطنة كمفهوم مدني ديمقراطي، فالحكم البورقيبي تلاعب بمفهوم المواطنة ووظّف التوازنات المحليّة والجهويّة والقبليّة من أجل السيادة والسيطرة وبسط الولاء للزعيم الملهم، حتى ولو تجلّت تلك الرّهانات تحت يافطة العمل الحزبي، هي نفس الآليات التي وظّفها نظام بن علي مع فارق بسيط حين أعطى للآلة البوليسية نفوذا مطلقا، إكتشفنا هشاشته أكثر عشيّة 14 جانفي إنهيارا وهروبا مخزيا.
بعد الثورة مباشرة، وفي مجال الحريّة المطلقة تقيّحت أمراض الوحدة المزعومة في شكل صراعات بدائيّة قبليّة تجلّت في محنة مدينة المتلوّي (في محافظة قفصة) والتي خلّفت أكثر من 20 قتيلا، ثم ظهرت تلك الأمراض في صراعات جهويّة في محافظة صفاقس، والكاف وجندوبة والقصرين…، وبعيدا عن منطق المؤامرة لتبرير الوعي الجمعي المُشوّه الذي يخفي نزعات فرديّة أنانيّة مرضيّة،فقد تحرّك الضمير الإنساني إزاء مأزق الدّم والقتل والعنف الهمجي ليوقف نزيف الإقتتال وتعويضه بالعنف السياسي عبر التخندق في أحزاب تطمح أن تكون مدنيّة من ناحية، ولكن من ناحيّة أخرى تبدو تلك الصراعات الجهويّة تهيئة للعنف السياسي والدّيني القادم بنكهة أخرى، لأن ذلك الوعي الموبوء برفض الآخر وتملّك الحقيقة المطلقة هو من سيقوم بعمليّة تصعيد الصراع السياسي، وتبدو المشكلة ذات عمق دلالي تكويني حين يتأسّس حزب سياسي ذو مرجعيّة دينيّة له تاريخ نضالي في مقاومة بن علي ومحاولة الإستيلاء على مقاليد الحكم، إنّ تأسيس حزب بمرجعيّة دينيّة سيدفع الإختلاف بين الآنا والآخر نحو زاوية دينيّة مغلقة تُختزل في سؤال إنكاري أشبه بالحكم القطعي: من ليس معي فهو ضدّ الدّين..
إذا كان الصّراع القبلي يحمل تبريرا هشّا لا نستطيع تبريره تنظيرا أو ممارسة، فإنّ الخطر كلّه يتأتّى من مواجهة خصم سياسي يتسلّح بإعتقاد دينيّ راسخ يقسّم المجتمع إلى قسمين: مسلم وغير مسلم (كافر باحتشام)، كلّ ذلك ونحن في مجتمع تقليديّ لم تستطع دولة الإستقلال بكل تشويهاتها الإصلاحيّة الليبرالية والإشتراكية أن تهدم ضميره الدّيني الإسلامي قصدا وعمدا، في مجتمع يعاني من نسبة أميّة تتجاوز الرّبع، ومن أميّة معرفيّة وسياسيّة تتجاوز النّصف، ومن ثمّ كان قدرا على الحركات الليبراليّة والإشتراكيّة أن تكون فكرا نخبويّا في قطيعة شبه مطلقة مع مجتمع ذو بنية تقليديّة يتحكّم فيها الوازع الدّيني الموروث.
وليس قدرا أن ينحصر الصّراع بين المسلم/الإسلامي والكافر/”العلماني” في العمليّة الإنتخابيّة وحدها، ولكن طبيعة المجتمع في بنيته وضميره يفترض ذلك، كما أنّ الطرف المهوس بالحكم (ولا نبرأ أحدا: فكل الأطراف مهوسة بالحكم) يجد في هذا الصراع أرضيّة خصبة لنجاح أطروحاته واكتساحه للمجال الشّعبي، وهذا الصّراع أنذر بالتكفير فارتحل نحو القتل والإغتيال بتبرير ديني فقهيّ جامد يجعل تونس تعيش مدارات الرعب والعنف.
- الهجرة نحو الشعانبي وعودة القيروان:
عجّلت المواجهة في جبل الشعانبي (ولاية القصرين) من خلط الأوراق لدى جميع الأطراف، داخليّا: النهضة وحكّامها، السلفيّة وإفرازاتها، المعارضة وتشكيلاتها، وخارجيا: الجار الغربي والجار الشمالي المتوسطي، والثابت عندنا أن هناك حلقة مفرغة لما وقع في جبل الشعانبي، وما سبقه من أحداث في الكشف عن مخازن السلاح وإيقاف بعض الخلايا السلفيّة: ماذا يقع في الشعانبي؟ هل هم تونسيون؟ مراكز تدريب أم تجميع؟ علاقتهم بتنظيم القاعدة؟ العلاقة بالحرب في مالي وبالجماعات المسلّحة في ليبيا والجزائر؟ علاقتهم بالدّاخل التونسي أطرافا سياسيّة وجهات؟
كل هذه الأسئلة وغيرها تظلّ معلّقة ما لم يكشف البحث الأمني-القضائي عن تفاصيله(7)، فهناك تكتّم شديد عن المعلومة من طرف أجهزة الدّولة بداعي سريّة التحرّيات، وتزداد الحيرة حين لا نعرف مصير الأبحاث في عديد القضايا السابقة المتعلّقة بالسلاح ومصدره ورحلته ومصيره، بل إنّ الحديث المطوّل الوحيد الذي أجراه قائد أركان الجيوش الثلاثة رشيد عمّار عشيّة إستقالته زاد من الشكوك والتخمينات لما يحدث في جبل الشعانبي، وقد رسخ في ذهني من ذلك الحوار الطويل إعتقاد واحد: هناك عدد كبير من المجاهدين قد أتمّ تدريبه في الجبل وفي المعسكرات اللّيبيّة وارتحل عن المكان، إلى أين؟ يبقى السؤال دون جواب عند أصحاب الشأن العسكري والأمني مع اعتراف علني بغياب الجهد الإستخباراتي.
ويتداخل السياسي بالأمني في العلاقة الشائكة بين الإسلام السياسي الحاكم والإسلام الجهادي المهاجر، بين حركة النّهضة والسلفية الجهاديّة، وهي علاقة ضبابيّة سيكون للآخر الغربي الأورو-أمريكي موقف حاسم فيها، وفي هذا الإطار جاءت زيارة وزير الخارجيّة الفرنسي بشكل خاطف لتونس (مارس 2013) وما تسرّب عنها من توصيات فوقيّة، تبعها حج الشيخ راشد الغنوشي إلى واشنطن (18/5/2013)، وكان أثر الزيارة جليّا في تصريحات الحكومة عبر ناطقها الرسمي يوم 21/5/2013، بموقف متشدّد وعنيف تجاه الحركات الجهادية وخاصة “أنصار الشريعة”، فتحوّل موقف حركة النّهضة الحاكمة تجاه السلفيّة من المهادنة إلى المواجهة، وأحيانا ستحضر المراوغة في محاولة لتطويعهم في المشروع السياسي الإخواني بتهويل الآخر العلماني، واستمالة من كانت عقيدته الجهادية هشة ضعيفة.
إن العثور على مخازن الأسلحة في أحواز العاصمة، تبعها الحديث عن سبعة مراكز تدريب في مناطق مختلفة من تونس، يضاف إليهم العائدون من معسكرات التدريب في سوريا وليبيا، ثم كانت حادثة مؤتمر أنصار الشّريعة بزخمها الإعلامي وملامستها لتخوم المواجهة المدنية (ليس من الثابت الحديث عن استعمال السلاح في مواجهات القيروان وحي التضامن)، وقبل ذلك لا يجب الإستهانة بما يعرف “إمارة سجنان” وانتشار الشرطة السلفيّة في عديد المناطق من التراب التونسي، كل ذلك يجعلنا نعتقد أنّ التيّار السلفي بتنوعه قد إستعجل المواجهة بعد التكفير والهجرة، أي الخروج من طور الإستضعاف إلى طور التمكّن والتّمكين، وهو بتحدّيه لأجهزة الدّولة وهيبتها ممثلة في الجيش والقوات الأمنية يريد أن يعطي لنفسه هامشا من الحريّة والتحرّك والمناورة لبسط نفوذه على عدة أقاليم ومجالات، من الجنوب نحو محيط العاصمة فالشمال الغربي ثم الوسط… ولا يبدو المجال الجغرافي التونسي مساعدا لهكذا توجّه أو مواجهة(8).
لقد تأسّست الحركات الجهادية على مقولات أصليّة مستوحاة من النموذج النبوي المهاجر من مكة نحو أنصاره بالمدينة ليعود فاتحا منتصرا على المشركين،وهي أشبه بالمحاكاة، ترجمتها في التاريخ القديم تجربة “الخوارج” ومملكة “آلمت” لحسن الصّباح، وحاكتها التنظيمات الجهادية المعاصرة بالإستناد لتنظيرات أبو الأعلى المودودي(9)، وسيد قطب(10) وصولا للمنظّر الأكبر عبد الله عزّام(11)، فتجلّى المجهود الفكري في تجارب: حركة الجهاد المصريّة، وتجربة الأفغان العرب ثم تنظيم القاعدة ومفرداته العالميّة، مقولاتهم هي تكفير فهجرة ثم جهاد وفتح، هنا سيصبح جبل الشعانبي ملاذا للهجرة ومجالا للعسكرة بعدما إقتنعت السلفيّة بجاهليّة المجتمع التونسي وكفره، وستقفز مدينة القيروان برمزيتها الدّينيّة وقداستها حلما لدى تنظيم أنصار الشّريعة حتى تكون مدينة الأنصار تأسيسا لقاعدة الفتح،قاعدة قد تخلط أوراق الحاكمين الجدد الذين تعاملوا معهم وفق حسابات سياسية وانتخابيّة، فهل أصبحت تونس أرض جهاد وحرب؟
نعتقد أنّ الحركات السلفيّة الجهاديّة في تونس تعاني من ثلاثة معوقات أساسيّة هي:
أولا: سطحيّة الإعتقاد: لم تبنى الحركات الجهاديّة في تونس على تصوّر عقائدي محكم مثل نظيراتها في المشرق العربي، فهي لم تعرف التنظيرات ولا المماحكات ولا المراجعات الفكريّة، فبنيت على جفاف عقائدي تربته المذهب المالكي الزّيتوني سدّا منيعا تجاه الرّافد الوهّابي، يضاف إلى ذلك غياب المرجعيّة الدّينيّة الكاريزميّة، فحتى أبو عياض زعيمهم لم يتمكّن من الظهور بمظهر الزّعيم الأوحد المُوحّد. كما أنّ المرجع الدّيني للسلفيّة الجهادية في تونس وهو الخطيب الإدريسي بقي دوره لغزا في العلاقة بتنظيم أنصار الشريعة وما لفّ حولها.
ثانيا: التشتّت التنظيمي: وهو تقريبا ما طبع كل الحركات الجهاديّة التي تناسلت عن تنظيم القاعدة فكريّا ولم تأخذ عنه التنظيم العمودي، فالحركات الجهاديّة في تونس أشبه بالخلايا الممتدّة أفقيا ولا رابط تنظيمي بينها، وهو ما جعلها تسقط بسرعة تحت وطأة الضربات الأمنية، بل نعتقد أن البحث عن رابط تنظيمي بينها هو الذي قد يؤخّر نتائج التحرّي الأمني وتشكيل تصوّر شامل ومحكم عن هذه الحركات، فالتشتّت التنظيمي والتعجيل بالمواجهة هو الذي فكّك الخلايا الرئيسيّة لتنظيم أنصار الشريعة في تونس.
ثالثا: الإسقاط والسقطات: تتعامل الحركات الجهادية في تونس مع الواقع وفق إسقاط لتجارب غيريّة تغيب معها الشروط الموضوعيّة والموانع التاريخيّة، فتاريخيّة التجارب نبويّة كانت أو في أفغانستان وإيران.. تخفي فوارقها وموانعها في التحوّل الذي شهدته المنطقة، وإن كانوا يرون فيها محفّزات موضوعيّة سمحت للتيارات الإسلاميّة بالصعود لسدّة الحكم، لكنّ تعجّلهم النتائج أوقع الإسلام الجهادي في سقطات تاريخيّة موضوعيّة كشفت فراغ النظريّة من حيث تأطير المقاتلين، أو من حيث البساطة والإرتجال في الممارسة.
- الرحلة نحو المجهول المعلوم:
وأنا أبتعد عن موقع الباحث المُحلّل، أجد ضمانة وحصانة لهذا المجتمع كي ينأى بنفسه وأبنائه عن الإقتتال الدّيني الذي قد يقسمه إلى نصفين، تلك الصورة السرياليّة لشعب خرج يدفن جثمان الشّهيد شكري بالعيد ليدفن معها فتنة أطلّت برأسها “لعن الله من أيقضها“، وتكرّر المشهد ثانية بعد إغتيال الحاج الشهيد محمّد البراهمي، وقد صعّدت النخبة من حوادث الإغتيال إلى مطالب سياسيّة تجلّت في المطالبة بإسقاط الحكومة وإعادة النظر في مشروعية المجلس التأسيسي والمرحلة الإنتقاليّة برمّتها، هذا الموقف هو الذي سيخلق أزمة عميقة بين الإسلام السياسي والإسلام الجهادي بالضرورة ستكون له إنعكاسات آنية وأخرى مستقبليّة.
ستسقط مرحلة الهجرة من مقولات الحركات السلفيّة الجهاديّة حتما في ظل الضربات الموجعة التي تنفّذها الولايات المتحدة الأمريكية لكل مراكز التجنيد والتجميع في اليمن وأفغانستان وباكستان والعراق وسوريا وربّما ليبيا اليوم وتونس لاحقا في ظل صعود دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام.. ومن ثمّ سترتكز إستراتيجيّة الجهاد على ركيزتين هما: التّكفير والتّفجير، كما حدث بعد سقوط إمارة طالبان، يعني تكفير المجتمع والجهاد بالتفجيرات المعزولة والعمليات الإنتحارية أو الجهادية المحدودة التي لا تحتاج عمل تنظيمي وتخطيط باهر وخارق مثل أحداث 11 سبتمبر 2001، هذه التفجيرات لا تحتاج إلى أكثر من خلايا جهادية معزولة عن بعضها البعض وتستطيع المراوغة والتماسك، كل ذلك مرتبط بالمصير الذي أصبح عليه تنظيم القاعدة العالمي من تنظيم عمودي مترابط في الأمر والتنفيذ مقرّه أفغانستان وزعيمه أسامة بن لادن، إلى تنظيم أفقي لا رابط بين خلاياه سوى الولاء للمرجعية الروحية العقائديّة.
فتونس قادمة على نتوءات جهاديّة قد تتجلّى في عمليات تفجير معزولة (ألغام الشعانبي) أو إغتيالات سياسيّة تزعزع الإستقرار العام وتدخل البلاد في دوّامة من العنف الدّيني، ويقيني أنّ هذا عائد بالضرورة لبنية الحركات الإسلاميّة والسلفيّة في تونس ومصادرها: فهي خليط من شذرات الفكر الإخواني بعد تطويره/تحريفه من قبل سيّد قطب، ثم بروز الفقه السياسي الشرعي السلفي عبر إستحضار كتابات إبن تيميّة ومحمد بن عبد الوهاب لاحقا، كل ذلك قرين بتجربة الجهاد العربي في أفغانستان وتجلّياته في الزّعيم الرّمز أسامة بن لادن.
وأعتقد أن تونس كغيرها من بلدان العالم الإسلامي تربة خصبة للإسلام الحركي الجهادي عبر توفّر شروط موضوعيّة: الفقر والتهميش الإقتصادي + جهل معرفي عام + فكر ديني مغلق وهّابي + شيطنة الآخر القريب والآخر البعيد، هذه هي مصادر العنف الدّيني أي ما يصطلح على تسميته بالإرهاب، وكلّها شروط قادرة على صنع شباب مقاتلين محاربين “مجاهدين”على إستعداد تام للتكفير والتهجير والتّفجير، وعلينا أن نشير هنا إلى أنّ هذا الشّاب المجاهد لم يعد في حاجة إلى الشيخ المعلّم الفقيه المرشد، فعبر حاسوبه وشبكة الإنترنت أصبح قادرا على تحصيل الفريضة السادسة وهي الجهاد، بعد تحصيله لفروض الإسلام الخمس في بساطتها الطقوسيّة التي تكوّن بداخله إعتقادا بأنّه وُجد ليكون مشروع شهادة، وعبر شبكة الإنترنت صار هذا الشاب قادرا على الإنتماء لخليّة أو أي تنظيم جهادي إقليمي أو عالمي وهو جالس في غرفته وقريته(12).
وتبدو المواجهة في جبال الشعانبي ضبابيّة من حيث تفاعلاتها وحيثياتها سوى من عدد ضحاياها في صفوف الأمن والجيش التونسيين أو من حيث من تمّ إيقافهم ورصدهم، فانقسمت تفجيرات الألغام إلى نوعين: تفجيرات لحماية “قاعدة التدريب والجهاد”، وتفجيرات الهروب والإنسحاب، التفجيرات الأولى حدثت في قلب جبل الشعانبي تشير التقديرات الأمنيّة أنّ الصدفة كانت وراء وقوعها وربّما نتيجة عمل إستخباراتي يهمّ الجار الجزائري الذي أعلن أخيرا عن إقامة 20 منطقة عسكريّة على حدود البلاد التونسية، والتفجيرات الثانية حدثت على أطراف الجبل أقرب منها لمناطق العمران للمناورة والهروب، تشير إلى طرف الإسناد لتلك المعسكرات في محاولة لفكّ عزلة من بقي في الجبل وتخفيف الحصار عنهم، بل نعتقد أنّ الإرهاب قد إستوطن المدن والقرى فاعتمد المقاتلون على آلية الكمون والتخفّي يالإستناد إلى الحاضنة الإجتماعية الشعبيّة التي وفّرت الظروف للقيام بعمليات قتالية نوعيّة داخل المدن أهمها الهجوم على منزل وزير الداخلية التونسي في 28 ماي 2014.
عندما طرح الباحث محمد شحرور كتابه المشروع “تجفيف منابع الإرهاب”(13) لم يطرح خطّة أمنية سياسيّة لمعالجة ظاهرة الإرهاب الديني، ولكنّه قدّم قراءة ورؤية للتنزيل الحكيم من حيث هو نصّ قام الفقهاء بتشويهه عبر تفسيره وتأويله وأحيانا تحريفه لينتج عقلا مُغلقا، نحتاج اليوم إلى مراجعة تلك المفاهيم التي يرتكز عليها الفكر الجهادي وكل التنظيمات الحركيّة السلفيّة من قبيل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، القتال والجهاد، مقاصد الشريعة، الولاء والبراء، الكافر والمسلم والمرتدّ، دار السلم ودار الحرب… وغيرها من المفاهيم المركزيّة التي تؤسّس لنبذ الآخر وتكفيره، نفيه وقتله.. وهذا لوحده يحتاج إلى مشروع فكريّ تنويريّ..
نحن لا نعتقد أن أفكار الحاكميّة وجاهليّة المجتمع التي أسّس لها أبو الأعلى المودودي وتبنّاها سيّد قطب قد تلاشت بغيابهما(14)، ولكنّ الإشارة للفراغ المعرفي الذي تعانيه الحركات السلفيّة الجهاديّة في تونس هو المأزق الحقيقي لفهم الظاهرة وكشف بناها المعرفيّة والسوسيولوجيّة، ويمكن أن نشير إلى أن هذه الحركات الجهاديّة لم تلتزم بقواعد تأسيس حركات من نوع التكفير والهجرة أو تنظيمات القاعدة في المشرق والمغرب، وقد نُصاب باليأس أحيانا عندما نرى الهجمة على مفكّر من طينة محمد الطالبي الذي قضى أكثر من نصف قرن وهو يدرس الإسلام ويُدرّسه بمنجز معرفي تاريخي متعالي أحيانا، بل غالبا، عن منجز فكري جهادي لدى شباب لم يحصّل من التكوين المعرفي والعقدي ما يرتقي به إلى مستوى الجدل والمناجزة، يُهاجم محمد الطالبي لمجرّد أنه دعا لمفهوم “المسلم القرآني” وقد عاشر نصّا ربّانيا لم يصله الزيغ والتحريف، ويزداد اليأس شدّة إزاء أحد طلبة الباحث المفكّر عبد المجيد الشرفي وهو يكفّره من على منبر أحد المساجد.. ومع ذلك فإنّ مشروعا تنويريّا نحتاجه اليوم لتأسيس المستقبل، هو مشروع سيمتدّ لسنين قادمة..
هنا لا بدّ من التذكير بذلك المشروع التنويري الذي قاده ثلّة من الأساتذة الجامعيين في بداية التسعينات في محاولة لدراسة الدين كظاهرة تُسلّط عليها كل منجزات علوم الإنسان والأنتربولوجيا، ودراسة الإسلام ضمن مداخل علم الأديان المقارن، وتشكّل اللبنة الأولى لهذا المشروع الطموح أفكار الباحث محمد أركون تحت مسمّى “الإسلاميات التطبيقيّة”، لكنّ نظام بن علي بتوجّهاته المضادة للمعرفة أجهض هذا المشروع في بداياته ومع “لبناته” الأولى لنغنم بعد ذلك كتابات يتيمة معزولة أمام مدّ إخواني وهّابي إستطاع أن يبتلع شبابا تلقّى تعليما مضطربا بُني على الإرتجال والعشوائيّة، خلاصة القول أن الظاهرة السلفيّة مشروطة بثلاثة محدّدات: جهل معرفيّ + تهميش إجتماعي + تهميش اقتصادي.
ولا يبدو لي المشروع التنويري لوحده صاحب القدرة على التصدّي لموجة عنف قادمة نحو بلدان ما يسمّى “الربيع العربي”، والتي ترى في حكوماتها الإسلاميّة مرحلة إنتقاليّة مهمّة لتأسيس مجتمع الإسلام الذي حلم به سيّد قطب في غياهب السجون، وقد كان تلقّفه من المودودي في بيئة باكستانيّة تعيش عقدة الأقليّة والإضطهاد الدّيني أمام الهندوس، فهذه الحكومات الإسلاميّة الإنتقالية تُدخل الجماعات الجهادية في مرحلة الترقّب والتّمكين، قبل التمكّن والمواجهة، طبعا ستكون الضريبة قاسية وموجعة أحيانا وقد لوّثها دم الشهداء بداية بدمّ الشهيد شكري بالعيد وصولا للضربات المتتالية لقوات الجيش والأمن، ولكن لا مناص من تلك الضريبة ولا مهرب منها بكثير من التفاؤل بالمستقبل.
إنّ عودة ما يسمّى بالصحوة الإسلاميّة في شكلها المفتّت المتشدّد يجعلنا نراجع مفهوم الحداثات والتحديث الذي عرفته تجارب الدّولة الوطنيّة بعد الإستقلال، هذه الدّولة التي لم تستطع أن تركّز العدالة الإجتماعية للطبقات الفقيرة، ولا أن تنشر المفاهيم الديمقراطيّة لدى الطبقة السياسيّة، ولا أن تقضي على الأمية المتفشية، فارتبط التحديث بالزعيم الملهم، وبالإرتجال ألظرفي، ولم يكن التحديث مشروعا مجتمعيّا قائما على البرمجة والتخطيط البعيد المدى….
خيبة الدّيمقراطيّة ونشوة الصّحوة الإسلاميّة:
إنطلاقا من تونس كان الشعار المحوري لثورات الرّبيع العربي هو “خبز، حريّة، كرامة وطنيّة”، هو نفس الشعار الذي رُفع في مصر وليبيا واليمن وسوريا والعراق وحتى البحرين، ولكن بتفاوت مشهود لدول لا تعاني من أزمة إقتصاديّة خانقة، وهذا يختزل الأزمة في عمقها الإجتماعي – السياسي، وما كان لإشكاليّة الهويّة أي حضور في الشعارات التي طرحتها الجماهير، بل إنّ حاملي هواجس الهويّة لم يكونوا في الصفوف الأماميّة لتلك الثورات العربيّة.
بعد هوجة الرّبيع العربي سقطت النخبة التقدّميّة بشقّيها اليساري والليبرالي في فخ إشكالية الهويّة، فانتصرت الحركات الإسلاميّة التي إختزلت الأزمة في شعارها المركزي “الإسلام هو الحل”، وراح الصندوق الدّيمقراطي ينتج مشروعا يُناقض ألواحه وأسفاره، وصار الإنتخاب بيعة، وحقوق الإنسان صارت واجبات الرعيّة… وبعد نصف قرن من محاولات تجذير مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان في العالم العربي عادت مفاهيم الأحكام السلطانيّة من رعيّة وخاصة وراعي يدفعها طموح هولامي في عودة الخلافة الإسلامية للوجود برافد تركي عثماني ومدّ إخواني من مصر وتونس.
نجحت الحركات الإسلاميّة في قطف ثمار الرّبيع العربي مستغلّة الشروط الذّاتية لنجاحها: هي حركات لعبت على مفهوم “المظلوميّة” نتيجة التعذيب والقتل والتنكيل الذي لحقها من الأنظمة السابقة، كما راهنت على مفهوم التعفّف والتديّن والقرب من الصفاء الديني ممّا يجعلها بعيدة كل البعد عن إغراءات السلطة ومفاتنها، وأعطتهم الشعوب أصواتهم الإنتخابيّة فكفّرت بذلك عن ذنبها في الصمت على عذاباتهم من ناحية، ومنحتهم الثقة والأمانة عزوفا عن الفساد الذي ورثناه عن حكم الدولة الوطنيّة من ناحية أخرى.
إستطاعت الحركات الإسلاميّة أن تتجذّر في العمق المجتمعي بمفاهيم عميقة التأويل بسيطة التّلقين عبر مرجعيّة دينيّة تمثّل المشترك الجامع لكافة الفئات الشعبيّة، في حين ظلّت مفاهيم الحداثة والمواطنة وحقوق الإنسان حكرا على نخبة متعلّمة مسيّسة في مجتمعات تبلغ فيها نسبة الأميّة ثلث سكّانها، أضف إلى ذلك أنّ الأنظمة القمعيّة كانت قد تقاسمت مع النخبة الليبراليّة مفاهيم الحداثة والمواطنة وحقوق الإنسان وتلاعبت بها ممّا رسّخ صورة مشوّهة لتلك المفاهيم في المجتمعات العربيّة التي تطارد لقمة العيش، وإنّ فشل “ديمقراطيات” الدولة الوطنية بأنظمتها العسكريّة والملكيّة والمدنيّة جعل المشروع الإسلامي الأقرب إلى ذهنيّة النّاس، لكنّ هذا المشروع الإسلامي يحمل في طيّاته مشروع الرّفض والبراء والطاعة العمياء لتنتقل تلك المجتمعات من طور الترغيب إلى طور الترهيب: ففي أحضان حركة النهضة الإسلاميّة في تونس تربّى تنظيم أنصار الشريعة الموصوف بالتنظيم الإرهابي، وفي أحضان الثورة السوريّة وسنّة العراق سينشأ تنظيم الدّولة الإسلاميّة في العراق والشام، ولن تكون الحركات الإسلاميّة سوى حاضنة فقهيّة عقائديّة لتنظيمات جهاديّة تستعجل إقامة الخلافة الإسلامية بالحديد والنّار.
كل ذالك في ظل أزمة حقيقيّة تعيشها النخب ذوي التوجهات التقدّميّة الوطنية والحقوقيّة، لتبلغ هذه الأزمة مرحلة الصدمة والعجز، وهو ما يحدو ببعضهم للجوء لعناصر النظام القديم أو اللجوء للمؤسسة العسكريّة للمحافظة على بقايا مقوّمات الدولة الوطنيّة، ويصبح الإصلاح بديلا للثورة.
الهوامش:
- “كانت قوات الامن التونسية قد أوقفت 1343 عنصراً متهماً بالارهاب، وقتلت 23 آخرين خلال العام 2013 فضلاً عن الإستيلاء على كمية من الاسلحة، من بينها 246 قطعة كلاشنكوف و118 بندقية صيد و16661 ذخيرة حية و3 مسدسات و217 قنبلة يدوية و520 لغما و270 قذيفة حربية”.، هذا ما جاء على لسان وزير الدّاخلية التونسي في ندوة صحفية في مطلع شهر جويلية 2014، وستشهد سنة 2014 تصاعدا ملحوظا في هذه الأرقام.
- جبل الشعانبي هو أعلى مرتفع في تونس إذ تبلغ قمته 1544م، يقع في الوسط الغربي التونسي بمحافظة القصرين ويمتدّ في العمق الجزائري، وهو مغطى بغابة صنوبر كثيفة، وسيكون هذا الجبل والغابة فضاء حيويّا لمختلف التشكيلات الجهادية من تونس والجزائر.
- تطرح شخصيّة اللّيبي عبد الحكيم بالحاج إشكالا محوريّا لدوره في الثورة اللّيبيّة وحضوره في الساحة السياسيّة وعلاقاته المتشابكة مع “إخوان” الأمس في الجهاد وإخوان اليوم في السلطة، وعلاقاته بتنظيم أنصار الشريعة في تونس؟
- في 27 أوت 2013 صنّفت وزارة الدّاخليّة التونسيّة جماعة “أنصار الشريعة” بقيادة أبو عياض تنظيما إرهابيّا لضلوعه في الإغتيالات السياسيّة والعنف المسلّح.
- نشر معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى عدّة تقارير يتداخل فيها الأمني بالصحفي حول معسكرات التدريب في ليبيا، والثابت أن التونسيون يتوجّهون لمعسكري “درنة” و”العجيلات” الذي تشير الملفّات القضائيّة أنّ هذين المعسكرين تحت إشراف أنصار الشريعة الليبيّة وأنصار الشريعة بتونس.
- إنّ أكبر ثلاث شركات سبر الآراء في تونس تعطي نسبة ما بين 45 و55 بالمائة ممّن ليست لديهم رؤية أو ثقة في المستقبل.
- أنظر: ختم البحث القضائي عدد /259633 بتاريخ: 30 ديسمبر 2013: ويكشف هذا الملف القضائي النواة الأولى لتأسيس حركة جهادية في تونس من حيث التنظيم والبناء والدعم والتدريب..
- أبو بكر ناجي: إدارة التوحّش، مركز البحوث والدّراسات الإسلاميّة، د ت، لقي هذا الكتاب إهتماما كبيرا لدى أجهزة الإستخبارات الأمريكيّة والغربيّة، والكتاب هو قفزة نوعيّة في إستراتيجيّة الحركات الجهاديّة في العالم بعد تجربة النموذج الأفغاني، ونعتقد أنّ هذا الكتاب هو ثمرة دراسة نظريّة وتجربة تطبيقيّة لآفاق المشروع الجهادي في العالم.
- أبو الأعلى المودودي (1903-1979): الخلافة والملك، دار القلم، الكويت، ط1 سنة 1979.
- سيد قطب (1906-1966): معالم في الطريق، دار الشروق، دت .
- عبد الله عزّام(1941-1989): موسوعة الذخائر العظام، الأعمال الكاملة 4 أجزاء، مركز الشهيد عبد الله عزّام، ط1 بيشاور، باكستان 1997.
- من خلال الإطلاع على الملفات القضائية للمتهمين الجدد في قضايا الإرهاب في تونس نجد بساطة في الإلتحاق بالتنظيمات الجهادية: حالة إنجذاب للمواقع الجهادية عبر الحاسوب، ثم الإلتحاق بالخيمات الدّعويّة، ربط العلاقات الذاتية بين المستقطبين، الإلتحاق بمراكز التدريب في ليبيا والعودة للجهاد في تونس.
- محمد شحرور: تجفيف منابع الإرهاب، دار الآهالي للنشر،دمشق-سوريا، ط1 سنة 2008.
- شريف يونس: سيّد قطب والأصوليّة الإسلامية، دار طيبة للنشر، القاهرة- مصر، ط1 سنة 1995.
عبيد خليفي
Klifi2007@gmail.com