“خليجي تاتشريزم”.. وثيقة ما بعد حصار قطر
اعداد : د. بلال الصباح – باحث في الشؤون الإفريقية – عضو نقابة الصحافة في جنوب إفريقيا
دولة قطر.. من شريك في مُكافحة التطرف والإرهاب إلى شريك في صناعته ومُمول له. سيلٌ من الإتهامات يصدر بالجملة ودون توقف عند قضية ما أو مكان مُعين، ثم حصار شامل قبل أن تحسم الأدلة القانونية دلالاتها أمام مجلس الأمن الدولي. هي أشبه بزوبعة، بدأت بصيحات غير محسوبة على مواقع التواصل الإجتماعي ما بين مع أو ضد دولة قطر، ثم سرعان ما أصبحت سياسات مُشرعة ومُقننة على المستوى الخليجي، وما لفت إنتباهي هو الحديث عن مستقبل مجلس التعاون الخليجي وسط تكهنات لم تتجاوز خط التنبؤ السياسي حول خروج كل من سلطنة عُمان ودولة قطر من المجلس الخليجي!.
إذً؛ لنذهب معاً إلى الإتحاد السوفييتي، ولنقرأ قصة “رغيف الخبز الروسي” الذي أسقط تلك الإمبراطورية العظيمة، التي كانت قائمة على إتحاد مجموعة من الدول إنطلاقاً من فكرة “الشيوعية”. وما أعتقد به جزما؛ أن النموذج السوفييتي هو الأقرب للنموذج الخليجي، ولكن بعد أن نفهم كيف لـ”رغيف خبز” دور في تفكيك الإتحاد السوفييتي، وهل سوف يقع الإتحاد الخليجي في الفخ نفسه تَبعاً لهذه التجربة الصعبة؟!.
عندما اشتد الحصار على الإتحاد السوفييتي في مرحلة “الحرب الباردة”، حاول الرئيس السوفييتي “ميخائيل غورباتشوف” إنعاش إقتصاد بلاده، فأرسل أحد كبار مُساعديه إلى بريطانيا للإستفادة من منهجية “تاتشريزم” (Tactcherism) المنسوبة لرئيسة وزراء بريطانيا “مارغريت تاتشر” آنذاك، والتي قدّمت منهجية “الاقناع العقلي” على منهجية “الاجماع السياسي”. حيث هذه المنهجية هي التي جعلت من لندن عاصمةً للسياسة والإقتصاد العالميين. وأثناء جولة المندوب الروسي الميدانية وسط أسواق لندن وبرفقة كبار المستشارين البريطانيين؛ وبعد ساعات فقط من الجولة والتي شملت المراكز والهيئات الإقتصادية، انفجر المندوب الروسي في وجه من يُرافقه من البريطانيين، وقال لهم: (من فضلكم.. لحظة واحدة، لنترك جميع النظريات الإقتصادية المُعقدة، وأجيبوا على سؤالي البسيط؛ فما لفت إنتباهي في شوارع لندن شيء واحد لم أستطع فهمه؛ وهو أننا في موسكو اخترنا أفضل العقول البشرية لتعمل على تطوير “إمدادات” الخبز للشعب الروسي، ومع ذلك ما زلنا نُعاني من الطوابير الطويلة جداً على أبواب المخابز، أما في لندن، حيث يعيش الملايين من البشر، لم أشهد طابوراً واحداً). وهنا طلب المندوب الروسي من رفقائه البريطانيين أن يلتقي مع الشخص المسؤول عن توريد الخبز لمدينة لندن، فاندهش الجميع من السؤال المُوجه في غير وقته، وفي لحظة تفكير أجاب أحد البريطانيين قائلاً (لا يوجد لدينا هيئة مُتخصّصة لتوريد الخبز)!.
القصة هنا تُجسّد لُبّ الصراع بين الشيوعية والليبرالية، فروسيا احتكرت جميع القرارات دون إعتبار للدول المُتحدة معها، والتي تُعرف بـ”مركزية القرار”. حتى في صناعة الخبز؛ فكان جميع أبناء الجمهوريات المُتحدة مع روسيا ينتظرون موافقة موسكو على نوعية وكمية الدقيق، وساعة الصفر للبدء بصناعة الخبز. بينما اعتمدت الليبرالية مبدأ “اللامركزية” في توزيع القرارات وفق ما تراه المؤسسات أو الأفراد العاملون في نطاق الدولة. كما أن صناعة الخبز في النموذج الليبرالي لا يحتاج إلى هيئات أو نقابات، بل أن القرارات مُوزعة ما بين المُزارعين والمُنتجين والمُستهلكين، حسب أولويات العرض والطلب والتنمية.
والشاهد من قصة “رغيف الخبز الروسي”؛ هو أن مساعد الرئيس السوفييتي “ميخائيل غورباتشوف” أدرك يقيناً بعد زيارته لبريطانيا بأن السبب الرئيسي الذي سوف يقف وراء إنهيار تحالف الجمهوريات السوفييتية مع روسيا، لن يكون سوء النظريات الإقتصادية القائمة على الشيوعية، بل إحتكار روسيا لجميع القرارات في كافة أنحاء الإتحاد السوفييتي، حتى في صناعة الخبز الذي يجب أن يكون روسياً في النشأة والذوق دون مراعاة ظروف ومُعطيات الجمهوريات المُتحالفة معها وتقاليد شعوبها وأذواقهم.
وبالعودة إلى مجلس التعاون الخليجي وأزمة حصار دولة قطر، فالبعض يعتقد بأنه الأول من نوعه بين الخليجيين، ولكن الحقيقة ليست كذلك. ففي عام 2005 أخفقت دولة الإمارات في تشييد جسر بحري يربطها بدولة قطر، كما أخفقت الثانية ببناء الجسر البحري الذي يربطها بمملكة البحرين؛ والأمر كله مرهون بالسياسات الخليجية المُتباينة حول الأمن القومي الخليجي. ففي السنوات الماضية تهجم الإعلام الخليجي على العلاقات الإستراتيجية التي تربط سلطنة عُمان بإيران، وانتقد دور دولة الإمارات الذي كان بمثابة الرئة التي يتنفس منها الإقتصاد الإيراني أثناء فترة الحصار. وليس ببعيد عن شيعة البحرين والكويت، حيث تواصلهم الديني مع إيران أصبح له تأثيراً مباشراً على بعض القرارات “شبه” السيادية الخليجية. كما تجاهل الخليجيون سلطنة عُمان عام 2016، بسبب التباين في وجهات النظر بخصوص الملف الإيراني، ومقترح الإتحاد الخليجي، وعدم مُشاركة عُمان في عاصفة الحزم.
إذاً؛ لو تمعنا بعقلانية خالصة، لأدركنا أن دول مجلس التعاون الخليجي مُقبلة على مرحلة جديدة، وهي التباين الواضح في المواقف السياسية بين جميع هذه الدول، ويعود ذلك إلى أن دول الخليج العربي أخذت تتبنى إستراتيجيات غير مُتوافقة مع إستراتيجية “الإجماع السياسي” المُتبعة سابقاً بين الخليجيين، والتي ترى بضرورة الوقوف عند إستراتيجية واحدة تجمع جميع الخليجيين، وخاصة في السياسة الخارجية.
ولقولي خلاصة؛ بأن نموذج الإتحاد السوفييتي ليس ببعيدٍ حقاً عن نموذج مجلس التعاون لدول الخليج العربي، حيث سقط الإتحاد السوفييتي بسبب تطبيق نظرية “الإجماع السياسي” وأنه يجب على جميع الدول السوفييتية التوافق مع روسيا في جميع القرارات، حتى في صناعة رغيف الخبز. بينما أدركت رئيسة وزراء بريطانيا “مارغريت تاتشر” بأهمية تفضيل نظرية “قناعة العقل” وأن لكل فرد أو مؤسسة أن تعمل بما تراه مُناسباً دون العودة إلى مركزية القرار في العاصمة لندن، وذلك لتفادي الصدام بين رؤية العقول المُتعددة في البلد الواحد أو في الإتحاد بين مجموعة من الدول.
ولذلك نُعول على جميع دول الخليج العربي الأخذ بعين الإعتبار بأن مفهوم تعزيز المركزية السياسية والإقتصادية فيما بينها سوف يكون له مضار وتبعات سلبية أكثر منها إيجابية. وأن المركزية السياسية أو “الإجماع السياسي” حول قضية واحدة لم يعد يتناسب مع التطور الهائل الذي تشهده جميع الدول الخليجية دون إستثناء، فتطور دولة الإمارات قد يُعطيها خصوصية لا يُشترط أن تكون متوافقة مع خصوصية دولة قطر، على سبيل المثال. لذلك؛ على دول الخليج العربي ضرورة تسريع تبّني وتطبيق منهجية “خليجي تاتشريزم” القائمة على “قناعة العقل” فيما يدور حوله من مُعطيات وخصوصيات. وهي المنهجية الوحيدة التي تكفل حرية إختيار كل دولة إستراتيجيتها الداخلية وسياستها الخارجية الخاصة بها، وبما يتوافق مع الأمن القومي العربي المُشترك.
حيث كنا نُفسر سابقاً توافق جمهوريات الإتحاد السوفييتي على أنه قوة ضاربة، وسرعان ما اتضح لنا بأن هذا التوافق ليس إلا بركان الإنهيار والتفكك فوق رغيف الخبز الروسي. وعلى الخليجيين الإنتباه للدرس والنموذج السوفييتي، وأن ليس لهم إلا إعلان وثيقة “خليجي تاتشريزم” لتفادي مفهوم الحصار والمُقاطعة في المرحلة المُقبلة، حتى لا يُصبح الحصار دورياً على بقية دول مجلس التعاون الخليجي بسبب تباين السياسات الخارجية فيما بينهم. وما أحوجنا اليوم جميعاً، لأن يظهر الرشيد منا، خليجياً أو عربياً، وبشجاعته أن يُكرر الموقف الذي فعله مساعد الرئيس السوفييتي “ميخائيل غورباتشوف” في بريطانيا بالصوت والصورة، ولينفجر قائلاً (من فضلكم.. لحظة واحدة، لنترك جميع النظريات السياسية المُعقدة، وأجيبوا على سؤالي البسيط؛ هل إختلافنا في السياسيات الخارجية يعني أننا لا نثق ببعضنا البعض؟!). وحينئذ تكون بداية إعلان وثيقة “خليجي تاتشريزم”، وربما “عربي تاتشريزم”…انتهى/بلال الصبّاح/16مايو2017.