مبادئ الديمقراطية عند جماعة الأخوان المسلمين :دراسة حالة “المغرب – تركيا”
إن المتتبع لتطور الظاهرة الإخوانية منذ تأسيس جماعة الاخوان المسلمين سنة 1928، يتولد لديه اليقين السياسي بكون أدبيات هذه الجماعة واستراتيجياتها للوصول إلى السلطة لم تؤمن يوما بالمعطى الديمقراطي كأساس جوهري لتنظيم اللعبة السياسية بين الفرقاء السياسيين.
إن المعطى الديمقراطي بتأصيلاته الفقهية الذي راكمته التجارب السياسية منذ المدينة الفاضلة لأفلاطون وإلى غاية عصر الأنوار، ساهم في بلورة البناء الديمقراطي المفاهيمي الذي يتم تداوله اليوم على مستوى التدافع السياسي بين الأحزاب السياسية التي تهدف إلى الوصول للسلطة عبر الانضباط للطرح الديمقراطي في شموليته وروح مضامينه.
في هذا السياق، سجلنا تلاعب الإخوان المسلمين بمفهوم الديمقراطية حسب السياقات التاريخية للصراع وحسب موقعهم من اللعبة السياسية ومن دواليب الحكم.
لقد قبل التيار الإخواني بمبادئ اللعبة السياسية كمدخل ضروري واستراتيجي للتسلق التدريجي في سلم الارتقاء السياسي ومواكبة تكتيكات الانتشار الجماهيري والاختراق المؤسساتي ومحاولة التحكم في مفاصل الدولة، مع التعبير على براغماتية مرنة في تعامله مع القيادات السياسية ورأس الدولة في جميع المجتمعات التي وجدوا لهم فيها موطئ قدم.
لقد حاول الإخوان طيلة تاريخ تواجدهم في الساحة العربية والإسلامية تطويع المفاهيم الديمقراطية لما يخدم مشروعهم السياسي الذي يهدف للوصول، حسب أدبيات الإخوان، لما يصطلح عليه ب”مرحلة التمكين”. فالديمقراطية بالنسبة للإخوان عندما يكونون مصطفين ضمن تيار المعارضة ليست هي نفسها الديمقراطية التي يعبر عنها الإخوان عندما يتمكنون من الوصول إلى السلطة السياسية. يقول محمد عبدالرحمان المرسيالكادر في الاخوان “المسلمين”: “إن الديمقراطية تعنى التنافس، وأن هناك معارضة وأغلبية يحددها صندوق الانتخابات وأن هناك آلية لتداول السلطة.
فالأصل في الديمقراطية هو التنافس وليس التوافق، ولا بد أن يكون هناك معارضة وأغلبية، وأىّ تصور يلغى وجود المعارضة ويلغى التنافس للوصول للحكم، فإنه يضعف بذلك العملية الديمقراطية”. إن هذا الإقرار بكون الديمقراطية تفرض، بين ما تفرضه، فرض آلية للتداول على السلطة، ما هو إلا تعبير عن التقية السياسية لهذا التنظيم خصوصا وأن هذا التصريح يعود إلى أيام ما كان الإخوان لازالوا يراوحون مكانهم في المعارضة السياسية “المحتشمة” أيام حكم مبارك.
لقد تطور موقف الإخوان والتنظيمات الإسلامية من الديمقراطية من اعتبارها “كفرا” بواحا يفرض أن ترجع فيه السيادة للشعب انطلاقا من التعريف المتواتر للديمقراطية باعتبارها “حكم الشعب للشعب وبواسطة الشعب”، في حين أن السيادة في الإسلام هي لله وحده فهو وحده الخالق والبارئ والمُشرع والحاكم وأي انحراف عن هذه القاعدة الدينية المرجعية هو انحراف عن الإسلام جملة على اعتبار أن الحكم في الإسلام هو لله وحده، تطبيقا للآية الكريمة “ومن لم يحكم بها أنزل الله فأولئك هم الكافرون” (سورة المائدة الآية 44).
لقد حاول الإخوان “المسلمين” الدخول في العبة السياسية وخوض غمار المنافسة الانتخابية للوصول إلى الحكم، إلا أنها كانت تنقصهم التقعيدات الشرعية التي تصوغ لهم المشاركة في منظومة الممارسة الديمقراطية رغم اعتقادهم بعدم ملاءمتها لمنطوق الشريعة الإسلامية.
ورغم أن مؤسس الجماعة حسن البنا “أفتى” لأتباعه بالانخراط في العملية السياسية، بل وترشح هو فعليا للانتخابات التشريعية عن دائرة الاسماعيلية، إلا أننا لم نعثر في قراءتنا لأدبيات حسن البنا، عن تأصيلات فقهية للمشاركة السياسية والقبول بقواعد الممارسة الديمقراطية.
وأعتقد أن أهم من أصل للعمل السياسي عند تنظيمات الإسلام السياسي هما أبو الأعلى المودودي وسيد قطب.
أولا: التأصيلات الفقهية لمبدأ المشاركة السياسية
إن الفكر المودودي يؤيّد فكرة الاحتكام إلى الديمقراطية كآلية لاختيار الحاكم وكذا من ينوب عنهم في تسيير الشأن العام. غير أن هذه الديمقراطية لا يجب أن تفهم بمعناها الغربي الليبرالي الضيق وإنما هي الديمقراطية الانتخابية التي تفرز الخيار الشعبي المطلوب بمعنى: ما هي هوية الدولة التي يريدها الشعب؟
وفي هذا الصدد يقول المودودي:” أما كيف يتأتى هذا التغيير ؟ فليس له من سبيل في نظام ديمقراطي، إلا خوض معارك الانتخابات، وذلك أن نربي الرأي العام في البلاد، ونغير مقياس الناس في انتخابهم لممثليهم، ونصلح طرق الانتخابات ونطهرها من اللصوصية والغش والتزوير، ثم نسلم مقاليد الحكم والسلطة إلى رجال صالحين، يحبون أن ينهضوا بنظام البلاد على أسس الإسلام الخالص”.
ويرى المودودي أن كل من آمن باللعبة الديمقراطية بمفهومها الغربي وساهم في بلورتها و جعلها “بدعة” للخلق، فإنه ولا شكّ أتى من الشركيات ما يخرجه من دين الإسلام لكونه أنكر معلوما من الدين بالضرورة، فيقول: “إذا سبرت غورها(الديمقراطية) وأمعنت النظر في دخائلها علمت أن الذي تتكون منهم لا يسن كلهم القوانين، ولا ينفذونها جميعاً، بل يضطرون إلى تفويض سلطانهم إلى رجال يختارونهم من بينهم ليشرعوا قوانين ينفذونها، ولأجل هذا الغرض يضعون نظاماً للانتخاب خاصاً، ولا ينجح فيه إلا من يغري الناس ويستولي على عقولهم وألبابهم بماله وعلمه ودهائه ورعايته الكاذبة، ثم ينفذون ذلك القانون الجائر على العامة بتلك القوة نفسها التي خولتهم إياها العامة، ثم يصبح هؤلاء الناجحون بأصوات العامة آلهة لهم، يشرعون ما يشاؤون من القوانين لا لمصالح الجمهور بل لمنافعهم الشخصية ومصالح طبقاتهم المخصوصة التي ينتمون إليها، فهذا هو الداء العضال الذي أصيبت به أمريكا وانجلترا وسائر البلاد التي تدعي اليوم بأنها جنة للديمقراطية ومأوى لها” .
فعلى هذا الأساس يكفر المودودي بهذه الديمقراطية و يتبرأ منها بعبارات صريحة وبينّة: “هذه خصائص الديموقراطية وأنت ترى أنها ليست من الإسلام في شيء. فلا يصح إطلاق كلمة الديمقراطية على نظام الدولة الإسلامية، بل أصدق منها تعبيراً كلمة الحكومة الإلهية أو الثيوقراطية ولكن الثيوقراطية الأوربية تختلف عنها الحكومة الإلهية (الثيقراطية الإسلامية) اختلافاً كلياً فإن أوروبا لم تعرف منها إلا التي تقوم فيها طبقة من السدنة، مخصوصة، يشرعون للناس قانوناً من عند أنفسهم حسب ما شاءت أهواؤهم وأغراضهم، ويسلطون ألوهيتهم على عامة أهل البلاد متسترين وراء القانون الإلهي، فما أجدر مثل هذه الحكومة أن تسمى بالحكومة الشيطانية منها بالحكومة الإلهية” .
و على غرار الإيديولوجية الماركسية اللِّينينية، التي تنادي بدكتاتورية البروليتاريا على أساس أنها أسمى تعبيرات الديمقراطية لكونها تُخضع الدولة لحكم الشعب، من عمال و فلاحين و محرومين، وبالتالي فهي القاعدة التي تشكل الأغلبية الساحقة وطبيعي أن تفرض ديمقراطيتها فرضاً، ولهذا اصطلح على هذه الديمقراطية بديكتاتورية البروليتاريا، قلنا على غرار هذه الإيديولوجية، يطرح أبو الأعلى المودودي نظرية الديمقراطية الإسلامية على اعتبار أننا نعيش في مجتمعات جل عناصرها مسلمون، سبق لهم أن تشرّبوا من تعاليم الدين الحنيف و تشبّعوا بقيمه (وهذا شرط مسبق لإقامة الديمقراطية) وبالتالي فإن الديمقراطية لن تكون إلا تعبيرا خالصا للأغلبية الساحقة التي تٌقرّ وتصبو إلى بناء دولة ذات هوية ومرجعة إسلامية واضحة. وفي هذا الصدد يبتدع المودودي، كما أسلفنا، مصطلح الثيوقراطية التي تُعرّف على أساس أنها: “لا تستبد بأمرها طبقة من السدنة أو المشايخ، بل هي التي تكون في أيدي المسلمين عامة وهم الذين يتولون أمرها والقيام بشؤونها وفق ما ورد به كتاب الله وسنة رسوله. ولئن سمحتم لي بابتداع مصطلح جديد لآثرت كلمة “الثيقراطية-الديموقراطية” (Theo-democracy) أو “الحكومة الإلهية الديموقراطية” لهذا الطراز من نظم الحكم لأنه قد خول فيها للمسلمين حاكمية شعبية مقيدة” .
ورغم أن الديمقراطية يمكن أن تكون التعبير الحقيقي عن رغبات الشعب واختياراته وتطلعاته، إلاّ أن المودودي سيقوم “بمصادرة” هذا الحق في الاختيار الحر، ولو من المؤمنين خاصة، على اعتبار أن الإنسان بطبيعته وبنيته الفكرية التي حباه بها الله، يبقى قاصرا عن إدراك صميم مصلحته وعاجزا عن معرفة سواء السبيل، لنقص في الإداك وصعوبة في الفهم والتلقي وكذا لتمكّن الشهوات منه وانقياده وراء النفس “الأمّارة بالسوء” ويعتبر المودودي أنه في حالة ما إذا “سلمنا أن القوانين تشرع في تلك البلاد عن رضى العامة، فقد أثبتت لنا التجارب أن العامة لا يستطيعون أن يعرفوا مصالحهم، فإن البشر قد خلقهم الله على ضعف فطري كامن في نفوسهم؛ فيرون في أكثر أمور الحياة بعض جانب من الحقيقة. ولا يرون بعضه الآخر، ولا يكون حكمهم مرتكزاً على نقطة العدل عموماً، وهم في الغالب يكونون مغلوبين على أمرهم من العواطف والميول فيرفضونها لأجل غلبة العواطف والشهوات على أنفسهم”.
أما سيد قطب فقد أصل لفكرة خبيثة يعتبرها الإخوان الأساس العقدي للمشاركة السياسية ومحاولة الوصول إلى السلطة ومن تم الانقلاب على باقي الشركاء في العملية السياسية. لقد وجد سيد قطب في قصة سيدنا يوسف مبررا شرعيا لإمكانية المشاركة في الحكومة “الكافرة” في ظل غياب دولة الإسلام التي يصر سيد قطب على أنها غير موجودة البتة وأن الإسلام انقطع عن الوجود “فقد غابت الأمة المسلمة عن ” الوجود ” وعن ” الشهود ” دهرًا طويلاً . وقد تولت قيادة البشرية أفكار أخرى وأمم أخرى ، وتصورات أخرى وأوضاع أخرى فترة طويلة… وبخاصة أن ما يسمى ” العالم الإسلامي ” يكاد يكون عاطلاً من كل هذه الزينة”. ويستند سيد قطب على ما جاء في الآية 55 من سورة يوسف حيث يقول جل وعلا: “قال اجعلني على خزائنِ الأرض إنّي حفيظٌ عليم”، ليبرهن على أن ما قام به سيدنا يوسف هو حقيقة ما يجب أن تقوم به التنظيمات الإسلامية على اعتبار أن حديث “إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدا سأله ولا أحدا حرص عليه” لا يمكن فصل عن سياقات تطبيقه والتي تفرض أن نكون في مجتمع إسلامي اكتمل تكوينه وأصبح يحكم شرع الله في كل صغيرة وكبيرة من أمور دينه ودنياه. وهنا يقول سيد قطب في تفسيره لهذه الآية: “إنه (يقصد سيدنا يوسف عبيه السلام) لم يكن يعيش في مجتمع مسلم تنطبق عليه قاعدة عدم تزكية النفس عند الناس وطلب الإمارة على أساس هذه التزكية. كما أنه كان يرى أن الظروف تمكن له من أن يكون حاكما مطاعا لا خادما في وضع جاهلي. وكان الأمر كما توقع فتمكن بسيطرته من الدعوة لدينه ونشره في مصر في أيام حكمه. وقد توارى العزيز وتوارى الملك تماما..”.
وقد استدل بعض المعاصرين بهذه الآية على جواز طلب الإمارة، وجواز إعطائها لمن طلبها. وناقشوا، وهم في معرض تفسيرها، مدى شرعية تولي المناصب العليا في دولة لا تحكم بشريعة الله.
يقول سيد قطب: «وهذه المهمة، مهمة احداث انقلاب اسلامي عام غير منحصرة في قطر دون قطر، بل ما يريده الاسلام ويضعه نصب عينيه ان يحدث هذا الانقلاب الشامل في جميع أنحاء المعمورة، هذه هي غايته العليا ومقصده الاسمى الذي يطمح اليه ببصره الا أنه لا مندوحة للمسلمين أو أعضاء الحزب الاسلامي – يقصد الاخوان – عن المشروع في مهمتهم باحداث الانقلاب المنشود والسعي وراء تغيير نظم الحكم في بلادهم التي يسكنونها»(في ظلال القرآن الجزء 3 الصفحة 1451).
ثانيا: تطبيقات عملية لتطويع المبادئ الديمقراطية عند التيار الإخواني
يمكن الجزم أن ظاهرة الركوب على الديمقراطية واستغلالها مرحليا لما يخدم الطرح التأصيلي لجماعة الإخوان المسلمين والذي يعتمد على القاعدة الفقهية “الضرورات تبيح المحظورات” و “فقه الممكن”، أصبح يشكل القاعدة السياسية للإخوان في جميع الأقطار الإسلامية التي وجدوا لهم فيها موطئ قدم.
ولعل واقع الحال يفرض التطرق للتجربة التركية على اعتبار أن تيار الإخوان المسلمين حقق إلى حد بعيد حلم التمكين للجماعة بسيطرته على الأجهزة التشريعية والتنفيذية والقضائية ووضع يده على قطاع الجيش والشرطة والمخابرات واستطاع التحكم في جميع مفاصل الدولة في ظل وجود معارضة سياسية تناور على استحياء في ظل هيمنة الخطاب الأردوغاني على الساحة السياسية التركية.
كما أن منطق الانتماء والارتباط يفرض علينا طرح التجربة المغربية للدرس والتحليل ومحاولة رصد بعض مظاهر “مأساة الديمقراطية”.
الديمقراطية التركية
منذ وصوله للسلطة سنة 2003 بفضل الجو الديمقراطي الذي تنعم به تركيا، قام أردوغان، على مراحل، بطي صفحة الديمقراطية وكشف القناع على الوجه الحقيقي لطبيعة المشروع الإخواني الخطير والقائم على محاولة عزل جميع القوى السياسية والانفراد بالسلطة والسطو عليها للأبد. لقد سقطت خطابات أردوغان الداعية إلى التداول السلمي على السلطة واحترام مكانة المعارضة ومحاربة الديكتاتورية إلى سياسة إقصائية تحاول إخراص أي صوت معارض.
ولم يكتفي حزب العدالة والتنمية التركي بنسف البناء الديمقراطي في تركيا ومحاولة إسكات جميع الأصوات المعارضة وشيطنتها والظهور بمظهر الرجل المضطهد والذي اضطرته الظروف للجوء إلى إجراءات أمنية متشنجة، إلى محاولة القضاء على الديمقراطية فكريا وثقافيا. وهنا يتبادر إلى الذهن ما قاله أحد أتباع المدرسة الإخوانية والذي يدعى زبير خلف الله حين علق على مراسيم انتقال السلطة بين عبدالله غل ورجب طيب أردوغان بالقول: “إلا أني مازلت أؤمن بأن هناك وعياً جديداً يولد في بلداننا سيرسخ في يوم ما مفهوم التداول السلمي على السلطة“. وهنا نسجل إلى أي حد وصل الخبث بهذا التيار الذي أصبح يعتبر أن التداول على السلطة هو اقتسام الأدوار داخل نفس الحزب لحكم مصير شعب لا يمثل بالضرورة جل أطيافه التيار الإخواني.
لقد قام أردوغان بإسكات جميع الأصوات المعارضة وتحكم في وسائل الإعلام وشيطن جميع المعارضين السياسيين وعلق شماعة فشل مجموعة من مشاريعه على المعارضة اليسارية أو حزب العمال الكردستاني أو جماعة فتح الله غولن. وأصبح العالم كلما تعلق الأمر بحدث إرهابي أو عمل تخريبي يتوقع خرجات أردوغان التي لا تخرج عن إطار إلصاق التهم جزافا بالمعارضين السياسيين في أفق شرعنة أفعال انتقامية تساعد في تسريع مسلسل القضاء على آخر ما تبقى من الأصوات المعارضة في تركيا.
لقد أظهرت المحاولة الانقلابية الأخيرة، والتي نجزم على أن المخابرات التركية كانت على علم بها، دهاءا خبيثا لأردوغان والذي لم يجد حرجا في التضحية ببعض المئات من المواطنين الأتراك من أجل توجيه رصاصة الرحمة للجيش التركي وسجن جميع القيادات العسكرية حتى التي لم يكن لها يد في الانقلاب من قريب أو بعيد. ولم يقف بطش أردوغان عند هذا الحد بل تعداه إلى سجن واعتقال جميع الأصوات المعارضة من محامين ودكاترة وصحفيين وسياسيين ورجال دين، في محاولة لاستغلال هذه “الهدية” لاستئصال شأفة جميع الأصوات المعارضة.
نفس المعطى يمكن التأكيد عليه بمناسبة اغتيال السفير الروسي بأنقرة أندريه كارلوف على يد الشرطة في القوات الخاصة مولود ألتنطاش، حيث لم يجد أردوغان مصوغا لتورط أحد عناصر الشرطة المتشبع بالعقيدة الإخوانية في هذه العملية الإرهابية إلا بإلصاقها بجماعة فتح الله غولن المعارضة.
معطى آخر يكشف النزعة الاستئصالية للتيار الإخواني في تركيا والذي يقوده رجب طيب أردوغان. هذا المعطى يتعلق بالقضية الكردية.
يشكل الأكراد نسبة 15،1% من مجموع سكان تركية بتعداد إجمالي يزيد عن 14 مليون نسمة، وهي نسبة مهمة لها تأثيرها على تشكيل الخارطة السياسية لتركيا. ويرى بعض العارفين بخبايا السياسة الأردوغانية أن تركيا تتجه إلى دعم إنشاء دولة كردية شمال العراق مع اجتزاء جزء من شمال سوريا ذو الأغلبية الكردية وبعض من الأراضي التركية إن اقتضى الحال مما سيسمح لأردوغان من التخلص من عبئ سياسي كبير أرق تركيا الأردوغانية لعقود طويلة خصوصا وأن عقيدة “الوطن” ليست مترسخة بتلك القناعة التي يتصورها البعض في البنية العقدية للتيار الإخواني.
هذه المعطيات تؤكد، لمن لا زال يحتاج إلى دليل، على السياسية الاستئصالية التي ينتهجها أردوغان من أجل إقبار آخر معالم الديمقراطية التركية فيما يمكن أن نسميه بمأساة الديمقراطية.
الديمقراطية البنكيرانية
ظهر حزب العدالة والتنمية على الساحة السياسية المغربية سنة 1996 من خلال الوحدة التي جمعت بين حركتي الإصلاح والتجديد ورابطة المستقبل الإسلامي والتي ستؤدي إلى تأسيس حركة التوحيد والإصلاح.
قامت الحركة بالانضمام لحزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية بمباركة من جماعة الإخوان المسلمين وبتدخل حاسم من القيادي الإخواني المصري صالح أبو رقيق ليتم الانقلاب على هياكل الحزب والدعوة لعقد جمع عام استثنائي وتغيير اسم الحزب إلى حزب العدالة والتنمية.
إن نهج “الانقلاب” الذي اتبعه حزب العدالة والتنمية المغربي على الحزب الأم، هو نفس التكتيك الذي سيتبعه الحزب في علاقته بباقي القوى السياسية، من خلال اللعب على الواجهتين الدينية والسياسية والاستمرار في خطة الانتشار الجماهيري والاختراق المؤسساتي في ظل سكوت غريب للدولة المغربية والتي لم تعي خطورة المخطط الإخواني إلا في وقت متأخر كان فيه خطر الحزب قد استفحل وأصبح من الصعوبة مواجهته بالأساليب التقليدية للاحتواء السياسي.
هبت رياح “الربيع العربي” وهبت معه الشعوب مطالبة بالتغيير و الدفاع عن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية وتغيير أنظمة الحكم لما يتوافق والهوى السياسي العام والذي غالبا ما تحكمه الرغبات والأهواء العفوية دونما وجود استراتيجية للتغيير العقلاني وواقعية تنظيمية وتأطيرية يمكنها توجيه الجماهير لما يخدم الطرح الجماهيري في ظل انهيار منظومة التأطير والتوجيه عند السلطة والأحزاب بشكل دراماتيكي.
لم يُخلف الاخوان، كعادتهم، موعدهم مع التاريخ وركبوا الموجة الجماهيرية مستغلين في ذلك سذاجة الجماهير وعفويتها فقاموا بالسطو عليها تحت شعارات دينية تتلاقى مع المشترك العقدي لمعظم شعوب الدول الإسلامية.
قام الإخوان المسلمين بالمغرب بالركوب على موجة الاحتجاجات الشعبية ونجحوا في الوصول إلى الحكم مستغلين في ذلك ضعف التواجد الحزبي لباقي القوى السياسية والرغبة التي عبر عليها الناخب المغربي في التغيير، ولم يكن يتواجد على الساحة السياسية مكون جديد غير حزب العدالة والتنمية والذي يمثل امتدادا طبيعيا للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين بالمغرب.
حاول حزب العدالة والتنمية الالتفاف على الديمقراطية ودفع، على غرار باقي التنظيمات الإخوانية التي وصلت إلى السلطة، بتبني قانون العزل السياسي وطالب بحل بعض التنظيمات المعارضة واستمر في سياسة الانتشار الجماهيري والاختراق المؤسساتي مقدما نفسه على أنه حزب يمثل الإرادة الإلهية وأن كل من تبنى أطروحة الحزب فمصيره الجنة، بتعبير أمينه العام عبدالإله بن كيران.
إن خصوصية النظام السياسي المغربي والرمزية القوية لمؤسسة إمارة المؤمنين وطبيعة النظام الانتخابي المغربي، صعبت، ولو إلى حين، من مهمة حزب العدالة والتنمية في الحصول على الأغلبية المطلقة والتي كان من شأنها أن تمكن الحزب من التحكم في السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وتضعه أمام منافس وحيد وهو المؤسسة الملكية والتي سيعمل على الدخول معها في تحالفات مرحليا في أفق توجيهها والقضاء عليها انطلاقا من القاعدة الإخوانية التي تتأسس على تكتيك “لعبة المصالح المشتركة مع الطاغوت”.
لقدت شكلت أزمة تشكيل الحكومة التي يعيشها المغرب حاليا، مثالا صارخا على ديكتاتوريا حزبية غير مسبوقة لحزب العدالة والتنمية. فإذا كان الحزب قد احتل المرتبة الأولى وقام الملك بتعيين أمينه العام لتشكيل الحكومة، فهذا لا يعني أن احترام الملك للمنطق الدستوري أن الحزب يمثل سياسيا وحسابيا الإرادة الشعبية. هذا المعطى الأخير أصبح هو الشماعة التي يعلق عليها الحزب جميع مطالبه ويحاول أن يفرض من خلالها جميع شروطه. وهناوجب أن نوضح نقطتين منهجيتين أساسيتين:
النقطة الأولى: يمكن القول أن حزب العدالة والتنمية نسف المبدأ الديمقراطي القاضي باحترام أخلاقيات العمل السياسي واحترام الضوابط التي تحكم المنافسة الشريفة من خلال احتكارهللمشترك العقدي من أجل استغلاله في ساحة التدافع السياسي والتي من المفروض أن تكون فضاءا لتقديم برامج اقتصادية واجتماعية وتنموية قادرة على الاستجابة للمتطلبات اليومية للمواطن المغربي.
لقد كانت الحملات الانتخابية لحزب العدالة والتنمية مبنية على معطى وتحد ووحيد: حزب إسلامي في مواجهة مجموعة من الأحزاب العلمانية والملحدة والكافرة. هذا المعطى لوحده يعتبر كافيا لنسف المبدأ الديمقراطي الذي يحكم العملية السياسية ويضرب عرض الحائط روح التنافس السياسي الشريف.
النقطة الثانية: والمتعلقة أساسا بما يطلق عليه حزب العدالة والتنمية بالمشروعية الشعبية.
لقد حصل حزب العدالة والتنمية على مليون وستمائة ألف صوت من إجمالي 36 مليون التي تمثل ساكنة المغرب و 24 مليون شخص لها الحق في التصويت و14 مليون مسجل في اللوائح الانتخابية. وبذلك فإن حزب العدالة والتنمية يمثل فقد 4.4% من مجموع الساكنة الاجمالي و 6.6% من نسبة الفئة القادرة على التصويت و 11% من الناخبين المسجلين في اللوائح الانتخابية. إذا في ظل هذه المعطيات، على أية مشروعية شعبية يتحدث حزب العدالة والتنمية.
هذا الإكراه الانتخابي يفرض على حزب العدالة والتنمية الإخواني الدخول في تحالفات استراتيجية ومعقولة وجدية ومبنية على أساس برامج ورؤى مشتركة قابلة للتطبيق والتفعيل. غير أن هذا التنظيم يرفض مثل هاته التقعيدات السياسية ويواصل استعلاءه السياسي واستعمال مصطلحات غريبة على الممارسة الديمقراطية من قبيل “أنا مول العرس” أي أنا صاحب الحفل والباقي مجرد مدعوين يجب أن يقبلوا بما يقدمه لهم صاحب الحفل. هذا الاستعلاء والاحتقار لباقي مكونات العمل السياسي ولرموز الأحزاب السياسية التي تعرضت لهجمات شرسة من طرف الكتائب الإلكترونية لحزب العدالة والتنمية التي كالت لها جميع أنواع السب والقذف والشتم وقادت حملات ممنهجة للتضييق الاقتصادي على بعض الأنشطة الاقتصادية لبعض أمناء الأحزاب (الدعوة إلى مقاطعة محطات البنزين أفريقيا التي تعود ملكيتها لعزيز أخنوش الأمين العام لحزب التجمع الوطني للأحرار)،وهذا الخلل في تدبير المشاورات الحكومة والطريقة التي يهاجم بها الحزب الحاكم باقي القيادات الحزبية جعلت هذه الأخيرة تستشعر خطورة هيمنة هذا التنظيم على المشهد السياسي، الشيء الذي جعل من تشكيل الأغلبية الحكومية أمرا جد مستعصيا ولا يبدو أن هناك مخرجا سياسيا في الأفق، في ظل تعنت حزب العدالة والتنمية عن إعلان فشله في تشكيل الحكومة رغم مرور ما يقرب من الأربعة أشهر ونصف على تعيين أمينه العام. هذه النتيجة جعلت المغاربة يستشعرون مرارة الاختيارات الدستورية ويعانون من مأساة حقيقية أطلقنا عليها مأساة الديمقراطية.
خلاصة القول، أن الديمقراطية عند تنظيمات الإسلام السياسية ما هي إلى مرحلة من مراحل الصراع التكتيكي الذي يقودها فروع التنظيم الدولي لجماعة الاخوان المسلمين من أجل الوصول إلى السلطة ومن ثم الانقلاب عليها بالطرق والأساليب التي أصلنا لها أعلاه والتي تتجه كلها إلى التأكيد على أن الديمقراطية، بتعبيراتها الإخوانية، تعيش مأساة أبستمولوجية حقيقية.