قناة جونجلي وإدارة الأزمة بالأكاذيب
اعداد: السفير بلال المصري – ســفيـر مصر السابق لدي أنجولا وساوتومي والنيجر
مدير المركز الديمقراطي العربي – مصر
- المركز الديمقراطي العربي
بادر الرئيس المصري بلقاء نظيره السوداني علي هامش مشاركته في أعمال الدورة العادية الثلاثين لقمة رؤساء دول وحكومات الإتحاد الأفريقي التي إنطلقت أعمالها في أديس أبابا في 28 يناير 2018 حيث تناولا تطورات الوضع بالمنطقة وأتفقا علي تشكيل لجنة مُشتركة لتناول العلاقات الثنائية وتحدياتها , وسبق هذا اللقاء إجتماع وزيري خارجية مصر والسودان في 27 يناير 2018 وفي حينه صرح وزير الخارجية المصري بقوله ” أن رئيسي مصر والسودان ورئيس الوزراء الإثيوبي إتفقوا خلال القمة علي حل كل القضايا الفنية ذات الصلة بسد النهضة الإثيوبي ” , وهو السد الواقع بمنطقة Benishangul-Gumuz علي بعد 40 كم من الحدود الإثيوبية مع السودان والذي وصلت نسبة تنفيذ أعماله التي بدأت في أبريل 2011 إلي أكثر من 60% وهو سد يُعرض أمن مصر المائي للخطر بسبب حجم المياه التي ستُخزن وراءه في مدة زمنية غير مناسبة , وأشار وزير الخارجية المصري أن حل القضايا العالقة في هذا الشأن سيتم في مدي شهر واحد وبدون وسيط , لكن مصدر دبلوماسي أفاد وكالةReuter بشرط إغفال ذكر أسمه ” أن الهدف من ذلك الإجتماع هو الإتفاق علي إستئناف المشاورات الفنية ” , لكن المُلفت أن الرئيس المصري صرح في نهاية القمة الثلاثية بأنه ” لا أزمة بين مصر والسودان وإثيوبيا فيما يتعلق بسد النهضة الإثيوبي وأن الدول الثلاث تتحدث بصوت واحد بشأنه وهو صوت المصالح المُشتركة وأن الدول الثلاث توصلت لإتفاق بشأن سد النهضة سوف لا يضر بشعوبها ” , ويبدو من التصريحات الصادرة عن المستوي الرئاسي والوزاري في أديس أبابا و القاهرة أن قمة أديس أبابا الثلاثية في 29 يناير 2018 عثرت علي مسارآخر وربما مختلف قد يؤدي إلي الوصول لحل أزمة العلاقات التي تسبب فيها سد النهضة , وهو ما يؤمل في أن يكون حقيقة ملموسة الآن أومُستقبلاً .
لُوحظ أن وزراء الري والموارد المائية والخارجية للدول الثلاث لم يوضح أيهم تفصيلات عن مهام هذه اللجنة التي ستُضاف إلي اللجنتين الوزارية والفنية اللتين عُلقتا أعمالهما العام الماضي وكلتاهما ناقشت بالفعل الإعتراضات التي طرحها الجانب المصري وخاصة تلك المُتعلقة بالسعة التخزينية لسد النهضة والتي تبلغ أكثر من 74 مليار متر مكعب / مياه وتضر أبلغ الضرر بحصة مصر من مياه النيل البالغة 55,5 مليار متر مكعب / عام والمُقررة بموجب إتفاقية الإنتفاع الكامل من مياه النيل الموُقعة بين مصر والسودان بالقاهرة في 8 نوفمبر 1959والتي لا تعترف بها لا إثيوبيا ولا دول حوض النيل الأخري , ولم تتوصل إجتماعات هاتين اللجنتين لحل حاسم ومرض للأطراف الثلاث وذلك منذ إنشاء اللجنة الوزارية الثلاثية عام 2012, وبالتالي فالسؤالين المُثارين هما :
- ما الذي ستفعله اللجنة المُقترحة ولم تفعله اللجنتين الوزارية والفنية ؟
- لماذا حدد الرؤساء مدي شهر واحد للتوصل لحل ؟ .
لكن وبينما يتجدد الأمل في توصل مصر لإتفاق صلب ودائم لأزمتها مع إثيوبيا من خلال إستئناف اعمال اللجنتين الوزارية والفنية لمناقشة الخلافات بين مصر وإثيوبيا وبينهما السودان المُؤيد لوجهة النظر الإثيوبية نجد أنه قد تقاطع مع محور الإتصالات الرئاسية المباشرة بين الرئيسين المصري و السوداني ورئيس الوزراء الإثيوبي للإتفاق علي أفضل سبل حل الأزمة , محور آخر يتعلق بمشروع قناة جونجلي بجنوب السودان والذي كان يجري تنفيذه بالتعاون ما بين مصر والسودان بإعتباره أحد مشروعات الإستفادة من فواقد مياه الأمطار بمستنقعات منطقة السدود بجنوب السودان وفقاً لإتفاق الإنتفاع الكامل بمياه النيل المُوقع بينهما , وأصبح الآن واقع بأراضي جمهورية جنوب السودان , وهذا التقاطع كما سنري لاحقاً لا يخدم بالمرة الجهود المبذولة من جانب مصر منذ وقت طويل لإستئناف مشروع جونجلي كما لا يساهم في تجاوز مصر لأزمة سد النهضة التي نفي الرئيس المصري في نهاية القمة الثلاثية بأديس أبابا في 29 يناير 2018 وجودها أصلاً , وقد أُثير الحديث عن مشروع قناة جونجلي في بعض وسائل الإعلام وذلك علي النحو التالي:
(1) نشر موقع RT الروسي نقلاً عن صحيفة الأهرام القاهرية ووكالات الأنباء في 29 يناير 2018 وهو نفس يوم لقاء الرئيس المصري مع الرئيس السوداني ورئيس الوزراء الإثيوبي خبراً تحت عنوان ” مصر تستعد لمفاجأة في جنوب السودان تُحدث تحولاً في قضية سد النهضة ” , وأشار الموقع إلي أن مصادر عسكرية مصرية ” كشفت ” عن قيام القاهرة بمشروع ضخم في جنوب السودان بحفر قناة في جنوب السودان تسمى مشروع قناة “جونجلي” وقالت هذه المصادر أن هذا المشروع سيوفر 30 مليار متر مكعب من المياه سنويا, وأن هذه القناة تستقطب جزءاً من مياه المستنقعات بجنوب السودان مما سيفيد السودان ومصر أيضا , وأشار الموقع أن RT تحرت الدقة عن حقيقة هذا المشروع حيث أكدت مصادر أن مشروع قناة جونجلي بدأت مصر العمل فيه فعليًا في سبعينيات القرن الماضي حيث تم حفر حوالي 260 كيلومترًا بواسطة الشركة الفرنسية التي فازت بعطاء تنفيذ الحفر لكنها توقفت عند قرية الكونقربسبب نشوب الحرب الأهلية عام 1983 بين الحركة الشعبية بقيادة قرنق وحكومة الخرطوم آنذاك .
(2) نشر موقع ” مراسلون” السوري في 28 يناير 2018 نقلاً عن وكالة سبوتنيك للأنباء أن رئيس الشؤون المعنوية بالقوات المسلحة المصرية السابق اللواء سمير فرج كشف مساء أمس السبت عن قناة ستحفرها مصر في جنوب السودان لحل أزمة المياه حيث أشار في برنامج “على مسئوليتي ” التليفزيوني أن مصر ستقوم بحفر قناة في جنوب السودان تسمى مشروع قناة “جونجلي” وأنها ستوفر 30 مليار متر مكعب من المياه سنوياً , مُضيفاً أن هذه القناة في جنوب السودان لاستقطاب جزء من مياه المستنقعات ما يوفر 30 مليار متر مكعب سنويا ، الأمر الذي سيفيد السودان ومصر أيضا , لافتاً إلى أن مصر تدير منطقة استثمارية لدعم التنمية في إثيوبيا , مُوضحاً أن التفاوض حاليا مع الإثيوبيين في طريقة ملء خزان سد النهضة موضحاً أن مصر تريد ملئه في 7 سنوات وإثيوبيا تريده في عامين إلي أن تتضح جدوي ما توصلت إليه القمة الثلاثية في أديس أبابا .
إلي أن تتضح جدوي ما توصلت إليه قمة أديس أبابا الثلاثية في 29 يناير 2018 والتي لم يُعلن شيئ مُحدد عما إنتهت إليه , فمن المهم : (أولاً) التعرف علي هذا المشروع ومآله , و(ثانياً) التحقق من حقيقة المعلومات الواردة بتصريح رئيس الشؤن المعنوية للقوات المُسلحة المصرية ثم (ثالثاً) التحقق من إمكانية إستئناف حفر قناة جونجلي , ويُلاحظ أن مضمون الإعلان عن إستئناف شق القناة يبدو وكأنه إكتشاف مع أن المشروع توقف ومازال مُتوقفاً منذ زمن طويل .
أولاً : مشروع قناة جونجلي :
وقعت حكومتي مصر والسودان في 8 نوفمبر 1959 إتفاقية الإنتفاع الكامل بمياه النيل وتضمن هذا الإتفاق في البند “ثالثاً ” وعنوانها ” مشروعات إستغلال المياه الضائعة في حوض النيل ” ما نصه ” تتولي جمهورية السودان بالإتفاق مع الجمهورية العربية المُتحدة(مصر) إنشاء مشروعات زيادة إيراد النيل بمنع الضائع من مياه حوض النيل في مُستنقعات بحر الجبل وبحر الزراف وبحر الغزال وفروعه ونهر السوباط وفروعه وحوض النيل الأبيض ويكون صافي فائدة هذه المشروعات من نصيب الجمهوريتين بحيث تُوزع بينهما مُناصفة ويُساهم كل منهما في جملة التكاليف بهذه النسبة أيضاً …” , وفي الواقع فإن ما يفقده نهر النيل سنوياً في المُستنقعات ومنطقة السدود بجنوب السودان نتيجة ضعف سعة الأنهر وإنبساطها وقلة إنحدارها , لذا فقد تبلورت عدة مشاريع هدفت إلي تقليل هذا الفاقد لأقصي درجة ممُكنة بزيادة إيراد نهر النيل منها , وأتضح وفقاً لدراسات مُختلفة أن أقصي ما يمكن إسترداده من هذه الفواقد يبلغ حوالي18 مليار متر مكعب / عام وذلك علي النحو الآتي :
الــمُــوقـــع جُـــــمــــــلة الـــفـــاقــــد مـــا يُــــمكــن إســـتــرداده
بحر الجبل (علي مرحلتين) 12 مليار متر مُكعب /عام 8 مليار متر مُكعب/عام
الـسوباط ومـشار 19 مليار متر مُكعب/عام 4 مليار متر مُكعب/عام
بـــــحـــر الـــغــزال 12 مليار متر مُكعب/عام 6 مليار متر مُكعب/ عام
الــــجــــمـــلة 24 متر مُكعب/ عام 18 متر مُكعب/عام
تبنت الهيئة الفنية الدائمة لمياه النيل المُنبثقة عن إتفاقية الإنتفاع الكامل بمياه النيل عدة مشزوعات معنية بإستغلال فواقد مياه نهر النيل كان أولها مشروع تقليل الفاقد من مستنقعات بحري الجبل والزراف المعروف باسم قناة جونجلي ويبلغ متوسط الإيراد السنوي لبحر الجبل عند بلدة منجلا حوالي 30 مليار متر مُكعب/ عام بينما لا يصل من هذا الإيراد إلي النيل الأبيض عند ملكال عن طريق بحري الجبل والزراف إلا نحو 15 مليار متر مُكعب أو أقل , وهذه الفواقد تزيد بزيادة تصرف منجلا وتقل مع إنخفاض هذا التصرف مما يدل علي أن الفاقد في هذه المنطقة مرجعه عدم كفاءة مجري بحري الجبل والزراف , لذلك إتجه التفكير منذ عشرينات القرن الماضي إلي معالجة هذا الموقف حتي يمكن تمرير جانب من هذه التصرفات إلي أن تصل للنيل الأبيض , فبدأ دراسة هذا المشروع عام 1921, وفي مايو 1947 رُفعت مُذكرة للحكومتين تضمنت الخطوط العريضة لتنفيذ هذا المشروع تضمنت :
1- إستخدام البحيرات الإستوائية (فيكتوريا – كيوجا- ألبرت) للتخزين المُستمر واسع المدي لمُعادلة التصرفات الخارجة منها .
2- تحسين كفاءة بحر الجبل شمال منجلا وكذلك بحر الزراف ليمكنها مواجهة التصرف في حدود 75 مليون متر مُكعب/ يوم محسوبة عند منجلا بما في ذلك إستكمال دراسة خور العلياب وتحسين كفاءته بإعتباره يحمل جزءاً هاماً من تصرف بحر الجبل .
3- إنشاء قناة جديدة تبدأ من جونجلي عند نهر أثيم بمنطقة الدينكا بالقرب من بور عاصمة ولاية جونقلي إلي النيل الأبيض لتحمل تصرفاً في حدود 43 مليون متر مُكعب/ يوم , علي أن يُنفذ شق هذه القناة أو المشروع علي مرحلتين الأولي مرحلة لا تتوقف علي التخزين في البحيرات الإستوائية ويكفي أن تشمل هذه المرحلة علي ما يلي :
– حفر قناة جونجلي بقطاع يتسع لتمرير تصرف قدره 20 مليون متر مُكعب / يوم .
2- الأعمال الصناعية الآتية :
* قنطرة فم قناة جونجلي لتمرير تصرف قدره 20 مليون متر مُكعب / يوم مُجهزة بهويس .
* قنطرة مصب قناة جونجلي لتمرير تصرف قدره 20 مليون متر مُكعب/ يوم .
* لا تحتاج هذه المرحلة إلي إنشاء قنطرة علي بحر الجبل إلا إذا ثبت ذلك من الناحية الموفولوجية , وذلك إلي حين الإنتهاء من دراسات النموذج الطبيعي الذي أُعد في هولندا لهذا الغرض .
وقد قُدرمتوسط الفائدة المائية لهذا المشروع عند أسوان جراء تنفيذ مرحلته الأولي من واقع الدراسات حوالي 3,8 مليار متر مُكعب/ عام , علي أن يتم إقتسام هذه الكمية بين مصر والسودان (قبل إنفصالجنوب السودان في 9 يوليو 2011) وذلك طبقاً لنصوص الإنتفاع الكامل بمياه النيل .
أما المرحلة الثانية من هذا المشروع فتشمل :
1- إتمام أعمال التخزين في البيحيرات الإستوائية .
2- تعديل وتجسير بحر الجبل لإعداده لإستقبال التصرفات المُقابلة لنحو 75 مليون متر مُكعب / يوم عند منجلا .
3- إستكمال حفر قطاع قناة جونجلي علي الأورنيك النهائي لتتسع لتمرير تصرف قدره 43 مليون متر مُكعب/ يوم وهو المُقابل لتصرف 45 مليون متر مُكعب/ يوم عند منجلا .
بدأ العمل في مشروع قناة جونجلي المائي بولاية أعالي النيل عام 1980 ( هناك من يشير إلي أن الحفر بدأ جدياً عام 1978) بهدف تغيير مجري النيل الأبيض في المنطقة المليئة بالمُستنقعات والمعروفة باسم منطقة السد Sudd , ويبلغ طوله هذه القناة 360 كم وتم حفر 260 كم قبل توقف العمل بها بعد تدمير التمرد للحفار تبلغ تقديرات الفائدة المائية منه بعد تنفيذ مرحلتيه عند أسوان حوالي 7 مليار متر مُكعب / عام تُقسم مُناصفة بين مصر والسودان .
هناك مشروعات آخري أشرت إليها بالجدول المُتقدم بيانه , وكان من المُقدر أن تحقق مشروعات إستغلال هذه الفواقد إستصلاحاً لنحو 1,420,000 فدان , لكن ما حدث للأسف أن الصراع المُسلح الذي بدأ في جنوب السودان لم يكن ليسمح بتنفيذ هذه المشروعات التي تستفيد منها الدولة المركزية في الخرطوم ومصر التي كان التمرد الجنوبي المُسلح يؤمن يقيناً أنها تدعم حكومة السودان في مواجهته , وبالرغم من أن هذه القناعة كانت صحيحة منذ إستقلال السودان عن مصر في يناير 1956 إلا أنها لم تكن كذلك في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي , خاصة وأن العمل في المرحلة الأولي من شق قناة جونجلي توةقف تماماً بعد الهجوم الذي شنته عناصر من متمردي جنوب السودان (يقودها وليام نون وكاربينوا كوانين من أعضاء الحركة الشعبية لتحرير السودان الذي كان يقوده جون جارانج) في فبراير 1984 علي معسكر الشركة الفرنسية التي تولت عمليات حفر القناة وتدمير الحفار العملاق المُستخدم في عمليات حفر وشق قناة جونجلي , كما قاموا بإختطاف مجموعة من الرهائن وقامت مصر والسودان لاحقاً بتسديد تعويض شهري لهذه الشركة نظير مصورفاتها الجارية وإستهلاك المعدات , وقد إكتفي نظام الرئيس المخلوع مبارك بحجز مقعد من مقاعد المتفرجين الوثيرة ليشاهد جولات الحرب والتفاوض بين حكومة الخرطوم والتمرد الجنوبي الذي كان فصيل الجيش الشعبي لتحرير جنوب السودان SPLA بقيادة جون جارنج الأهم والأكبر فيه , إلي أن إنتهي التفاوض بإتفاقية السلام الشامل بكينيا في يناير 2005 تلك التي تضمنت مبدأ الإستفتاء علي تقرير مصير جنوب السودان في 9 يناير 2011 ثم الإستفتاء علي الإستقلال أو الإنفصال عن السودان وهو ما إنتهي بإختيار شعب الجنوب للإنفصال في 9 يوليو 2011 وتكونت حكومة وحدة وطنية برئاسة Salva Kiir خليفة جون جارانج وكلاهما منتم لقبيلة الدنكا أكبر قبائل الجنوب مع نائبه Riek Machar المُنتمي لقبيلة النوير ثاني أكبر قبائل الجنوب , وما لبثت هذه الحكومة أن تفككت نتيجة الخلافات العميقة بين الرئيس ونائبه بأثر عوامل عدة أهمها وأخطرها العامل القبلي فبدأت الحرب الأهلية في ديسمبر 2013 ومازالت مُستمرة وبكل شراسة للآن ولم تؤد إتفاقية أديس أبابا التي وقعاها في17 أغسطس 2015 إلي الوصول إلي نهاية لهذه الحرب التي بلغت حد التطهير والإبادة العرقية وفقاً لنداءات الأمم المتحدة والتي دفعت بالولايات المتحدة مُؤخراً إلي فرض حظر علي السلاح من جانبها علي جنوب السودان .
ثانياً : التحقق من مضمون تصريح رئيس الشئون المعنوية للقوات المُسلحة المصرية:
تضمن التصريح نقطتان لابد من تمحيصهما , فقد أشار رئيس الشئون المعنوية إلي (1) أن مصر ستقوم بحفر قناة “جونجلي” بجنوب السودان , و(2) أن مصر ستوفر 30 مليار متر مكعب من المياه سنوياً باستقطاب جزء من مياه المستنقعات الأمر الذي سيفيد السودان ومصر أيضا , وسيلي بيان المسافة البعيدة جداً الفاصلة بين ما قاله رئيس الشئون المعنوية السابق والحقيقة الواقعة , فبالنسبة لإستئناف حفر قناة جونجلي والتي يبلغ طولها 360 كم بولاية أعالي النيل (جونجلي حالياً وفقاً للتقسيم الإداري الذي وضعته حكومة جنوب السودان بعد الإنفصال) يُلاحظ أولاً أن موقع RT ذكر أن مصادر عسكرية مصرية ” كشفت ” عن قيام القاهرة بمشروع ضخم في جنوب السودان بحفر قناة تسمى مشروع قناة “جونجلي” , فيما أشار مُوقع “مُراسلون” إلي ما قاله اللواء سمير فرج رئيس الشئون المعنوية السابق عند تناول هذا الموضوع مُستخدماً عبارات تجعل المستمع يعتقد أن مصر مُقبلة علي حفر هذه القناة لأول مرة فقد قال” أن مصر ستقوم بحفر قناة في جنوب السودان تسمى مشروع قناة “جونجلي” وأنها ستوفر 30 مليار متر مكعب من المياه سنوياً ” , بما يعني أن الخبر مُصاغ بدون إي إشارة إلي أن المشروع بدأ فعلاً .
كان مشروع شق قناة بجونجلي قد بدأ عام 1980 وتكونت من أجله ومن أجل الحصول علي تمويل له ما أُطلق عليه ” المجلس التنفيذي لتطوير المشروعات في منطقة جونجلي ” أو THE EXECUTIVE ORGAN FOR THE DEVELOPMENT PROJECTS IN THE JONGLEI AREA وكان المفوض علي هذه الهيئة السيد عبد الله محمد إبراهيم , كما أن مرسوماً جمهورياً صدرعن الرئيس السوداني في أكتوبر 1974 قضي بتأسيس المجلس الوطني لتنمية منطقة جونجلي علي أن يساعد المجلس التنفيذي لتطوير المشروعات في منطقة جونجلي هذا المجلس , بالإضافة إلي لجنة التنسيق الفني والتي عقدت أولي إجتماعاتها في 13 أكتوبر 1976 , وفي تقديري أن الخبر المُشار إليه بشأن مشروع جونجلي لم يكن إحترافياً بمعني أن الحرفية الصحفية الخبرية كانت تقتضي من موقع RT علي نحو خاص تذييل الخبر بما يجعله مُتكاملاً بإلحاق ما يُسمي بالخلفية التاريخية الصحيحة ذات الصلة بالخبر أو ما يُطلق عليه Chronology أو حتي Infograph وهي الإشارة التي من التي أهم نقاطها إشارة بأن المشروع توقف عام 1984 نتيجة هجمة مُدمرة للحفار الألماني العملاق المُستخدم في شق القناة بعد هجوم عناصر من الجيش الشعبي لتحرير السودان قاده كل من وليام نون وكاربينو كوانين في فبراير 1984 , وليس كنتيجة لنشوب الحرب الأهلية عام 1983 بين الحركة الشعبية بقيادة قرنق والحكومة المركزية في السودن , فالهجمة كانت موجهة بصفة رئيسية للمستفيد الأكبر من المشروع أعني مصر , كما أن توقف المشروع لم يكن نتيجة عملية عسكرية بين طرفي الصراع أي بين الجيش الشعبي لتحرير جنوب السودان والجيش السوداني الحكومي , بل نتيجة لهجوم مُسلح علي شركة مدنية فرنسية تقوم بإنجاز المشروع لصالح الحكومتين المصرية والسودانية , كما أن الحرب الأهلية في جنوب السودان لم تنشب عام 1983 بل إن بدايتها كانت في 18 أغسطس 1955 في حامية توريت حتي 1972 وأستمرت حتي توقفت نتيجة توقيع إتفاقية أديس أبابا في 27 فبراير 1972بين التمرد ممثلاً في حركة تحرير السودان وحكومة السودان , وربما أمكن التجاوز عن هذه الأخطاء إذا ما إعتبرناها ثانوية , لكن الخطأين المُوضوعيين الآخرين لا يمكن بأي معيار تجاوزهما وهما :
الخطأ الأول : أن مصر ستقوم بحفر قناة “جونجلي” بجنوب السودان :
لا إمكانية في المدي المنظور لإستئناف هذا المشروع , إذ أن هناك عدة أسباب تعوق التقدم نحو إستئناف العمل في قناة جونجلي من بينها :
1- إستمرار الحرب الأهلية بجنوب السودان :
كما تقدمت الإشارة فقد توقف مشروع حفر قناة جونجلي بسبب المواجهات العسكرية بين حكومة السودان وعناصر التمرد الجنوبي وخاصة فصيلها الرئيسي ممثلاً في الجيش الشعبي لتحرير جنوب السودان الذي أصبح مُسماه لاحقاً “الحركة الشعبية لتحرير السودان” بسبب هجوم عناصر التمرد علي معسكر الشركة الفرنسية وليس بسبب الحرب الأهلية ذاتها إذ أن المشروع تقرر تنفيذه والحرب مُستمرة وهذا ما أستفز عناصر التمرد التي كانت تبرر مواجهتها المُسلحة ضد حكومة السودان بدعاوي عرقية ودينية أي دعاوي التمييز الذي إدعي التمرد أن حكومة الخرطوم تمارسه التي تولي أولوية للعنصر العربي لا الزنجي وتسبغ طابعاً إسلاميا علي المجتمع والإعلام وأخيراً علي القوانين ونظام الحكم وهو ما أدي لإنهيار إتفاقية أديس أبابا للسلام في فبراير 1972 وإستئناف الحرب تارة أخري , وها هو العنصر الزنجي قد تولي حكم دولة جنوب السودان بعد إنفصاله عن السودان ومارس الجنوبيين بين بعضهم البعض التمييز العرقي وبضراوة وبدأت موجة ثانية للحرب الأهلية في جنوب السودان بدأت في في 15 ديسمبر 2013بعد أن أجري الرئيس الجنوب سوداني Salva Kiir Mayardit تشكيلاً لمجلس الوزراء أبعد بموجبه نائبه الدكتور Riek Machar و مازالت هذه الحرب دائرة حتي الآن بناء علي أسباب قبلية وثيقة الصلة أيضاً بالصراع علي السلطة بين Kiir و Machar , فمشروع قناة جونجلي توقف وهو قاب قوسين أو أدني علي الإكتمال عام 1984 بسبب مواجهات التمرد وهو أول سبب أو السبب العام الذي بتداعياته المختلفة سيكون مانعاً كبيراً أمام إستئناف المشروع , فهذه الموجة من الحرب الأهلية هي الأشد تدميراً من الموجة الأولي التي كانت بين حكومة الخرطوم والتمرد الجنوبي ولذلك لم تؤد تنجح جهود التسوية السياسية المضنية التي بذلتها الولايات المتحدة والأمم المتحدة والسلطة عبر الحكومية للتنمية IGAD والحكومة الإثيوبية مع طرفي الحرب الأهلية بالرغم من توقيعهما علي إتفاقية إديس أبابا لإحلال السلام هناك في 17 أغسطس 2015 من أجل إستعادة السلام في جنوب السودان , وذلك بسبب إفتقاد طرفي هذه الحرب للإرادة السياسية والأخلاقية لإنهاءها , مما أدي – ميدانياً – لإنهيار هذه الإتفاقية وسرعان ما تجاوز طرفي هذه الحرب جوهرها وموادها بل وإطارها معاً , وإذا ما كنا نتحدث عن تردي الأوضاع الأمنية في كامل أراضي جمهورية جنوب السودان مما شكل أكبر مانع ليس لإستئناف تنفيذ مشروع قناة جونجلي فقط بل لتنفيذ مشروعات تنمية جنوب السودان ككل التي مزقتها موجتان مُتتاليتان من الحرب الأهلية , فإن علينا أن نتحدث علي سبيل التعيين عن الوضع الأمني المُتردي جداً في ولاية جونجلي التي اعلنتها دولة جنوب السودان في 5 يناير 2012 منطقة كوارث بسبب التنافس العنيف على المراعي والماشية مما نتج عنه مواجهات عنيفة بين قبيلتي النوير والمورلي السقط علي إثرها حوالي 150 قتيلا خلال أيام قليلة , ولذلك أدان مجلس الأمن الدولي وبقوة في بيان صدرعنه في 10 فبراير 2017 تجدد القتال في جنوب السودان خاصة في ولايتي أعالي النيل (حيث تقع بها ولاية جونجلي وبها قناة جونجلي) والإستوائية وشجب المجلس أيضاً الهجمات المُوجهة للمدنيين وطالب بمعاقبة المسئوليين عن ذلك , ودعا أطراف الصراع للتوقف فوراً عن العداءات وحثهم علي الإستمرار في العملية السياسية والإلتزام الكامل بتنفيذ إتفاق السلام , ورحب بإستمرار الجهود الجماعية للبحث عن السلام الدائم والأمن والإستقرار في جنوب السودان الأمر الذي عبر عنه الإتحاد الأفريقي ومنظمة IGADوالأمم المتحدة خلال اللقاء التشاوري المُشترك بشأن جنوب السودان في أديس أبابا , وفي 28 نوفمبر 2017 أدان David Shearer الممثل الخاص للأمم المتحدة في جنوب السودان عمليات قتل المدنيين الأبرياء بقرية Duk Payuelشرقي ولاية Jonglei التي ينتمي سكانها لقبيلة Dinka Bor إثر هجوم عليهم من عناصر مُسلحة من قبيلة Murle قدموا من ولاية Boma state واصفاً إياها بالمروعة , وحتي قبيلة Murleتعرضت هي الأخري للإعتداءات من قبيلة Dinka بمناطق أخري بجنوب السودان فقد لجأت أعداد من هذه القبيلة لإثيوبيا فراراً من الهجمات عليها وهنام مارسوا العنف بدورهم علي أهالي المناطق التي لجأوا إليها بإثيوبيا , ولذلك أعلن رئيس الوزراء الإثيوبيDesalegn, on Monday في 18 أبريل 2016 عبر بيان مُتلفز أن القوات الإثيوبية ستتعقب مسلحين من قبيلة Murle حتي المناطق التي أتوا منها في جنوب السودان لإنقاذ 100 طفل إثيوبي وقعوا في قبضة هؤلاء , وأشارت الأنباء الواردة من أديس أبابا أن أبناء قبيلة Murle عبروا حدود جنوب السودان مع إثيوبيا وأغاروا علي 13 قرية إثيوبية بولاية Gambella الإثيوبية سكانها إمتداد ديموجرافي لقبيلتي Anyuak و Nuer , وقد أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي إتصالاً بذلك عن إتصاله مع رئيس جنوب السودان kiirللقيام بعمليات عسكرية مُشتركة علي الحدود المشتركة لمواجهة إرهاب الجماعات المسلحة من قبيلة Murle (سبق وأيد زعماء قبيلة Murle إتفاقية الخرطوم للسلام التي وقعتها في 21 أبريل 1997 حكومة السودان و 6 فصائل مُتمردة يقودها فصيل Riek Machar في إطار ما سُمي آنئذ بعملية السلام من الداخل , وهي الإتفاقية التي عارضها جون جارانج وقبيلته Dinka, فالخلاف بين قبائل جنوب السودان الرئيسية لا ينحصر فقط في الصراع العرقي ولا السلطة فقط بل أيضاً في درجة التقارب مع حكومة الخرطوم) , وهكذا كان الأمر علي الحدود الأوغندية و الكينية والكونجولية مع جنوب السودان مع إختلاف نسبي في درجات العنف المتبادل , وللأسف لم ترهب هذه الإدانات الأممية قلوب أطراف الحرب الأهلية , ومع ذلك فلم تقتصر نتائج العنف علي موت عشرات الآلاف في جنوب السودان فمن لم يقتله السلاح قتله الجوع , فوفقاً للسيدة Winnie Byanyima مديرة منظمة Oxfam International في تصريح لها في 21 أبريل 2017 أشارت فيه إلي أن ما يربو عن 20 مليون نسمة في جنوب السودان ونيجيريا والصومال واليمن يواجهون خطر المجاعة بسبب تناقص المؤن الغذائية وذلك بسبب الصراعات المُسلحة والحروب الأهلية , وقالت السيدة BYANYIMA أنه في حالة جنوب السودان فإن الوضع هناك يعد الأسوأ والأخطر فمنذ نشوب الحرب الأهلية هناك في ديسمبر 2013 قُتل 82 من عمال الإغاثة بسبب هذه الحرب منهم 12هذا العام ومازالت المخاطرة هناك عالية , وفيما يتعلق بالوضع الأمني في ولاية جونجلي , فإنه من الممكن وبسهولة الإستدلال عليها من واقع بيان رسمي صادر عن وزير بالحكومة المحلية في 7 أبريل 2017 تضمن الإشارة إلي أن مكتب المحافظ وقوة إنفاذ القانون كونا معاً فصيلاً أمنياً يضم رجال ونساء من قوات الشرطة والجيش للتعامل ليلاً ونهاراً مع إطلاق النار العشوائي وحركة الأسلحة في Bor عاصمة ولاية جونجلي , هذا مع العلم أن محافظ ولاية جونجلي Philip Aguer صرح في الأول من فبراير 2016عند تقله مهام منصبه ” أن جهاز شرطة جنوب السودان ضعيف وغير قادر علي حماية الناس , ولذلك علينا النهوض بمهمة الشرطة بأنفسنا ” , ولقد حدث أن خاطب محافظ جونجلي الجديد – آنئذ- Philip Aguer أهالي الولاية في حشد شعبي في31 يناير 2016 بعاصمة الولاية BOR ولم يتطرق لمشروع إستئناف شق قناة جونجلي مطلقاً بل تناول الوضع الأمني الحاد والمتوتر بين قبيلتي Nuer و Murle من جانب وقبيلة Dinka من جانب آخر .
من جهته صرح أمين عام الأمم المتحدة Antonio Guterres لوكالة الأنباء الفرنسية من نيويورك بشأن الوضع الإنساني في جنوب السودان نقلاً عن تقرير أممي بقوله ” أن المدنيين يفرون من قراهم ومدنهم بأعداد غير مسبوقة وأن خطر مذابح علي نطاق واسع أمرحقيقي ” وأضاف قوله ” إن الموقف الأمني مُستمر في التردي في أجزاء من البلاد وأن الأثر العملي لذلك الصراع والعنف الجاري وصل إلي نسبة كارثية , كما أن إزدياد الميليشيا مع إنفلات زمام القيادة من الجيش الشعبي لتحرير السودان الحكومي أو من قادة التمرد نشر التشرذم والتفكك في المناطق وتبقي هذه المناطق والحالة هذه خارج أي سيطرة حكومية لسنوات قادمة “ .
وصل الصراع في جنوب السودان إلي أقصاه إلي حد وضع إقتراح بوضع دولة جنوب السودان تحت إدارة بديلة لحكومة الوحدة الوطنية المؤقتة القائمة حالياً في جنوب السودان والتي يرأسها Salva Kiir تتولاها الأمم المتحدة والإتحاد الأفريقي وذلك بسبب تفجر الحرب الأهلية بين رئيس جنوب السودان Salva Kiir ونائبه Riek Machar في 15 ديسمبر 2013 وإستمرارتصاعد وتيرتها وما تداعي عنها من نشوء أزمة للاجئيين من جنوب السودان للدول الأخري المجاورة , وكان هذا الإقتراح قد طرحه لأول مرةعلي الملأ من خلال موقع معهد الولايات المتحدة للسلام United States Institute of Peace وصحيفة Financial Time في نفس اليوم أي في 20 يوليو 2016 كل من السفير Princeton Lyman المبعوث الأمريكي السفير السابق للسودان وجنوب السودان الذي تولي هذه المهمة في الفترة من مارس2011 حتي مارس 2013 ومعه زميلته السيدة Kate Almquist Knopf المديرة السابقة لمكتب وكالة التنمية الدولية بجنوب السودان والسودان من 2006 حتي 2007 ثم المديرة السابقة لمركز أفريقيا للدراسات الإستراتيجية وهو مركز تابع لوزارة الدفاع الأمريكية ثم تولت منذ يوليو 2014مهمة دراسة القضايا الأمنية المُتعلقة بأفريقيا بمركز تابع للكونجرس الأمريكي , وتضمن جزء من الإقتراح فيما تضمنه ما نصه ” إن إتفاق المشاركة في السلطة لإنهاء الصراع الذي بدأ في ديسمبر 2013 كان مُركزاً علي شخصين هما الرئيس Salva Kiir و زعيم المعارضة نائبه Riek Machar وكلاهما يتحصن بكتلة من السكان وكل منهما يري أن المجتمع(القبيلة) يتهدده وجوده خطر , وقد وجدت لجنة تحقيق تابعة للإتحاد الأفريقي أن قوات Kiir وMachar كلاهما مسئول عن القتل الذي شكل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية . إن إتفاق المشاركة في السلطة بينهما فشل بصفة كارثية الآن في مناسبتين منفصلتين , وأن أي محاولات أكثر يمكن أن يُتوقع منها فقط أن تؤدي إلي مزيد من نفس المعاناة الإنسانية الضخمة وعدم الإستقرار الإقليمي ” , وأنه ” علي كل حال هناك سبيل آخر وهو أن يُوضع جنوب السودان في غرفة الإنعاش من خلال إقامة ولاية تنفيذية للأمم المتحدة والإتحاد الأأفريقي لإدارة البلد حتي إيجاد مؤسسات تدير السياسات بغير العنف وكسر الشبكات التي تقف وراء هذا الصراع , وسيستغرق هذا الوضع من 10 إلي 15 عام , وعلي أي حال فالتخطيط في البداية يعتبر أكثر حساسية من تراكم تفويضات ( مهام حفظ السلام) لعام واحد عبر عقود , كما هي الحال في باقي مهام حفظ السلام , ووضعاً في الإعتبار الدرجة القصوي من فشل الدولة (في جنوب السودان) فإن إدارة خارجية مؤقتة تعد المسار الباقي الوحيد لحماية وإستعادة السيادة . إن ذلك من شأنه تمكين شعب جنوب السودان لأخذ زمام مستقبله بيده ويطور رؤية جديدة للبلاد . وبينما تصنف النخبة المفلسة المفترسة معنوياً بشكل سلبي مثل هذه المبادرة بإعتبارها – في نظرها – إنتهاك للسيادة , فمثل هذه النخبة ذاتها هي التي وضعت بقاء البلاد علي المحك ” , وعلي الرغم من أن الفكرة تبدو راديكالية , إلا أن الإدارة الدولية ليست بغير سوابق وقد عُمل بها سابقاً لإرشاد Kosovo وتيمور الشرقية وبلاد أخري للخروج من صراعاتها , وفي جنوب السودان فإن نصيبها من الصراع ليس بأقل من هؤلاء ” , بل لقد وصل الأمر بالولايات المتحدة التي تعهدت عملية فصل جنوب السودان عن الوطن الأمن ودعمت من أجل ذلك عسكرياً ومالياً قوات الجيش الشعبي لتحرير السودان ودول الجوار خاصة كينيا وأوغندا لكي تكون ظهيراً عسكرياً ولوجيستياً لتمرد جنوب السودان , وساندت قضية فصل جنوب السودان داخل مجلس الأمن الدولي وخارجه , وصل بها الأمر لإنهاء الحرب الأهلية الدائرة الآن بجنوب السودان إلي إعلان الخارجية الأمريكية عن فرض قيود علي كل مبيعاتها من المعدات الدفاعية وخدماتها لكل أطراف الصراع بجنوب السودان مع الإعراب عن فزع الولايات المتحدة من إستمرار العنف الذي يتحدي به الأطراف قرار وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه وبدأ في 24 ديسمبر 2017 , ومع أن القرار الأمريكي رمزي إذ أن أطراف الحرب بجنوب السودان تتلقي تدفقات السلاح إليها من أطراف دولية وإقليمية منها روسيا والصين ومصر وإسرائيل وبلغاريا وغيرهم , إلا أن المعني الكامن من هذا القرار هو أن هذه الحرب أصبحت بلا نهاية وأنها كذلك تهديد يتجاوز شعب الجنوب الذي لجأ أكثر3 مليون نسمة من سكانه لدول الجوار وأصبح عبئأ ثقيلاً علي دول مُنهكة إقتصادياً .
كل ما تقدم لا يعني إلا شيئاً واحداً وهو أن التنمية مستحيلة في جنوب السودان حالياً , فكيف يفترض البعض في مصر أنه من الممكن إستئناف قناة جونجلي التي قد تؤدي إلي بعض الفوائد المحدودة لشعب الجنوب الذي يُباد جزء منه في عملية إبادة جماعية وعرقية مُتعمدة وواسعة المدي فيما الجزء الأكبر لاذ باللجوء لدول الجوار ؟ , وما هي الحكومة التي ستقبل مثل هذه المخاطرة المجنونة في هذه الظروف المُعتمة ؟ وما هي نوعية الحكومة المصرية التي ستقبل بالتضحية بأموالها لتمويل مشروع محكوم عليه بالتدمير مرة أخري , هذا بفرض توفر التمويل الداخلي لدي مصر التي بلغ دينها الخارجي حالياً ما يربو علي 80 مليار دولار ودينها الداخلي أكثر من تريليون جنيه مصر بل ربما أكثر ؟ ثم أن إدارة مصر لساسيتها الخارجية مع الخرطوم وجوبا بأسوأ ما يمكن تصوره للحد الذي جعل موقف الخرطوم من قضية مياه النيل شبه مُتطابق مع الموقف الإثيوبي بل ربما يتجاوزه أحياناً , كما أنه وبفرض صحة ما يُنشر عن توريد مصر للسلاح لنظام رئيس جنوب السودان Salva Kiir Mayardit فإن في ذلك تمديداً لأمد هذه الحرب وبالتالي بقاء السبب الرئيسي المانع لإستناف مشروع جونجلي وذلك بغض النظر عن الفوائد الأخري التي تطمح مصر في جنيها والتي منها الإبقاء علي موقف جنوب السودان غير المُقرر بعد من الإنضمام لإتفاق التعاون الإطاري أو إتفاق عنتيبي كما هو هكذا غير مُحدد , وكذلك التعامل مع نظام معادي للخرطوم و مُهدد بعدم الإستقرار لإثيوبيا , وضعاً في الإعتبار كذلك نمو التعاون الأمني والعسكري المصري / الأرتري , وهو ما يراه واضع السياسة المصرية مُفيداً لبث الرعب والخشية منه لدي إثيوبيا وبدرجة أقل لدي السودان , وهو أمر محل نظر في ضوء الضعف الداخلي والمُتنامي في الداخل المصري فالسياسة القوية تنبع من جبهة داخلية مُوحدة لا مُنقسمة كما هو الحال الآن بمصر .
2- تباين السياسة النيلية لمصر والسودان :
إمتدت – ومازالت – فترة تصدع جدار العلاقات المصرية السودانية في الفترة من 1990 وحتي الآن بسبب رئيسي هو أن ثورة الإنقاذ الوطني30/6/1989 التي ظاهرها حتي فبراير 2001 التيار الإسلامي بالسودان بقيادة د . حسن الترابي تبنت النهج الإسلامي وأعلنت أن لديها مشروع حضاري إسلامي , أما نظام مبارك فقد ناصبها العداء بسبب الطبيعة الإسلامية لنظام الحكم السوداني آنئذ , ذلك أن النظام السياسي بالقاهرة نظام عشوائي لا يتبني هوية مُحددة وإن كان الدستور المصري ينص علي أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع وهو تناقض يدعو إلي الكثير من الدهشة , علي أية حال فخلال هذه الفترة التي إتسم الصراع بكثير من الحدة التي لا تُقاس بالفترة القصيرة جداً عندما توترت العلاقات الثنائية إبان حكومة حزب الأمة برئاسة عبد الله خليل (1956- 1958) لأسباب تاريخية صاغت العلاقات المصرية السلبية مع حزب الأمة وكذلك نتيجة تفجر الخلاف المصري / السوداني لأول مرة علي السيادة علي مثلث حلايب الحدودي , تباينت السياسة السودانية بشأن النيل عن السياسة المصرية المُقابلة , ويمكن تقسيم السياسة السودانية إزاء مياه النيل مع مصر إلي مرحلتين رئيسيتين هما :
* مرحلة المُهادنة والتحفظ :
ربما تميزت هذه المرحلة بأنها الأطول زمناً فبإعتبار أن السياسة النيلية وبكل مقياس موضوع يتسم بالخطورة إذ أنه مُتعلق بنظام تعاهدي لنهر دولي هو نهر النيل مُكون من إتفاقية أو إتفاقيات بعضها مُوقع في زمن الإستعمار , فإن هذا النظام بإتفاقياته تلك لابد وأن يُحترم شأنه شأن إتفاقيات الحدود التي رُسمت وحُددت ووُقعت في العهد الإستعماري والتي أقرت منظمة الوحدة الأفريقية بقدسيتها وعدم المساس بها , , ولذلك فبالرغم من هذا التباين بين هويتي نظام الحكم بالقاهرة والخرطوم وإختلاف أولوياتهما وشبكة علاقاتهما الخارجية والقصور المصري في دعم السودان في معركته مع تمرد الجنوب , فقد إستمرت فترة المهادنة والتحفظ تلك من 30 يونيو 1989 وحتي مُستهل يناير 1994 , وربما أمكن إيضاح ذلك من واقع بعض التصريحات التي أدلي بها مسئوليين سودانيين علي النحو التالي :
– صرج وكيل أول وزارة الري السودانية في 29 أغسطس 1992 بأنه ” سيتم خلال الخطة العشرية زيادة حصة السودان من مياه النيل بمقدار 4,4 مليار متر مُكعب / عام لتُضاف إلي حصة السودان الحالية من مياه النيل والبالغة 20,5 مليار متر مُكعب / عام ” .
– صرح وزير الري السوداني في 3 أكتوبر 1992 ” أن الإستراتيجية القومية الشاملة حددت الزيادة في القطاع الزراعي المروي بنحو 7 ملايين فدان وهو ما يساوي ثلاثة أضعاف المساحة الحالية ويتم ريها من حصة السودان المُتبقية من مياه النيل والمياه الجوفية والأودية والخيران ” .
– صرح وكيل أول وزارة الري بأن ” إتفاقية مياه النيل المُوقعة مع مصر عام 1959 تتضمن إمكانية إقامة مُنشآت تُمكن من الإستفادة من حصة السودان البالغة 18,5 متر مُكعب / عام محسوبة عند خزان السد العالي و 20,5 مليار متر مُكعب / عام محسوبة عند خزان سنار ” مُضيفاً قوله ” أن السودان لم يشهد تنفيذ أي خزان للمياه منذ عام 1966 رغم الأهمية الأإقتصادية للخزانات ” وأشار إلي ضعف المواعين التخزينية للمياه في السودان , مُنوهاً بإيقاف البنك الدولي والمنظمات الأخري لأي دعم مالي لتنفيذ مشروع تعلية خزان الروصيرص .
– صرح وكيل أول وزارة الري السودانية في 28 يناير 1993 بأن إتفقية مياه النيل المُوقعة مع مصر عام 1959 تتيح للسودان إقامة مُنشآت مختلفة كالخزانات والقناطر لحفظ حقوقه من المياه وتتيح بالقدر نفسه للجانب المصري إقامة مُنشآت تحفظ له حقوقه أيضاً , وكان إنشاء السد العالي بجنوب مصر وخزان الروصيرص في السودان مثالين لذلك .
– أكد وكيل أول وزارة الري السودانية في 7 فبراير 1993 أن السودان لا يُعرقل إنسياب مياه النيل الجارية نحو مصر وأن بلاده تحترم كافة المواثيق والإتفاقيات الدولية الخاصة بالمياه وتلك التي وقعتها مع مصر , مُعلناً إستعداد السودان لإقامة مشروعات مُشتركة مع مصر وأحقية السودان من ناحية أخري في إقامة مشروعات ري لإستغلال أربعة مليارات متر مُكعب من المياه من حصته في مياه النيل التي تبلغ 8,5 مليار متر مُكعب / عام , مُنوهاً بأن هناك 36 مليار متر مُكعب تضيع سنوياً .
– في حديث صحفي مع وزير الري السوداني يعقوب أبو شورة نُشر في 15 مايو 1993 رد علي سؤال بشأن العلاقة مع مصر وإتفاقية مياه النيل والأزمة الأخيرة(بشأن حلايب) , وهل كان سببها محاولة السودان الإستفادة من المُتبقي له من حصته في مياه النيل ؟ ذكر وزير الري فقال أنه لم ترد أية أفكار بشأن إعادة تقييم حصة مياه النيل , ولكن المياه تعتبر أهم الأأشياء لمصر والسودان , وهذه تعد مشكلة أساسية , ومشاريعنا تقوم علي الإستفادة من المُتبقي من حصتنا في مياه النيل , وهذه بالضرورة لا يجب أن تُسبب إزعاجاً لمصر , أما إذا كانت مصر مُتخوفة من هذا الأإتجاه فهذا شأنها , وأن مصر لم تعترض رسمياً بشأن إستفادة السودان من حصته .
– في حديث آخر نُشر في 15 مايو 1993 ورداً علي سؤال حول قابلية إتفاقية الإنتفاع الكامل بمياه النيل المُوقع بين السودان ومصر عام 1959 , ذكر وزير الري السوداني ما نصه ” نعم …. بشرط موافقة الطرفين , فليس هناك بند يمنع التعديل” .
* مرحلة التصعيد :
إتخذ السودان موقفاً تصعيدياً من قضية مياه النيل أعلنه قبل حضوره لمؤتمر يتعلق بنهر النيل عُقد بالقاهرة وكان الإعلان عن هذا الموقف التصعيدي في مكان مُفعم بالرمزية , فقد كان في المجلس الوطني (البرلمان السوداني) , عندما قال وزير الري السوداني د. يعقوب أبو شورة أمام أعضاءه في 3 يناير 1994 ما نصه ” هناك مساعي للوصول لإتفاقية شاملة تضم جميع دول حوض النيل تختص بتوزيع المياه , وأن الوضع الحالي مُجحف للسودان” , وهذه الفقرة القصيرة التي أعلنها وزير الري السوداني – في تقديري- كانت بالإضافة إلي أنها تصعيد موازي للتصعيد العام الذي طغي علي مجمل مساحة العلاقات الثنائية المصرية / السودانية منذ بداية تسعينات القرن الماضي وحتي يومنا هذا , إلا أنها كذلك كانت مُقدمة مُبكرة للموقف المُتباين والمُختلف كلية عن الموقف المصري من سد النهضة الإثيوبي بمواصفاته الفنية التي من شأنها التأثير علي حصة مصر من مياه النيل البالغة 55,5 مليار متر مُكعب / عام والمُقررة بموجب إتفاقية الإنتفاع الكامل من مياه النيل التي وقعها السودان مع مصر في نوفمبر 1959 , بل إنها تتسق مع الموقفين الإثيوبي والأوغندي من إتفاق التعاون الإطاري الموقع في عنتيبي في 14 مايو 2010 الذي وقعته 6 دولة نيلية هي إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا وكينيا ثم بوروندي (التي وقعته في 28 فبراير 2011) , وقد توقعه مستقبلا دولة جنوب السودان كونها لا تعترف بإتفاقية الإنتفاع الكامل بمياه النيل المُوقعة بين مصر والسودان عام 1959 بإعتبارها غير مُلزمة بها كما تدعي .
كانت هناك مواقف سودانية أخري علي مستويات مختلفة لا يمكن تصنيفها إلا علي أنها تباين حاد عن الموقف المصري من مياه النيل وتقترب كثيراً من الموقف الإثيوبي أو علي الأقل تتجاوب معه , وعلي سبيل المثال أذكر في هذا المقام أن الرئيس السوداني عمر البشير أدلي بحديث لوكالة أنباء السودان الحكومية نُشر بنشرتها بتاريخ 7 أغسطس 1995 ونصه ” إن أي حديث عن زيادة إستغلال السودان لمياه النيل يضايق الحكومة المصرية علي الرغم من التطورات في دول حوض النيل بما في ذلك الجفاف وحاجة الدول التي لا نصيب لها من مياه النيل والتوسع في إستخدام المياه في السودان بسبب الهجرة ” وبالطبع فالتصريح مقصود منه إيصال عدة رسائل لمصر أهمها أن السودان بصدد زيادة إستغلاله لمياه النيل وأن هناك تطورات في دول حوض النيل منها الجفاف تستدعي تطوير سياساتها النيلية لمواجهة الجفاف من أجل تحقيق الأمن الغذائي , كما أن الرئيس السوداني يبدي تعاطف بلاده مع دول حوض النيل التي لا نصيب لها من مياه النيل ثم أن للسودان مبرر إضافي لزيادة إستغلاله لمياه النيل نظراً لموجات الهجرة الأرترية والإثيوبية في شرق ووسط السودان ( تربو عن المليون نسمة) , كما أن صحيفة Khaleej Times نشرت في عددها بتاريخ 24 أكتوبر 2004خبر تقدم عدد من النواب بالبرلمان السوداني في 23 أكتوبر 2004 بطلب لمراجعة إتفاقية الإنتفاع الكامل من مياه النيل الموقعة مع مصر في نوفمبر 1959 , ونقلت الصحيفةعن السيد إبراهيم نايل إيدام وهو أحد أعضاء البرلمان الموقعين علي هذا الطلب قوله ” إن هذه الإتفاقية غير عادلة ولذلك فإني أتساءل لماذا ننتظر الغد لمراجعتها ” , فيما أشار عضو آخر إلي أن مهددات التصحر وحاجة السودان لمشروعات زراعية تدعو السودان لطلب مراجعة هذه الإتفاقية , كما أشارت الصحيفة إلي رد وزير الري السوداني علي ذلك بقوله ” أن السودان لا يتوقع إيجاد مياه نيلية كافية لري كل الأراضي الزراعية فيه ” , وأشارت الصحيفة أخيراً إلي أن لجنة الزراعة بالبرلمان السوداني إقترحت زيادة منسوب بعض السدود مع أساليب أخري , ولهذا فقد كان لموقف السودان المُغاير لموقف مصر من سد النهضة الإثيوبي مُقدمات كالتي ذكرت بعضها آنفاً فهو لم يكن إنقلاباً بل إنه موقف له كثير من الأنصار بوزارة الري السودانية حتي منذ تفاوض مصر مع السودان بشأن السد العالي في مصر ولهذا الأمر تفصيلات مُوثقة .
ما تقدم يعني أو يكاد أن يعني أن مصر تقف الآن وحيدة بلا حليف أو داعم لموفها من قضية مياه النيل فالموقف السوداني من هذه القضية لا يمكن لمصر الآن البناء عليه كلية فما تقدم يشير إلي أن التنسيق المصري مع السودان في شأن هذه القضية والذي كانت اللجنة الفنية الدائمة لمياه النيل المُنبثقة عن إتفاق الإنتفاع الكامل بمياه النيل بموجب البند رابعاً منه تُمثل قاعدته يتناقص بل لنقل أنه اصبح شكلياً , بحيث لم تعد إتفاقية الإنتفاع الكامل بمياه النيل بين مصر والسودان تمثل للسودان سوي ورقة ضغط لم يحن وقت إستنفاذها بعد في مساحة العلاقات الإثيوبية / السودانية التي إتسعت أكثر فأكثر مع بناء إثيوبيا لسد النهضة وإستفادة السودان من الطاقة الكهربائية التي ستتولد عنه , فبالرغم من وجود خلاف حدودي سوداني / إثيوبيا في مناطق الفشقة والقلابات لم يسو بعد , وبالرغم من وجود نزاع آخر يقل عنه أهمية بين مصر والسودان علي السيادة علي مثلث حلايب , إلا أن مساحة العلاقات السودانية مع إثيوبيا تزيد وتتمدد كل فترة فيما تتناقص وتضيق مساحة العلاقات مع مصر , وهو ما يدعو إلي التفكير ملياً في السبب أو الأسباب الحقيقية التي تدفع العلاقات المصرية / السودانية دائماً للوراء ولعلي أخاطر بالقول لإبرر هذه الإندفاعة الثنائية للوراء بسببين أولهما سوء الإدارة السياسية المصرية منذ إستقلال السودان في أول يناير 1956 وهو السوء الذي إختفي أو كاد في فترة حكم الرئيس السادات بتوقيع ميثاق التكامل المصري السوداني مع الرئيس السوداني الراحل جعفر نميري عام 1974 وهو الميثاق الذي أبعد العلاقات عن ترهات ملف حلايب لسبب بسيط وهو أن البلدين كانا في سبيلهما للتكامل بل والوحدة الإندماجية في تقدير بعض المراقبين , أما السبب أو المُبرر الثاني فهو المشاعر التنافسية بين نخبتي السلطة في البلدين وإحتكار أو علي الأقل سيطرة أجهزة الأمن علي صناعة القرار في شأن العلاقات الثنائية بالبلدين .
لم يكن الأمر مُقتصراً علي التباين المصري / السوداني بشأن قضية مياه النيل في إطار ثنائي أو ثلاثي أعني قضية سد النهضة الإثيوبي بل إنها وصلت إلي حد إعلان الرئيس السوداني نفسه إنتهاء وحدة نظرية الأمن القومي المصري / السوداني ذات الخواص المُتبادلة وضيق مساحة العلاقات الثنائية بين مصر والسودان وإتساع أفقها بين الأخيرة وإثيوبيا كنتيجة منطقية فقد إعلن الرئيس البشير في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي ماريام ديسالين بثته وكالة الأنباء السودانية في 4 أبريل 2017 بوضوح ” إنه لا سقف للتعاون بيننا في المجال الأمني إذ أن أمن أثيوبيا هو أمن السودان , وأمن السودان هو أمن أثيوبيا ” , وهو ما أمن رئيس الوزراء الأثيوبي ديسالين عليه بقوله ” إن ما يمس أثيوبيا ينعكس على السودان ، وإن ما يمس السودان ينعكس على إثيوبيا , لذلك فإن البلدين مصممان على التعاون الوثيق في هذه المجالات كلها ” , هذا الإعلان يعني بكل وضوح إنكار الرئيس السوداني وحدة الأمن القومي المصري / السوداني وما يتأسس أو تأسس علي هذه الوحدة من مصالح ومواقف , ومن ثم فهناك أزمة بالفعل بين مصر والسودان لا تقتصر فقط علي قضية مياه النيل بل علي مدي أوسع نطاقه مُجمل قضية وحدة الأمن القومي لمصر والسودان , ومن ثم فجزء من جهد مصر لحل الأزمة مع السودان يجب أن يُوجه إلي إستعادة المفهوم المشترك لنظريتي الأمن القومي للبلدين ذات الطبيعة التبادلية , فذلك هو السبيل الأنسب لحل أزمتي حلايب ومياه النيل وغيرهما وهو طريق صعب تعرض لتدمير مُتبادل منذ عام مُستهل تسعينات القرن الماضي .
إذن فإستئناف العمل في شق قناة جونجلي بفرض موائمتها للواقع وهذا مستحيل أو يكاد أن يكون كذلك , أمر لايعني أو تكترث به حكومة السودان التي بينها وبين حكومة الرئيس Salva Kiir مشاكل حادة ومتنوعة ليس أقلها الإتهامات المُتبادلة للخرطوم وجوبا بدعم كل منهما للمعارضة المسلحة المُضادة لكل منهما , ولذلك مثلاً نجد مساعد رئيس الجمهورية السودانية إبراهيم محمود حامد رئيس وفد الحكومة المفاوض يصرح في 30 يناير 2018بأنه ” علي دولة جنوب السودان أن تُوقف دعمها للحركات المسلحة وأن تكف عن تهديد أمن السودان ” , وأوضح لبرنامج ” لقاء خاص” بالتليفزيون السوداني قوله ” أن مالك عقار يتواجد بدولة الجنوب ولا وجود له في النيل الأزرق , وأنه من الأفضل لقيادة الجارة الجنوبية أن تدعم خيارات السلام وليس استخدام الحركات ” , وأشار إلي أنه أكد خلال مفاوضات المنطقتين ” قدرتهم على التوقيع على اتفاق وقف العدائيات خلال الجولة المقبلة ومن ثم التوقيع على كل الاتفاقيات في غضون شهر من الآن إذا توافرت الإرادة السياسية لدى الحركة الشعبية ” هذا مما يشير إلي تعقد العلاقات بإضطراد بين شمال السودان وجنوبه وفيه نظام الرئيس Salva Kiir الذي تدعمه مصر بقوة حالياًعلي حساب باقي فصائل المعارضة الجنوبية وعلي رأسها فصيل Riek Machar قائد حركة SPLA-IO والموالي للخرطوم , ناهيك عن أن القناة نفسها لم تعد جزءاً واقعياً في أرض سودانية أو جزءاً من إتفاقية الإنتفاع الكامل بمياه النيل التي لا تعترف بها حكومة جنوب السودان رسمياً , ولذلك من المنطقي القول بأن فرضية إستئناف قناة جونجلي التي سيستفيد السودان ومصر من إيرادها المائي البالغ 4 مليار متر مُكعب / عام إن إكتملت عمليات الحفر , أصبحت أقل واقعية عن ذي قبل فالسودان إن كان في وضع المُفاضلة بين طاقة كهربائية مُولدة يستوردها بسعر تفضيلي من سد النهضة الإثيوبية الذي بلغت نسبة تنفيذه 60% وبين إستفادته بنحو 2 مليار متر مُكعب / عام تأتي إليه من قناة جونجلي فسيختار الطاقة الكهربائية الإثيوبية , هذا مع إفتراض أن حكومة جنوب السودان يمكنها من الوجهتين السياسية والنفسية أن تكون مصدراً لإستفادة الخزانة العامة السودانية من توفير الفاتورة السنوية للطاقة , خاصة في ضوء المشاكل التي إعترضت علاقات حكومتي جنوب السودان و السودان فيما يتعلق بخط أنابيب نقل بترول جنوب السودان من حقوله في عداريل وهجليج وولاية الوحدة بجنوب السودان إلي ميناء تصديره في بورسودان بجمهورية السودان ( حيث طلبت السودان تسديد جنوب السودان 33 دولار عن كل برميل بترول يمر من أراضي شمال السودان) وهي مشكلة ظلت لوقت طويل نقطة إختناق في علاقات الدولتين بالإضافة إلي مشكلات ونزاعات أخري مازالت لم تحل بعد وأهمها النزاع علي السيادة علي منطقة Abyei البالغ مساحتها 10,546 كم مربع التي يقطنها قبيلة Ngok Dinka والواقعة علي حدود الدولتين ,وتتنازع الدولتان في تبعيتها لسيادة كل منها فتلحقها جمهورية السودان في التقسيم الإداري لولاية جنوب كردفان فيما تُلحقها جمهورية جنوب السودان بولاية شمال بحر الغزال , كما أنه لابد من التأكيد علي أن مشروع قناة جونجلي كان أحد مشروعات أشارت إليها إتفاقية الإنتفاع الكامل بمياه النيل المُوقعة بين مصر والسودان عام 1959 التي لم تعلن دولة جنوب السودان الإعتراف بها , وأصبح وضع السودان بالنسبة لهذا المشروع كوضع مصر إلي حد كبير إذ أن المشروع أصبح بعد إنفصال جنوب السودان عن شماله في 9 يوليو 2011 واقع في أراضي جنوب السودان , ومن ثم فلابد من توافر أمرين أولهما إعلان دولة جنوب السودان إنضمامها أو علي الأقل إعترافها بإتفاقية 1959 , ثانيهما الإعلان عن تكوين هيئة كتلك الهيئة التي أسستها مصر والسودان من أجل تنفيذ مشروع قناة جونجلي والتي كان أحد مهامها إستقطاب وتعبئة التمويل الدولي للمشروع , وهذا كله لم يحدث , بل من المُستبعد في ظل ما تقدم بيانه .
3- موقف جنوب السودان من قضية مياه النيل :
كما سبقت الإشارة فإن دولة جنوب السودان لم يصدر عنها منذ ما بعد إعلان إستقلالها عن السودان في 9 يوليو 2011 إعلان رسمي بالإلتزام بالعمل بإتفاقية الإنتفاع الكامل بمياه النيل , وبالرغم من الدعم المصري لنظام رئيس جنوب السودان Salva Kiir بأشكال مختلفة منها الدعم بالسلاح في مواجهة تمرد نائبه وخصمه اللدود Riek Machar, وكمثال علي ذلك ما أوردته وكالة أنباء جنوب السودان SSNA في 3 فبراير 2017 ووكالةReuters للإنباء في 4 فبراير 2016 ونقلت عنهما شبكات الأخبار والصحف الدولية والإقليمية البيان الصادرعن حركة الجيش الشعبي لتحرير السودان في المعارضة SPLA-IO التي يتزعمها Riek Machar خصم الرئيس Salva Kiir في الحرب الأهلية الجارية بينهما حالياً بجنوب السودان , والذي تضمن الإشارة إلي أن القوات الجوية المصرية أسقطت ما لا يقل عن 9 قنابل ومتفجرات علي مواقع تابعة لحركة SPLA-IO تقع علي مقربة من قرية Kaka بولاية أعالي النيل بجنوب السودان , كما حذر المتحدث العسكري للحركة العقيد William Gatjiath Deng ” من مغبة إستمرارالتمرد السوداني وتصعيد مصر لمشاركتها في الحرب القائمة حالياً بجنوب السودان , مُعتبراً ذلك من المؤشرات الواضحة لشعب جنوب السودان وللإتحاد الأفريقي وللأمم المتحدة والمجتمع الدولي بأن نظام جوبا يستفز المنطقة ويجر جنوب السودان لحرب إقليمية “, وأوضح العقيدDeng أن عناصر من حركة العدالة والمساواة JEM وحركة تحرير جنوب السودان – قطاع الشمال SPLM-North تتسلل إلي أراضي جنوب السودان إنطلاقاً من قاعدة Angathna بولاية النيل الأزرق بشمال السودان بغية الهجوم علي وإستعادة بلدات المستقبل و Wadekona و Detang من أيدي التمرد المُعارض التابع لريك مشار الذي يعتقد – أي مشار – أن هناك إتفاقات بين القاهرة وجوبا تدعوه إلي الشك في نوايا القاهرة إزاء الصراع بين حركته ونظام Salva Kiir , وأحالت وكالة أنباء جنوب السودان علي أحد كبار القادة العسكريين بحركة SPLA-IO المتمردة المناوئة للرئيس Salva Kiir قوله ” هناك ثمة صفقة قذرة تتم بين Kiirوالسيسي , وأن سد النهضة الإثيوبي واحد من القضايا الرئيسية التي تمت في القاهرة , وأن مصادرنا المخابراتية في Kampala عاصمة أوغندا وفي جوبا أكدت أن مصر تريد من جنوب السودان وأوغندا أن يكونا حلفاءها الإقليميين حتي يمكنها أن تتقدم في مخططها الهدام الخفي ضد إثيوبيا , وأن الرجل(الرئيس Kiir) ما هو إلا عميل مزدوج فلسوف يتسبب في مشاكل كثيرة بمنطقة شرق أفريقيا ” , وأضاف هذا المسئول قوله بأن الخبراء العسكريين والمهندسيين المصريين متواجدين بجوبا منذ شهور وأن التعامل العسكري بين القاهرة وجوبا تعمل أوغندا علي تنسيقه منذ العام الماضي , ودعا هذا المسئول الإتحاد الأفريقي والأمم المتحدة إلي التحقيق في التورط المصري في الحرب الأهلية بجنوب السودان , ومع ذلك فكل هذا الدعم لم يؤد إلي إعلان حكومة جنوب السودان شيئاً يُفهم منه ولو بشكل غير مباشر أن إستئنافاً قريباً لمشروع إستكمال حفر قناة جونجلي قد يكون , ولا حتي دعم الموقف المصري من سد النهضة الأإثيوبي بالرغم من سحب مُلبدة في سماء العلاقات الإثيوبية / الجنوب سودانية مرجعها جزئياً طبيعة النظام الحاكم في جنوب السودان وتداعيات الحرب الأهلية علي مناطق حدود إثيوبيا وجنوب السودان وأخطرها تدفقات المهاجرين من جنوب السودان وكذلك مُحددات العلاقات الثنائية الإستراتيجية بين الخرطوم وأديس أبابا التي تُلزم الدولتان بالتنسيق في سياستهما الخارجية وجنوب السودان بأزمة إستمرار الحرب الأهلية بها أحد أهم أوجه هذا التنسيق , يُضاف إلي ذلك أن المصالح الإثيوبية بجنوب السودان أقل بكثير من المصالح المصرية والتي كانت لابد وأن تُلزم مصر بتوخي الحذر والحرفية في إدارة ملفها خاصة وأن مصر تعرضت روابطها القوية بالسودان إلي عملية إضعاف متتالية ومنها أن ميثاق التكامل المُوقع في فبراير و1974 إبان عهد الرئيسين أنور السودان وجعفر نميري أُلغي بعد تولي حكومة الصادق المهدي مُستبدلاً إياه بما يُسمي بميثاق الأخاء كما قام بتجميد إتفاقية الدفاع المُشترك بين مصر والسودان المُوقعة في 15 يوليو 1976والتي كانت تستهدف منع ثلاث مخاطرأولها الخطر المُتمثل في صراع المُتمردين الإنفصاليين في جنوب السودان وثانيها الخطر الإثيوبي سواء الخطر المائي ( إنتظام تدفق مياه النيل) أو البحري الإثيوبي (قبل إستقلال إرتريا) في البحر الأحمر في ضوء ضعف البحريات العربية ثالثها الخطر الشيوعي السوفييتي في الصومال وإثيوبيا وصلته المُحتملة بالشيوعيين في السودان , ثم أتي دور نظام مبارك في عملية الإضعاف فناصب نظام إنقلاب الإنقاذ الوطني بقيادة العقيد عمر البشير لمجرد أنها أعلنت عن هويتها الإسلامية بالرغم من أن نظام مبارك نفسه كانت له علاقات من أقوي ما يكون بالنظام السعودي الذي هويته إسلامية أيضاً (شكليا بالطبع) , وكان أولي به أن يتحرر هو وبطانته من عقيدة الإسلاموفوبيا أو عقيدة مناهضة الحكم الإسلامي Dogma , لكن علي المرء أن يتوقع سطحية سياسة يتولي وضع خطوطها الرئيسية رجل بلا ماض أو خبرة سياسية بطانته فريق من الببغاءات الخرساء , وبسبب العداء الذي بدأه نظام مبارك بعد الإنقلاب العسكري بالسودان في 30 يونيو 1989والذي كانت أهم أدواته النزاع علي مثلث حلايب ومياه النيل ودعم السودان للتيارات الإسلامي في العالمين العربي والإسلامي من خلال إقامة الجبهة الإسلامية السودانية بقيادة د . حسن الترابي المؤيمر الشعبي العربي والإسلامي والذي ضم معظم التيارات الإسلامية بالعالمين وعقد عدة دورات بمقره بالخرطوم بعد الإعلان عن إقامته بعد غزو العراق للكويت عام 1990 والذي إتخذت السودان موقفاً مُؤيداً للرئيس صدام حسين , وهو بالطبع ما لم تكن القاهرة براضية عنه , وبدأ مسلسل الأفعال وردود الأفعال حتي أصبح أمن إثيوبيا من أمن السودان وليس من أمن مصر كما أقر بذلك الرئيس البشير وهي النتيجة المنطقية لسياسات مصرية مُؤسسة علي رؤية مُغرقة في الشخصية ولا علاقة لها بموجبات الأمن القومي المصري .
صحيح أن جنوب السودان أعلن مسئوليه فيما بعد بدء الحرب الأهلية في منتصف ديسمبر 2013 عن أنه لا مساس بمصالح مصر المائية , إلا أن هناك ملاحظتين في شأن هذا التعهد غير المُوثق والدعائي – في تقديري – وهو أن جنوب السودان من الوجهة النيلية لا يمثل في حد ذاته تهديداً مائياً مُؤثراً لمصر كالتهديد الإثيوبي الذي يعد تهديداً ماحقاً لمصالح مصر المائية أي أن التهديد الأخطر عنوانه أديس أبابا وليس جوبا ولا حتي كمبالا , ولولا إشتعال الحرب الأهلية بين نظام الرئيس Kiir وبين خصمه ونائبه السابق Macharفي 15 ديسمبر 2013 لوقع جنوب السودان الإتفاق الإطاري لسبب بسيط وواضح وهو أن أمنه القومي مرتبط بجواره الأفريقي المباشر وخاصة مع كينيا وإثيوبيا , وليس بجواره المباشر مع السودان ولا غير المباشر مع مصر , وما التحالف الذي يبدو وكأنه تحالف بين مصر وجنوب السودان وأوغندا إلا تحالفاً شعورياً آنياً بحتاً مرتبط بمصالح موقوتة سرعان ما تتحقق أو تتآكل , ومع ذلك فجنوب السودان من المتوقع إن إنتهت الحرب الأهلية فيه – وهو أمر مُستبعد في المدي القصير – أن تنضم للإتفاق الإطاري التعاوني , ولقد نشرت جريدة الأهرام في 18 يونيو 2013 تصريحا لوزير ري وموارد المياه بجنوب السودان Paul Mayom Akec وصف فيه توقيع إتفاق الإطار التعاوني بحوض النيل (إتفاق عنتيبي ) بأنه ” أمر لا مفر منه وأن عملية الإنضمام لهذا الإتفاق بدأت علي كل مستوي أجهزة الدولة بجنوب السودان وأن بلاده ستشرع في تطبيق الإتفاق حالما يصدق عليه البرلمان ” , ولابد من التنبه إلي حقيقة جيوسياسية مباشرة ومؤثرة سلباً علي ما تعتقده مصر حالياً ومفاده أن سياستها بدعم نظام الرئيس يصب في صالح أمن مصر المائي , فالحقيقة الجيوسياسة تشير يقيناً بأن مصر لم تعد دولة جوار كما كانت لجنوب السودان – قبل إنفصاله عن الشمال- وأن جوارها الآن مع دول أفريقية هي إثيوبيا وكينيا وأفريقيا الوسطي زأوغندا والسودان الشمالي ومن ثم فالخطوط الحاكمة لعلاقات دول جوار جنوب السودان والتي نُسجت قبل إستقلال جنوب السودان بزمن طويل ستحكم إتجاهات سياسة جنوب السودان مع مصر وليس العكس , وبناء علي ذلك فجنوب السودان لابد وأنه سيوازن ولن يُفاضل بين إنخراطه في إتفاق جامع مع دول حوض النيل مدعوم من البنك الدولي أعني الإتفاق الإطاري للتعاون Comprehensive Framework Agreement (إتفاق عنتيبي) وبين إتفاق صيغ ليتناسب مع العلاقات الثنائية متميزة بين مصر والسودان أعني إتفاق الإنتفاع الكامل من مياه النيل 1959 وهو الذي يل يتلزم به جنوب السودان وإن لم يُعلن ذلك جهاراً , ومن المتوقع خاصة بعد توقيع إثيوبيا والسودان ومصر في 23 /3/2015 علي وثيقة إعلان مبادئ بشأن سد النهضة الإثيوبية والذي أعقبه تصديق البرلمان التنزاني علي الإتفاق الإطاري للتعاون في 25 مارس 2015 , أن يؤثر ذلك علي قابلية جنوب السودان للتضحية ببعض ثوابتها فيما يتعلق بمياه النيل خاصة فيما يخص مواصلة قناة جونجلي التي نُفذت قسراً بجنوب السودان وبالمخالفة لموقف تبناه جون جارانج قائد تمرد جنوب السودان الذي كان يري وأكد ذلك في رسالة الدكتوراه التي حصل عليها من جامعة Iowa State University الأمريكية (أرسلتها كاملة للخارجية المصرية عام 1998) أن إتفاق الإنتفاع الكامل بمياه النيل المُوقع عام 1959 يُقسم موارد النيل بين مصر والسودان وحصة السودان بموجبه لا تكفي لتلبية إحتياجات الزراعة في شمال السودان وفقاً لتقديرات عامي 1983 / 1984 فضلاً عن أن الإتفاقية لم تأخذ في الإعتبار إحتياجات باقي دول الحوض من مياه النهر , ومن ثم فلابد من التفاوض من جديد فيما بين كل دول حوض النيل لضمان الأإستخدام المُنصف من مياه النهر , وأنه فيما يتعلق بقناة جونجلي كتب جارانج في رسالته تلك أنها نتاج مباشر لتزايد إحتياجات مصر من المياه بسبب النمو المُضطرد لسكانها ولإرتباط مشروعات التنمية بحروب الشرق الأوسط , كما أن مشروع القناة كان يجحري مع سريان شائعات عن توطين 2 مليون مواطن مصري في المناطق المحيطة بالقناة للزراعة , ومع ذلك فمصر لم تأخذ في إعتبارها إحتياجات التنمية في جنوب السودان والتأثيرات السياسية والإقتصادية والإجتماعية السلبية لمشروع جونجلي علي قبائل المنطقة بخاصة قبائل Dinka و Nuer و Shilluk ومن ثم فأي إستراتيجية لتنمية موارد منطقة جونجلي لابد وأن تنبع من إحتياجات سكان المنطقة والأوضاع القبلية والإقتصادية والإجتماعية بالإقليم كل هذا إنما يشير إلي أن هناك صعوبة في تحريك مشروع جونجلي للأمام مالم تتغير الظروف بين جنوب السودان وشماله وفي الجنوب نفسه للأفضل بالنسبة لمصر هناك , وعليه يمكن القول أنه بمعطيات الواقع الراهن فإن مستقبل وأمن مصر المائي أصبح في مركز حرج زاده حرجاً الإستراتيجية الهجومية الإثيوبية التي تحركت علي محورين الأول قانوني من خلال طرح إتفاقية إطارية للتعاون تستهدف الإستخدام المُنصف والعادل لمياه النيل بين دول الحوض بحذف مبدأ الحق التاريخي الذي تستند عليه مصر في تحديد حصتها من مياه نهر النيل من نصوص هذه الإتفاقية , والمحور الثاني تطبيقي حيث بدأت إثيوبيا في 2011 في بناء سد النهضة بقدرة تخزينية تبلغ 74 مليار متر مكعب وسنوات ملأ غير مُحددة أو واضحة .
في تقديري أن السودان وليس جنوبه مازال هو الأهم في تنفيذ الإستراتيجية المائية واسعة المدي لمصر , ولتأكيد ذلك أذكر أن السودان وليس جنوب السودان هو الداعم الأهم والأأكثر فاعلية في تنفيذ إثيوبيا ومضيها قدماً في مشروع سد النهضة , فتأثير جنوب السودان مائياً علي مصر يُقارب التأثير الأوغندي فعلي حين يشكل النيل الأزرق الآتي بروافده من إثيوبيا 84% من إيرادات مياه النيل لمصر يشكل نيل فيكتوريا 16% , ولذلك مثلاً سمعت أثناء حضوري ندوة بعنوان ” القرن الأفريقي في إستراتيجية الأمن القومي السوداني” نظمها مركز الدراسات الإستراتيجية بقاعة الشارقة بجامعة الخرطوم بتاريخ 28 أبريل 1998 من المحاضر الأول فيها وكان هو السيد محمد أبو القاسم حاج حمد المستشار السابق للرئيس الأرتري أسياس أفورقي وهو أحد المتخصصين في شئون القرن الأفريقي , وتعكس أفكاره آراء قطاع كبير من النخبة ورجال الأحزاب والسياسيين في السودان , سمعته يقول في هذه الندوة ما نصه ” …. ومهما كان الفائض الذي يمكن أن يُعطي فلا تنسي مصر أننا نتعرض لدورات جفاف وحدث هذا في 1977 – 1987 لقلة الأمطار في هضبة البحيرات حيث هبط منسوب النيل إلي ما دون 72 مليار متر مكعب ثم هبط إلي 55 مليار متر مكعب , أي إلي ما دون حصة مصر , والحل الجذري ليس جونجلي ولا تنمية كما فعلوا في التيكونيل بل حل شامل يتطلب تلاحم السودان مع جيرانه في إطار تلاحم مصر, أنا لا أعزل مصر , الحل يتطلب تنسيق شامل مركزه السودان أولاً وأخيراً وتعامله مصر علي هذا الأساس لا تابع ولا دوةلة مسار لمصالح مصر المائية ” .
يتصل بببان موقف جمهورية جنوب السودان من مشروع قناة جونجلي الرأي المنشور بموقع PaanLuel Wël في الأول من فبراير 2018 وكاتبه Kur John Aleu تحت عنوان ” Why the Jonglei Canal Should Never Be Revived ” , إذ أشار إلي التصريح الذي أدلي المسئول المصري السابق والذي نشره موقع RT وصحيفة الأهرام القاهرية وبعض وكالات الأنباء , قائلاً إن هذا المشروع المشين والكارثي Disgraceful and Disastrous والفوائد المُضللة منه هي ما دفعته لكتابة مقاله , وهو يري أن أنصار البيئة حذروا من العواقب البيئية الناتجة عن هذا المشروع ومنها أنه سيُقلل من عملية البخر بمنطقة السدود ومستنقعاتها نتيجة تحويل المياه للقناة ومن المُحتمل أيضاً أن يُؤدي إلي تقليل الأمطار بهذه المنطقة , كما أن تجفيف الأراضي الرطبة سيُؤثر علي مصايد الأسماك ويُجفف أراضي الرعي الأمر الذي يعيد تشكيل النظام البيئي الدقيق بمناطق يجوب فيها رعاة قبائل Dinka و Shilluk و Nuer الذين سوف لا يقبلون بتغيير النظام البيئي الثري والصالح لنشاط الرعي , أما بالنسبة للرأي القائل بأن المشروع سيُؤدي إلي السيطرة علي الفيضانات بامنطقة السدود , ففي هذا القول من التضليل الكثير , فخلال موسم الأمطار يتم الإحتفاظ بببعض المياه الهاطلة في أحواض أو بداخل التربة والباقي ينساح في الأراضي بإعتباره جريان سطحي , والفيضانات تحدث عندما لا يكون من الممكن للأحواض والبحيرات ومجري الأنهار والنباتات إستيعاب كل المياه فعندئذ تجري المياه علي سطح الأراضي بالكميات التي لا تستوعبها المجاري المائية , وهناك ثمة طرق للسيطرة علي الفيضان وهي معروفة منذ القدم , منها إستزراع الأراضي للإحتفاظ بالمياه الزائدة وإقامة مجاري للفيضان من صنع البشر لتحويل مسارها , مع ملاحظة أن للفيضانات فوائد منها أنه يثري التربة ويخصبها أكثر فأكثر ويمدها بالعناصر الغذائية أو Nutrients التي تفتقدها , وفي تقديري أن قناة جونجلي مازالت أمراً خلافياً لكنها قد تكون مُفيدة لجنوب السودان ومصر والسودان , لكن غياب الإرادة الإيجابية المُشتركة لدي قادة هذه الدول والنخبة المُثقفة سوف يظل أكبر عقبة أمام هذا المشروع .
4- مشكلة التمويل :
مصر حالياً مُثقلة كما لم تكن مُثقلة أبداً بدين خارجي كالذي تنوء به اليوم إذ أنه يبلغ حتي الآن 80 مليار دولار إضافة لدين داخلي مُروع وقاعدتها الإنتاجية في تآكل مُستمر ومواردها المائية مُعرضة لخطر يهدد جزء كبير من الموارد التي منشأها صادرتها الزراعية بالإضافة إلي خروج مُتوقع لكتلة ضخمة من العمالة بالريف المصري ستنضم كنتيجة للنتائج الضارة من إكتمال التخزين لنحو 74 مليار متر مُكعب من مياه النيل وراء خزان سد النهضة مما سيحرم مصر تدريجياً من حوالي 25 مليار متر مُكعب /عام من حصتها الحالية والتي لا تكفيها البالغة 55,5 مليار متر مُكعب / عام وفقاً لإتفاقية 1959 , ويكاد المرء لا يصدق قدرتها علي تمويل مشروعات أعلنتها مثل مشروع إستغلال المياه الجوفية بالجزء المصري من خزان الحجر الرملي النوبي لري مشروع ” المليون ونصف المليون فدان بالصحراء الغربية المصرية , ومشروع ربط دول حوض النيل العشر بخط نقل نهري لمواعين النقل ذات الحجم الصغير والمتوسط وذلك علي طول مجري النيل بطول 4,000 كم يبدأ من بحيرة فيكتوريا بأوغندا وحتي ميناء الأسكندرية علي البحر الأبيض المتوسط بهدف دفع النبادل التجاري بين دول حوض النيل وتقويته , مع أنه من الوجهة الأخلاقية لا يوجد مبرر منطقي للبحث عن جني دول معادية لأمن مصر المائي لفوائد من مشروع مُكلف بل خيالي كهذا المشروع , لكنه الخروح عن نصوص المنطق دائماً .
إن مشروع جونجلي الذي تم حفر 260 كم منه حتي توقفه عام 1984 وتبقي نحو 100 كم متر منه لا يمكن تصور أنه مازال كما هو بمعني أن الأمطار الكثيفة بجنوب السودان لابد وأنها طمرت مسافة كبيرة من القناة , ومع ذلك تظل مشكلة التمويل لإستئناف الحفر قائمة , وفي الحقيقة من المُوقع أن يرجف الممولين الدوليين المُحتملين إن فاتحتهم مصر في أمر تمويل المشروع في ظل إحتدام الحرب الأهلية الدائرة بجنوب السودان خاصة مع مطالبات بمجلس الأمن الدولي من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بفرض حصار وحظر للسلاح عن جنوب السودان وكذلك – وهذا تقديري – لم يكن لسد النهضي أن يُقام لولا الدعم التمويلي الغربي فالغاية النهائية لإثيوبيا وللقوي الدولية خنق مصر وحصرها وحصارها مأزومة في الركن الشمالي الشرقي من أفريقيا وتظل عاجزة بسبب نخبتها و إختطاف نيلها من يدها وهي عاجزة عن الدفاع عن حياتها , وعموماً فالتاريخ وحده يثبت حقيقة ما أقوله فلمصر تجربة مؤلمة مع السوق الأوروبية في تمويل حفر قناة جونجلي بجنوب السودان فقد وافقت السوق الأوروبية مبدئياً علي تخصيص 45 مليون وحدة نقد أوروبية لمصر و15 مليون وحدة نقد أوروبية للسودان أما مبلغ التمويل الباقي وهو 30 وحدة فيتم تدبيره من أحد مصادر التمويل الدولية وفي سبتمبر 1983 وافقت السوق الأوروبية علي تخصيص 100 ألف دولار لتمويل إجراء تعديلات في إجراءات التعاقد لتتلائم مع قوانين ونظم السوق الأوروبية , ثم وفي مرحلة تالية قالت مصادر بالسوق الأوروبية أنهم لن يوافقوا بصفة نهائية علي التمويل إلا بعد تدبير باقي المبلغ , وفي نهاية هذه المماطلات إلتقي وزير الري المصري ممثل السوق الأوروبية بالقاهرة في 2 سبتمبر 1984 وتحدثا في موضوع تأخر السوق الأوروبية في تمويل مشروع جونجلي وقال أن ممثل السوق الأوربية بالخرطوم أشار إلي أن الموقف الأمني في الجنوب سيئ وأنهم يطلبون مذكرة رسمية من السودان بشأن هذا الموقف ولذلك فهم ينتظرون تحسن الموقف الأمني هناك لبدء المفاوضات بشأن التعاقد , وكان هذا اللقاء علي خلفية الهجوم الذي شنته عناصر تمرد جنوب السودان في فبراير 1984 علي معسكر الشركة الفرنسية التي تولت عمليات حفر القناة وأختطف المتمردون مجموعة من الرهائن وتدمير الحفار مما أدي إلي توقف العمل , وقامت مصر والسودان بتسديد تعويض شهري لهذه الشركة نظير مصورفاتها الجارية وإستهلاك المعدات .
إن الولايات المتحدة لطالما دعمت الإستراتيجية النيلية لإثيوبيا التي تعتقد أن النيل ملكية خاصة لها , فمن بين أمثلة عديدة التي تثبت أن الوقف الأمريكي في هذا الشأن لا يمكن إعتباره غامضاً أو مستوراً فهو موقف واضح تماماً سبق أن عبر عنه رئيس الجامعة الأمريكية ببيروت وخبير مياه النيل الأمريكي المعروف JOHN Waterbury في مقاله بدورية Brown Jornal of World بعدد فصلي شتاء – ربيع عام 1997 عندما ذكر ما نصه ” إن الدولة الوحيدة التي تصر علي تغيير الوضع القائم لمياه النيل هي إثيوبيا وهي مُهيأة لدخول معارك دبلوماسية لإثبات حقها , ويبني الإثيوبيين موقفهم علي أساس أن متانة العلاقات المصرية – الأمريكية لن تدوم عند إيجاد حل للمشكلة العربية / الإسرائيلية , كما ستفقد موقفها بين الدول العربية , ومن ثم فلن تلقي مصر الدعم الذي تتلقاه من الولايات المتحدة وربما الغرب بصفة عامة ” ومضي ليقول ” علي صعيد آخر فإن الولايات المتحدة ترغب في إستقرار منطقة القرن الإفريقي ومن ثم فقد تطلب إثيوبيا من الولايات المتحدة مساعدتها في إستغلال مياه النيل بحجة أن ذلك يساعد علي إستقرارها ” ثم إنتهي ليدلي برأيه في هذه القضية فقال ” علي الولايات المتحدة أن تتجاوز الوضع القائم لمياه النيل والمؤسس علي إتفاقية 1959 بين مصر والسودان فيما يتعلق بتقسيم المياه , إذ لا يمكن الدفاع عن هذا الوضع , مع منح إثيوبيا تنازلات لحجز كميات كبيرة من مياه النيل الأزرق / عطبرة , ولكن ليس هناك ثمة حاجة لأن تخط مصر خطاً علي الرمال فبإستطاعة مصر تخفيف حدة إحتاجاتها من المياه بالإنتقال من الزراعة الكثيفة إلي زراعات أخري( لم يحددها) وإستخدام مياه الصرف وتقليل الفاقد في ترع ورياح النيل الرئيسية , وقد تستطيع مصر توفير ما بين 7 إلي 8 مليار متر مكعب سنوياً إذا إتخذت بعض الإجراءات , وهي كمية تتجاوز ما كانت ستوفره قناة جونجلي لمصر …. إن إثيوبيا علي حق في مطالبتها بإعادة التفاوض علي إتفاق 1959 وهو موقف قوي الحجة , وسيأتي اليوم الذي تتجاوز فيه السودان وضعها الحالي كدولة معزولة وستطالب والحالة هذه بإستصلاح الأراضي الواقعة بين النيل الأزرق والأبيض , وقد تنضم السودان لإثيوبيا ( وهو ما حدث أو كاد) في موقفها من هذه الإتفاقية , وعلي المجتمع الدولي أن يُعد نفسه من الآن للتعامل مع المواقف المُحتملة ومساعدة الأطراف في التوصل إلي حل علي أساس أن إثيوبيا قد تنجح في تغيير الوضع الراهن ( وهو ما حدث بفرضها إقامة سد النهضة) , وإذا كان ما تقدم رأي شخصية غير رسمية (مع أن لخبرة السيد JOHN Waterbury وزن إستثنائي في تشكيل الموقف الأمريكي من النزاع المصري الإثيوبي علي النيل) إلا أن الحكومة الأمريكية عملت به منذ وقت طويل فالولايات المتحدة كانت مُنخرطة تماماً في مشروعات الري الإثيوبية , ففي عام 1927 إتفقت حكومة إثيوبيا مع مكتب هندسي أمريكي معني بمسائل الري يُدعي J.G White Emgineering coporation بنيويورك لإيفاد عدد من الخبراء لزيارة موقع بحيرة Tana ودراسة جدوي إقامة سد علي منبع النيل الأزرق , كما أن مكتب إستصلاح الأراضي التابع لحكومة الولايات المتحدة قام بعمل ملموس في إطار إستراتيجية الري الإثيوبية بعمل دراسة مسحية لحوض النيل الأزرق في الفترة من 1956 حتي عام 1964 وأُقترح بناء عليها تعيين 4 مواقع يمكن منها إقامة سد لتوليد طاقة هيدرولوكية تعادل ثلاثة أضعاف ما يولده سد أسوان العالي والسد الذي شرعت في إقامته إثيوبيا والمعروف بسد النهضة يقع في أحد المواقع الأربعة المُشار إليها , وعلي الجانب الآخر ولأهمية مصر في إطار الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط وفي القلب منها إسرائيل نجد أن الولايات المتحدة علي مر إداراتها المختلفة سواء أكانت جمهورية أو ديموقراطية وضعت مصر بين ثابتين الأول أمن إسرائيل والثاني قناة السويس , ففيما يتعلق بالثابت الأول يُذكرأنه إبان أزمة تمويل السد العالي والشد والجذب البريطاني الأمريكي بشأنه مع القيادة المصرية أوفدت الولايات المتحدة السيد روبرت أندرسون في مهمة لمصر في الربع الأول من عام 1956(أطلق الأمريكان عليها أسم مشروع جاما) كانت حلقة هامة في العمل الدبلوماسي الأمريكي في سياق المحاولات الأمريكية لتوجيه سياسة عبد الناصر إلي قنوات أكثر طواعية , إذ كانت إستمراراً لمشروع ألفا برئاسة فرانسيس راسل , وكانت مهمة ” جاما” هذه تهدف إلي سلام مصري / إسرائيلي بترتيب لقاء بين بن جوريون وعبد الناصر , وأنه إتصالاً بهذا يُشار إلي أن مؤلف سيرة حياة بن جورويون كتب يقول أن صانعي السياسة الأمريكية ظلوا يعتقدون أن من الممكن إحباط المخططات السوفيتية بشأن الشرق الأوسط وإلغاء صفقة الأسلحة التشيكية لمصر من خلال إتفاقية مصرية / إسرائيلية تربط مصر بصورة وثيقة بالولايات المتحدة , وكان هربرت هوفر الأبن وكيل الخارجية الأمريكية يعتقد أنه من الممكن شراء نجاح المهمة السرية ” جاما” من جانب واشنطن بمساندة تمويل السد العالي , كما أن وزير الخارجية دالاس كان يقول أن حل النزاع الإسرائيلي / المصري المُتصاعد هو شرط مُسبق لتطابق الولايات المتحدة بالكامل مع حلف بغداد الذي رفضه عبد الناصر . (واشنطن تخرج من الظل . السياسة الأمريكية تجاه مصر 1946 – 1956 . جيقري أرونسن ~.مؤسسة الأبحاث العربية , دار البيادر للنشر .1987 . صفحة 286 و 269 ) , وعليه فكان من المنطقي أن يتقاطع مشروع السد العالي مع الرغبات الإستراتيجية للولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط والتي كانت تضع مكافحة الشيوعية خطاً فاصلاً في تحديد نوعية ومدي التحالفات الأمريكية مع دول المنطقة , أما الثابت الثاني فيعبر عنه ما أُشير إليه في كتيب رسمي عن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية في عام 1952 فتحت عنوان ” السلامة في الشرق الأدني ” ورد ما نصه ” …. وقد كان الشرق الأدني طيلة أدوار التاريخ الجسر المُمتد إلي آسيا وأوروبا وأفريقيا , والإقليم العظيم الشأن من الوجهة الإستراتيجية , وهو اليوم مُلتقي المواصلات البرية والبحرية والجوية علي السواء , ولعل خير مثل علي ما نقول هو قناة السويس , كما تحوي حقول الزيت فيه خمس إحتياطي العالم من البترول ” . ( سياسة أمريكا الخارجية في عام 1952 . الحلقة العاشرة من سلسلة ” مصر وأمريكا ” ترجمة الأستاذ / عباس حافظ . إصدار مارس 1952 من مكتب الشئون العامة في واشنطن . صفحة 38)
ربما كان مُفيداً في إطار إختبار الرؤية الإنتقائية للمولين الدوليين النظر إلي عدد من المشروعات المُتعلقة بالمياه وإستخداماتها المختلفة ففي حالة كحالة مشروع قناة البحر الميت بين الأردن والسلطة الفلسطينية (التي من غير المُتيقن بعد إعلان الرئيس الأمريكيTrump نقل سفارة بلاده للقدس وتهديد السلطة بالإستغناء عن الدور الأأمريكي في عملية السلام الإفتراضي بين الكيان الصهيوني والسلطة) و الكيان الصهيوني الذي وافق مجلس وزراءه عليه في جلسته بتاريخ 24 أغسطس 1980 , هذا المشروع نُشر في مايو عام 2006 أنه حظي بموافقة مبدأية علي تمويله من الولايات المتحدة , وهذا المشروع تقع تكلفته بين 11,1 بليون دولار إلي 11,3 بليون دولار وفقاً لدراسة جدوي له قام بها البنك الدولي أشارت تحديداً إلي أن تمويله سيكون من صندوق أوصياء تأسس في ديسمبر 2006 لهذا الغرض يضم فرنسا واليونان وإيطاليا واليابان وكوريا الجنوبية وهولندا والسويد والولايات المتحدة التي ساهمت بمبلغ 16,7 مليون دولار لوضع دراسة الجدوي التي نُشرت في يوليو 2002 , كذلك نجد هناك مشروع إنقاذ بحيرة تشاد التي تناقصت مساحتها فبعد أن كانت 25,000 كم مربع في ستينات القرن الماضي أصبحت لا تزيد حالياً عن 2,500 كم مربع , ويرمي هذا المشروع الذي يتكلف 14 مليار دولار إلي مد بحيرة تشاد بمياه نهر OUBANGUI أحد روافد نهر الكونجو , و تستهدف لجنة بحيرة تشاد التي تضم في عضويتها 6 دول تقودها نيجيريا تمويل هذا المشروع من الوكالات والبنوك الدولية والمانحين الدوليين مثل مؤسسة Fondations Ford و Rockefeller و Bill et Melinda Gates و Bill Clinton الأمريكية وعلي موارد مصدرها العلاقات الثنائية , وهو للأسف ما لا يُتوقع أن يلقاه مشروع قناة جونجلي من إستجابة تمويلية لأسباب مختلفة أولها الخطورة المُحدقة بالمشروع يليها التعقيدات السياسية وإفتقاد الأطر القانونية السابق بيانها .
الخطأ الثاني : أن مصر ستوفر 30 مليار متر مكعب من المياه سنوياً من مشروع جونجلي :
كان مجرد التلويح ولا أستطيع أن أقول “الإعلان” عن إستئناف ما لمشروع قناة جونجلي تجاوز لا يجمل بمسئول سابق أو حالي الإقدام عليه لخطورته علي مصداقية السياسة المصرية في منطقة تمثل أولوية قصوي أو علي الأقل كانت كذلك للأمن القومي المصري , إضافة إلي أنها تصدر في توقيت سيئ حيث تواجه مصر وهي عزلاء من قوتها الخشنة والناعمة للأسف في معركة البقاء … أي معركة المياه مع إثيوبيا التي تقيم سداً لا شك في أنه سيُؤثر تأثيراً ضاراً علي الوارد من مياه النيل الأزق لمصر إن تم تخزين 74 مليار متر مكعب في مدة 3 سنوات مُتتالية وراء خزان هذا السد , وللأسف أيد السودان إثيوبيا في ذلك وله من المبررات ما يكفيه , فكما أشرت كانت السياسة المصرية في السودان لأكثر من 35 عاماً سلبية مُتهافتة ومُرتبكة , فلقد سارت السياسة المصرية في السودان بأقدام من رصاص ثقيل وهذا ما كتبته في تقرير رفعته للوزير عمروا موسي عام 1998 , لكن لا رد ولا إستجابة .
لكن الخطأ الأكبر هو تعمد الإشارة إلي أن هذا المشروع سيُوفر لمصر 30 مليار متر مُكعب / عام وهو تقريباً القدر المُتوقع أن تخسره مصر من حصتها المائية المُقررة وفقاً لإتفاق 1959 بنحو 55,5 مليار متر مُكعب / عام بسبب السعة التخزينية لسد النهضة في زمن غير مناسب(3 سنوات مُتتالية) , فمن يطلع علي التفاصيل العامة لمشروع قناة جونجلي يجد أنه يوفر لمصر والسودان معاً 4,7 مليار متر مُكعب عام تُزع علي البلدين بالمناصفة أي 2,35 مليار متر مُكعب/ عام لكل منهما , وهذا أمر سبق إعلانه رسمياً وفي نشرة صادرة عن وزارة الأشغال العامة والموارد المائية Code : A- 2 A\ August 99 بعنوان ” المياه وموقف مصر ” حيث أشارت إلي ما نصه ” علي الرغم من ثبات حصة مصر من مياه النيل عند 55,5 مليار متر مُكعب/ عام , إلا أن الوزارة (وزارة الأشغال العامة والموارد المائية) تتوقع زيادة كمية المياه المُتاحة بين عامي 1990- 2017 وذلك من خلال تنفيذ مشروعات أعالي النيل مثل قناة جونجلي , وهي أحد المشروعات التي تسعي الدولة جاهدة لتنفيذها , حيث ستُوفر لمصر حوالي 2 مليار متر مُكعب / عام من مياه النيل , ولكن هذه الزيادة لن تكون كافية لمواجهة الطلب المُتزايد علي المياه , لذا ستكون عمليات إعادة إستخدام المياه ذات أهمية قصوي في المُستقبل” , وبالنسبة للمياه الجوفية أشارت إلي ما نصه ” تُقدر كمية المياه الجوفية التي تستخدمها مصر حالياً بحوالي 4,8 مليار متر مُكعب / عام في الوادي والدلتا , بالإضافة إلي 0,57 مليار متر مُكعب من الأراضي الصحراوية , ويُمكننا زيادة هذه الكمية مستقبلاً بحد أقصي 11 مليار متر مُكعب: عام دون تعريض المخزون الجوفي للخطر ” , كانت النشرة واقعية فيما يتعلق بزيادة الوارد من خزان الحجر الرملي النوبي إلي نحو 11 مليار متر مكعب , لكن فيما يتعلق بمشروع جونجلي فالنشرة تُوحي بأن المشروع في قبضة يد مصر وأنه لذلك سيُنفذ وهو أمر غير واقعي , فكما أشرت كانت الحرب الأهلية بين شمال السودان وجنوبه مُستعرة ومصر تجلس علي مقعد وثير مع المُتفرجين لا هي تدعم السودان في حربه مع التمرد الذي تدعم حكومته المتوحشة حالياً ولا هي دعمت موقف السودان التفاوضي إلي أن رضخت فأقرت في إتفاق السلام الشامل يناير 2005 بمبدأ حق تقرير المصير لسكان الجنوب , لكن علي أية حال لم تكن نشرة وزارة الأشغال العامة والموارد المائية هي التي أعلمت الكافة بما ستوفره قناة جونجلي , إذ أن وزير الري المصري د . محمود أبو زيد في إطار عرضه أمام الرئيس الأسبق مبارك في إجتماع وزاري موسع لسياسة قطاع الموارد المائية والري في إدارة وتنمية الموارد المائية المصرية أشار إلي أن أن المُستهدف الوصول بموارد مصر المائية إلي 57,,5 مليار متر مُكعب / عام فيما هي الآن 55.5 مليار متر مُكعب وذلك في مدي زمني أقصاه عام 2017 ثم أشار بإقتضاب شديد في البند ثالثاً من عرضه إلي ما نصه ” المشروعات المُشتركة مع دول حوض النيل” , * ( صحيفة الأهرام القاهرية 8 يوليو 2002) ويُقصد بهذه العبارة مشروع مثل قناة جونجلي لكنه لم يُسم هذه المشروعات لأن هذه المشروعات كانت مُجمدة أو مُتوقفة لكنه أشار إلي أن ما وصفه ” بالتوسع في المياه الجوفية العميقة للوصول إلي الإستفادة من 4,5 مليار متر مُكعب / عام , وليس 11 مليار متر مُكعب كما أشارت النشرة التي سبقت الإشارة إليها , لكن وفي الجلسة الختامية للمؤتمر السنوي الخامس للحزب الوطني الديموقراطي الحاكم وبحضور الرئيس الأسبق مبارك في 4 نوفمبر 2008 أشار وزير الري المصري د . محمود أبو زيد إلي ما نصه ” هناك خطة قومية حتي عام 2017 لتعظيم الإستفادة من الموارد المائية الحالية , وانه من الصعب زيادة مواردنا من مياه النيل إلا من خلال مشروع قناة جونجلي والتي تضيف 2 مليار متر مُكعب / عام ” , * ( صحيفة الأهرام القاهرية 4 نوفمبر 2008)
ثالثاً : التحقق من إمكانية إستئناف حفر قناة جونجلي :
لا توجد أدوات غير التي سبق إيضاحها فيما تقدم عرضه , في سبيل التحقق من إمكانية إستئناف مشروع قناة جونجلي أو علي الأقل التحقق من صحة التصريح الصادر بشأنها من مسئول مصري سابق , وعلي أي الأحوال فمما يؤكد ذلك أيضاً أن تصريح كهذا مليئ بالأخطاء وبالتالي فإن هدفه الوحيد دعائي بحت , كما أن الإعلان عن مشروع إستئناف حفر قناة جونجلي ولإنه موضوع هام وحيوي يقع في مقدمة مهام وزارة الري المصرية كان يجب – في حالة إن كان الحديث بشأنه به قدر من الجدية – أن تعلن عنه وزارة الري المصرية وليس مسئول مصري سابق لا صلة له البتة بموضوع فني وإستراتيجي كهذا , لكن أما وأن مسئولاً مصرياً سابقاً أعلن عنه , فلا أقل والحالة هذه أن يصدر عن وزارة الري المصرية بإعتبارها المسئول الاصيل عن الري في مصر وخارجها بدول حوض النيل , إما تأكيد أو نفي أو تكذيب لتصريح غير موضوعي كهذا من شأنه أن يؤدي إلي تضليل جانب من الرأي العام المصري , بل وقد يسيئ لعلاقاتنا بدولة جنوب السودان علي الأقل إن لم يكن مع السودان أيضاً بإعتبارها الطرف الثاني والوحيد المُوقع علي إتفاقية الإنتفاع الكامل بمياه النيل مع مصر في نوفمبر 1959, لكن ترك الإعلان هكذا مُعلقاً في الهواء يعني أن هناك إرادة أودرجة ما من العمدية وراء هذا الإعلان وبتلك الصيغة , خاصة وأن مسئولاً عن حكومة جنوب السودان لم يعلن للآن بصفة مُشتركة أو أحادية شيئاً عن هذا المشروع الذي طُوي في أرشيف مُعتم ومازال بوزارتي الري المصرية والسودانية , كما لم يُكذب مسئولي حكومة جوبا هذا الإعلان ربما لأنه صدر عن مسئول سابق لا مرجعية رسمية له , كما يعني وبالتأكيد أن المشروع لا تري وزارة الري المصرية أنه يمكن الإعلان عن إستئنافه في ضوء ما تقدم بيانه خاصة وأن المهندس أحمد بهاء الدين رئيس قطاع مياه النيل بوزارة الري المصري صريح لصحيفة “اليوم السابع” القاهرية في 5 أغسطس 2016 بقوله ” إن إعادة إحياء مشروع قناة “جونجلى” قرار سياسى بالدرجة الأولى وأن مصر حريصة على التواجد فى جنوب السودان ودعم الأشقاء هناك ، وأن حكومة جوبا فى الوقت الحالى تعطى أولوية لمشروعات البنية التحتية للاستفادة المجتمعية “.
كانت هناك بعض المحاولات السابقة لإستئناف مشروع قناة جونجلي ففي 15 يوليو 1997 علمت من مدير شركة State Petroleum (وهو كندي الجنسية ) العاملة بالسودان أن حكومة السودان ستستأنف مشروع جونجلي بواسطة شركة إنجليزية مُتخصصة في الأنفاق ثم علمت لاحقاً من مصدر سوداني في مستهل شهر أغسطس عام 1997 أن حكومة السودان عازمة علي مواصلة مشروع القناة بواسطة شركة فرنسية , وكان تقديري آنئذ أن حكومة السودان كانت في ذروة توتر علاقاتها مع مصر تسعي بالإعلان الخافت عن شروعها في إستئناف المشروع تذكير مصر بأن هناك مصالح مشتركة تستحق من الجانبين تجاوزها وأن هذه المصالح أبعد مدي من المشاكل الخانقة التي تعترض سبيل العلاقات الثنائية , وفي نفس الوقت فإن السودان كان يريد إرسال رسالة للمجتمع الدولي مفادها أن منطقة جونجلي تحت سيطرة الحكومة – وهو ما لم يكن دقيقاً – وأن هناك أهداف أهمها تحقيق التنمية بهذه المنطقة الهامة والتي يقوم النشاط الإقتصادي بها علي الزراعة والرعي بحيث يمكن تدريجياً تحقيق الإستقرار بهذه المناطق , وقد ترددت هذه المعلومات عن مواصلة المشروع عقب توقيع حكومة السودان مع 6 فصائل جنوبية مُتمردة يقودها فصيل Riek Machar وهي فصائل مُنشقة عن الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة جارانج إتفاقية سلام في 21 أبريل 1997 ورد بها نص عن فترة إنتقالية مدتها 4 سنوات تُحقق حكومة السودان خلالها التنمية بالجنوب وهو أمر بمعيار هذا الوقت كان مستحيلاً , كما أن الحكومة السودانية كانت تريد تحقيق هدف عسكري فشق القناة كان سيتوازي معه إنشاء طريق مواز لضفتي القناة مما يسهل حركة المركبات العسكري في منطقة كلها مُستنقعات , لكن علي أي الأحوال لم يتحقق كل هذا لأن الوض ع العسكري والأمني بعموم جنوب السودان لم يكن ليتيح أي فرصة لمواصلة المشروع , بعد ذلك وفي نشرت صحف الخرطوم بالإحالة علي وكالة الأنباء الليبية في 31 يناير 1999إشارتها إلي أن مصدراً ليبياً – لم تسمه – ذكر أن العقيد القذافي يجري إتصالات مع الأطراف التي تقع تحت مسئوليتها قناة جونجلي لمواصلتها والإستفادة منها بالإستغلال الأمثل في مجالات الري والزراعة , وأن القذافي يسعي لدعوة المؤسسات العالمية المُهتمة بالمشروع بصرف النظر عن حالة الإستقرار بالمنطقة وأنه تحصل علي ضمانات من كل الجهات المسئولة التي تقع القناة بها , وكانت الدعوة الليبية تلك مُتزامنة مع تدني منسوب العلاقات الثنائية بين ليبيا وحكومة الخرطوم وكان تباطؤ العمل بميثاق التكامل بين البلدين والذي وُقع في سبتمبر 1990 خير دليل , كما أن د حسن الترابي لم يُكن أي شعور بالثقة أو التقدير لشخص القذافي ويري أن تقديراته بشأن السودان مبنية علي حسابات كلها خاطئة .
فاتحت مصر الجانب السوداني في إطار الإنعقاد الدوري للجنة الفنية الدائمة المُشتركة لمياه النيل عامي 2005 و2006 في شأن إستئناف العمل في قناة جونجلي وذلك في أعقاي توقيع حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان لإتفاق السلام الشامل في كينيا في يناير 2005 , ولكن يبدو وأن الجنوبيين لم يبدوا موافقة علي ذلك , وكانت المحاولة الأكثر جدية من مصر هي التي تمت في 12 فبراير 2008 عندما إلتقي د. أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء المصري السيد Salva Kiir نائب الرئيس السوداني خلال زيارته الرسمية للقاهرة وناقش معه آفاق إستئناف مشروع قناة جونجلي , وفي تصريحاته الصحفية أفاد د.نظيف الصحفيين بأن ” موضوع القناة طُرح علي أجندة اللجنة العُليا المُشتركة للبلدين ” , كما أشار إلي ” أن هناك ثمة إتفاق بين السودان ومصر علي إعادة تقييم المشروع قبل الشروع فيه نظراً لحاجته إلي تمويل كبير ” , مُعيداً التأكيد علي أن مصر مُلتزمة بمشروعات التنمية خاصة في جنوب السودان , فيما لم يصدر عن نائب الرئيس Salva Kiir إذ إقتصر ما قاله للصحفيين بأنه طلب من رئيس مجلس الوزراء المصري تشجيع رجال الأعمال المصريين للإستثمار في جنوب السودان , وقد واصلت مصر محاولاتها لإستئناف العمل في المشروع بعد ثورة 25 يناير 2011حين قام رئيس مجلس الوزراء المصري عصام شرف بزيارة للخرطوم في 27 مارس 2011 (بعد الإستفتاء الذي جري في جنوب السودان وأنتهي بتفضيل الجنوبيين للإنفصال) لكن ليس من المُؤكد أن المسئول المصري ناقش الأمر هناك , إلا أن بعض المصادر ترجح عكس ذلك .
في الواقع فجنوب السودان سواء في مرحلة التمرد علي الحكومة المركزية بالخرطوم أو المرحلة الإنتقالية بعد توقيع إتفاق السلام الشامل مع حكومة السوداتن بكينيا في يناير 2005 أو بعد إعلان الإستقلال عن السودان في 9 يوليو 2011 لم تبد تجاوباً أو جدية في شأن إستئناف مشروع جونجلي ولذلك لم ترد ولن تجد إشارة مباشرة من مسئولي جنوب السودان عن إستئنافه , هذا في الوقت الذي أعلنت إثيوبيا عن الشروع في إقامة سد النهضة بمواصفات فنية قد تؤثر بالخفض في حصة مصر من مياه النيل , وللأسف فمصر أعني معظم خبراء الري المصريين ومنهم الكثيرين ممن خدموا في محطات الري المصري بالسودان وجنوب السودان بمحطة ملكال بأعالي النيل يدركون جيداً أن مآل التحرك المصري لإستئناف المشروع خاصة في الوقت الحالي الذي تدور فيه رحي حرب أهلية هناك وُصفت بأنها حرب إبادة وتطهير عرقي , سيكون سلبياً في الغالب ومن ثم فمصر وفقاً لهذه النخبة من الخبراء تدرك بناء علي ذلك ان إستئناف مشروع قناة جونجلي ومشروعات أعالي النيل التي كانت مُدرجة في خطة وزارة الري المصرية أصبح مستحيلاً أو يكاد أن يكون كذلك , لكنها في نفس الوقت مُضطرة للبحث عن بديل أو بدائل لمواجهة التوسعات المُعلنة في مصر عن إستصلاح أراض للزراعة لتحقيق الأمن الغذائي للشعب المصري , ولذلك كان الإعلان كان في 1996 عن مشروع توشكي والذي كان محلاً لهجوم الإعلام السوداني بديلاً لمشروع قناة جونجلي من زاوية معينة للنظر , كذلك أمتد إهتمام مصر في عملية البحث عن بدائل إلي الخزان الجوفي الرملي النوبي وكانت هذه هي الخطوة التالية بعد توشكي وقد إستغل الرئيس الأسبق مبارك أحد زيارته لليبيا وكانت في طبرق بشرق ليبيا ليعلن والرئيس الليبي مُعمر القذافي في سياق البيان الختامي الصادر في 17 أكتوبر 1989(إعلان طبرق) وكان ضمن تقاط أخري بهذا الإعلان ال الخامس المُتعلق بإنشاء هيئة مُشتركة لدراسة وتنمية مياه خزان الحجر الرملي النوبي , والذي تجري مياهه تحت باطن أراضي أربع دول هي مصر وليبيا والسودان وتشاد .
نـــتيـــجــة :
لا جدال في أن إستناف مشروع قناة جونجلي بجنوب السودان في ضوء ما تقدم مستحيل بل ربما أقول أنه ضرب مروع من الخيال , لكن الإعلان أو التلويح بهذا المستحيل لا يخلو من بعض الفائدة , إذ أنه يكرر إستدعاء ما هو مؤكد بالذاكرة المصرية , وهو أن السياسة المصرية بشأن السودان شماله وجنوبه منذ 1956كانت ومازالت مُتعثرة لأنها خاطئة إن لم تكن فاشلة وأضرت بمصالح الشعب المصري واسعة المدي فلم تكن هذه السياسة لتحبذ تضمين البعد الشعبي الإنساني في مربع العلاقات الثنائية فقد كانت الأجهزة الأمنية تمسك بمعظم الخيوط بل تقبض عليها قبضاً , كما أنها لم تكن علي مسافة واحدة من مكونات شعبي شمال السودان وجنوبه , إضافة إلي أن مصر قنعت بدور المُتفرج غير المُكترث علي مدي سني الصراع بين حكومة السودان والتمرد الجنوبي وذلك في الفترة من أكتوبر 1981 حتي يناير 2005 تاريخ توقيع إتفاق السلام الشامل بين حكومة الخرطوم وحركة تحرير السودان بزعامة جون جارانج والتي تضمنت نصاً عن حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان الذي إختار الإنفصال عن الشمال ليبدأ في 15 ديسمبر 2013 موجة ثانية من الحرب الأأهلية الأكثر ضراوة من سابقتها مع الخرطوم , وهي الحرب التي جنحت السياسة المصرية فيها إلي جانب نظام قبلي يرأسه Salva Kiir وهو مُتمرد سابق لا رجل دولة يعي مخاطر العودة والتمترس وراء القبلية , فالولايات المتحدة نفسها التي تعهدت هي واللوبي الكنسي الأمريكي إنجاح عملية فصل جنوب السودان عن شماله لم تجنح هذا الجنوح وتدعمه ليس فقط حفاظاً علي مصالحها بل لدرء مخاطر الحرب الأهلية بجنوب السودان عن منطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي الكبير , وعلي كل حال فمجرد طرح هذا المشروع إن لم يكشف للكافة عدم وضوح الرؤية أمام بعض المسئولين المصريين , فهو بلا شك كاشف عن إحتراق البدائل أمام مصر فيما يتعلق بمواجهة أزمة سد النهضة , ومن ثم فإدارة هذه الأزمة لا يمكن أن تنجح بتضليل الجمهور المصري أو إصطناع الأكاذيب قصيرة العمر .
إن أول فعل إيجابي يمكن أن يمثل أول مراحل إدارة أزمة الموارد المائية المصرية هو بإستعادة وحدة المجتمع المصري الذي إنقسم إلي ثلاث كتل رئيسية بفعل فاعل أدي دوره السلبي منذ 23 يوليو 1952 فقضي علي الطبقة المتوسطة وأنتج طائفية مقيتة أدت بالأقلية المسيحية في مصر إلي الإنزواء لتفقد أهميتها كعامل إضافي إيجابي في سبيكة المجتمع المصري المُوحد , وكان من الطبيعي بسبب سوء الإدارات السياسية التي تعاقبت علي حكم مصر منذ 1952 أن يُوجه قادتها الحديث إلي محدودي الدخل (والمعني الإصطلاحي لمحدودي الدخل لا يقتصر علي الفقراء وحدهم لكنه ينسحب أيضاً علي محدودي دخل الثقافة والضميروهم من منتجات مصانع الفساد التي أنشأها هؤلاء) بإعتبارهم الكتلة الأكبر من المجتمع المصري وهم أنفسهم الذين يقومون بتضليلهم بتصريح كهذا الذي يتعلق بقناة جونجلي فهو مثال من أمثلة لا تُحصي منذ إنقلاب 23 يوليو 1952 تتعلق بتضليل المجتمع المصري وإمداده بمعلومات مُضللة أو مُبتسرة عن الأزمات التي علي القادة والنخبة التصدي لها وحلها , إن إدارة الأزمات لا يمكن أن تكون ناجحة إلا بالشفافية والموضوعية وليس بالهروب إلي الخلف أوالقفز للأمام ,
إن ما أحاله موقع RT نقلاً عن صحيفة الأهرام القاهرة من أن مصادر عسكرية مصرية ” كشفت ” عن قيام القاهرة بمشروع ضخم في جنوب السودان بحفر قناة هناك تسمى مشروع قناة “جونجلي” التي ستوفر 30 مليار متر مكعب من المياه سنويا , الأمر الوحيد الجديد فيه هو أنه يُضيف إلي قائمة المشروعات المُستحيلة مشروعاً آخر فقد سبقه أعلانين عن مشروعين أحدهما أورده موقع صحيفة EYPTIAN STREETS عندما أشار في 13 فبراير 2017 إلي أن وزير الموارد المائية والري المصري أعلن عن إكتمال التقرير السنوي الذي يُلقي الضوء علي نتائج المراحل المُبكرة لدراسات الجدوي لمشروع ربط دول حوض النيل العشر بخط نقل نهري لمواعين النقل ذات الحجم الصغير والمتوسط وذلك علي طول مجري النيل بطول 4,000 كم يبدأ من بحيرة فيكتوريا بأوغندا وحتي ميناء الأسكندرية علي البحر الأبيض المتوسط بهدف دفع النبادل التجاري بين دول حوض النيل وتقويته, وذلك في مدي عام 2024, وهو المشروع الذي تناوله الرئيسان المصري والأوغندي في إطار المباحثات الثنائية التي تخللت الزيارة التي قام بها الأول لأوغندا والتي إستغرقت يوماً واحداً في 18 ديسمبر 2016 , والمشروع الآخر هو إستغلال المياه الجوفية بالجزء المصري من خزان الحجر الرملي النوبي لري مشروع ” المليون ونصف المليون فدان بالصحراء الغربية لمصر , وهو ما تحدث بشأنه المستشار الإعلامي لوزارة الري والموارد المائية عندما صرح لصحيفة ” الجريدة” الكويتية في28 ديسمبر 2017 بقوله ” أن إجمالي العجز السنوي لمصر من المياه , وما نتحصل عليه من مياه النيل والمياه الجوفية يقدر بـ80 مليار ” , مضيفا أن خزان الحجر الرملي النوبي يوفر لمصر كميات ضخمة من المياه الجوفية ، وأن حصة مصر من مياه نهر النيل ، إلى جانب المياه الجوفية التي يتم استخراجها توفر لها نحو 80 مليار متر مكعب سنويا ثم تصريح آخر أدلي به في ديسمبر 2017 أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بمعهد البحوث الأفريقية أشار فيه إلي ” أن جمهورية مصر العربية تعد المستفيد الأكبر من خزان الحجر الرملي النوبي في الزراعات الموجودة في منطقة الواحات ، بالإضافة إلى اعتمادها أيضا على ري نسبة 80% من مشروعات المليون ونصف فدان مشروع زراعة مليون ونصف المليون فدان في الصحراء الغربية إعتماداً علي المياه الجوفية ” , وكما سبق وأشرت عن وزير الري المصري قوله أن ما يمكن لمصر إستغلاله من المياه الجوفية لا يزيد عن 4,5 مليار متر مكعب/ عام وبتكلفة كبيرة بالطبع , وللأسف فإن هذه المشروعات الثلاث الإختلاف الوحيد بينها هو الإختلاف في درجة إستحالة التنفيذ , لكنها تتفق في كونها “مُستحيلة ” , وأنها دعائية محضة هدفها الوحيد مواجهة أزمة تتعلق ببقاء مصر بممارسة التضليل .
خاص – المركز الديمقراطي العربي – السفير بلال المصري سفير مصر السابق لدي النيجر وأنجولا وساوتومي وبرنسيب – القاهرة تحريراً في 8 فبراير 2018