زيمبابوى ما بعد موجابى تحولات وطموحات
اعداد: مسلم محمد هنيدى – باحث متخصص فى الدراسات الأمنية وشؤون الامن القومى
- المركز الديمقراطي العربي
إطلاله:
بعد 37 سنة من الانتظار… طوت زيمبابوي صفحة “موجابي”، حيث أدى الرئيس الجديد “إيمرسون منانغاغوا” السبت 25 نوفمبر 2017 اليمين الدستورية خلال حفل تنصيب أُقيم في العاصمة “هراري” أمام عشرات الآلاف من أنصاره المتطلعين إلى مستقبل أفضل، ورغم تعهده بإنعاش الاقتصاد المدمر ومكافحة الفساد؛ تُخيم التخوفات من طبيعة شخصيته التى تثير القلق لدى الكثيرين على المشهد العام، لأنه كان موالياً للنظام السابق ونفذ بعض الأعمال القمعية إبان تولية لبعض المهام الأمنية فى تسعينيات القرن الماضى.
وأقسم “منانغاغوا” اليمين في ملعب اكتظ بالحشود في إحدى ضواحي “هراري”، وذلك بحضور رؤساء موزمبيق وبوتسوانا وزامبيا وناميبيا، فيما لم يتمكن رئيس جنوب أفريقيا “جاكوب زوما” من حضور مراسم التنصيب بسبب تزامن زيارة نظيره الأنغولي “جواو لورنشو”. وتولى “منانغاغوا” (75 عاماً) السلطة في بلد مدمر، بعد ثلاثة أيام على الاستقالة التاريخية لـ”موجابي” (93 عاماً)، الذي كان أكبر رؤساء الدول سناً في العالم، والتى دفعه الجيش وحزبه والشارع إلى تقديمها إضطرارياً لإنهاء فترة ليست بالقليلة من سيطرته على مقاليد الأمور فى البلاد.
وحيث يمثل تحول ولاء القوات المسلحة على غرار ما حدث في زيمبابوي أو حدوث انشقاق في الدوائر القريبة، واحداً من عدد قليل من السبل التي يمكن بها الإطاحة بالحكام من السلطة بالنسبة لكثير من الدول؛ تستهدف السطور التالية التعرض لتطورات المشهد الزيمبابوى خلال الأيام القليلة الماضية، وصولاً الى تلك اللحظة التى تمكنت فيها القوى المسيطرة على مقاليد الأمور هناك من تغليب المصلحة العليا للوطن، واستطاعت تجاوز تلك الأزمة الخطيرة التى كادت أن تعصف بهذا البلد المأذوم بفعل عوامل وسياسات وتراكمات مغلوطة لعدد من السنين، كما تستهدف كذلك إستقراء تحديات الموقف الداخلى على مستقبل البلاد، وتسليط الضوء على السياقات والإنعكاسات المتبادلة على الساحتين الزمبابوية وعلى دول القارة فى ظل السياق الإقليمى والدولى فى الفترة المقبلة.
1ـ خلفيات وتوازنات:
تتوسط دولة زيمباوى بموقعها الجغرافى دول الخاصرة الجنوبية للقارة الأفريقية، فهى تقع بين دول موزمبيق وزامبيا وبتسوانا وجنوب أفريقيا، وعرفت سابقاً هذه الدولة عندما كانت مستعمرة تابعةً للمملكة المتّحدة بـ( روديسيا الجنوبيّة). وقد نالت في عام 1965م استقلالها التّام عن الدولة البريطانيّة؛ حيث أعلن انفصالها عنها الزعيم( إيان سميث)، الّذي تعرّضت سياسته لغضب من المجتمع الدولي ككل متّهمين إيّاه بالعنصريّة كونه كان ينتمي للأقليّة الموجودة في روديسيا ذات البشرة البيضاء، ونتج عن السياسة العنصرية التي اتبعتها الأقلية البيضاء تأييد عالمي لجبهة تحرير زيمبابوي، بزعامة “موجاني” و”جوشوا نكومو”.
ويبلغ عدد سكان زيمبابوي حوالي 16 مليون نسمة، ومساحتها 390,580 كم2، ونظام الحكم فيها برلمانياً، وعلى الرغم من أن الإنجليزية هي اللغة الرسمية، إلا أنه يتحدث بها أقل من 2.5% من جملة السكان، وبقية السكان يتحدثون لغات “البانتو” مثل لغة “الشونا” بنسبة 70% من جملة السكان، والمتحدثين بلغة “السينديبيلي” بنسبة 20%. وينحصر الاقتصاد فيها على حرفتي الزراعة والرعي ويعمل بالزراعة 69% من القوة العاملة، وأبرز الحاصلات الزراعية الذرة والقمح والأرز، كما أن لديها شهرة في إنتاج النحاس.
ولكن جراء مشاركتها في الحرب التى دارت في جمهورية الكونغو الديمقراطية في الفترة من (1998-2002)، شهد اقتصاد البلاد انكمشاً بشكل كبير بعد عام 2000، ما أدى إلى بُؤس الوضع الداخلى وانتشر الفقر والبطالة بمعدل 80%، ومثّل التضخم مشكلة رئيسية من عام 2003 إلى 2009، عندما علقت البلاد عملتها الخاصة، وقد واجهت زيمبابوي تضخم بمعدل 231 مليون بالمائة وبلغ ذروته عام 2008.
وتأتي زيمبابوي في المرتبة الرابعة من حيث أعلى معدلات انتشار فيروس نقص المناعة البشرية في العالم، وتكافح من أجل توفير الأغذية الطارئة من جهة، وتدهور الحالة الاقتصادية وارتفاع معدلات الوفيات الحاد بين الأطفال الذي يعّد من أعلى المعدلات في التاريخ، كما أدى ازدياد العزلة الدولية بسبب سياسة الحكومة المثيرة للجدل إلى انخفاض ملحوظ في تدفق المعونات.
وفى هذه الأجواء، ووفقاً لموقع “جلوبال فير باور” الأمريكي، يحتل جيش زيمبابوي الذي إستولى على السلطة ومهد لعملية الإنتقال التى تمت فى البلاد قبل أيام، المرتبة رقم 81 بين أقوى جيوش العالم، ويصل عدد جنوده العاملين إلى 30 ألف جندي إضافة إلى 22 ألف جندي في قوات الاحتياطـ، وتضم القوات الجوية 10 مقاتلات و10 طائرات هجومية و39 طائرة نقل عسكري، إضافة إلى 28 مروحية بينها 6 مروحيات هجومية. كما يمتلك 72 دبابة و172 مدرعة، إضافة إلى 26 مدفعا ميدانيا و64 منصة إطلاق صواريخ متعددة. وليس لدى زمبابوي قوات بحرية. وتبلغ ميزانية الدفاع 95 مليون دولار لتسليح الجيش الذي يحمي دولة مساحتها 390.7 ألف كيلومترا مربعا، ولها حدود مشتركة طولها 3229 كم.
أما سيدة زيمبابوي الأولى “جريس نتومبيزودوا ماروفوا” التي قضى الجيش على طموحها السياسي، بعد أن كانت المُحرك الرئيسي للأحداث التي قلبت الأوضاع رأسًا على عقب في البلاد، فقد سعت ببطء حتى تمهد لنفسها الطريق إلى مقعد الرئاسة، وفي ذلك الإطار عملت على التخلص من نائب الرئيس “إيمرسون مانغانغوا”، وحيث كانت حياة “جريس” دائمًا مثار جدل وانتقادات، فقد ولدت في بينوني، جنوب إفريقيا، عام 1965، وتزوجت طيارًا يُدعى “ستانلي غوريرازا” وهي في الثامنة عشرة من عمرها، وبعد فترة، عملت سكرتيرة للرئيس “موجابي”، وأقامت علاقة معه رغم زواجه من “سالي هايفرون”، زوجته الأولى وأم أبنائه، وبعد 4 أعوام من وفاة “هايفرون”، تزوج رئيس زيمبابوي من “جريس”، وكانت هي في الحادية والثلاثين من عمرها، بينما كان هو قد أكمل عامه الثاني والسبعين، وأقيم لهما حفل زفاف كبيرًا وضخمًا، وصفته وسائل الإعلام والصحف بـ”زفاف القرن”.
ثم زاد تأثير “جريس” في حزب الاتحاد الوطني الأفريقي الزيمبابوي (زانو- بي إف)، الذي ترأسه زوجها، في السنوات الأخيرة الماضية. ففي ديسمبر 2014، رُشحت رئيسة الرابطة الرئيسية للحزب، وتم ترشيحها أيضًا عضوًا في المكتب الرئيسي بالحزب، وهي هيئة مكونة من 49 عضوًا، يعملون على صياغة سياسته وقراراته.
ودائماً ما أثارت “جريس” الجدل بسبب تبذيرها وتبديدها مبالغ كبيرة على التسوق، ما منحها ألقابًا عديدة مثل “المتسوقة الأولى”، و”جريس جوتشي”، في إشارة إلى الماركة العالمية. وأنفقت السيدة موجابي خلال حضورها لعرض أزياء في باريس 75 ألف يورو، كما أنفقت الملايين على عقارات وممتلكات في زيمبابوي، وجنوب إفريقيا، وماليزيا، وهونج كونج، حيث تدرس ابنتها في الجامع، وهى التصرفات التى لطالما أغضبت المواطنين في جميع أنحاء البلاد، وكانت أيضًا مثار السخرية، بعد حصولها على شهادة دكتوراه في تخصص علم الاجتماع من جامعة زيمبابوي في سبتمبر 2014، بعد شهرين فقط من التحاقها بالجامعة. وأرجع المعارضون والمنتقدون ذلك إلى أن زوجها مستشارًا في الجامعة. وبعد التخلص من نائب الرئيس “مانغانغوا” في نوفمبر 2017، أشار سياسيون في البلاد إلى أنها طالبت زوجها بفصله عن عمله، مرجحين أنها تسعى للقضاء عليه ليكون الطريق إلى الرئاسة خاليًا.
فى المقابل، وفى هذه الأجواء المشحونة بالتجاذبات، تثير سيرة وشخصية الرئيس الجديد القلق فى بعض الأوساط المحلية، فـ”إيمرسون منانغاغوا” كان أحد الموالين للنظام، وظل قريباً من الأجهزة الأمنية، ومعروف بأنه نفذ بعض المهام القمعية بأمر الرئيس السابق. وقد ولد في منتصف شهر سبتمبر عام 1942 في مدينة “زفيشافاني” (شاباني سابقاً) الصغيرة بجنوب مستعمرة روديسيا الجنوبية، التي أصبحت زيمبابوي، لكن أسرته انتقلت عام 1955 إلى مستعمرة روديسيا الشمالية، جمهورية زامبيا الحالية، وفيها تلقى تعليمه، وساعد في قيادة حرب الاستقلال في زيمبابوي عام 1970.
وتنتمي أسرته إلى قبيلة “الكارانغا”، وهي إحدى قبائل “شعب الشونا”، الذى يشكل الغالبية الكبرى من سكان زيمبابوي، ونشأ “إيمرسون” وسط أفرادها الستة في بيئة مسيسة. وباشر نشاطه السياسي باكراً، بعد انضمامه إلى حزب الاستقلال الوطني المتحد. وعام 1960 عرّضه نشاطه السياسي لطرده من الكلية التقنية التي التحق بها بعدما اتهم بحرق بعض الممتلكات. لكنه فيما بعد درس الحقوق للحصول على شهادة جامعية للدراسة عن بعد من جامعة لندن، وبعدما تعطلت دراسته بسبب سجنه نال عام 1974 الإجازة في الحقوق من جامعة زامبيا في العاصمة الزامبية لوساكا، وبعد دراسات متقدمة تأهل للترافع في محكمة زامبيا العليا عام 1976.
وفي أعقاب تلقي “منانغاغوا” تدريبات عسكرية في مصر والصين، ساعد مباشرة في معارك حرب التحرير قبيل الاستقلال عام 1980، وحين التقى “منانغاغوا” الرئيس الاستقلالي “موجابي”، قبل أربعة عقود على الأقل، أصبح مساعده الشخصي وحارسه، وذلك بعدما نال ثقة الرئيس، وشقّ من ثم طريقه صعوداً في مواقع السلطة، حيث قاد جهاز الأمن خلال الحرب الأهلية عام 1980، ثم عين وزيراً للأمن الوطني في بداية مسيرته في عالم السياسة، ويذكر أنه تسبب فى قتل الآلاف في الصراعات الدامية أثناء وبعد الاستقلال. وكان له دور بارز في تلك الصراعات عندما كان وزيراً للأمن القومي، وبالفعل، بعدها توليه حقيبة العدل عام 1988 وترأس البرلمان من 2000 حتى عام 2005، وما بين عامي 2005 و2009، تولى منصب وزير الإسكان، قبل أن يعهد إليه بمنصب وزير الدفاع بين عامي 2009 و2013 بعد فترة وجيزة أمضاها وزيراً للمالية. وبصفته وزير سابق للدفاع والأمن القومي، لعب دور حلقة وصل رئيسية بين الحزب الحاكم والمؤسسة العسكرية ووكالات الاستخبارات في زيمبابوي، وكان أيضاً رئيس قيادة العمليات المشتركة المكلفة بحفظ الأمن في البلاد. كذلك، كان من المقربين لـ”موجابي” – الذي ينتمي مثله إلى غالبية “الشونا” – على مدى عقود؛ ولذا أُتهم بالمشاركة في القمع الذي تعرض له كل من عارض الرئيس.
2ـ ترتيبات وتكتيكات:
بدأ العد العكسي لعملية التغيير في زيمبابوي في السادس من نوفمبر 2017، عندما أعلن وزير الإعلام الزيمبابوي عن إقصاء “إيمرسون منانغاغوا” من منصبه نائباً للرئيس؛ لأنه أظهر صفات عدم الولاء والخداع وعدم الاحترام، وعند تلك اللحظة أدرك المتابعون أن مَن كان يُنظَر إليه على أنه أحد أركان النظام، خسر أخيراً حظوته لدى “موجابي”؛ لأنه كان يخطط ليقطع الطريق أمام زوجته لخلافته، مع أن الأخيرة لم تكن تحظى بشعبية تذكر. أما “موجابي”، المخطط البارع، فأخفق هذه المرة في احتساب خطوته، وبإقدامه على عزل نائبه تسبب في سقوط نظامه في نهاية المطاف.
فرغم قرب قائد الجيش من الرئيس “موجابي”، ووفائه له طيلة خدمته إلى جانبه لما يزيد عن 40 عاماً، فقد تفوقت العلاقات الوثيقة بين المؤسسة العسكرية ونائب الرئيس المقال، وسيطر الجيش على مفاصل الدولة في العاصمة “هراري” فى صباح الأربعاء 15 نوفمبر 2017، وأتت هذه التحركات العسكرية إثر التحذير غير المسبوق الذي وجهه قائد الجيش الجنرال “كونستانتينو شيوينغا” الى الرئيس “موجابي” بسبب اقالته “ايميرسون منانغاغوا” من منصبه. ولمح الجنرال “شيوينغا” في تحذيره حينها، الى إحتمالية تدخّل الجيش إذا لم تتوقف عملية “التطهير” الجارية في صفوف الحزب الحاكم.
ولقد كان واضحاً قبل هذه التطورات الأخيرة، أن المنافسة على خلافة “موجابي” المحصورة بين زوجة الرئيس ونائبه المقال قد وصلت إلى الذروة. ونجحت “جريس” مؤقتاً عندما تمكنت من إقناع زوجها بإقالة “منانغاغوا”… لكن كما سار مسلسل الأحداث، كلّف هذا القرار “موجابي” نظامه وحكمه، وأفقده السلطة إلى الأبد. وأغضبت هذه الخطوة قادة الجيش، الذين تدخلوا ووضعوا “موجابي” تحت الإقامة الجبرية، وسرعان ما تحرك الجيش على نحو مفاجئ في انقلاب عسكري ناعم، هو الأول من نوعه ضد “موجابي” منذ شارك في قيادة زيمبابوي نحو الاستقلال مع رفيقه السابق “جوشوا نكومو”.
وقد كان تدبير الأمر مُحكماً؛ إذ جرى عزل أفراد تابعين لإدارة الرئيس من مكتب المغادرة في مطار “موجابي” الدولي، الذي أطلق عليه هذا الاسم قبل فترة قصيرة، وعُيّن جنود آخرون بدلاً منهم. وبعدها، وقبل أن يظهر رئيس هيئة أركان جيش زيمبابوي الوطني”سيبوسيسو مويو”، ليقول: “إننا نستهدف فقط المجرمين المحيطين بموجابي، والذين يرتكبون جرائم تسبب معاناة اجتماعية واقتصادية في البلاد من أجل تقديمهم للعدالة”، اختفت الشرطة من الشوارع، بعد سيطرة الجنود على حركة المرور، وأحياناً كانوا يكتفون بسؤال العامة عن هويتهم، زاول المواطنون الزيمبابويون حياتهم العادية اليومية بصورة طبيعية… وكأن شيئاً لم يكن.
وبدا المشهد كما لو كان انقلاباً قام به حلفاء نائب الرئيس من العسكريين، وبدا أن ما حصل أُعِدّ له سلفاً وبعناية، وبخاصة بعدما أعلن جنرالات الجيش أن “منانغاغوا”، نائب الرئيس المعزول، وافق على العودة إلى البلاد كجزء من خريطة طريق انتقالية، والذى كان قد فرّ إلى خارج البلاد عندما علم بوجود مؤامرة لقتله، وقال إنه لن يعود حتى يتأكد من ضمان سلامته وأمنه. كذلك، اتهم “موجابي” بالسماح لزوجته بـسلب سلطات دستورية منه، مشدداً على ضرورة أن يصغي إلى نداء شعبه القوي ويتنحى عن السلطة. وحين سيطر الجيش على الأمور، وبدأت المطالب تتصاعد بضرورة تنحي الرئيس، خرج “منانغاغوا” عن صمته للمطالبة هو أيضاً بإقالة الرجل الذي حكم البلاد بقبضة من حديد قرابة أربعة عقود من الزمن.
وكونه رجلاً متمرس في دهاليز السياسة، كان يعرف جيداً كيف يتلاعب بخصومه، فقد قلب المائدة على الجميع، بعدما إتهم أشخاصاً داخل حزب (زانو – بي إف) الحاكم بالسعي إلى “دق إسفين” وإحداث حالة من التوتر بينه وبين رئيسه، لكن الأمور تبدلت سريعاً، وها هو يعود من منفاه الإختياري فى جنوب أفريقيا ليحكم البلاد خلفاً لقائده، مؤكداً في أول ظهور علني له بعد العودة، أن “زيمبابوي” ستشهد بداية ديمقراطية جديدة.
3ـ نتائج ومؤشرات:
باتت زيمبابوي عقب إستقالة الرئيس “موجابى” من منصبه، أشبه بقنبلة موقوتة بسبب المشكلات والأزمات والتحديات المختلفة التي تعاني منها البلاد، والتي قد تتفاقم في الفترة المقبلة الأمر الذي أثار قلق ومخاوف بعض الدول والحكومات، حيث ترك “موجابي” اقتصاداً مدمراً في بلد يعاني من نقص الأموال وشبح التضخم المفرط؛ فبينما تبلغ نسبة البطالة 90%، يعيش سكان البلاد من أشغال صغيرة في الاقتصاد الموازي، فيما هاجر آخرون إلى جنوب أفريقيا، لذلك يعلق سكان زيمبابوي آمالاً هائلة على هذا التغيير في السلطة.
وحيث يأمل الشعب الزيمبابوى فى طى تلك الصفحة الغابرة سريعاً، آملين ومتحمسون لانطلاقة جديدة ببلادهم نحو الرخاء والتنمية فى كل المجالات، وهو الأمر الذى يدركه الرئيس الجديد، ولذلك انتهز فرصة أول خطاب له ليطلق الوعود، وفي مقدمتها إيجاد وظائف للعاطلين وخفض الفقر، والقضاء على أعمال الفساد على الفور. جاء ذلك خلال الخطاب الذى ألقاه بعد أدائه اليمين، حيث رسم ملامح سياساته وتحركاته خلال الفترة المقلبة، كما لم يقطع أوصر الود والعرفان بفضل قائده المستقيل، فقد أشاد الرئيس الجديد بـ”روبرت موجابي” وبمساهمته الكبرى في بناء البلاد، وقطع وعداً رمزياً بدفع تعويضات للمزارعين البيض، الذين صودرت ممتلكاتهم مطلع الألفية الجديدة، لكنه رأى في الوقت نفسه أن الإصلاحات التي جرت حينذاك “كان لا بد منها”. كما وعد الرئيس الجديد في خطابه بـحماية كل الاستثمارات الأجنبية في زيمبابوي.
وكان من المتوقع أن يحضر “موجابي” مراسم تنصيب خلفه، لكنه لم يفعل، وقال “سارامبا” إنه ليس في حالة تسمح له بالحضور. وعشية توليه مهامه، أجرى “منانغاغوا” محادثات مع “موجابي”، ووعده بأن يؤمن له ولعائلته أفضل ظروف الأمن والرخاء، ورغم سقوط النظام، ما زال مصير الرئيس وزوجته، وخصوصاً أمام القضاء، مجهولاً. فقد نفى الناطق باسم الرئيس السابق “جورج سارامبا” بشكل قاطع حصول “موجابي” على حصانة، فلا داعى لذلك، والمسألة لم تناقش خلال محادثات التسوية من الأساس.
ورغم تجنب “منانغاغوا” في كلمته الإشارة إلى الانتخابات المقرر إجراؤها في العام المقبل، لكن خطابه بدا كما لو أنه يدشن حملته الانتخابية بالفعل؛ إذ وعد بتحقيق الرخاء والاستقرار للبلد الفقير. وحيث يتعين أن تجرى الانتخابات المقبلة في زيمبابوي قبل 22 أغسطس 2018 بفترة لا تزيد على 30 يوماً، إلا إذا قرر البرلمان حل نفسه وهو ما قد يؤدي إلى إجراء انتخابات مبكرة وفقاً للدستور. ففي شهر يوليو الماضي، أعلنت هيئة الانتخابات في زيمبابوي أنها تحتاج إلى 274 مليون دولار لتمويل الانتخابات البرلمانية والرئاسية العام المقبل. وتعاني “زيمبابوي” نقصاً شديداً في السيولة، وبخاصة أن حكم “موجابي” واجه صعوبات في دفع أجور العاملين في مواعيدها في حين لا تجد الكثير من الشركات مالاً لتمويل ما تحتاج إليه من واردات. وبناءً عليه، سيكون على رأس مهام الرئيس الجديد إنعاش الاقتصاد المتدهور. وفيما قدم نفسه على أنه خادم البلاد، في مسعى إلى طمأنة السكان، فقد دعت حركة التغيير الديمقراطي، أكبر أحزاب المعارضة، إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية حتى الانتخابات المقررة في 2018. وطالب زعيم الحزب “مورغان تشانجيراي” بأن يبرهن الرئيس الجديد على أن قيادة الأمة تغيرت، وألا يستسلم لإغراءات التفرد بالسلطة.
4ـ تحركات وتحديات:
تولى “منانغاغوا” الرئاسة كـنائب للرئيس رغم إقالته، وبالتالي سيكمل الولاية الرئاسية لـ”موجابي”، ثم بعدها سيترشح للانتخابات الرئاسية صيف عام 2018 المقبل، بوصفه رئيساً للحزب الحاكم، وتشير جميع التوقعات إلى أنه المرشح الأوفر حظاً، والأكثر قدرة على قيادة المرحلة الجديدة.
ويثير تاريخ الرجل مخاوف المواطنين في زيمبابوي، حيث حذرت منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان من رئيس زيمبابوي المقبل، وذكرت منظمة العفو الدولية بأن عشرات آلاف الأشخاص قد تعرضوا للتعذيب واختفوا وقتلوا خلال سبعة وثلاثين عاما من حكم “موجابي”، فيما طالبت منظمة “هيومن رايتس ووتش” الحكومة المقبلة البدء سريعاً بإجراء إصلاحات في الجيش والشرطة اللذين كانا قد ساندا “موجابي” في عمليات القمع، إلا أن “منانغاغوا” في المقابل بإمكانه أن يمنح زيمبابوي وجهاً جديداً على الساحة الدولية، بعد قرابة أربعة عقود من الجمود والعزلة، فهو أفضل من يدرك حجم التحديات التي تواجه بلده، فقد كان في قلب دائرة صنع القرار، ويعلم جيداً إلى أي حد تغلغل الفساد في مفاصل الدولة.
وحيث تتمتع زيمبابوي ببعض المزايا التي تجعلها قادرة على النهوض من جديد، وفي مقدمتها إرتفاع المستوى تعليمي بنسبة كبيرة لدى السكان بالمقارنة مع بقية الدول الأفريقية، وهنالك البنية التحتية المتطورة، بالإضافة إلى الثروات المعدنية الهائلة التى لم تستغل بعد، ولكنها تحتاج إلى قيادة سياسية واعية وتملك إرادة للإصلاح ومحاربة الفساد، وتقديم تنازلات سياسية تعيد الوضع في البلاد إلى طبيعته.
والراجح أن الرجل سيتوجه نحو البنك الدولي والبنك الأفريقي للتنمية من أجل الحصول على قروض وتمويلات لتصحيح العيوب الكبيرة التي يعاني منها اقتصاد بلاده، ولكن التحدي الأهم بالنسبة له هو سيكون خلق فرص تشغيل للشباب ومحاربة الفساد.
ويبدو الوضع الاقتصادي هو التحدى الأبرز في المرحلة التي ستعقب طي صفحة “موجابي”، فرغم مغادرة الرجل فإن شبحه سيخيم على البلد لسنوات كثيرة، إذ تعاني الدولة من الفساد وغياب سياسات تنموية حقيقية، ورغم الأراضي الخصبة وتوفر المياه في زيمبابوي، والثروة المعدنية الهائلة من الذهب والماس، فإن الخزائن فارغة وتشير بعض الإحصائيات إلى أنه من بين كل أربعة مواطنين هنالك مواطن واحد يعتمد في قوته اليومي على المساعدات الدولية، وثمانية من كل عشرة مواطنين يعيشون تحت خط الفقر، وفي عام 2008 كانت نسبة 80 % من المواطنين عاطلون عن العمل، وانخفض متوسط العمر إلى 42 سنة فقط.
ولكن أمام هذه الوضعية بدا “منانغاغوا” واثقاً من نفسه، حين أكد أن المرحلة المقبلة ستشهد مشاركة الجميع في بناء البلد، وستضمن البلاد فترة انتقال سلمية لتدعيم ديمقراطيتها الوليدة، وبدء مرحلة جديدة لجميع الزيمبابويين، وتبني السلام والوحدة.
وبهذا سيزيد الخطاب التصالحي الذي رفعه “منانغاغوا” قبيل تنصيبه رئيساً للبلاد، من ثقة المجموعة الدولية فيه، إلا أنها طالبته بفتح الباب أمام المعارضة للمشاركة في العملية السياسية والمنافسة على المناصب، خاصة خلال الاستحقاقات الرئاسية التي ستقام صيف عام 2018 المقبل، وهي خطوة مهمة ليثبت “منانغاغوا” جديته في إحداث التغيير والقطيعة مع الماضي.
فقد دعاه الاتحاد الأوروبي الذي رحب باستقالة “موجابي”، إلى إطلاق “حوار شامل” يأخذ بعين الاعتبار تطلعات شعب زيمبابوي حول مستقبل البلاد، وأكدت مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي “فيديريكا موغيريني”، أن الهدف المشترك هو الانتقال المنظم ولا رجعة عنه إلى الانتخابات الديمقراطية الحقيقية، وأهم شيء هو تعزيز النظام الدستوري واحترام الحقوق والحريات الرئيسية. وفي لندن قالت رئيسة الوزراء البريطانية “تيريزا ماي” إن بريطانيا تريد أن تعود زيمبابوي إلى المجتمع الدولي الآن بعد استقالة “موجابي”.
كذلك، أكد وزير الخارجية الأميركي “ريكس تيلرسون”، أن شعب زيمبابوي أمام لحظة فارقة وفرصة استثنائية كي يختار مساراً جديداً، كما دعا جميع الأطراف في زيمبابوي إلى ضبط النفس واحترام النظام الدستوري والمدني؛ وحث القادة هناك على إجراء الإصلاحات السياسية والاقتصادية من أجل تحقيق مستقبل مستقر وواعد لهذا البلد.
وفى تلك الأجواء، تجد المعارضة في زيمبابوي نفسها أمام فرصة تاريخية لاقتناص أكبر قدر ممكن من المكاسب السياسية والانتخابية، فمن أشهر أحزابها (الحركة من أجل التغيير الديمقراطي) الذى سبق أن حل في المرتبة الأولى خلال انتخابات 2008 الرئاسية، ولكن لجوء “موجابي” آنذاك إلى القمع أرغمه على التراجع عن منافسته والاكتفاء بالدخول في حكومة وحدة وطنية لم تعمر طويلاً.
وحيث ساهمت الحركة في إحداث التغيير بتحالفها مع الجناح الداعم لـ”منانغاغوا” داخل الحزب الحاكم، وساندت بقوة مطالب الإطاحة بـ”موجابي”، لكنها تظل تعاني من مشكلات داخلية وتتعامل بحذر شديد مع الوضع الجديد، إذ لا تبدو ملامح التغيير بادية للعيان في زيمبابوي حتى الآن. وسيكون لـ”منانغاغوا” دور محوري في الفترة المقبلة في زيمبابوي، حيث سيتولى إدارة المرحلة الانتقالية والإشراف على تنظيم انتخابات رئاسية استثنائية قد يترشح لها، وسيكون مرشحاً قوياً، إذ يحظى بدعم المؤسسة العسكرية والمحاربين القدماء والحزب الحاكم.
5ـ إنعكاسات ومتطلبات:
بتأثير من الضغط المشترك للجيش الذي سيطر على البلاد والشارع وحزب (زانو – بي إف) الحاكم فى زيمبابوى، إضُطر الرئيس العجوز المتشبث بالحكم الذي كان يوم إزاحته أكبر زعماء العالم سناً، إلى الاستسلام والتخلي عن زمام الأمور؛ ولكن مما يستحق الذكر، أن “روبرت موجابي”، والذي حكم زيمبابوي منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1980، كان يسعى لفترة ولاية أخرى مدتها خمس سنوات.
فهل يستوعب معظم الزعماء والرؤساء الأفارقة الذين رأوا مشهد الإطاحة بزميلهم السابق من السلطة في زيمبابوي بعد 37 عاماً أمضاها على مقاعد الحكم، المشهد ويتداركون حقيقة وإنعكاسات ما حدث؟.
ففي نيجيريا، يواجه الرئيس “محمد بخاري” تمرداً داخل حزب (مؤتمر كل التقدميين) الحاكم، حيث استقال منه نائبه وحليفه السابق “عتيق أبو بكر”، معلناً أن الحزب خذل الشعب، وأنه يعتزم خوض الانتخابات الرئاسية المقررة في فبراير 2019.
وفى أوغندا سيناقش البرلمان مجدداً تعديلاً دستورياً لتمديد حكم الرئيس “يورى موسيفيني” الذي ما زال يتربع منفرداً على السلطة منذ عام 1986، بينما لا يسمح الدستور بأن يكون الرئيس أكبر من 75 عاماً لدى ترشحه، فإذا “موسيفيني” ما قرر الترشح للانتخابات المقبلة عام 2021، سيبلغ 76 عاماً.
والحل دائماً يسيرٌ لدى هؤلاء الذين لا يمنحون الاهتمام الكافي للدستور، فقد وصف “موسيفيني” سلوك نواب حزبه الحاكم الذين اعترضوا على رفع الحد الأدنى لسن الرئاسة، بـ(التطفل) قبل أن يقول أحد مؤيديه نصاً: (أُرسل الرئيس موسيفيني من قبل الله لتحرير أوغندا، والبلاد في خطر وستصبح غير مستقرة إذا ترك السلطة). ووصف “موسيفيني” 4 أعضاء في البرلمان تمردوا على توليه السلطة مجدداً، بأنهم مجرد “طفيليات” لم تسهم في الآيديولوجية الوطنية وتحرير البلاد واستعادة الاقتصاد وتوطيد والسلام أو ما يصفه بـ”التنمية العظيمة التي حققتها البلاد”.
ومن أجل إتاحة الفرصة لـ”موسيفيني” للترشح مجدداً، وافقت رئيسة البرلمان”ربيكا كاداجا”، على إجراء مزيد من المشاورات بشأن مشروع قانون التعديل الدستوري الذي يسعى، في جملة أمور، إلى رفع حد السن الرئاسي. وتم منح النواب أكثر من 20 يوماً لدراسة مشروع القانون، وتقوم لجنة برلمانية حالياً ببحث مشروع التعديل الدستوري رقم 2 الذي يسعى، في جملة أمور، إلى تعديل المادة 102 لرفع حد السن الرئاسي، بينما اتفق أعضاء اللجنة على أن يتم الاجتماع أولاً بالرئيس “موسيفيني” بصفته مرشحاً رئاسياً سابقاً قبل أن يبدأوا في تجميع تقريرهم. ورفض وزير الدولة الأوغندي للشؤون الخارجية “أوكيلو أورييم” عقد أي مقارنات مع زيمبابوي، قائلاً إن الإطاحة بـ”موجابي” تمت نتيجة تدخل إستعمارى برعاية أجهزة المخابرات الغربية لإسقاط زيمبابوي. ومع ذلك، وبعد ساعات فقط من إجبار رئيس زيمبابوي على التنحي عن السلطة، كان “موسيفيني” وهو زعيم ميليشيا سابق آخر يجلس على كرسي السلطة منذ أكثر من 3 عقود، يكتب تغريدات على موقع (تويتر) تتحدث عن زيادة أجور الموظفين العموميين، وآفاق مشرقة للطواقم التي تشغل الدبابات في الجيش.
وفي المجمل، يرفض الزعماء الأفارقة الذين يشغلون مناصبهم منذ فترات طويلة وأنصارهم عقد مقارنات مع زيمبابوي، ومن بين هؤلاء رئيس غينيا الاستوائية “تيودورو أوبيانج”، الذي يشغل منصبه منذ 38 عاماً، والرئيس الكاميروني “بول بيا”، الذي يحكم بلاده منذ 35 عاماً، ورئيس الكونغو “دينيس ساسو نجيسو”، الذي يحكم البلاد لفترتين مجموعهما 33 عاماً. كما تحكم أسرة “جناسينجبي إياديما” دولة توجو منذ نصف قرن، وتدير أسرة “كابيلا” جمهورية الكونغو الديمقراطية منذ أن وصل “لوران كابيلا” إلى السلطة في عام 1997، حيث خلفه ابنه “جوزيف” في 2001، وفي الكاميرون ألغى “بيا” القيود على فترات الولاية وشن حملة ضد المعارضة، وفي الكونغو سجن “نجيسو” زعيماً للمعارضة هذا العام لاحتجاجه على إزالة القيود عن فترات الرئاسة.
فى المقابل، قد شهدت بعض الدول تغييراً بالفعل، فقد أطيح برئيس بوركينا فاسو “بليز كومباوري” في احتجاجات في 2014، بينما كان يحاول تغيير الدستور لتمديد حكمه المستمر منذ عقود، وفي يناير 2016 هرب حاكم نامبيا “يحيى جامع”، بعد الضغط عليه لإنهاء حكمه الذي استمر 22 عاماً. وتنحى رئيس أنجولا “خوسيه إدواردو دوس سانتوس” هذا العام بعد 4 عقود في السلطة. وأبعد خليفته الذي اختاره بنفسه بعضاً من أهم حلفاء “دوس سانتوس”. فهل سيعتبر من تبقى من هؤلاء القادة العواجيز مما حدث في مصر وتونس وليبيا وأخيراً فى زيمبابوي؟! أم عليهم فقط انتظار دورهم، لأن الدور حتماً سيأتي عليهم عما قريب؟!.
- تحريرا في 2-12-20017