العلاقات الأمريكية ـــ الصينية وأثرها في مستقبل النظام الدولي
اعداد :د. سليم كاطع علي – رئيس قسم دراسات الازمات – مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية/ جامعة بغداد
- المركز الديمقراطي العربي
أدت المتغيرات التي شهدتها السياسة الدولية في بداية عقد التسعينيات والمتمثلة بإنهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي، وما ترتب على ذلك من إنهيار لنظام القطبية الثنائية، وما أفرزته من نتائج على الصعيد الدولي الى إحداث جملة من التغيرات في كافة جوانب العلاقات الدولية، وخاصة العلاقات الثنائية بين دول العالم.
ولم تكن العلاقات بين الولايات المتحدة الامريكية وجمهورية الصين الشعبية بمنأى عن تلك التطورات نظراً لاِمتلاك كلتا الدولتين من القدرات والإمكانيات بما يؤهلها للتأثير كلاً في محيطهما الخاص، فالولايات المتحدة الامريكية تمتلك من المقومات العالمية الشاملة بما يمكنها من ممارسة التأثير في قرارات الدول الأخرى، وبما يحقق أهدافها ومصالحها، وتلك القدرة لا تتمثل بما تملكه مـن قـدرات عسكريـة ضخمـة فحسب بل بما تملكــه من قدرات اقتصادية وتكنولوجيـة وقاعـدة واسعة للمعرفة.
أما الصين فتبدو وفقاً لقاعدة القوة الاقتصادية والعسكرية هي الأخرى مرشحة للبروز كقوة عالمية، وربما تكون المنافس الأكبر والأهم بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية في السنوات القليلة القادمة، فالنمو الاقتصادي المتسارع الذي تحققه منذ ربع قرن سيجعلها القوة الاقتصادية الأولى في العالم، وعدد سكانها وقوتها العسكرية يرشحانها لموقع قيادي في العالم. كما تتمتع الصين بخصائص متنوعة بإعتبارها دولة تجمع بين متطلبات القوى الكبرى، وملامح دولة من دول الجنوب، وذلك يجعل القوى الكبرى تحترم رأيها في السياسة الدولية، فضلاً عن ثقة دول الجنوب وتأييدهم بإعتبارها بلداً من العالم الثالث.
لقد إقترن تاريخ العلاقات الأمريكية ـــ الصينية بأحداث كثيرة أثرت بشكل مباشر وغير مباشر على تلك العلاقة، نظراً لإختلاف الدولتين في طبيعة الأنظمة الاجتماعية والسياسية والآيديولوجية، فضلاً عن الفارق في مستوى التنمية الاقتصادية والسياسة الخارجية، ومن ثم أصبح من الطبيعي وجود إختلافات جوهرية بين الولايات المتحدة والصين في مفهومهما وأهدافهما بالنسبة للعالم، فضلاً عن علاقات كل منهما بالآخر.
فالعلاقات الأمريكية ـــ الصينية وبسبب كثافة المصالح التجارية والاقتصادية المتبادلة، أصبحت تتميز بطبيعة مزدوجة، فهي من جهة تجمع ما بين المخاوف والشكوك المتبادلة، ومن جهة ثانية تؤكد على ضرورة التعاون وتعزيز الإهتمامات المشتركة الخاصة. فالصين لا تستطيع أن تتجاهل دور الولايات المتحدة الأمريكية في النظام الدولي المعاصر، أو حجم مصالحها مع واشنطن، ومن جانبها فان الولايات المتحدة لا تستطيع هي الأخرى أن تغفل حقيقة التقدم الاقتصادي المتزايد الذي حققته الصين، والذي يؤهلها لأن تكون إحدى القوى الاقتصادية المؤثرة في التفاعلات الدولية مستقبلاً.
إن تحليل واقع العلاقات الأمريكية ـــ الصينية يمكننا من تحديد إتجاهين لطبيعة العلاقة فيما بينهما، حيث يتجسد الإتجاه الأول بعنصر العداء (الإحتواء) containment المدعوم من قبل المُجمع الصناعي العسكري الأمريكي الذي يبحث عن عدو يتيح له الإستمرار في سباق التسلح والميزانيات العسكرية الضخمة. أما الإتجاه الثاني فيتمثل بعنصر التعاون (المشاركة) partinership والذي يؤكد على أن تعميق روابط العلاقات الاقتصادية والتجارية المتبادلة هو الطريق الأمثل لمعالجة القضايا المختلف عليها بين البلدين، وضرورة من ضرورات الشراكة المتبادلة والشاملة في العلاقات الثنائية بين البلدين.
ولا شك فأن الاتجاه الثاني هو الأقرب إلى معطيات البيئة الدولية الراهنة انطلاقاً من إن طبيعة العلاقات الدولية المعاصرة أصبحت لا تتوافق مع النموذج النزاعي بين الدول، فالتطورات المرتبطة بالثورة الصناعية، وتزايد التبادل العالمي قد ساهم في إنشاء شبكة متشعبة من الترابط المتبادل بين مختلف الدول، كما فرض مهام إجتماعية وإقتصادية جديدة على الدولة التي إتضح أنها غير قادرة بمفردها على تلبية هذه المتطلبات الجديدة، وهو ما جعل علاقات المشاركة والتعاون في تحمل الأكلاف والمسؤوليات الدولية وتوزيع المنافع تتم عبر التعاون بصيغة توزيع المصالح وليس بصيغة علاقات عدوانية كما كانت خلال حقبة الحرب الباردة. إذ أن طبيعة المشكلات الدولية سوف تجعل من الصعوبة مواجهتها بدون مشاركة الأطراف الأخرى، كالإرهاب وإنتشار أسلحة الدمار الشامل، وتغيير المناخ، وتأمين مصادر الطاقة.
وفي هذا الإطار فقد سعت الصين نحو الحفاظ على إستقرارية النظام الدولي من أجل خلق البيئة المناسبة لتحقيق الإستقرار والنمو الاقتصادي في الصين، وهو ما يشكل قمة أولويات القيادة الصينية، وإستمراراً للنهج الذي إختطه الزعيم الصيني الأسبق دنغ زياو بنغ. فالولايات المتحدة الامريكية تعد دائرة منفعة للصين تقنياً ومالياً وتجارياً، ومن ثم لا تجد الصين لنفسها مصلحة كبيرة في استعدائها للولايات المتحدة، ومن ثم فإنها تسعى إلى اتخاذ خطوات محسوبة تجاهها بما لا يمس المصالح الحيوية للصين.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فتدرك هي الأخرى مدى أهمية الصين بالنسبة لها كونها تضم أكبر قوة شرائية في العالم، وسوق واسعة للمنتجات الأمريكية، وبالتالي فان المشاركة الاقتصادية مع الصين ضرورية لها، وأن أية عملية لفصل الاقتصادين سوف يكون أمراً بالغ الصعوبة وباهض التكاليف في نفس الوقت.
إذ أشار الرئيس الأمريكي (باراك اوباما) خلال زيارته للصين في كانون الأول 2009 بان الولايات المتحدة لا تسعى إلى احتواء الصين، وأن النهوض الصيني لا يشكل مصدر تهديد للولايات المتحدة، وأنها ترحب بان تلعب الصين دوراً أكبر على الساحة العالمية قائلاً: ” نحن نعرف إن هناك فائدة أكبر من تعاون القوى الكبرى معاً بدلاً من تصادمها، وأن الصين كقوة صاعدة ومزدهرة هي مصدر قـوة للمجتمع الدولي وسند فـي وجـه التحديات الدولية الجديدة “.
كما أشارت المراجعة الدفاعية الأمريكية 2010ـ 2014 الصادرة في شباط 2010 عـن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، إلى أن: ” الولايات المتحدة ترحب بصين مزدهرة وناضجة وقوية تؤدي أثراً كبيراً في النظام العالمي، كما ترحب بالمنافع الإيجابية التي يمكن أن تتأتى من تعاون أكبر وأعمق بين الطرفين “.
وفي هذا الإطار نصح الخبير الاستراتيجي الأمريكي (سونج بوم آهن) في كتابه المعنون ( الصين كرقم واحد) الولايات المتحدة بالعمل على بلورة صيغة أفضل للعلاقات مع الصين تقوم على الوفاق والتفاهم معها بدلاً من استعدائها وتصويرها على أنها المنافس المقبل للولايات المتحدة. ويرى الكاتب إن ظهور الصين كقوة كبرى سوف يساعد على استقرار النظام الدولي، وسوف يدفع بالولايات المتحدة الأمريكية إلى إعادة تقييم الأدوار والمصالح والسياسات في المستقبل، وهو ما من شأنه أن يحقق عدة فوائد للولايات المتحدة، من خلال المساهمة في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين بأقل كلفة ممكنة، وهو ما يعني تقليل الولايات المتحدة لعدد قواتها العسكرية فضلاً عن الكلفة الاقتصادية في منطقة المحيط الهادئ، وهو ما يمكن أن ينعكس على مناطق العالم المختلفة من خلال السعي إلى معالجة المشاكل والأزمات التي تعاني منها وفقاً لمنطق الحوار والتفاهم وعدم المواجهة.
ومما تقدم يتضح، ان العلاقات الامريكية ـــ الصينية على قدر كبير من الاهمية بالنسبة للدولتين سياسياً واقتصادياً وأمنياً، وهو ما ينشده الطرفان في تقوية وتمتين تلك العلاقات حاضراً ومستقبلاً. ولعل ما يؤكد اهمية تلك العلاقات انه على الرغم من وجود الاختلاف والتقاطع في العديد من الملفات والقضايا المشتركة لكنها لا تصل الى مستوى القطيعة او الصدام، للروابط والمصالح المشتركة، وللدور الذي تؤديه كل منها في العديد من القضايا الاقليمية والدولية وهو ما يصب لصالح الحفاظ على استقرارية النظام الدولي ومن ثم في تعزيز السلم والامن على الصعيد الدولي.