البعد القيادي في صنع السياسة الخارجية للجزائر مطلع الألفية
اعداد :عمّارية عمروس – باحثة دكتوراه دراسات إستراتيجية بالمدرسة الوطنية للعلوم السياسية، الجزائر.
- المركز الديمقراطي العربي
مقدمة:
البعد القيادي في صنع السياسة الخارجية للجزائر خلال العهدة الرئاسية الأولى و منتصف العهدة الثانية للرئيس عبد العزيز بوتفليقة.
تعد الجزائر محور اهتمام كثير من القوى الفاعلة في الساحة الدولية، و ذلك انطلاقا من البروز التاريخي لهذا البلد من خلال التوجه النضالي و الأيديولوجي (الثورة التحريرية و دعم القضايا العادلة)، يضاف إلى ذلك الموقع الجيوسياسي للجزائر إذ تطل على البحر المتوسط، و تقع ضمن دائرة هامة جدا من دوائر صنع القرار في السياسات الخارجية للقوى الكبرى (الشرق الأوسط و شمال إفريقيا).
و إذ نتحدث عن السياسة الخارجية للجزائر فلا بد من الحديث عن التركيبة الفكرية و النفسية لصانع القرار، فقد مرت البلاد بفترات تاريخية مفصلية منذ استقلالها عام 1962، و تميز نظام الحكم في الجزائر بالشخصنة تحديدا خلال فترة حكم الرئيس الراحل “هواري بومدين” ثم مع مجيء الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة .
و قد اخترنا في هذه الدراسة أن نتناول الدور الذي لعبه البعد القيادي في السياسة الخارجية الجزائرية من خلال شخصية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، خلال العهدة الرئاسية الأولى و منتصف العهدة الثانية، مركزين على أثر بيئة الأزمة الأمنية الجزائرية في توجهات السياسة الخارجية.
المشكلة البحثية:
عايشت الجزائر فترة صعبة من تاريخها عرفت بالعشرية السوداء، إذ انتشر التطرف الفكري و السياسي على نطاق واسع، رافقته أعمال إرهابية ذهب ضحيتها الاف الأشخاص، بالتالي باتت صورة الجزائر في الخارج مقترنة بالإرهاب و صح حينها أن تصنف “دولة فاشلة” .
لكن تلك المكانة المفقودة لم تلبث أن عادت إلى مجراها الطبيعي بمجيء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي فرض عليه نسقه الفكري و الحصيلة الثقيلة للفترة السابقة لحكمه مجموعة من الأولويات في إعادة رسم العلاقات مع الخارج و إعادة تفعيل دور البلد و مكانته.
لذلك سنعالج الإشكالية الاتية متبوعة بأسئلة فرعية:
- ما هو تأثير البعد القيادي في السياسة الخارجية للجزائر خلال فترة حكم الرئيس بوتفليقة ؟
الأسئلة الفرعية:
- هل يوجد بعد قيادي في أداء السياسة الخارجية الجزائرية بعد الاستقلال ؟
- ما هو مجاله في عهد الرئيس بوتفليقة في ظل ما خلفته فترة العشرية السوداء ؟
- أين تجلى هذا البعد على الصعيد الأمني و الإستراتيجي خلال العهدتين الرئاسيتين الأولى و منتصف الثانية ؟
فرضية الدراسة:
- يرتبط تأثير البعد القيادي في السياسة الخارجية للجزائر في عهد الرئيس بوتفليقة بالخصائص الذاتية للحاكم و أثر الأزمة الأمنية الجزائرية.
أهمية الدراسة و أهدافها:
تبرز أهمية البحث من خلال معالجة الموضوع في حد ذاته و خلال الفترة الزمنية المحددة، و عبر إلقاء الضوء على الهاجس الأمني و أثره في منظور صانع القرار الجزائري، ثم ما تعرفه الساحة الإقليمية و العالمية من دواعي التعاون و التنسيق الأمنيين في زمن عولمة المخاطر و التهديدات.
بالتالي، نحاول من خلال بحثنا تحقيق مجموعة أهداف علمية:
- توخي الموضوعية في الطرح، و هي عنصر هام بالنسبة لنا كباحثين في ميدان العلوم السياسية و العلاقات الدولية.
- التعرف على أبرز ملامح البعد القيادي في السياسة الخارجية الجزائرية بعد الاستقلال.
- التعرف على أثر بيئة الأزمة الأمنية التي عاشتها الجزائر في النسق الفكري للقائد السياسي.
- عرض نماذج تنفيذية بارزة على صعيد السياسة الخارجية للجزائر خلال العقد الأول من حكم الرئيس بوتفليقة.
خطة البحث:
- إطار مفاهيمي.
- المحور الأول: البعد القيادي في السياسة الخارجية الجزائرية بعد الاستقلال
- المحور الثاني: تفاعل شخصية الرئيس بوتفليقة مع ما خلفته فترة العشرية السوداء
- المحور الثالث: نماذج عملية لأثر البعد القيادي في توجهات السياسة الخارجية خلال العهدة الأولى و منتصف العهدة الثانية للرئيس بوتفليقة
الإطار المفاهيمي للدراسة:
- مفهوم القيادة:
تعرف القيادة في علم الإدارة بأنها الأساس في نجاح أي عمل تنظيمي، فهي ترتبط بالعلاقات الوظيفية بين القائد وأعضاء الجماعة في مواقف معينة، بحيث نجد القائد يتصف بخصائص معينة تتضح اثارها في سلوكاته العملية[1] .
و في العلوم السياسية يشير مفهوم القيادة إلى تلك السمات التي تناسب المناصب السياسية و تحظى بإعجاب الجماهير، و المقصود هنا “الكاريزماتية” بما تعنيه من قدرة و براعة القائد في مواجهة المشكلات.
و القائد السياسي هو محور العملية السياسية لأنه من ناحية يتربع على قمة النظام السياسي، و عليه من ناحية ثانية أن يؤدي عدة وظائف لها اثار هامة في حياة و تطور هذا النظام و المجتمع ككل، باعتباره (أي القائد) أداة تغيير مجتمعي، و تخطيط، و وفاق بين شرائح المجتمع[2] .
- مفهوم صنع القرار:
صنع القرار يعد من العمليات المعقدة و ذات الأهمية القصوى في السياسة الخارجية، فهو خطوة هامة تسبق تنفيذ القرار و مراجعته. و تزداد قيمته في حالات مواجهة مشكلات كبرى كالأزمات و النزاعات الدولية[3] .
فهو تلك العملية الناجمة عن طرح جملة من البدائل في إطار سلسلة تفاوضية بين فواعل رسمية و غير رسمية، ثم انتقاء بديل من تلك المتاحة لتبنيه أو تجسيده عمليا، مع التذكير بأن البدائل تأتي بدورها كنتاج لإدراك الموقف و رصد المعلومات حوله.
و يرجع الاهتمام العلمي بصنع القرار السياسي إلى مطلع القرن العشرين، ثم خلال الحرب العالمية الثانية و فترة الحرب الباردة إذ ارتبط بإستراتيجيات القوى الكبرى[4].
إن صنع القرار من التنظيرات الجزئية المنتمية إلى “المرحلة السلوكية” كإحدى أهم المحطات التي مر بها علم السياسة، و هو يعتمد على مستوى تحليل الفرد (المستوى الجزئي) بحيث تأثر رواده بدراسات علم النفس و الاجتماع، فظهر سنة 1954 خلال دراسة للقرار الأمريكي تجاه الحرب الكورية، و حسب “ريتشارد سنايدر” و “روبنسون” توجد ثلاث مجموعات من العوامل المفسرة لمخرجات القرار في السياسة الخارجية:
- مناسبة القرار.
- الدوافع أو الحوافز الشخصية للفرد (البيئة النفسية).
- السياق النظمي الذي يتفاعل فيه الفرد، أي ظروف النظام الدولي (البيئة المعرفية).
المحور الأول: البعد القيادي في السياسة الخارجية الجزائرية بعد الاستقلال
لقد أكد الباحثون على أن السلطة التنفيذية هي المخولة بإدارة شؤون الخارج انطلاقا من عدة أسباب[5] :
- مؤسسة الرئاسة هي الأكثر توازنا و الأكثر امتلاكا لقنوات التواصل المتنوعة على عكس مؤسسات أخرى كالبرلمان مثلا.
- الطبيعة الديناميكية للسياسة الخارجية ترجح كفة السلطة التنفيذية في توليها.
- مدة العهدة الرئاسية (5 سنوات في الجزائر) تلعب دورا هاما في ثبات و استقرار و استمرارية المبدإ الدبلوماسي.
و قد منحت الدساتير الجزائرية سلطات و صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية في تحديد وتوجيه السياسة الخارجية للبلاد[6]، و قد لوحظ سيطرة مؤسسة الرئاسة على حقل السياسة الخارجية تخطيطا و تنفيذا منذ الاستقلال، ” فإذا كانت سيطرة الرئاسة على صناعة القرار في السياسة الخارجية الجزائرية من الناحية الدستورية، فإنها تسيطر عليها كذلك من الناحية الفعلية ” [7].
فرئيس الدولة هو رئيس الدبلوماسية، هذا ما رسخته الدساتير الجزائرية منذ أول دستور سنة 1963.
و من الوهلة الأولى يظهر أن الربط بين السياسة الخارجية و شخصية الرئيس يفترض التغير المستمر في الأولى تبعا لتغير رؤساء الجمهورية ، غير أن الواقع العملي فند ذلك، فالسياسة الخارجية للجزائر لها مبادئها الثابتة و الراسخة منذ الاستقلال، كدعم حق الشعوب في تقرير المصير.
و لعل فترة حكم بومدين هي المثال الأبرز، فقد عرفت بمركزية القرار، و برز بومدين كرمز قيادي فاعل في حركة عدم الانحياز و القضايا العربية و الإفريقية، و كان أول من نادى بنظام دولي جديد يقلص الفجوة بين العالم المتقدم و العالم المتخلف، و أول رئيس عربي يتحدث باللغة العربية في منصة الأمم المتحدة.
و رغم عدم قيام علاقات واضحة المعالم مع الولايات المتحدة الأمريكية، نتيجة الخلاف حول مواضيع إستراتيجية كالقضية الفلسطينية، إلا أن السياسيين الأمريكيين قد أظهروا اهتماما بما يحدث في الجزائر، و من ذلك أن “هنري كسينجر” قد اجتمع مرتين بالرئيس بومدين خلال الفترة: 1973 -1974 باعتباره شخصية قيادية لا بد من مشاركتها في صياغة حل لمشاكل الشرق الأوسط[8] .
إن البعد القيادي في عهد بومدين قد ارتبط بالشرعية التاريخية و الثورية للحاكم، يضاف إلى ذلك ما توفر لديه من إيمان شخصي بأهمية التعاون و طمس اثار النزاعات الإقليمية. و قد أثرّت شخصيته وتكوينه الثوري و الأيديولوجي- القومي في العقيدة الأمنية الجزائرية فكانا من العوامل التي قوّت الريادة الجزائرية إقليميًا ودوليا. منذ بداية حكمه، بدت نيّة الجزائر واضحةً للعب دور إقليمي قيادي يتناسب و ماضيها الثوري، هذا ما يبرر فاعلية سياستها الخارجية على المستويين الإقليمي والدولي في فترة حكم بومدين[9] .
المحور الثاني: تفاعل شخصية الرئيس بوتفليقة مع ما خلفته فترة العشرية السوداء
لقد لازم هشاشة الوضع الاقتصادي منتصف الثمانينيات “غليان شعبي عنيف” لدى كافة شرائح المجتمع، فتداخل ما هو سياسي مع ما هو اقتصادي و اجتماعي في تحليل الأزمة التي انفجرت في 05 أكتوبر 1988 و تفاقم الأمر مع انتشار إرهاب الدولة و إرهاب الجماعات المسلحة[10].
في هذا السياق يقول “برهان غليون” : ” التقت نزعة الاحتجاج الشامل.. مع صرخة الرفض القاطع لواقع أسود و كئيب عند جمهور فقد إيمانه بكل ما يسمع و يقال له” [11].
حزبيا و سياسيا، نتج عن الانتخابات التشريعية في دورتها الأولى لعام 1991 فوز “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” [12] ، لكن تم إلغاء المسار الانتخابي لتجنب فوز الجبهة في الدور الثاني قبل أن يتم حلها بصفة نهائية. و مع انتشار الفوضى العارمة في الشوارع الجزائرية و عبر مناطق كثيرة من الوطن تدخل الجيش عمليا في ظل حالة مهولة من الحصار.
دخلت البلاد إذن في “دوامة مفرغة” ، و ارتفع عدد ضحايا الاغتيالات. و قد اعتبر الفريق محمد العماري أن سنة 1994 هي أسوأ سنة عرفتها الجزائر[13].
و لقد صاحب الأزمة الجزائرية شلل في أدوار السياسة الخارجية[14] . فصارت الجزائر بلدا ” اقترن اسمه خلال التسعينيات بأعمال العنف المريعة التي اقترفها إسلاميون متطرفون و أفراد في قوى الأمن”[15]. و تمت مقاطعة البلد دبلوماسيّاً من حيث منع الزيارات الرسمية لرؤساء الدول و الحكومات، و تحويل الشؤون القنصلية كما حدث مع كل من بريطانيا و الولايات المتحدة الأمريكية[16] ، كما حرمت الجزائر من تدفق الأسلحة أو أية مساعدات في تلك الفترة. رافق ذلك في الشق الاقتصادي ضغوطات صندوق النقذ الدولي للشروع في تطبيق برامج إعادة الهيكلة و التثبيت الاقتصادي.
بالتالي وجدت الجزائر نفسها بمعزل عن العلاقات الدولية التي شهدت الكثير من المستجدات مع نهاية القرن العشرين ، و لم يكن بمستطاع القادة السياسيين الذين جاؤوا بعد إقالة الرئيس “الشاذلي بن جديد” التحكم في زمام الأمور، ذلك ما حصل مع الراحل “محمد بوضياف” ، كما لم يتمكن “اليامين زروال” رغم حنكته السياسية من احتواء الوضع، إلى أن جاء عبد العزيز بوتفيلقة فوضع ضمن أولوياته مسألة “إعادة الاعتبار” للجزائر على المستوى الدولي[17] .
قضى بوتفليقة سنوات وزيرا للخارجية، و قد تميز الرجل بفكره اللبرالي المنفتح، و ميله نحو ربط علاقات التعاون و الحوار مع الاخر، كما عرف بتناوله، خلال عهدته الرئاسية الأولى، للمواضيع المحرمة حينها، فقد تحدث عن أحداث العنف و الإرهاب في الجزائر، وعن العلاقات الجزائرية-الإسرائيلية، و عن مسألة ترسيم الأمازيغية كلغة وطنية، و التضييق على التعددية الحزبية..
و اقترح “مشروع الوئام المدني” ثم “المصالحة الوطنية” و ذلك بالموازاة مع العمل على “تحسين” صورة الجزائر في الخارج عبر تكثيف النشاطات الدبلوماسية و مساعي الوساطة في النزاعات الدولية كما حدث مع النزاع في القرن الإفريقي بين إثيوبيا و أريتيريا.
و يلخص الباحث التونسي “رياض الصيداوي” الخصائص التي انفردت بها شخصية الرئيس بوتفليقة كالاتي[18] :
- الشرعية التاريخية و الخلفية النضالية خاصة و أنه صديق الراحل بومدين.
- الخبرة السياسية في علاقتها بعصر ذهبي عاشته السياسة الخارجية للجزائر اعتبرت ركيزة للرضا الجماهيري و وضع الثقة في شخصه.
- انتماؤه إلى الغرب الجزائري يعتبر في حد ذاته ملمحا من ملامح التجديد في النظام السياسي الجزائري الذي تميز لسنوات طويلة بتهميش هذه المنطقة في تولي مناصب المسؤولية و صنع القرار.
- المهارة الدبلوماسية لهذا الرجل كفيلة باسترجاع موقع الجزائر في مجال السياسة الخارجية خاصة و أن علاقاته الدولية جيدة على مختلف الأصعدة.
المحور الثالث: نماذج عملية لأثر البعد القيادي في توجهات السياسة الخارجية خلال العهدة الأولى و منتصف العهدة الثانية للرئيس بوتفليقة
- قضايا التضامن الإفريقي:
في عهد الرئيس بوتفليقة تم استحداث منصب وزير مكلف بالشؤون المغاربية و الإفريقية، كما برز الاهتمام بما تعانيه القارة من خلال خطبه. و قد عملت الجزائر على تفعيل دور الوسيط لحل النزاع في القرن الإفريقي. بالنسبة لمشاريع التعاون و الشراكة، صار الرئيس بوتفليقة منذ مجيئه للحكم شريكا فعالا في مشروع “نيباد” و مجموعة الثمانية. و هو ما يفسر عودة الدور الريادي للجزائر في عهده على الصعيد القاري.
أما اهتمام الجزائر بمنطقة الساحل و الصحراء فيأتي انطلاقا من الموقع الإستراتيجي للمنطقة ذاتها، و باعتبار الفضاء الإفريقي عمقا إستراتيجيا للجزائر في سياستها الخارجية و عقيدتها الأمنية. فضلا عن انتشار الجماعات المتطرفة الإرهابية بالمنطقة مستفيدة من فشل الدولة في مالي التي تحول شمالها إلى ملجإ لعناصر الجماعات الإرهابية.
و قد أكدت الجزائر على ضرورة التعاون لمكافحة خطر الإرهاب العابر للحدود، و سعت في إطار منظمة الاتحاد الإفريقي لتفعيل اتفاقية مكافحة الإرهاب و الحماية منه، و تم إنشاء المركز الإفريقي للدراسات و البحوث في مجال الإرهاب في أكتوبر 2004 بالجزائر نظرا إلى خبرتها[19] . و قامت بوضع مركز قيادي إقليمي في تمنراست لغرض التنسيق الجهوي مع كل من النيجر و موريتانيا للتصدي للإرهاب العابر للحدود، كما ساهمت في إنشاء وحدة الاندماج و الاتصال (مهمة استخباراتية).
و في مؤتمر التنسيق بين دول الساحل الذي انعقد بالجزائر عام 2010 أكد وزير الخارجية السابق “مراد مدلسي” على أن التداخل بين النشاط الإرهابي و الجريمة المنظمة أمر بالغ الخطورة. فمن المعلوم أن تحركات القاعدة في بلاد المغرب قد تطورت، و زاد الأمر حدة مع انتقال جماعة الدعوة و القتال من حيث اللجوء و التدريب إلى الشمال المالي، إلى جانب حملة الاختطافات الواسعة كتلك التي قادها “عبد الرزاق البارا” عام 2003 بين جانيت و إيليزي و شملت 32 سائحا أوروبيا [20].
في نفس السياق تمت المصادقة على مذكرة الجزائر بخصوص رفض دفع الفدية للجماعات الإرهابية في إطار أشغال المنتدى العالمي الثالث لمكافحة الإرهاب عام 2012.
كما ظلت الجزائر ترفض التدخلات الأجنبية الرامية إلى بسط النفوذ، فرفضت استقبال قيادة “أفريكوم” التي شرعت في العمل الفعلي عام 2008 كتعبير عن نية أمريكية جادة للتواجد عسكريا في القارة [21]. كما انتقل الموقف الجزائري من رفض التدخل العسكري في مالي إلى تقبله لكن ليس بحماس كبير، و هو ما جعل البلدان الراغبة في التدخل، و على رأسها فرنسا و الولايات المتحدة، تحاول التقرب أكثر من الجزائر باعتبارها البلد الوحيد القادر على تقديم قدر كبير من المعلومات حول الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل. و قد دعمت الجزائر بقيادة عبد العزيز بوتفليقة الخيار السلمي التفاوضي، ففي عام 2012 تم إمضاء اتفاق في الجزائر بين حركة الأزواد و أنصار الدين.
- قضايا التعاون الدولي:
العلاقات الجزائرية- الأمريكية:
على إثر أحداث 11 سبتمبر التي قلبت الموازين الإستراتيجية لدول العالم، كان الرئيس بوتفليقة أول قائد عربي يدين الهجمات، فعبر في زيارة له إلى الولايات المتحدة عام 2001 قائلا: ” إن الجزائر التي اكتوت بنار الإرهاب عشرية كاملة تحس بما أحاط ببلدكم، و ليس لها إلا أن تكون متضامنة مع الولايات المتحدة ” . بالتالي صار المنظور الأمني هو المحدد لعلاقات البلدين من خلال التعاون في مجال مكافحة الإرهاب. و مع مباركة النظام الأمريكي للإصلاحات الاقتصادية و السياسية داخليا، برز اهتمامه بالجزائر كمحور رئيس في رسم التوازنات الإقليمية و كشريك إستراتيجي فعال.
إن التعاون الجزائري-الأمريكي في مجال مكافحة الإرهاب متعدد الأبعاد، فالولايات المتحدة سعت إلى حشد مشاركة عابرة للحدود و بتفويض دولي (القرار 1373)، و اعتبرت أن التعاون و التنسيق بين مخابرات و جيشي البلدين سيؤتي أكله. و قامت بإطلاق مبادرات دعمتها الجزائر كمبادرة عموم الساحل لمحاربة الإرهاب عام 2003، ثم مبادرة الدول المطلة على الصحراء عام 2005.
من الناحية الاقتصادية، عملت الولايات المتحدة على غزو السوق المغاربية منافسة بذلك الاتحاد الأوروبي الذي صار قوة دولية لا يستهان بها [22]، و ارتفعت استثماراتها في الجزائر مع توقيع اتفاقية إطار للتجارة و الاستثمار بحيث بلغت 11 مليار دولار سنة 2006 [23]. كما و قد استحوذت الولايات المتحدة على ثلث الاستثمار الأجنبي في الجزائر و تمكنت من إنشاء غرفة التجارة الأمريكية بالبلاد عام 2003 [24].
الحوار المتوسطي مع حلف الناتو:
دخلت الجزائر هذا الحوار سنة 1998 أي قبل مجيء الرئيس بوتفليقة، و عرفت علاقاتها بالحلف منعرجا هاما في إطار إستراتيجية المفهوم العسكري للدفاع ضد الإرهاب الدولي في نوفمبر 2001. تلى ذلك مناورات و تدريبات مشتركة بين القوات الجزائرية و قوات الحلف[25] ، و مشاركة جدية في مبادرة الحلف للحوار المتوسطي التي عرفت بعملية المسعى النشيط لمحاربة الإرهاب [26].
و قد طالبت الجزائر بتوضيحات حول فحوى القيمة المضافة لهذا الحوار [27]. ثم انضمت إليه رسميا في مارس 2004، فهي بالمنظور الغربي “الدولة المفتاح” في المجال الأمني تحديدا و تعد شريكا استثنائيا في مكافحة الإرهاب [28].
العلاقات الجزائرية- الأوروبية:
تعد الجزائر طرفا في الشراكة الأورو- متوسطية التي تضمنها ميثاق برشلونة عام 1995 و نص فيها على إقامة منطقة حرة للتبادلات مع مطلع 2010 [29]. و يأتي اهتمام القيادة الجزائرية بالعلاقة مع الاتحاد الأوروبي على أساس نسبة المبادلات العالية التي تتجاوز 60 بالمئة بين الجانبين من جهة، و من جهة أخرى نظرا للانكشاف الأمني و التحديات المشتركة التي تشهدها المنطقة كظاهرة الهجرة، و الإرهاب، و الجريمة العابرة للحدود..
و على الصعيد الطاقوي تعد الجزائر أهم ممول لأوروبا بالغاز الطبيعي.
و قد انعكست المنافسة الأوروبية الأمريكية على التوجه الفرنسي نحو الجزائر بحيث تراجع الحضور الفرنسي في المنطقة لصالح الولايات المتحدة [30] التي اعتبرتها الجزائر شريكا تجاريا هاما منذ مجيء الرئيس بوتفليقة.
الخاتمة:
منذ الاستقلال ساد مبدأ شخصنة النظام السياسي الجزائري، باعتبار أن رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة و رئيس الدبلوماسية، و هو ما تجلى بصورة قوية في زمن الرئيس الراحل هواري بومدين. و عليه فقد ارتبطت سلوكات السياسة الخارجية بالبعد القيادي للحاكم.
و في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أيضا تم بلورة بعد قيادي خلال فترة تميزت بمستجدات و تغييرات هامة اقترنت دوليا بنهاية الحرب الباردة و انتشار ظاهرة العولمة، ثم بفكر استراتيجي متجدد عقب أحداث 11 سبتمبر 2001. و لقد كان أمامه رهانان عند وصوله إلى سدة الحكم سنة 1999 : رهان داخلي يتمثل في مخلفات الحرب الأهلية، و خارجي تمثل في فك العزلة الدولية التي عاشتها البلاد.
أما على الصعيد التنفيذي للسياسة الخارجية للجزائر فقد لاحظتنا رواج الدبلوماسية الجزائرية خلال العهدة الرئاسية الاولى و منتصف الثانية، و تظل إفريقيا “العمق الإستراتيجي” للجزائر.
في النهاية، إذا أردنا تقديم وجهة نظر تقييمية للسياسة الخارجية في ظل حكم الرئيس بوتفليقة، من الممكن القول أن دبلوماسية الفعل تبقى الكفة المرجَحة في إطار عقيدة أمنية تتضح من خلالها المصالح و الية التفاعل مع التهديدات. و مراجعة تأثير البعد القيادي تتطلب الموازنة بين شخصية القائد السياسي و المكانة و الدور الفعليين للجزائر.
[1] محمد سعد محمد، أساليب القيادة و صنع القرار. ط. 1، القاهرة: إيتراك، 2010، ص. 46، ص-ص: 90-93.
[2] هشام محمود الأقداحي، الشخصية القومية: تحليلي تاريخي، سياسي، اجتماعي. الإسكندرية: مؤسسة شباب الجامعة، 2009، ص-ص: 191-197.
[3] محمد سعد محمد، مرجع سبق ذكره، ص. 20.
[4] المرجع نفسه، ص. 13.
[5] حكيمة علالي، ‘‘ البعد الأمني في السياسة الخارجية: نموذج الجزائر‘‘، مذكرة ماجستير، مقدمة إلى قسم العلوم السياسية، جامعة قسنطينة، 2011، ص. ص. 66 و 67.
[6] عديلة محمد الطاهر، ‘‘ أهمية العوامل الشخصية في في السياسة الخارجية الجزائرية: 1999-2004‘‘، مذكرة ماجستير، مقدمة إلى قسم العلوم السياسية، جامعة باتنة، 2005، ص. 83.
[7] سليم العايب، ‘‘ الدبلوماسية الجزائرية في إطار منظمة الاتحاد الإفريقي‘‘، مذكرة ماجستير، مقدمة إلى قسم العلوم السياسية، جامعة باتنة، 2011، ص. 36.
[8] نور الدين حشود، ‘‘ العلاقات الجزائرية الامريكية: 1992-2004 ‘‘، مذكرة ماجستير، مقدمة إلى قسم العلوم السياسية، جامعة قسنطينة، 2005، ص. 25.
[9] محمد بوعشة، ‘‘ السياسة الخارجية الجزائرية من الرواج إلى التفكك‘‘، في: سليمان الرياشي و اخرون، الأزمة الجزائرية: الخلفيات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية. ط. 2، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1999، ص. 151.
[10] منيرة بلعيد، ‘‘السياسة الخارجية الفرنسية الجديدة تجاه الجزائر‘‘، مذكرة ماجستير، مقدمة إلى قسم العلوم السياسية، جامعة قسنطينة، 2005، ص. 56.
[11] برهان غليون، بيان من أجل الديمقراطية. ط. 4، الجزائر: المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، 1990، ص. 09.
[12] منيرة بلعيد، مرجع سبق ذكره، ص. 57.
[13] رشيد تلمساني، ‘‘الجزائر في عهد بوتفليقة: الفتنة الأهلية و المصالحة الوطنية‘‘، أوراق كارنيجي. ع. 07، يناير 2008، ص، ص. 05، 07.
[14] السعيد ملاح، ‘‘تأثير الأزمة الداخلية على السياسة الخارجية‘‘، مذكرة ماجستير، مقدمة إلى قسم العلوم السياسية، جامعة قسنطينة، 2005، ص. 102.
[15] رشيد تلمساني، مرجع سبق ذكره، ص. 01.
[16] Abderrahman Mebtoul, et autres, enjeux et défis du second mondat du président Bouteflika : démocratie, réformes , développement. Vol. 02, Alger : Casbah éditions, 2005, p. p. 123, 124.
[17] نور الدين حشود، مرجع سبق ذكره، ص. 39.
[18] رياض الصيداوي، ‘‘صراعات النخب السياسية و العسكرية في الجزائر: الحزب، الجيش، الدولة‘‘ . في الموقع الإلكتروني:
، تاريخ الزيارة: 10. 11. 2013.http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=93082
[19] سليم العايب، مرجع سبق ذكره، ص. ص. 147، 150.
[20] حسام حمزة، ‘‘ الدوائر الجيوسياسية للأمن القومي الجزائري‘‘، مذكرة ماجستير، مقدمة إلى قسم العلوم السياسية، جامعة باتنة، 2011، ص. ص. 92، 94.
[21] قوي بوحنية، مرجع سبق ذكره.
[22] صبيحة بخوش، اتحاد المغرب العربي: بين دوافع التكامل الاقتصادي و المعوقات السياسية: 1989_2007. ط. 1، الأردن: دار الحامد، 2011، ص. ص. 314 و 315.
[23] حكيمة علالي، مرجع سبق ذكره، ص. 231.
[24] نور الدين حشود، مرجع سبق ذكره، ص. ص. 61 و 62.
[25] المرجع نفسه، ص-ص: 50-52.
[26] محند برقوق، ، ‘‘ التعاون الأمني الجزائري و الحرب على الإرهاب‘‘ ، أوراق كارنيجي.جوان، 2009، ص. 04.
[27] Abderrahmane Mebtoul, enjeux et défis du second mondat du président Bouteflika : démocratie, réformes , développement. Vol. 01, Alger : Casbah éditions, 2005, p.280.
[28] علالي حكيمة، مرجع سبق ذكره، ص. ص. 246، 247.
[29] صبيحة بخوش، مرجع سبق ذكره، ص. 309.
[30] منيرة بلعيد، مرجع سبق ذكره، ص. 112.