مفهوم الحرية : قراءة في كتاب المفكر المغربي “عبد الله العروى”
اعداد : ياسين عتنا – باحث في علم الاجتماع – فاعل حقوقي و جمعوي
- المركز الديمقراطي العربي
تمهيد:
مما لا يختلف فيه البيان، أن مفهوم الحرية من ابلغ المفاهيم الإنسانية تداولا، سواء تعلق الأمر في اللسان الشعبي اليومي، أو في الحقل الفلسفي و العلمي. وعلى إثر هذه الأهمية البالغة، نخصص مقالنا هذا، لقراءة في فصول كتاب ” مفهوم الحرية” للمفكر المغربي عبد الله العروى، الصادر عن دار النشر المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة، 1993. لما يحوزه هذا الكتاب من أهمية معرفية في الساحة الفكرية المغربية و العربية على حد سواء. الأمر الذي فرض الوقوف عنده، ورصد تحليله للمفهوم السالف. وفق أربع مستويات معرفية؛ أولها معنون بـ” طوبي الحرية في المجتمع الإسلامي التقليدي” حيث عالج فيه مسألة الحرية استنادا على المنظومة المعجمية العربية، و ركز على أربع مصطلحات تضممن مفهوم الحرية، وهي كل من : البداوة، التصوف، العشيرة، التقوى. في حين جاء الفصل الثاني، الموسوم بـ ” الدعوة إلى الحرية (عهد التنظيمات)” موضحا فية ما يصطلح عليه سياسات الإصلاح كامتداد لتوغل أنظمة الدولة و إقحام الفرد في تجربة السياسة، و ارتباط مفهوم الحرية بالدولة . أما الفصل الثالث : “الحرية اللبرالية “، تضمن تحديد معالم التفكير اللبرالي، و تبيان الأشواط التي خاضها ( أربع مراحل) ليلتقي بها المفكر العربي على شكل منظومة فكرية متناقضة. الفصل الرابع : ” نظرية الحرية”، حاول فيه عبد الله العروي أن يجادل في كل من الفكر اللبرالي و الماركسي و الوجودي، و تصورهم الفلسفي لمفهوم الحرية، و علاقتهم بالوضع العربي من خلال تسليط الضوء على بعض المفكرين العرب. أما الفصل الخامس فخصص لـ” اجتماعيات الحرية”، موضحا فيه الإهمال الذي طال جسم العلوم الاجتماعية و بالأخص علم الاقتصاد و علم الاجتماع و علم السياسة، لكونها علوم تعبر عن مؤشرات التحرر.
و بناءا على هذا التخطيطـ استطاع عبد الله العروي أن يقدم لنا الملابسات التي تطال مفهوم الحرية، وأن البنية الثقافية تلعب دورا في بناء النموذج الاجتماعي للحرية، مؤكدا على فكرة اهمية العلوم الاجتماعية وانتشار نتائجها في المجتمع، كمؤشر على التحرر. بالإضافة إلى تقعيد الأصول الفلسفية للحرية واقعيا وكذا تنزيله في النقاش السياسي اليومي. هذه التحديدات هي التي قدمها العروي على شكل استنتاجات يختم به كتابه الراقي.
- طوبي الحرية في المجتمع الإسلامي تقليدي
إن مسألة الحرية في بنية العقل العربي الإسلامي هي مسألة دخيلة إلى حد ما، حيث ثم فرضها من قبل الدول الأوروبية على رؤساء الإسلام، وفي هذه النقطة يمكن استحضار قول المؤرخ المغربي الشهير أحمد الناصر الذي يقول : ” أعلم أن هذه الحرية التي أحدثها الفرنج ( الغرب) في هذه السنين هي من وضع الزنادقة قطعا لأنها تستلزم إسقاط حقوق الله ” [1] . ووفق هذا التعريف يمكن القول أن الحرية في اللغة الأوروبية كانت عادية و بديهية إلى حد أنها لا تحتاج إلى تعريف، عكس الباحثين العرب والعجم الذين تعرفوا على المفهوم من خلال عملية الترجمة، فهذا الوضع طرح إشكال التأويل الناتج عن العملية السالفة – الترجمة – ، و منه طرح الباحث العربي ثلاث أسئلة موضوعية :
- ” هل مفهوم الحرية في اللسان العربي الحديث لا تعدو أن تكون ترجمة اصطلاحية لكلمة أروبية تستعير منها كل معانيها العصرية بدون أدنى ارتباط بجذورها العربية ؟.
- هل مفهوم الحرية مأخوذ من الثقافة الغربية ، حيث لا وجود له في الثقافة العربية الإسلامية التقليدية ؟.
- هل ممارسة الحرية منعدمة في المجتمع الإسلامي التقليدي، حيث لم نجد مفهوم في الثقافة و لا الكلمة بمعناها العصري المحدد في القاموس ؟ “[2].
هذه الأسئلة الإستشراقية، يمكن الإجابة عليها وفق ثقافتنا اللغوية مستعملين مادة حرر، انطلاقا من أربع معان مرجعية :
- ” الأولى : المعنى الخلقي ، هو الذي كان معروفا في الجاهلية و حافظ عليه الأدب ، نقرأ في اللسان : الحرة تعني الكريمة ، ويقال : ما هذا منك بحر أي بحسن .
- الثاني : معنى قانوني ، وهو المستعمل في القرآن ، مثلا تحرير رقبة مؤمنة ( سورة النساء 92) ، أو نذرت لك ما في بطني محررا ( أل عمران 35) و في كتب الفقه مثلا : و لا يقتل حرا بعبد و يقتل به العبد ( رسالة القيرواني)
- الثالث : معنى اجتماعي ، و هو استعمال بعض متأخري المؤرخين : الحر هو المعفي من الضريبة
- الرابع : معنى صوفي ، نقرأ في تعريفات الجرجاني : الحرية في اصطلاح أهل الحقيقة الخروج عن رق الكائنات و قطع جميع العلائق و الاغيار و هي على مراتب”[3] .
وفق هذه المعاني الرباعية لمادة حرر، يمكن أن نصرح بأن القاموس العربي أهدانا ميدانين للحرية، أولهما الميدان الفقهي؛ حيث يعرف الحرية بأنها ” الإتفاق مع ما يوحي به الشرع مع العقل. الحرية حكم شرعي لكن في نفس الوقت إثبات واقع : مدى قدرة الفرد على تحقيق العقل في حياته، و هذا التطابق بين الشرع و العقل و الحرية هو العدل الذي يقوم عليه الكون “[4] . إذن فإن الحرية في الفقه مرتبط بالإنسانية في الفرد و فق مبدأ التكليف ( الانضباط إلى القواعد و الأوامر السماوية ). أما الميدان الثاني فهو المعطى الثقافي المتمثل في الجانب الأخلاقي و علم الكلام، و هذا الميدان بدوره يمكن التطرق إليه من خلال مستويين؛ أولهما الحرية من منظور العلاقة بين النفس و العقل أو الروح و الطبيعة، و يجادل الغزالي في هذا المستوى قائلا “ليس الهدف هو محو الطبيعة ( الميولات النفسية ) رأسا وإنما الوصول إلى الوسيط … بحيث يكون العقل هو الضابط “[5]. أما المستوى الثاني فنلاحظه في الحرية من منظار علاقة الإرادة الفردية بالمشيئة الإلهية (القدر) حيث يقول مرة أخرى الغزالي: ” الاختيار أيضا من خلق الله تعالى والعبد مضطر في الاختيار الذي له، فإن الله إذ خلق اليد الصحيحة وخلق الطعام اللذيذ والشهوة للطعام في المعدة وخلق العلم في القلب فإن هذا الطعام يسكن الشهوة و خلق الخواطر المتعارضة في أن هذا الطعام هل فيه مضرة مع أنه يسكن الشهوة و هل دون تناوله مانع يتعذر معه تناوله أولا ثم خلق العلم بأنه لا مانع ثم عند هذه الأسباب تنجزم بالإرادة الباعثة على التناول ، فانجزام الإرادة بعد تردد الخواطر المتعارضة و بعد وقوع الشهوة للطعام يسمى اختيارا و لا بد من حصوله عند تمام أسبابه ” [6] .
إن الإجابة عن أسئلة المستشرقين من الوجهة اللغوية واضحة جدا في القاموس العربي ، لكن في هذه المحطة سنركز على رموز الحرية في الثقافة العربية، و التي تتضح بشكل جلي في الخانة الخارجة عن سلطة الدولة و ضد الحكومة، و أول دليل سنعرج عليه في تحليلنا هو دليل البداوة ، الذي يرمز إلى حياة الطلقة ، مثلا ( ثورات الخوارج ، الروافض ، الغرامطة ممن رفضوا الخضوع للقوانين السلطانية ) ، بهذا أصبح البدو رمزا واضحا للمقاومة وردع الحكم، لكن هذا لا يعني أن البداوة ترادف الحرية قاموسيا، “لكن إذا نظرنا لها كرمز، كفكرة، مجردة في الذهن. و خاصة في ذهن الشعراء و الأدباء و المؤرخين العرب ، فإننا مضطرون إلى الاعتراف بأنها كانت تجسد على مدى قرون ما تطلع إليه الناس من سعة في العيش و فسحة في التصرف “[7] . و ثاني دليل هو العشيرة، هذه الأخيرة هي كلمة نطلقها على كل جماعة سواء كانت عائلة، قبيلة، حرفة، زاوية … تحتضن الفرد و تحميه من أدى الغير أي كان، و انطلاقا من هذا فإن قانون العشيرة يكون معارضا بشكل قطعي مع قانون الدولة في المجتمعات العربية الإسلامية، لأن الفرد يرى في عادات و قوانين العشيرة فرض وإلزامية كأنها طبيعية و حقوق معروفة ثابتة و مورثة، عكس أوامر السلطان التعسفية، و في هذا الصدد يقول إبن خلدون ” إن الأحكام السلطانية و التعليمية مفسدة للبأس لأن الوازع فيها أجنبي “[8] . كما يمكن أن نقدم دليلا ثالثا المتجلي في مفهوم التقوى الذي نعني به الائتمار بأوامر الشرع، ومن المنظور الفقهي هو استجابة لنداء موجه من الجانب الأسمى في الإنسان، وهو العقل، لكن يتغلب على الجزء الأدنى أي على النفس الشهوانية، و هذا يؤكد ظاهرة تجربة التقوى بالشعور بالحرية من جهة، و من جهة ثانية فإن للتقوى مردودية اجتماعية تتجلى في كسب عطف و رضا العشيرة و التصرف في أملاكها. إذا ” إن تجربة القرون الماضية تؤكد لنا أن التقوى تحرير الوجدان و توسيع لنطاق مبادرات الفرد . إنها كانت طريقا للشعور بالتحرر، فلا عجب إذا أصبحت رمزا للحرية “[9] . أما فيما يخص الدليل الرابع و الأخير فنرصده في التصوف، ويمكن تعريف هذا المفهوم على أنه الانسلاخ الفردي من كل المؤثرات الخارجية، وفق تجربة فردية ذهنية. إن الحياة الاجتماعية التي تستنشق الاستبداد، جعلت من الفرد يتطلع إلى معطى الحرية كملاذ روحي ضروري، حيث انغمس في التجربة الصوفية، لكونها تمكنه من ملامسة الحرية بالمعنى المجرد المطلق. “هكذا تتقابل التجربة الصوفية و التجربة البدوية : ترمز البداوة إلى الحياة خارج القوانين الاصطناعية ، و يرمز التصوف إلى حرية و جدانية مطلقة داخل الدولة المستبدة “[10] .
انطلاقا من أنف القول، فإن الفرد في المجتمعات الإسلامية التقليدية رغم تكليفه شرعا و أخلاقيا، فإنه يجد لنفسه طرقا للإحساس بطًعم الحرية، وهذا ما رصدناه في كل من البداوة كأسلوب حياة و العشيرة كحامي إجتماعي من بطش القوة السلطانية الاستبدادية، و كذا التصوف كملاذ روحي و تنزه عن الحياة الواقعية و التقوى كنشدان روحي و ذو مردودية إجتماعية. كل هذه الطرق السالفة سلكها الفرد بغية مواجهة سيط الدولة بشكل كبير؛ حيث يمكن القول أن مفهوم الدولة و الحرية في المجتمع الإسلامي متقابلان، فكلما اتسع مفهوم الدولة ضاق مجال الحرية( اللادولة ).
وفي هذا الصدد نخلص إلى فكرة أساسية لهذا الفصل ، كما صرح بها صاحب الكتاب عبد الله العروي ” خلاصة هذا القسم في بحثنا حول الحرية : أن تجربة المجتمع الإسلامي في مجال حرية الفرد أوسع بكثير مما يشير إليه نظام الدولة الإسلامي تقليدي ” [11] .
- الدعوة إلى الحرية ( عهد التنظيمات )
إن المجتمع العربي الإسلامي قبل القرن 18 كان يعرف نوعا من التوازن إن صح التعبير بين أربع مكونات : البداوة باعتبارها الأصل، والعشيرة التي تحافظ على حرية التصرف، ثم الدولة كمقابل لهذين المكونين، و الفرد كان يناهضها – أي الدولة – من وراء المكونات الأولى – البداوة و العشيرة- لكن هذا المنطق عرف تغيرا كبيرا، ناتجا عن التحولات الكبرى التي شهدها المجتمع العربي الإسلامي بشكل عام . هذا التغيير الذي سمي بالإصلاح أو سياسة التنظيمات والذي عمد على تقوية هياكل الدولة مقابل إضعاف الجماعات و الأفراد و إدماجهم بأي طريقة تحث كنف الدولة و أجهزتها، لكي لا تتصل بالعدو الاستعماري.
لقد عملت هذه السياسة الإصلاحية على نقض العادات التي كان الفرد يجد فيها امتداده للعشيرة و البداوة، و إبدالها بقوانين متعددة و مفصلة من أجل إخضاعه لقراراتها و للأوامر السلطانية التي توضح حدود الفرد، بالإضافة إلى إقحامه في التجربة السياسية صوب إحاطة الحياة الفردية و إفراغها من التجربة الصوفية و من مفعوله . إذا يمكن القول : “لم تعد تجربة التحرر عن طريق التجريد الصوفي نافعة فارتبطت فكرة الحرية ، التي تنتج حتما عن معاناة الحدود، بمجال الدولة باعتبارها كمنبع تلك الحدود . كلما اتسع نفوذ الدولة و تعمق ارتبطت الحرية بالدولة و تطابق مجال الأول بالثانية”[12] . وفق هذا التطور الاجتماعي السريع للدولة، ساعد في نمو ما يصطلح عليه الشخص المسؤول اجتماعيا و خاصة في المجال الحضري و هذا ما أكد على أهميته، و ارتبط بالأساس بالدولة و التجربة السياسية. و منه اكتسحت كلمة الحرية مجال الإدراك و انتشرت في جميع مجالات الخطابة و التعبير .
إذا و من سالف القول، فإن كلمة الحرية قد انتشرت في المجتمع حينما بدأت التحولات التي وصفناها تعمل فيه، و كلما كانت هذه التحولات عميقة كلما كان انتشار الكلمة أوسع و بأكثر دقة، و منه نستنتج أنه ” لا يمكن فصل التطور الاجتماعي عن التطور اللغوي. هما تطوران متلازمان و متزامنان . هناك ارتباط لا ينكر بين ضغط الدولة الأوروبية على الدول الإسلامية و بين حركة الإصلاح، ثم بين هذا و اضمحلال الجماعات المحلية، ثم بين هذه ونشوء الشخصية التي بدأت تحس بتزايد الحدود الموضوعية على نشاطها و بالتالي تحس بما ينقصها لتتحقق و تكتمل. هذا الشعور بالنقص كان موجودا في المجتمع التقليدي و لقد عبرنا عنه بطوبي الحرية، إلا أنه كان شعورا مناهضا للدولة و منافيا لها. فأصبح في الظروف الجديدة موجودا داخل الدولة ( المجتمع السياسي). هذا الشعور بهذه الصفة الجديدة هو المهم ، هو الذي يستحق أن يوصف بدقة، وهو الذي سيعطي للكلمة مضمونها. و الشعور بالنقص هذا ناتج عن تطور واقعي، عن تجربة حياتية لم تخلقها الكلمة و لم تكشف عنها. بل الشعور هو الذي مكن الكلمة من أن تترجم و تستعمل و تنتشر. لو لم يكشف التطور الاجتماعي عن الشخصية و لم تشعر هذه الشخصية بما ينقصها، أي لو لم يكشف الواقع عن فجوات في ذاته تعبر عن مطامع و تطلعات، لما انفتحت أمام الكلمة فرصة التأثير و الانتشار ” [13] . من هذا التشخيص المقتضب، يمكننا فهم أهمية الكلمة في مرحلة نهاية القرن 18 و بداية القرن 19 ؛ حيث أصبحت رمزا لجل الغايات الاجتماعية و السياسية و تكتسي طابع الإلزامية في الحياة اليومية .
في ظل هذا التشكيل الجديد للحياة الاجتماعية في العالم العروبي الإسلامي المكون في حضن الدولة، جعل من الشخص يشعر بحدود موضوعية على تصرفاته، المتمثلة في ترسانة القوانين الوضعية الجديدة عنه ، هذا الأمر ألزم الشخص من رفع شعار الحرية وفق أمرين ” الأول إثبات الحرية كحق أصلي ضروري بديهي لا يقبل النقاش أو المنازعة ، و الثاني هدف تتعين فيه الحرية المجردة المطلقة “[14]، فإذا كان الأمر الأول لا يحتاج إلى إثبات لأن معطى أو بالأحرى حق طبيعي، أما الأمر الثاني فيتجسد في نقيض ذلك الحد و التحرير هو إلغاء ذلك الحاجز، هذه العملية جعلت من كل التنظيمات تبرر جل أعمالها التي ترى فيها أنها تستطيع تحقيق هدف معين متمثل بالأساس في رفع حد معين، و غفلت التأصيل للنظرية الحرية. ومن هنا نستنتج أن كل الحركات التحررية في عالم العروبة كان لها هدف إصلاحي و ليس فكري. إلى حد أنها تستعير مجموعة من المفاهيم من مدارس متعددة و متنوعة سواء كانت أروبية أو عربية إسلامية، بدون الاهتمام بالتماسك الفكري و التنافس المنطقي. وفي هذا المعطى يقول عبد الله العروي عن هذه الحركات ” تستعير تحليلات ليبرالية غربية و تزكيها بأخرى فقهية سنية و أخرى كلامية اعتزالية و أخرى فلسفية إشراقية. إن قيمة تلك الحركات تكمن في فعاليتها الإصلاحية لا في عمقها الفكري ” [15] . وهذه الحركات المتأصلة في المجتمع و الناشئة عن ضرورة اجتماعية، وجدت أمامها منظومة فكرية متراصة على مفهوم الحرية، حيث كان هناك تطابق بين الغايات و الحاجات الاجتماعية العربية وهذه المنظومة الفكرية اللبرالية. هذا المستوى التحليلي جعلنا نتساءل :
- ما اللبرالية ؟ و كيف تعامل معها المجتمع العربي في القرن الماضي ؟ .
- الحرية اللبرالية
إن النطق بالحرية كمفهوم، يلزما بالضرورة استحضار اللبرالية كمنظومة فكرية لها. و منه يمكن التعرف على الحرية في بدايتها الفكرية، لكن قبل السبر في أغوارها وجب التأصيل للبرالية وفق مراحلها الأربعة، التي هي كالتالي:
- “مرحلة التكوين؛ حيث كانت وجها من وجوه الفلسفة الغربية المرتكزة على مفهوم الفرد و مفهوم الذات ( مفهوم الذات الفاعلة و صاحبة الاختيار و المبادرة ).
- مرحلة الاكتمال؛ حيث كانت الأساس الذي شيد عليه علمان عصريان مهمان : علم الاقتصاد و علم السياسة النظرية ( مفهوم الفرد العاقل و المالك لحياته و بدنه و ذهنه وعمله ).
- مرحلة الاستقلال؛ حيث نزعت اللبرالية من أصولها كل فكرة تنتمي إلى الاتجاه الديمقراطي بعد أن أظهرت تجربة الثورة الفرنسية أن بعض أصول اللبرالية قد تنقلب عند التطبيق إلى عناصر معادية لها( مفهوم المبادرة الخلاقة الذي هي نتاج الفرد الخلاق عكس الفرد العاقل ).
- مرحلة التقوقع؛ حيث أصبحت تعتبر أنها محاطة بالأخطار وأن تحقيقها صعب إن لم يكن مستحيلا، لما تستلزم من مسبقات غير متوفرة لدى البشر في غالب الحيان ( المغايرة و الاعتراض، لأن الاختلاف هو أساس الجدل و الجدل أساس التقدم، عكس مسايرة الآراء الغالبة)”[16].
وبناءا على هذه المراحل، يمكن تحقيب اللبرالية مفاهيميا. وانطلاقا منه نتساءل زمنيا : إذا كان المفكرون العرب تأثروا بالفكر اللبرالي، فبأي نوع من اللبرالية تأثروا ؟ هل باللبرالية عصر النهضة حيث كانت وجها من أوجه الإنسية الأوربية، أم باللبرالية القرن الثامن عشر التي عملت على مواجهة الإقطاع و الحكم المطلق، الراجعة إلى ديمقراطية روسو و نخبوية فولتير و استبدادية هوبس، أم باللبرالية القرن التاسع عشر، التي توجه نقدا للدولة العصرية المهيمنة على الأفراد و الجماعات مع طوكفيل و بريك ؟ أم باللبرالية القرن العشرين التي تلتقي في كثير من مطالبها مع طوبي الفوضوية ؟ . إذا أي مفكر عربي طرح على نفسه هذه الأسئلة، سيجد كيانه أمام معطى موضوعي، متمثل في ” أن العرب على منظومة مكتملة في المرحلة الأخيرة من مراحل التطور اللبرالي. تعرفوا على لبرالية تحمل في طياتها أثار المراحل السابقة : مرحلة عهد التكوين و مفهوم الذات، مرحلة القرن الثامن عشر و مفهوم الفرد العاقل المالك، مرحلة عهد الرد على الثورة الفرنسية و مفهوم المبادرة الفردية، مرحلة نقد الديمقراطية الاجتماعية و مفهوم المغامرة و الاعتراض. بعبارة أخرى، إن العرب تعرفوا على ليبرالية ورثت روح الفلسفة الغربية الحديثة و روح الثورة الفرنسية و روح النخبوية المعادية للديمقراطية و الاشتراكية. أنهم واجهوا منظومة مليئة بالعناصر المتناقضة، وكان من الصعب عليهم أن يتلقوها بعقل ناقد كما نتلقاها نحن الآن بعد أن مر قرن على فحصها و تشريحها “[17] .
اعتمادا على ما جاء أعلاه، فإن الصورة المكونة عن اللبرالية حافلة بالتناقضات الفكرية، إذا اعتبرناها ذو امتداد تاريخي. ولفحص هذه الصورة بأكثر دقة ، سنقوم بخطوة ميتودولوجية تكمن في أخد نموذج كتاب للبرالي المرجعية، كان له سيط معرفي في مرحلة القرن الماضي، و نحاول تصفحه بشكل دقيق. هذا المحددات تتضح بشكل جلي في مؤلف في الحرية للمفكر الغربي جون ستيوارت ميل؛ حيث يستأنف كتابه بموقفه الذي يقر أن مشكل الحرية يتموقع بين مجالين معرفيين، أولهما الفلسفة و ثانيهما علم الكلام، ويقول في هذا الإطار ” إن مشكل الحرية هنا هو مشكل الحرية المدنية وليس مشكل الإرادة الذي هو مضمون علم الكلام “[18]، ثم يستكمل حديثه قائلا ” إن الحرية كمبدأ لا تنطبق إطلاقا على الأزمة السابقة للعهد الذي أصبحت فيه الإنسانية قادرة على تحسين شؤونها بالنقاش الحر المتكافئ “[19] . و من هنا نستخلص أن ميل يهتم بالحرية في نطاقها التاريخي الحديث في أوروبا، وقاطعا مع كل المراحل السابقة بشكل نسبي، لأنه بقي محتفظا بروح الإنسية الغربية. كما انتقد الأنظمة الديمقراطية للقرن الثامن عشر، حيث قال ” إن مشكلة الحرية تطرح بإلحاح داخل الدول الديمقراطية … بقدر ما تزداد الحكومة ديمقراطية بقدر ما ينقص ضمان الحرية الفردية “[20] . إذا فالفرد في ظل النظام السياسي يجب أن تضمن له القدرة على الدفاع على نفسه وتركه و نفسه. و بهكذا قول نكون في صدد تأكيد قولة أحد أقطاب اللبرالية في القرن التاسع عشر، ألا وهو أليكس دوتكفيل القائل ” إن معنى الحرية الصحيح هو أن كل إنسان، نفترض فيه أنه خلق عاقلا يستطيع حسن التصرف، يملك حقا لا يقبل التفويت في أن يعيش مستقلا عن الآخرين في كل ما يتعلق بذاته و أن ينظم كما يشاء حياته الشخصية “[21]. واستنادا إلى هذا المبدأ اللبرالي، يقدم ميل نقدا لاذعا لدولة الصناعية الديمقراطية، لكونها تتجه نحو نماذج و اتجاهات خاطئة. فيقول ” إذا كانت الطرق و السكك و البنوك و دور التأمين و الشركات بالمساهمة و الجامعات و الجمعيات الخيرية كلها تابعة لإدارة الحكومة و إذا أصبحت، زيادة على ما سبق، البلديات و الجماعات المحلية مع ما يترتب عليها اليوم من مسؤوليات، أقساما متفرعة عن الإدارة المركزية ، إذا كانت الحكومة هي التي تعين موظفي تلك المصالح و تكافئهم بحيث يعود أملهم في تحسين معاشهم معقودا عليها ، إذا حصل كل هذا ، حينئذ تصبح الحرية اسما بلا مسمى ، رغم المحافظة على حرية الصحافة و على انتخابات المجلس التشريعي بالاقتراع العام “[22] .
وفق ما تطرق إليه المفكر ميل في طرحه المعرض لفكرة الديمقراطية باعتبارها رأي الأغلبية، وجب الانصياع له. و بصيغة أخرى إن فكرة الخضوع لرأي العام السائد، أمر غير سليم لأنه يقتل الفكر. و بلغة هيغل ” لو كانت الإنسانية كلها مجمعة على رأي عدا فردا واحدا فلا يحق لها أن تسكت الفرد المخالف لرأيها، كما يحق لذلك الفرد، لو استطاع، أن يسكت الإنسانية المعارضة لرأيه “[23] . إذا نتقيد بالرأي العام يعني جمود الفكر، أما الحيوية و بلورة شخصية الفرد فهي أصل التطور و ضمان مواصلة التقدم. كما عرج ميل على المجتمعات سابقة للعهد الحديث في أوروبا و كذا في المجتمعات العربية الإسلامية، حيث صرح بشكل واضح أنه يجب إهمالها لأن الجنس البشري فيها لم يرقى فيها بعد، و كونها مجتمعات متزمتة و متشددة بقوانين أخلاقية دينية.
من خلال هذا التحليل المبسط لأهم الأفكار التي عرف بها الكتاب أعلاه، باعتباره احد أقطاب الفكر الليبرالي، و أن المفكرين العرب بالضرورة سيتأثرون به. إذا انطلقنا من مسلمة أساسية، تكمن في أنم الفكر اللبرالي هو هواء المثقفين في تلك المرحلة. وعليه ” تقر الليبرالية في صورتها المبسطة أن الفرد هو أصل المجتمع و أن الحرية حقه البديهي و الطبيعي. لا تطرح الحرية كمشكل، بل تسجلها فقط كظاهرة طبيعية تابعة لوجود الفرد على وجه الأرض. و هكذا تنزع الحرية من مجال المساجلات الفلسفية لتوضح في حيز السياسة التطبيقية و الاقتصادية، أي في نطاق التاريخ و التطور. إن قانون التاريخ الإنساني هو أن يحافظ الفرد داخل المجتمع على الحقوق التي كان يتمتع بها كفرد قبل تأسيس المجتمع. يملك بالبديهية سلطانا مطلقا على ذاته، أي على جسمه و ذهنه و حركته. له إذن حقوق كاملة و دائمة تتعلق بالاعتقاد و الرأي و بالكسب و الملكية “[24] . إن المفكرين العرب الذين عايشوا هذه المنظومة الفكرية اللبرالية تأثروا بها، و بذلك قطعوا حبل الاتصال مع الفكر التقليدي الإسلامي. و عليه فإن المفكرين العرب الليبراليون، قد تميزوا عن زملائهم الغربيين لكونهم دافعوا عن رمز الحرية ضد خصومهم داخل المجتمع، كما يتميزون بتأصيل الحرية في عمق المجتمع و في التاريخ الإسلامي. و بلغة عبد الله العروي نقول ” إن خصوصية اللبرالي عامة أنه يرى في الحرية أصل الإنسانية الحقة و باعثة التاريخ و خير دواء لكل نقص أو تعثر أو انكسار. و خصوصية اللبرالي العربي أنه يعبد الحرية باندفاع لم يعد يحس به زميله الأوروبي. و السبب في ذلك هو حالة مجتمعه الذي لم تتحقق فيه بعد أية صورة من صور الحرية “[25] . إن هذا الاندفاع جعل المفكرين العرب لم يتفحصوا هذه المنظومة الفكرية تفحصا نقديا فلسفيا، و إنما اتخذوها في صورتها الظرفية كشعار فقط . لأنها كانت متوافقة مع تطلعات المجتمع، و منه نتساءل، إذا كان مبدأ الفكر اللبرالي يرى أن كل إنسان عاقل، فهل هذا المبدأ يمكن تطبيقه في كل المجتمعات؟ و كذلك في المجتمعات المتقدمة، من يضمن لنا أن يكون المرء دائما عاقلا ؟.
- نظرية الحرية
بناءا على الفصول الثلاثة السابقة، يمكن أن نخلص إلى فكرة مركزية تتمثل في أن اللبرالية العربية غير متولدة عن اللبرالية الغربية تولدا أليا، و إنما هي إنتاج ضرورة و حاجة اجتماعية، وجدوا فيها عبارة وفية لما يحسونه. و عليه وجب الآن أن نتفحص نظرية الحرية، محاولين تأصيلها وفق مبدأ ” أن اللبرالية تنسأ على أساس نفي كل محاولة مجردة لتبرير الحرية لأن الحرية في رأيها ظاهرة تاريخية تسجل فقط. بظهورها تبدأ الإنسانية الحقة و التاريخ الحق و العقلانية الحقة “[26] . إن نظرية الحرية تنقسم إلى ثلاث اتجاهات رئيسية: الماركسية، الوجودية، الكلامية. وهذه الاتجاهات المعرفية لها منبع فلسفي واحد، هو الفلسفة الألمانية، مع كل من فيورباخ، سبينوزا، لابنتز، شلنغ ،و بالأخص هيجل . هذا الأخير الذي جادل في مسألة الحرية قائلا : ” إن حرية الكائن الفرد في عمقها مطابقة الماهية للذات، يعني أن في عمقها من طبيعة إلهية. فالإنسان الذي يعلم أن طبيعته ليست غريبة عن طبيعة الله. يضمن لنفسه التوفيق الإلهي و يستعد لتقبل ذلك التوفيق، مما ينتج عنه تصالح الله مع العالم أي حذف ما يجعل العالم غريبا عن الله “[27] . إن الحرية المطلقة هي تجسيد لمفهوم الله، و هذه الفكرة كانت مسيطرة على الفلسفة الألمانية. كما يعتبر هيجل هو ذلك الفيلسوف الذي جسد الإلمام بدعوة اللبرالية عبر دروس روسو و كانط، لأنه يضع الحرية البشرية في البداية ثم يؤصل لها وفق تشكلاتها الفلسفية. وبصيغة أخرى يجعل منها – الحرية – الأصل كما ذهب إليها كل من الإغريق و الرومان، و الحرية كصورة و تشكلات تنظيمية سياسية و اجتماعية، كنتاج للأوضاع و ظروف الاجتماعية. وهذا النوع الأخير هو تجسيد لرؤية الليبرالية السطحية للحرية، التي يتولد عليها أشكال إرهابية مثل روبسبير. وعليه نعلم أن الحرية عند هيجل ستتحول إلى نفي الحريات الليبرالية، و بصيغة العروي نقول : ” إطلاق الحرية نظريا ينقلب إلى نفي الحريات عمليا ولو قيل أن هذا النفي مؤقت. إن نظرية الحرية في الأساس بسط جدلية الحرية بين إطلاقها على المستوى النظري و حدها على مستوى الواقع “[28] .
لم يتوقف تحليل هيجل في هذا المستوى فقط، بل عمل على نقد مفهوم الحرية الوجدانية، قائلا في كتابه فلسفة القانون أن “أصل الصعوبة في هذا المضمار كون المرء يتأمل في ذاته و يبحث عن الحرية وعن قواعد الأخلاق. وهذا حق له شريف و رباني، إلا أنه ينقلب إلى ظلم إذا أنكر كل شيء سوى ذاته ولم يشعر بالحرية إلا عندما يبتعد عن قيم الجمهور و يتوهم أنه سيكتشف قيمة خاصة به “[29] . كما عمل كذلك على رفض فكرة الحرية الذاتية الفردية ، لأنها حبيسة دائرة الأخلاق نظرية و غير قابلة لتطبيق في الواقع الملموس، فيقول : ” كون الإنسان في ذاته و لذاته و لم يوجد ليستعبد، هذه حقيقة ندركها كضرورة عقلية فقط . لكي نكف عن ادراكها كمثل مجردة علينا أن نعترف أن فكرة الحرية لا توجد بالفعل إلا في واقع الدولة “[30] . و بهذا يربط هيجل بين نظرية الحرية و نظرية الدولة، باعتبار هذه الأخيرة تلعب دورا أساسيا في تهذيب الإرادة الطبيعية للأفراد. وفقا لهذا يقول ” عندما نقر و نقبل أنه من واجب الإرادة الفردية أن توجد ما هو ضروري عقلاني في المجتمع و في الدولة، عندئذ نكون قد حددنا تحديدا علميا ما يعبر عنه عامة بالحرية ” [31]. إن الطرح الفلسفي الهيجيلي للحرية الأصلية، كان في البدايات ليبراليا، حيت أقر أن الحرية الأصلية إلهية، لكنه سرعان ما رفض فكرة الليبرالية إزاء الدولة، لأنه يعتبر الحرية تتحقق في توافق إرادة الفرد مع عقلانية الدولة و هدف التاريخ .
إن كان هيجل يرى أن الحرية هي الإنسان، و الإنسان يساوي العقل، و هذا الأخير هو ركيزة الدولة، و به تكون الدولة تجسيد للحرية. فإن الطرح الماركسي يرى عكس ذلك، مقرا أن الحرية تساوي الطبقة العاملة لأنها منبع الإنسان الإنساني، المتمثل في العامل الغير مقيد بالملكية و التقاليد و الأعراف، وهو الضامن للحرية في مجتمع شيوعي تنتفي فيه الطبقات. فإن تحديد الحرية كمطلق، فهو ضرورة منطقية حسب كل من هيجل و ماركس، لكن هذا الأخير – ماركس- يتفق معها كمرحلة أولى فقط، لأنه ينطلق في تحليله من الفرد الذي هو المناط الوحيد لوعي الحرية، عكس هيجل الذي يراهن على الدولة. و تتضح هذه الفكرة مع موقف إنجلس ، قائلا :” لا تعني الحرية حلم الاستقلال عن قوانين الطبيعة، بل تعني الاختيار في نطاق تلك القوانين … و لا تعني الإرادة سوى القدرة على الاختيار مع معرفة الأسباب. كلما كان حكم المرء حرا في قضية ما كان كبيرة الضرورة الطبيعية التي تعين مضمون ذلك الحكم : فالحرية هي إذن التحكم في أنفسنا و في الطبيعة المحيطة بنا تحكما يرتكز على إدراك ضروريات الطبيعة و بالتالي نتيجة التطور التاريخي ” [32] . يعتبر هذا القول حسب العروي هو خلاصة إنجلس حيث قبل نظرية هيجل، لكن مازال الطرح الماركسي يرى أن الحرية هي نهاية التاريخ، حينما يختفي المجتمع الحالي المبني على الملكية الفردية و الطبقية ، بينما يضع هيجل الحرية في بداية التاريخ.
استنادا إلى ما سبق، فإن كلا التصورين – الهجيلي و الماركسي- قاما برفض فكرة الحرية الوجدانية . لكن مع المذهب الوجودي عرفت هذه الحرية انتشارا و أهمية فلسفية، مع كل من كيركغار و جان بول سارتر. و في هذا السياق يقول هذا الأخير : “إننا لا ندرك ذواتنا إلا من خلال اختياراتنا، و ليس الحرية سوى كون اختياراتنا دائما غير مشروطة “[33] . و بهكذا منطق فالحرية هي الإنسان، وبصيغة أدق ” الحرية سابقة على ما سواها و هي التي تحط تلك الحدود المزعومة، لو لم توجد الحرية مسبقا لما وعينا تلك الأشياء كحدود. ليس الحواجز الموضوعية هي التي تهدينا الى حرية متبقية ممكنه بل الحرية المطلقة هي التي التي تجعل من الأشياء حواجز. الحرية إذا معطى أولي يجب الانطلاق منه في كل تحليل حول الإنسان “[34] . هكذا تقرر الوجودية مرادفة الإنسانية و الحرية، وفقا لقول سارتر ” أن الإنسان محكوم عليه بأن يكون حرا . إنه يحمل ثقل العالم كله على كتفيه. إنه مسؤول عن العالم و عن نفسه بصفته نوعا مميزا عن أنواع الكيان الأخرى “[35] . اعتمادا على ما تم ذكره، يمكننا القول أن هناك نقطة تشارك بين الوجودية و اللبرالية، و تكمن في أن الحرية ظاهرة بديهية، لكن بؤرة الاختلاف بينهما تتضح في أن اللبرالية تهتم بالحرية مجتمعيا ( نظام اجتماعي)، بينما نجد الوجودية تطرحها على أساس فردي ( وضعية فردية ).
أما فيما يخص المذهب الكلامي، فيقول عبد الله العروي : ” الكلامية الحديثة ، بفرعيها الليبرالي و المحافظ، تنطلق من المعادلة التالية : الحرية هي الظاهرة الربانية ( المطلق) في الإنسان، عندئذ يمكن القول أن الله هو تجسيد في سماء المثل بما يحس به الإنسان في نفسه. هذا مضمون فكرة الانسلاخ عند فيورباخ. لكن يمكن عكس المقولة على الشكل التالي : الحرية هي لمسة إلهية في قلب الإنسان. فبصبح الرب الخالق هو أصل حرية الإنسان. ومن هنا ندخل في فلسفة كلامية جديدة “[36] . كما وضح كذلك العلاقة الرابطة بين الفكر الفلسفي و الكلامية الجديدة قائلا : ” هذه الكلامية الحديثة تقف أمام اللبرالية موقفا مزدوجا : تساندها و تدعو لها في البلاد التي لم تطبقها بعد، لكن تعتبرها بلا قيمة إن لم تأصل في حرية أولية تحدد الإنسان، بما هو إنسان، حرية لا ضامن لها سوى الكائن المطلق الأوحد “[37] . إذا كانت الكلامية البروتستانية الحديثة متصالحة مع الليبرالية ، فإن الكلامية الكاثوليكية المحافظة لها رأي أخر يتمثل في قول نيومن : ” إني أعني بالليبرالية تلك الحرية الفكرية الباطلة التي تستعمل الفكر البشري في مواضيع لا يمكن له بسبب تكوينه أن يصل فيها إلى أي نتيجة مرضية ، و لذلك فهو غير صالح لمعالجتها . وضمن هذه المواضيع توجد كل المبادئ من أي نوع كانت، و من ضمن هذه المبادئ الأكثر قداسة و أهمية، تلك الحقائق التي تكشف عنها الرسالة “[38]. و كخلاصة لجل ما سبق من مذاهب فلسفية، فهناك التوحيد و التوفيق بين الحرية الإنسانية و الحرية المطلقة ، إلا في حالة قبول أن الحقيقة المطلقة تضمن الحرية التامة. و على إثره يمكن القول ” يقر الهيجيلي : المطلق هو الدولة، و يقول الماركسي: هو الطبقة، و يقول الوجودي: هو الوجدان الفردي. فترد الكلامية الجديدة : هذه كلها أصنام. المطلق هو كلمة فارغة استعملت استحياء محل كلمة الله “[39] .
ورجوعا للخريطة الاجتماعية و الفكرية و السياسية للمجتمع العربي الإسلامي، التي من إصلاحات سياسية و تحولات جذرية، مع التأمل في اللبرالية كمنظومة فكرية، و وضعية اجتماعية، و كفترة تاريخية في تاريخ شعب معين. جعلنا نستنتج أن الليبرالية الراهنة لا تعمل بمفردها كمنظومة فكرية مستقلة، ل تدعم أفكارها حول الحرية بمذاهب أخرى بعيدة عنها . إن الحرية في مجتمعاتنا العربية الإسلامية كانت وليدة ظروف و الضرورة الاجتماعية، ولم تكن تخضع لتأصيل و منطق فلسفي. لكن في تنامي الصراع بين الفئات الاجتماعية، ظهر وعي يرغب في تأصيل المفهوم، وعليه ظهرت مذاهب أخرى مثل الماركسية و الوجودية. هذه التحولات شهدها المجتمع لعربي الإسلامي في مرحلة الخمسينات تقريبا. و أصبح النظر فيها للحرية ليس كشعار و إنما على أساس مفهوم . كما نلمح استقبال المفكرين العرب للفكر الماركسي في فترة الأربعينات كدعوة للحرية، و رفضه تجسيد الحرية المطلقة في الدولة ( فكرة هيجل)، و إنما بنظام اجتماعي مستقبلي ( المجتمع الشيوعي ). و في هذا الصدد يقول العروي : ” إن الممارسة السياسية في المجتمع العربي تلح على أن تحرير الفرد يمر حتما عن طريق تحرير المجتمع، و أن حرية الفكر مرتبطة بالحرية السياسية و هذه الحرية الاجتماعية و الاقتصادية. وكلما توسعت الممارسة و عمت التجربة انتشرت المقولة الماركسية على حساب المقولة الليبرالية، أولا كدعوة سياسية، ثم كنظرية فلسفية بعد أن يعاد ربط تلك المقولة بجذورها الهيغيلية “[40]. أما الفلسفة الوجودية تقر بكونية الحرية و أنها مفهوم إنساني خالص، لكن تختلف مع الماركسية في المجتمع الكامل للحريات، أي إخضاع حرية الفرد للجماعية و إقصاء الحرية الوجدانية. هذا الطرح الوجودي واضح و بارز في الكتابات العربية، وخاصة مرحلة الخمسينات حيث يلخص المنتوج الفكري لتلك المرحلة في أن الحرية لها معنى فرديا شاملا و مطلقا. و منه نستخلص ” أن المذهبين الماركسي و الوجودي ينتقدان الحريات الليبرالية لسطحيتها وشكليتها ولكنها في نفس الوقت يدعوان إلى الحرية أعمق و أشمل. قد يعملان على مستوى الواقع على إضعاف الحريات السلوكية لأنهما يستخفان بها، لكن على مستوى الفكر فإنهما يركزان في الأذهان على مفهوم الحرية “[41]. هذا من جهة أما من جهة أخرى فنجد قواعد الفقه و الكلام الإسلاميين، يرفضون بشكل قطعي الحريات الليبرالية مع إحياء العقلية التقليدية بكل مقوماتها و مظاهرها، و يقابلهم صنف أخر يرى أن للحرية تأصيل و تركيز في ظل الإسلام، حيث لديهم ” إرادة واضحة في تناول مفهوم الحرية بجد و أساس تفكيرهم هو أنه إذا كان الإسلام لا يعير أهمية كبرى للحريات السياسية و الاجتماعية فليس لأنه ضدها، بل العكس من ذلك لأنه يتعداها ليصل إلى حرية كونية أعمق و أشمل “[42]. و من هذا الصنف نذكر المفكر علال الفاسي و حسن حنفي، حيث يقول الأول : ” إن التفويت وقع على الإنسانية زمنا طويلا … فلما جاء الإسلام وضع هذه الأوزار وفك هذه الأغلال وذلك عن طريق تفويت التفويت ونفي النفي إثبات … عن طريق الإيمان بالله أي عن طريق الإيمان بالحرية الحرة”[43].
إن أفكار المفكر المغربي علال الفاسي حول الحرية والإسلام، يمكن أن نلخصها حسب عبد الله العروي في ما مؤداه أن “الإسلام الفطرة و الفطرة هي الحرية فالإسلام هو الحرية. و المعادلة هذه لا تكتسي أهمية إلا إذا تذكرنا أنها تتضح في الذهن في ختام تطور تاريخي طويل، إذ يكتشف الإنسان الفطرة بعد التخلص من الزيف ،و الحرية بعد تفويت التفويت، و الإسلام بعد كسر الأصنام. لذلك يتضح لماذا الإسلام، دين الحرية، كان مناط أخر الرسالات، وهو دين الأحرار كانوا حتى وإن لم يسمعوا به أبدا “[44]. وبناءا عليه فالمفكر علال الفاسي لا يتعارض طرحه مع الفكر الليبرالي، كما ذهب إلى ذلك بعض الفقهاء، وبه يقول : ” ومن لوازم حرية الدين حرية الفكر. فللناس جميعا الحق في أن يفكروا إزاء كل مسألة على الطريق التي يختارونها و بالفكر الذي يريدونه، و ليس لأحد أن يكرههم على اعتقاد مذهب فلسفي أو سياسي إذا كانوا لا يختارونه لأنفسهم وكل من فعل ذلك فقد أخل بأعظم المقدسات”[45] . و من هكذا قول نخلص أن الحرية في الإسلام ليست حقا و إنما واجب. أما المفكر حسن حنفي يمكن أن نقول أنه جيل لاحق، سبر في أغوار الفكر الغربي و صقل معرفة تطبيقية للمناهج المعاصرة. في قراءته للتراث العربي الإسلامي، و عليه يقول “إن الله يصف في كتابه ذاته كإنسان كامل، و الإنسان يصف الله كصورة كاملة للإنسان “[46]، ثم يزيد فيقول ” إن الله هو الحرية … و هو كذلك لكي نكسب حريتنا “[47]. و بصيغة أكثر تحليل و تدقيق فإن المفكر حسن حنفي يؤكد على فكرة ” ان الله هو المثل الأعلى بالنسبة للإنسان و أن أوصافه إنما هي الأوصاف التي يحتاج إليها الإنسان العربي في مجتمعه الحالي. هذا هو معنى قلب الإلهياء إلى انسياء”[48] . ليعترف في الأخير أن تحليه استوحاه من متصوفة المسلمين، لأنهم أكثر فئة معبرة عن روح الإسلام من الفقهاء و المتكلمين.
بناءا على ما جاء في الفصل، فإن كل من هيجل و علال الفاسي ربطا الحرية بشكل شرطي بالمطلق، حيث هيجل مثله بالدولة و علال الفاسي بالشرع. لكن هذا الشرط السابق- المطلق- يطلب بدوره شرطا أخر يكون معقولا، أو بصيغة أدق إلهيا. غن ” الدولة عند هيجل معقولة بالتعريف، والشرع عند المنظر الإسلامي إلهي في أصوله و فروعه. إذا انتقلنا من التصور إلى الواقع، يجب عند هيجل أن نفترض أن الإنسان لا يزال ينتقد الدولة القائمة حتى تصبح مقبولة وعند المنظر الإسلامي أن ينقد الإنسان الأصنام ،لكي يبقى الشرع إلهيا “[49]. إلا أن هذا النقد يأخذ طابع الاستحالة لأنه يرفض بالقوة، وهذه الأخيرة تنحدر بالمجتمع من المستوى الإنساني إلى الحيواني، ” هكذا يتضح لنا أن نظرية الحرية لا تثبت بأي حال واقع الحرية، بل يمكن القول أنها في الحقيقة تخفي نفي الحرية من الحياة اليومية فهي تعبر عن جدلية الملاحظة في التاريخ “[50].
- اجتماعيات الحرية
ان الحقل العلمي اليوم يعرف دينامية صرفة، حيث يكشف لنا عن مقولات جدية قد تكون مخالفة للمقاولات السابقة، و أفصح مثال عن هذه الدينامية هو الانتقال من اعتبار العلم هو المناصر الأول و الوحيد للحرية، إلى أن أصبح العلم اليوم العدو الأول لها. وهذا ما تكشف عنه جل الدراسات المعاصرة في جل المجتمعات، و كذا العربية منها، التي تعرفت على هذا العلم الحديث و علقت عليه أمالا كبيرة سواء تعلق الأمر بالعلوم الدقيقة الطبيعية او بالعلوم الاجتماعية التي تطرح مشكلة الحرية في إطار آخر أكثر ارتباط بالواقع. و نخص بالذكر في هذا الشق كل من علم الاقتصاد، و علم السياسة، و علم الاجتماع.
علم الاقتصاد: يمكن أن نعرف هذا الحقل العلمي المتموقع بين العلوم الطبيعية الموضوعية و العلوم الإنسانية الوجدانية، بأنه علم يبحث عن التوازن الحاصل بين الانتاج و بين الاستهلاك. و يمكن النظر إلى هذا الحقل انطلاقا من نظرتين كلاسيكيتين : أولهما، النظرية اللبرالية التي تعتبر ان العلم هو وسيلة للتحرر، و تنظر للاقتصاد باعتباره علم يهتم أساسا بالانتاج و الربح و التجارة الحرة، و إفراغ الدولة من عنفها و جعلها أداة إدارية خفيفة، النظرية الماركسية، التي تعتقد “أن الاقتصاد بمعناه العام هو مجموعة من الوسائل المادية و الأدبية لتحقيق حرية الإنسان”[51]، هذه الحرية التي تأتي عن طريق و عي الإنسان بالاستعباد و الاستغلال الذي يعيشه جراء النظام الرأسمالي، و القضاء عليه عن طريق فتح أبواب التحرر، وذلك باستغلال خيرات الطبيعة بشكل معقول. و يمكن ايجاز تعريف هذا العلم بلسان عبد الله العروي: ” من جهة يصف تطور و تقدم الإنتاج، و بالتالي يصف وسائل الانتاج المادية و التنظيمية بما فيها تطبيق العلم الحديث على الطبيعة، ومن جهة ثانية يفرز- ولو بكيفية غير مباشرة- دور العنف في الحد من الاستهلاك بوسائل شتى كالضرائب و تخفيض قيمة العملة و احتكار المواد و تقنين التموين…”[52] . و في هذا الصدد استأنس مؤلفنا بطرح جملة من الأسئلة من قبيل : ماذا يستطيع الفرد فعله في مجتمع معين؟ ما هي الوسائل الجسمانية و الذهنية المتاحة له ليتصرف، ليتحرك، ليبدع ؟ ما هي استطاعة الجماعة التي ينتمي إليها في علاقتها مع المجتمعات الأخرى؟ ما هي قدرة الدولة التي يعيش تحت لوائها مع الدفاع عن مصالحه في مقابلة الدولة المنافسة لها؟. وراء هذه المفاهيم التي يستعملها هذا التخصص في الفترة الراهنة مثل: التنمية، التبادل الغير متكافئ، الرأسمال الهامشي.
إن الاقتصاديين العرب، يصرحون بشكل كمي على مستوى الحرية الفردية في مجتمعاتهم، الأمر الذي يوضح فكرة أساسية ينطلق منها اغلبهم، ألا وهي أن الثورة النقدية تزيد من قوة الدولة، التي بدورها تزيد من حرية الأفراد، على هذا التحليل يقول عبد الله العروي أن ” تقدم علم الاقتصاد يدل في حد ذاته على ارادة تحررية عميقة. إلا ان الاقتصاد وحده لا يضمن التحرر، انه يعطي فقط و سائل التحرر في ظروف معينة، لا يد اذن من تحقيق تلك الظروف السياسية و الثقافية و النفسانية”[53]، و الانفتاح على العلوم الاجتماعية جملة و تفصيلا، مع التركيز على علم الاجتماع و السياسة.
علم الاجتماع: يمكن تحديد مضمون هذا المبحث العلمي في دراسة تلك العلاقات بينه الفرد و الجماعات التي يتألف منهالا المجتمع. سواء كانت هذه الجماعات طبيعية ( العشيرة، العائلة…) أو اصطناعية ( الحزب، النادي…) أو ما بينها ( الطبقة، الحرفة…). هذا المبحث العلمي الحديث الذي يصادر إشكالات اجتماعية كبيرة، أهمها إشكال الحرية في المجتمع، حيث يطرح على الشاكلة التالية : هل يتحدد القانون الجماعي و القانون الوجداني الفرداني أم يتعارضان؟. هذا الاشكال الذي يقف عن البعد العلائقي بين الفرد و الجماعة التي يحيا فيها و يشترك مع ظروف و شروط الحياة. و على هذا الأساس تقوم التحليلات في علم الاجتماع على شاكلتين، أما وصفي، أي تحليل يضخم الجانب الوضعي للمجتمع و القوانين الجمعية، فيقتصر على دراسة الجماعات الطبيعية كالعشائر و العائلات مع إهمال تام للشخصية الفردية، و هذا ما يقوم به في الأغلب الباحث الأجنبي، في حين يقوم الباحث من ابناء الوطن على تقديم تحليل إصلاحي، حيث يصور لنا المجتمع في شكل دينامي، حي، و متغير، و يرتكز على الشخصية الفردية رغم القوانين الجماعية.
و تعتبر مجتمعاتنا خير مثال على هذا التحليل الاجتماعي للمجتمع، حيث سيطر التحليل الأول-التحليل الوصفي- منذ الاستعمار مع الباحث الأجنبي إلى حدود اليوم، الأمر الذي جعله يغلب على التصور الدراسي للمؤسسات التعليمية العربية، و يلقى قبول عند الحكام العرب، لكون هذا النموذج التحليلي يرسخ أركان الاستقرار الاجتماعي، هذا الذي يعود بالسلب على هذا الحقل المعرفي، و تبقى جل الدراسات الصادرة عنه عمياء المنهج لأنها تحيي الموروث الاستعماري الذي لم يكن بريئا. و من هكذا قول يرى عبد الله العروي ” أن المجتمع العربي لم يعبر عن ميل واضح للنقد الاجتماعي كالذي أظهره في ميدان الاقتصاد. باستثناء بعض الانجازات الفردية، لا تملك المكتبة العربية حتى ألآن بحوثا متنوعة و عميقة حوا اجتماعيات الأسرة و الطبقة و الحزب و النقابة و النادي…الخ. إن ما انجز لا يزودنا بمؤشر عن مدى ازدهار شخصية الفرد العربي. و ما لم ينجز، أي انعدام الاهتمام بعلم الاجتماع النقدي، ينبئنا بان المؤشر المذكور مازال إلى حد الآن هزيلا جدا “[54].
علم السياسة: إن مجال اشتغال هذا العلم يمكن حصره تعريفيا في البحث عن شئون السلطة، من ناحية أصولها و مبرراتها و كذا توزيعها و توريثها، الأمر الذي يوضح مقياس الفرد في تنظيم حاضره و التخطيط لمستقبله، و بصيغة أخرى افصح فهو علم يهتم بتقييم دور الفرد في ممارسة السلطة داخل المجتمع الذي يعيش فيه، هذه المشاركة الفردية في ممارسة السلطة يجب ان تكون مبنية وفق اختيارات إقتصادية و عقائدية مجتمعية، إن ” علم السياسة لا يفضل نوعا خاصا من أنواع الحكم على ما سواه، بل يبحث، في نطاق كل نوع، عن مقداتر مشاركة الأفراد في الاختيارات التي تكرس حاضرهم و تخطط لمستقبلهم، أما مضمون تلك الاختيارات و نوع تلك المشاركة، فكل ذلك من اختصاص المجتمع المدروس و لا دخل للعلم فيه”[55] .
من مسلمة أساسية، تكمن في أن مفهوم السيادة الشعبية من المفاهيم التي تطال جسم العلوم الاجتماعية الحديثة جمعاء، و انضواء مفهوم المشاركة و التنمية تحث لوائها. هذا الترابط أسفر على أسبقية السيادة الشعبية، الأمر الذي يجعلنا في لب التساؤل التالي : ما هي وضعية علم السياسة في البلاد العربية ؟. إن معضلة ندرة الدراسات العربية في هذا النطاق، تبرهن بشكل جلي “أن المسؤولين العرب يشمئزون من كل بحث موضوعي – في نطاق ما تعنيه الكلمة في العلوم الإنسانية و الاجتماعية- حول أصول سلطتهم ووسائل نفوذها”[56] مع استثناء دولة لبنان. كما تؤكد جل الدراسات المحتشمة في هذا المبحث، سواء أكان أصحابها عربا أو غير عربي، تعطي مؤشرا ضعيفا لمشاركة الجماهير العربية في اختيارات الدولة. و ” الدليل الأوضح على ضعف المشاركة الفردية في التخطيط السياسي هو بالضبط عدم ازدهار علم السياسة داخل الجامعات الوطنية العربية”[57] .
ان هذه النبذة عن الخريطة الفكرية للعلوم الاجتماعية في المجتمع العربي في العقود الأخيرة. و خاصة في ميادين : علم الاقتصاد، علم السياسة،علم السياسة. تساعدنا في رصد مستوى التحرر الذي احرزه الفرد العربي المعاصر. و كذا تقصي الحقول المعرفية و الاجتهادات المبذولة فيها، و الإعمال بنشر استطلاعاتها و نتائجها، لكن على هذا الأساس سنطرح السؤال التالي: هل تقبل الأنظمة العربية ات تدرس بكيفية موضوعية حسب المناهج التقديرية الحديثة، لا في المعاهد الأجنبية بل في المؤسسات الوطنية ؟. وبناءا على ما ثم ذكره فإننا ” نتمكن من مؤشرات ست : مؤشر النمو الاقتصادي و مؤشر تقدم علم الاقتصاد، ثم مؤشر استيعاب العرب لنتائج العلوم الاجتماعية الحديثة و مؤ شر توطين علم السياسة في البلاد العربية. قد يقال لماذا تجمع مؤشر واحد كل العلوم، بما فيها الطبيعية و التطبيقية كالفيزياء و الطب، و الاقتصاد، والعلوم الاجتماعية كالنفسانيات و السياسيات. الواقع ان الحكام عندنا يميزون بوضوح بين هذه العلوم، فهم أقل اعتراضا على منهم على الثانية، فوجب أن نأخذ من علم الاقتصاد و علم الساسة مؤشرين مستقلين”[58] .
لابد ان نعرج في هذا الاعتبار على الاهتمام الموجه إلى التنمية الاقتصادية، مقرين بارتباط هذا التطور بيقظة عقل الإنسان العربي، و أن نماء الإنتاج و المدخول مؤشر على التحرر في بعده القريب و البعيد. لكن هذا الطرح هو امتداد لتأثر المثقفين و القادة السياسيين بالدعوة الماركسية. لكن محيطنا اليوم يدلنا بإشارات تفيد الضغط على شخصية الفرد، وتدني المشاركة الفردية في اتخاذ القرار و الاكتفاء بتسجيل الواقع و لا نستبق ما أنتجته الدراسات. هذا ما جعلنا نخلص إلى فكرة مركزية بلغة عبد الله العروي : ” هنا علاقة جدلية بين ضعف مؤشرات التحرر و قوة المطالبة بالحرية، و في هذه العلاقة الجدلية يمكن الدفع إلى البحث عن أصل الحرية، أي إلى التنظير”[59] .
- استنتاجات :
من البين أن المجتمعات العربية مختلفة عن المجتمعات الغربية في تمثلها للحرية، وهذا راجع للاختلاف على مستوى الشروط التاريخية والاجتماعية والسياسية والفكرية التي عاشها كل مجتمع على حدة. وأفصح مثال عن هذا التباين المجتمعي هو قول عبد الله العروي: “هناك مفاهيم، مثل المساواة والتنمية و الأصالة، تعبر عن (الحرية) كمنبع النشاط و التطور، تعني المساواة، في الظروف الحالية، استقلال الفرد عن كل تبعية للغير، والتنمية استقلال الدولة عن أي تأثير خارجي، والأصالة استقلال القومية و انفلاتها من الذوبان في ثقافات أخرى. تحتل المفاهيم الثلاثة القسم الأكبر من الحيز الذي تعبر عنه كلمة الحرية في المجتمعات الغربية، ويبدو ما عدا ذلك، للمواطن العربي المعاصر، تافها ثانويا”[60]. هذا أنتج لنا على المستوى العربي تداخل بين قيم الحرية و المساواة و التنمية و الأصالة، الأمر الذي جعل منها أكثر تداولا كشعارات، و تستعمل في غالبية الأحيان على نحو الاستقلال، كما ان المسؤولين العرب يساهمون بدورهم في هذا الوضع، لكونهم يرحبون بالعلوم التطبيقية والاقتصاد، ويهملون العلوم النفسانية والسلوكية، فهم يرون الأفراد كعامل منتج لا كشخصية.
و بناءا على هكذا تحليل، فإن مسألة الحرية من المفاهيم التي التي تطرح على مر التاريخ الإنساني، لأن في طرحها استمرار لتحقق مضامينها، و يمكن تحيد هذه المضامين التي أراد المفكر عبد الله العروي أن يطرحها في هذا الكتاب في أربع مستويات :
- ” انتشار الدعوة إلى الحرية على مستوى العراك السياسي اليومي، و تكتسي تلك الدعوة أشكالا متنوعة حيث يناسب كل شكل فئة معينة
- تركيز البحث الفلسفي على مفارقات الحرية عند التطبيق و ضرورة اناطة الحرية البشرية بحرية مطلقة، و يتزعم هذا البحث حاليا اعداء الحرية اللبرالية و المتبرمون من مغزى حرية الفرد
- اهمال ازدهار الشخصية بعرقلة انتشار نتائج العلوم النفسانية السلوكية
- تداخل القيم الضرورية لنشاط و تطور المجتمع العربي المعاصر: التنمية، الأصالة، مع قيم الحرية “[61].
هذه المستويات تفرض علينا بالضروة أن تساءل حول كل من مفهوم الدولة و المجتمع، لأن هذا السؤال يفتح لنا أبواب فهم دور الدولة و الفئة الحاكمة في سؤال الحرية.
استنادا للقراءة المقدمة أعلاه، نستنتج أن مفكرنا عبد الله العروي استطاع أن يوضح معالم مفهوم الحرية في المنظومة الفكرية العربية، و أن يسلط الضوء على الدلالات و التمثلات التي يصادرها مفهوم الحرية عند الفرد العربي المعاصر، و علاقته بكل من مفهوم الدولة و المجتمع، و كذا الفئة الحاكمة. لكن ما يأخذ على هذا الكتاب الذي قمنا بدراسة فصوله، أن مفكرنا القدير عبد الله العروي، تجاوز الموروث الفكري للحضارة العربية، و أخص بالذكر هنا الفيلسوف ابن رشد، الذي عرف بالمفكر العقلاني، كمدخل أساسي للفكر العربي الحر، و نموذج راهني في تحليل وضع مجتمعاتنا العربية المعاصرة. بالإضافة غلى تركيز مفكرنا عبد الله العروي على مفهوم الحرية في الفكر الليبرالي.
هذا القطع مع الموروث الفكري المنفتح، مع التأثر بالفكر الليبرالي لمفهوم الحرية، و الرغبة في إسقاطه على المنظومة الفكرية باسم القطيعة الإبستيمية، يجعلنا نسقط في أزمة منهجية، تتضح في عدم الانطلاق من موروثنا بغية بلورة دلالات فلسفية للمفهوم تكون ذو علاقة شرطية بالواقع الاجتماعي للفرد العربي المعاصر، و لها امتداد موضوعي بتاريخه. الأمر الذي يجعلها أكثر قابلة له و مدافعا عنها.
[1] نقلا عن كتاب مفهوم الحرية . الناصري ، الاستقصاء ، الدار البيضاء ، 1945 ، ج9 ، ص 114، 115 .
[2] العروي عبد الله . مفهوم الحرية ،المركز الثقافي العربي ،الطبعة الخامسة ، 1993 ، ص 12 .
[3] نفس المرجع، ص 13.
[4] نفس المرجع ، ص 15
[5] نقلا عن كتاب مفهوم الحرية. الغزالي ، إحياء علوم الدين ، ج3 ، باب قبول الأخلاق للتغير ، ص 54.
[6] نقلا عن كتاب مفهوم الحرية . الغزالي ، إحياء علوم الدين، ج 4 ، ص6 و 7.
[7] عبد الله العروي ، مفهوم الحرية ، المركز الثقافي العربي ، ص 19.
[8] نقلا عن كتاب مفهوم الحرية . إبن خلدون ، المقدمة ، بيروت ، ص222 .
[9] عبد الله العروي ، مفهوم الحرية ، المركز الثقافي العربي ، ص 21
[10] نفس المرجع ، ص 22 .
[11] نفس المرجع ، ص 24 .
[12] نفس المرجع ، ص 30 .
[13] نفس المرجع . ص 34 .
[14] نفس المرجع ، ص 35.
[15] نفس المرجع ، ص 36 .
[16] نفس المرجع ، ص 39 .
[17] نفس المرجع ،ص 41-42 .
[18] نقلا عن كتاب مفهوم الحرية .جون ستيوارت ميل ، في الحرية ، هارموند رورت ، 1974 ، ص 59 .
[19] نفس المرجع ، ص 70 .
[20] نفس المرجع . ص 62 .
[21] نقلا عن كتاب مفهوم الحرية .أليكس دوتكفيل ، الحالة الاجتماعية و السياسية في فرنسا سنة 1836 ضمن المؤلفات الكاملة ، باريس غاليمار ، ج2 ، ص62 .
[22] نقلا عن كتاب مفهوم الحرية . جون ستيوارت ميل ، في الحرية ، هارموند رورت ، 1974 ، ص 182 .
[23] نفس المرجع ، ص 76 .
[24] عبد الله العروي ، مفهوم الحرية ، ص 47 – 48 .
[25] نفس المرجع ، ص 51 -52 .
[26] نفس المرجع ، ص 60 .
[27] نقلا عن كتا مفهوم الحرية. هيجل ، تمهيد الفلسفة ، ترجمة غاندياك ، جنيف ، مطابع جنيه ، 1964 ،ص 70 .
[28] عبد الله العروي ، مفهوم الحرية ، ص 63
[29] نقلا عن كتاب مفهوم الحرية .هيجل ، تمهيد الفلسفة ، ترجمة غاندياك ، جنيف ، مطابع جنيه ، 1964 ،ص 23 .
[30] نفس المرجع ، ص 57 .
[31] نفس المرجع ، ص 165 .
[32] نقلا عن كتاب مفهوم الحرية .إنجلس ، نقد دوهرينغ ، ترجمة فرنسية ، باريس ، المنشورات الاجتماعية ، 1950 ، ص 146 -147 .
[33] نقلا عن كتال مفهوم الحرية .جون بول سارتر ، الكون و العدم ، باريس ، غاليمار ، ص 369 .
[34] عبد الله العروي ، مفهوم الحرية ، ص 69 .
[35] نقلا عن كتاب مفهوم الحرية . جون بول سارتر ، الكون و العدم ، باريس ، غاليمار ، ص 639.
[36] عبد الله العروي ، مفهوم الحرية ، ص 71 .
[37] نفس المرجع . ص 71 .
[38] نقلا عن كتاب مفهوم الحرية .نيومن ، السيرة الذاتية ، لندن ، لونغمانس ، 1974 ، ص 266 إلى 268 .
[39] عبد الله العروي ، مفهوم الحرية ، ص 73 .
[40] نفس المرجع ، ص 77 .
[41] نفس المرجع ، ص 78 .
[42] نفس المرجع ، ص79 .
[43] نقلا عن كتاب مفهوم الحرية .[43] علال الفاسي ، مقاصد الشريعة ، الدارالبيضاء مكتبة الوحدة ، 1963 ، ص 207
[44] عبد الله العروي ، مفهوم الحرية ، ص 81 .
[45] نقلا عن كتاب مفهوم الحرية .علال الفاسي ، مقاصد الشريعة ، الدارالبيضاء مكتبة الوحدة ، 1963 ، ص 65 .
[46] نقلا عن كتاب مفهوم الحرية .حسن حنفي ، ضمن المؤلف الجماعي نهضة العالم العربي ( بالفرنسية) ، بروكسيل ، 1972 ، ص 258 .
[47] نفس المرجع ، ص 264 .
[48] عبد الله العروي ، مفهوم الحرية ، ص 82 .
[49] نفس المرجع ، ص 85 .
[50] نفس المرجع ، ص 85 .
[51] نفس المرجع، ص 95.
[52] نفس المرجع ، ص 94.
[53] نفس المرجع، ص 96.
[54] نفس المرجع، 98.
[55] نفس المرجع، ص 99.
[56] نفس المرجع، ص 99-100.
[57] نفس المرجع، ص 100.
[58] نفس المرجع، ص 101.
[59] نفس المرجع، ص 102.
[60] نفس المرجع، ص 106.
[61] نفس الرجع، ص 107.
تحريرا في 21-7-2017