استراتيجـية أمــــن الـــطاقــــة الروسية بشرق المتوسط في ظل التهديدات الأمنية بعد 2011
اعداد : أميـرة أحـمد حرزلي –
باحثة في العلاقات الدولية والدراسات المتوسطية ـ جامعة باجي مختار عنابة / الجزائر ـ
- المركز الديمقراطي العربي
مقدمة:
يُجمع الخبراء والمختصون في العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية على أن الطاقة أصبحت محرك مهم في السياسة الدولية، بحيث تعكس التوجهات الخارجية للقوى الكبرى في العالم، من حيث وفرتها، تصديرها والتأمين على مصادرها وشراؤها بأسعار مناسبة، ولعل المثال الروسي واضح في هذا الشأن، فقطاع الطاقة دعامة أساسية للأمن القومي الروسي داخليا وخارجيا وأداة مؤثرة في سياستها الخارجية والحضور الروسي في منطقة الحوض الأبيض المتوسط يترجم هذه الأهمية.
فمنطقة المتوسط لها أهمية جيوسياسية كبيرة في العالم وإحدى المناطق الحيوية والغنية بمختلف المواد الطاقوية التقليدية من نفط وغاز طبيعي، ما يُفسر التنافس المحتدم للقوى الكبرى سواء كانت الولايات المتحدة الامريكية أو روسيا، الصين، فرنسا … على هذه المنطقة.
تبحث هذه الورقة البحثية في استراتيجية أمن الطاقة الروسية ـ كقوة كبرى ـ في منطقة شرق المتوسط والدور التي تضطلع به الطاقة في توجهات السياسة الخارجية الروسية عموما في ظل انتشار التنظيمات الإرهابية والنزاعات المسلحة في شرق المتوسط منذ 2011، وعليه يمكن طرح الإشكالية على النحو التالي:
كيف تؤثر استراتيجية أمن الطاقة الروسية في منطقة شرق المتوسط في ظل التهديدات الأمنية الناتجة عن الحراك العربي منذ 2011 ؟
لتبسيط الإشكالية يمكن طرح التساؤلات التالية:
- ما هو مفهوم أمن الطاقة عموما في العلاقات الدولية لروسيا خاصة ;
- كيف تبدو البـيـئة الأمـنـية الجـيـوسـتـراتـيــجـية فـي شـرق المتوسط ;
- ماهـي مــعــطـيـات الـطـاقـة فـي مـنـطـقـة شرق البحر المــتـوســط ;
- ماهي اسـتـخـدامـات روســيا الطــاقـــويــة فــي شـــرق الــمـتـوسـط.
نختبر الفرضيات التالية:
- يبدو أن مفهوم أمن الطاقة يتعلق بالبحث عن مصادر الطاقة المختلفة وتأمينها ;
- تمدد الإرهاب وتفجر النزاعات العنيفة تجعل الامن منعدم في شرق المتوسط ;
- مـــؤشـــرات الـطـــاقــة فـي مـنـطــقــة الـمـتـوســـط إيـجـــابـــيـــة وواعـــدة;
- التمركز الروسي في منطقة المتوسط تعززه الاكتشافات الطاقوية الجديدة فيها.
أهداف وأهمية الدراسة:
تكمن أهداف وأهمية الورقة البحثية في تسليط الضوء على محورية أمن الطاقة الروسي في توجهاتها الإقليمية والدولية وتحديدا منطقة شرق المتوسط ذات الاهمية الاستراتيجية، بالإضافة إلى دور الطاقة في العلاقات الدولية على اعتبار أن الحروب والنزاعات في الراهن وفي المستقبل هدفها تأمين الموارد المائية و الطاقوية ) النفط و الغاز الطبيعي ).
خطة البحث وتشمل المحاور التالية:
- مــــفــــــهــــــوم أمــــن الـــطـــاقــــة / أمــــن الـــطــــاقـــــة الـــــروســــــي ;
- البـيـئة الأمـنـية الجـيـوسـتـراتـيــجـية فـي شـرق البـحـر الأبــيــض المـتـوسـط ;
- الـمـعــطـيات الـطـاقـويـة الــجـديـدة فـي الــشــرق البحر الأبـيـض المـتوســـط ;
- استراتيجية أمن الطاقة الروسية في شرق المتوسط: المــضــمـون والـمتغـيـرات.
- مفهوم أمن الطاقة / أمن الطاقة الروسي
تعتبر الطاقة من المفاهيم المتداولة والشائعة ورغم ذلك لا يوجد تعريف جامع مانع لها، فقد أشار ريتشارد فينمان Richard Feynman الحائز على جائزة نوبل، في كتابه التقليدي ” محاضرات حول علم الفيزياء Lectures on Physics إلى هذه الحقيقة بأسلوب بليغ قائلا ” من المهم أن ندرك انه في علم الفيزياء اليوم، أنه ليس لدينا أي معرفة بماهية الطاقة “[1] ولكن يمكن القول بتعبير بسيط أنها كمية فيزيائية تظهر على شكل حرارة أو شكل حركة ميكانيكية أو هي قدرة المادة على إعطاء قَوى قادرة على إنجاز عمل معين، و بالتالي تمدنا الطاقة) الفحم، الكهرباء، الحرارة، النفط ، غاز طبيعي …( بالنور و الدفء وتنقلنا من مكان إلى آخر، و تتيح لنا استخراج طعامنا من الأرض و تحضيره و تضع الماء بين أيدينا و تدير عجلة الآلات الصناعية والفلاحية[2].
أما أمن الطاقة فهو مفهوم حديث نسبيا، إذ يعد رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل أول من طرحه، حيث أشار إلى أن ” أأأمن الطاقة يكمن في التنوعVarity و التنوع فقط ” أي من حيث مصادر الطاقة و أنواعها ومنتجيها ومصدريها [3]، ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن مازال التنوع هو المبدأ الحاكم لقضية أمن الطاقة.
هناك تعريفات عدة لمفهوم أمن الطاقة يمكن تقسيمها إلى عدة اتجاهات، فهناك من ركز على تأمين الدخول لمصادر الطاقة، أي أن هذا الفريق يركز على الاقتراب التقليدي القائم على أمن الامدادات ” تأمين الدخول للنفط والأنواع الأخرى “، أما الرأي ثاني فقد ركز على ثلاثية السعر والعرض والطلب ويعرف أمن الطاقة على أنه ” الحالة التي تتمكن فيها الدولة من الحصول على كميات كافية من مصادر الطاقة التقليدية وذلك عند أسعار يمكن دفعها”، مضيفا أن أمن الطاقة يتحقق من خلال إدارة الطلب على الطاقة وزيادة عرض مواردها. في المقابل يرى الرأي الثالث أن أمن الطاقة جزء لا يتجزأ الامن القومي للدول، لذا يُحلل في إطار ثلاث مكونات وهي المكون الثقافي والاجتماعي، والمكون السياسي والاقتصادي والمكوَن التكنولوجي العسكري، ومكونات الطاقة تتفاعل مع تلك المكونات لتخلص إلى أن هناك علاقة بين السياسات المحلية والسياسة الخارجية والسياسة الدولية.[4]
وفي اجتماع مجموعة الثماني عام 2006 في سان بطرسبوغ الروسية تم تعريف أمن الطاقة على أنه ” تأمين سلسلة عرض الطاقة بدءا من اكتشاف مصادرها ثم إنتاجها الي نقل منتجاتها”[5]. يمكن فهم وترجمة أمن الطاقة الروسي في إطار التحركات الروسية في مجال الطاقة مع اعتلاء الرئيس فلاديمير بوتين السلطة 2000 ونجدها تتمحور حول المحاور التالية[6]:
- محاولة استعادة ما فقدته الدولة الروسية من مصادر النفط والغاز الطبيعي لصالح الشركات الروسية والغربية ;
- ضمان السيطرة على خطوط نقل الطاقة في المنطقة والحيلولة دون انشاء خطوط جديدة لا تمر عبر روسيا أو لا تكون روسيا شريكا فيها ;
- تزيد التوظيف السياسي لمصادر الطاقة في السياسة الخارجية الروسية لتحقيق اهداف استراتيجية وتكتيكية متمثلة في توسيع مجال تأثير سياستها الخارجية لاستعادة ميراثها السوفيتي المفقود وتطوير احتكار اقتصادي عبر الاستثمارات الأجنبية الموجهة، ابعاد التوسع الغربي عن مناطق النفوذ الروسي والحد من الهيمنة الامريكية من خلال تقييد العلاقات الأوروبية الامريكية.
انطلاقا مما سبق يمكن القول إن أمن الطاقة يهدف إلى تأمين مصادر الطاقة والوصول إليها بمختلف أنواعها والتنويع في منتجيها ومصدريها، يتحقق الأمن الطاقوي من خلال العرض والطلب والأسعار المناسبة، من جهة اخرى الامن الطاقوي له أبعاد متداخلة اقتصادية وتكنولوجية، سياسية وجيوستراتيجية، اجتماعية وثقافية ….
أما بالنسبة إلى أمن الطاقة الروسي فهو لا يتجزأ من أمنها القومي ودعامته الأساسية وأداة مهمة في تأثير سياستها الخارجية، على اعتبار ان روسيا مصدر للخامات الطبيعية للدول الأخرى، وهذا التموضع أصبح المحدد الأساسي لوضع روسيا الجيوبوليتيكي، وهو الذي يحقق الاكتفاء الذاتي لها من الطاقة ما دامت الخامات موجودة بشكل طبيعي على أراضيها[7].
تقود السياسة الطاقوية في روسيا العديد من الشركات الحكومية والخاصة وأبرزها شركة ” غازبروم Gazprom ” الحكومية التي تشرف على كبرى الاستثمارات الطاقوية الروسية في داخل روسيا وخارجها وتقود الاقتصاد الروسي بالكامل فغاز بروم تمثل حسب الرئيس فلاديمير بوتين ” البنية التي يرتكز عليها نمونا الاقتصادي، في الراهن أصبح الغاز في روسيا بسعر اقل من سعر التكلفة الي يؤكد بشكل ملحوظ ان النمو الاقتصادي للقطاعات الأخرى مرهونا بهذا القطاع الحيوي”[8].
تركز سياسة أمن الطاقة الروسي في مجملها على عدة أليات عملية واقعية تضمن من خلالها تأثيرها الاستراتيجي محليا وإقليميا وعالميا من خلال إقامة تعاون وتنسيق دائمين مع كبار منتجي الطاقة في منظمة الأوبك وتحديدا دول الخليج في مقدمتهم المملكة العربية السعودية. بالإضافة الى ذلك تعمل روسيا على تنمية صادراتها من الغاز والنفط ودعم التنافسية الاقتصادية في مجال الطاقة في الخارج خاصة الاتحاد الأوروبي، بدون أن ننسى السعي الحثيث للوصول لطرق وشبكات الطاقة البديلة والمحتملة كاسيا الوسطى[9] والبحر المتوسط وبسط نفوذها عليها.
2 . البـيـئة الأمنـية الجـيـوسـتراتـيـجية فـي شرق البحر الابيض المـتـوسـط
تعتبر منطقة شرق المتوسط من المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية الكبرى في العالم، حيث انها ملتقى الحضارات والديانات السماوية واكتسبت أهمية أكبر في الراهن بعد الاكتشافات الطاقوية الجديدة ” الغاز الطبيعي” على سواحل الدول الشرقية المطلة على البحر المتوسط ، وهذا من شأنه تصعيد وتحفيز الصراع وتدخل القوى الإقليمية والدولية ، وتعد منطقة شرق المتوسط منطقة تنافس ونفوذ وصراعات متواصلة منذ قرون وصولا الى التحولات الجيوستراتيجية التي تشهدها المنطقة منذ 2011 والتبعات الخطيرة للحراك العربي من أزمات وصراعات إقليمية، قوس الازمات السياسية والحدودية في شرق المتوسط يشمل تركيا حتى البلقان وشمال افريقيا حتى الشام التي تضم فلسطين المحتلة وسوريا والعراق ولبنان، بحيث تتداخل فيها المحددات التاريخية والحضارية والدينية بالإضافة الى العوامل السياسية والعسكرية والاقتصادية[10].
تبدو البيئة الأمنية في حوض المتوسط وفي الجزء الشرقي منه تحديدا هشة منذ 2011 وما نتج عن الحراك العربي من مخاطر أمنيه دولاتية وما دون دولاتية نذكر منها سقوط الأنظمة الحاكمة والمؤسسات السياسية والعسكرية في كل من تونس وليبيا ومصر، انتشار فوضى السلاح والتنظيمات الإرهابية الخطيرة ” كتنظيم داعش وجبهة النصرة وما يتفرع عنهما ” في سوريا والعراق وليبيا، فقد خلَف الإرهاب في تلك الدول الالاف من القتلى والجرحى و المفقودين في صفوف المدنيين، و الالاف من اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين الذين يعبرون يوميا البحر الأبيض المتوسط الى أوروبا بحثا عن الاستقرار و العيش الكريم.
3 . الـمـعــطـيات الـطـاقـويـة الــجـديـدة فـي الــشــرق البحر الأبـيـض المـتوســـط
أدلى صحبت كاربوز Sohbet Karbuz مدير شعبة الهيدروكربونات في المرصد المتوسطي للطاقة ) نانتير( Méditerranean Observatory For Energy ( Nanterre) ” أن منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط في طريقها لان تصبح منطقة هامة لاستخراج الغاز الطبيعي، و إذا تم تطوير موارد المنطقة وفق وقت وطريقة مناسبين فانها قد تغير بشكل كبير من وضع الطاقة على نطاق واسع في منطقة البحر الأبيض المتوسط “.[11]
اذن أصبحت الطاقة عامل مهم في رسم التوازنات الإقليمية والدولية في شرق المتوسط نظرا لوجود العديد من الحقول الغازية التي تقع قبالة سواحل قبرص وتركيا وفلسطين المحتلة، والكيان الصهيوني ولبنان. وقد أظهرت شركة نوبل للطاقة، ان حقل أفروديت يحتوي على بين 142 الى 227 مليار متر مكعب من الغاز، وهو ما يقدر قيمته 45 مليار دولار بالسعر العالمي، ويمكنها ان تحول البلاد من دولة مدينة الى دولة مصدرة للطاقة، وقد صرح الرئيس التركي السابق عبد الله غول في العاشر من ماي 2013 في مؤتمر بإسطنبول ان ” اكتشافات الغاز في شرق المتوسط يمكن ان تساهم بصورة كبيرة في حل المشكلات السياسية في المنطقة، وأضاف: اعتقد ان اية مشاريع متعلقة بمصادر الطاقة في شرق المتوسط يجب ان نشرك جميع دول المنطقة، بما في ذلك مصر و لبنان و إسرائيل و شطر قبرص و تركيا لحل المشكلات السياسية”، في إشارة واضحة لمحاولة احتواء الصراعات المتوقعة على ترسيم الحدود البحرية بين دول المنطقة ونزع فتيل الازمات بها قبل تطورها الى صراعات إقليمية، وقد اكتشف الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة العديد من حقول الغاز بها ندكر منها [12] :
الجدول يمثل حقول النفط والغاز الطبيعي في فلسطين المحتلة
اسم الحقل | نوح وماري ـ ب | تامار | دالت | لفياثان |
حجمه | 1. 2 تريليون قدم مكعب أي ما يعادل 32 مليار متر مكعب. | 9 تريليون قدم مكعب أي ما يعادل 250 مليار متر مكعب. | 0.5 تريليون قدم مكعب أي ما يعادل 15 مليار متر مكعب. | 18 تريليون قدم مكعب أي ما يعادل 453 مليار متر مكعب. |
سنة الاكتشاف | 1999 | جانفي 2009 | افريل 2009 | جوان 2010 |
سنة الإنتاج | 2001 | افريل 2013 | غير معروف | 2016 |
الشركات المستغلة | ديليك للطاقة
نوبل للطاقة |
ديليك للطاقة
نوبل للطاقة دورغاز للتنقيب واسرامكو |
ديليك للطاقة
دورغاز للتنقيب واسرامكو |
ديليك للطاقة
نوبل للطاقة واسرامكو
|
المصدر: محمد سليمان الزواوي، بحر النار تصاعد محفزات الصراع شرق المتوسط، الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 2015، ص73.
أجرت الولايات المتحدة الامريكية في مارس 2010 مسحا جيولوجيا أسفر عن تقييم يتعلق بإمكانية وجود مورد غير مكتشف للنفط والغاز في منطقة حوض بلاد الشام شرقي البحر الأبيض المتوسط، وتغطي المنطقة أراض في البحر، بما فيها التي تنتمي لفلسطين المحتلة والكيان الصهيوني ولبنان، سوريا، قبرص.
حسب الدراسة تقدر موارد النفط و الغاز الطبيعي ( ( NGLs غير المكتشفة القابلة للاستخلاص تقنيا في حوض بلاد الشام بحوالي 5.3 مليار برميل، على أي حال، الامر الذي يجعل هذا الحوض مهما هو الكميات الهائلة غير المكتشفة من موارد الغاز الطبيعي التي تقدر بحوالي 3 .450 مليار متر مكعب. كذلك بوضح مسح أمريكي (USGS)اخر ان منطقة حوض دلتا النيل التي تشمل دلتا النيل قبالة السواحل المصرية في البحر الأبيض المتوسط تحتوي على ما بقدر بنحو 6.320 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي غير المكتشف القابل للاستخلاص تقنيا و 7 .6 مليار برميل من النفط و سوائل الغاز الطبيعي وهذا أكثر بكثير من الاحتياطي الحالي المؤكد من النفط و الغاز في مصر وحتى الان يقدر اضخم مورد في منطقة البحر الأبيض المتوسط.
هذه الاكتشافات لم تعزز التصورات حول احتمال وجود غاز في منطقة شرق المتوسط بشكل كبير فقط وحسب، لكنها رفعت من توقعات احتياطي المنطقة الهيدروكربونات في المستقبل، وبطبيعة الحال، فان المنطقة قد أصبحت كواحدة من أبرز الأسواق الاستكشافية الواعدة، وعليه تتسابق البلدان في المنطقة لتأمين حصتها من هذه السوق الواعدة.
- 4. استراتيجية أمن الطاقة الروسية في شرق المتوسط : المــضــمـون والـمتغـيـرات
روسيا من القوى العظمى التي وضعت ثقلها العسكري والجيوسياسي في شرق المتوسط لعدة اعتبارات أهمها الوصول الى المياه الدافئة و التمركز فيها و إعادة دورها العالمي ومحاولتها صياغة نظام دولي متعدد الأقطاب يتماشى مع امكانياتها و مصالحها، لهذا يمكن اعتبار الاستراتيجية الروسية في مجملها وخاصة في مجال الطاقة ذات طابع دفاعي من حيث المضمون[13]، ولعل مؤشرات ذلك بدأت من التحرك الروسي السريع في سوريا للدفاع عن مصالحها الطاقوية ، على اعتبار أن الصراع المحتدم في العالم اليوم، يأخذ شكل الصراع على موارد الطاقة ،حسب ما كشفته موسكو في وثيقة الامن القومي لروسيا حتى عام 2020 و التي تضمنت توقعات متشائمة، اذ اعتبرت أن العالم سيشهد حروبا على موارد الطاقة خلال السنوات المقبلة وأن الصراع على موارد الطاقة سيشهد تحولا نحو استخدام القوة العسكرية، وأن هذه الحروب ستندلع قرب حدود روسيا أو حدود حلفائها[14].
أبرز حلفاء روسيا اليوم في شرق المتوسط سوريا، فمنذ 2011 تمر بأعقد نزاع مسلح تعرفه المنطقة والعالم، تدخلت روسيا عسكريا في سوريا عام 2015 لدوافع سياسية وأمنية معلنة أبرزها حماية النظام السوري من الانهيار بالتالي منع تقسيم سوريا والحفاظ على وحدة أراضيها، فضلا عن الوقف المسبق لانتقال التنظيمات الإرهابية الخطيرة كـ ” داعش والنصرة…” وتمددها نحو المجال الأوراسي، ولا تقل الدوافع الاقتصادية والجيوستراتيجية شأنا عن سابقاتها، حيث أنه بمجرد التمعن في الجغرافيا السورية سنكتشف لماذا تهتم روسيا بسورية، حيث ان هذه الاخيرة بها العديد من طرق وحقول الغاز الطبيعي والنفط كما هو موضح في الخاريطتين التاليتين:
تظهر الخريطة الأولى خطان للغاز الطبيعي متقاطعان الأول باللون الأحمر (A) يمثل خط الغاز القطري ـ التركي[15] من حقل غازي في الخليج العربي عبر السعودية مرورا بالأردن وسوريا ثم تركيا ليستقر بأوروبا، اما اللون الأزرق) B ) في يمثل خط الغاز الإيراني ـ السوري الذي ينطلق من الحقل الغازي المشترك مع قطر في الخليج العربي مرورا بإيران و العراق ثم سوريا ليستقر في لبنان على سواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط.
انطلاقا من معطيات الطاقة السابقة في شرق المتوسط تنبهت روسيا لهذه الحقيقة واخذت على عاتقها الانخراط في عمليات التنقيب والبحث عن ابار جديدة للطاقة في سوريا، فقد دخلت شركة ” تاتنفت Tatneft” الروسية السوق السورية من خلال مشروع تطوير في حقل ” قيشام الجنوبي Kisham South “بالقرب من مدينة دير الزور، الذي يحتوي ما يقارب 4. 9 ملايين طن من النفط ، كذلك حصلت الشركة الروسية ” سيوز نفط غاز Soyuzneftegaz ” عام 2013 على مناقصة حصرية للتنقيب على احتياطات الغاز البحرية و تطويرها في منطقة الامتياز 12 والحدود السورية التركية، ومنذ ذلك الوقت أوقفت الشركتان عمليتهما بشكل مؤقت بسبب التهديدات الأمنية، ويتوقع عودة نشاطهما بعد استتباب الامن في سوريا بحسب ما أفادت به المديرة التنفيذية لاتحاد منتجي النفط و الغاز الروسية ” غيسا غوتشل Gissa Gutchel ” في عام 2015 انه ” عندما يتوقف القتال و يستقر الوضع في سوريا، ستكون الشركات الروسية مستعدة لاستئناف نشاطها بسرعة تنفيذا للعقود المبرمة قبل الحرب و التي تقدر ب 1 . 6 مليار دولار على الأقل”. [16]
وبالنظر لمجريات الحرب في الميدان العسكري السوري عادت الحكومة السورية بسط نفوذها على العديد من المناطق الاستراتيجية التي سيطرة عليها سابقا الإرهاب ” تنظيم داعش “، وبدأت شركات الاستثمار الطاقوية الروسية تعود من جديد لاستئناف نشاطها. وفي فيفري 2016 سافر وفد سوري لموسكو للاجتماع بوزير الطاقة الروسي وعدد من رجال الاعمال الروس، طلب فيها الوفد السوري المساعدة من روسيا في إعادة اصلاح المنشآت الطاقوية المدمرة، فقد صرح وزير الخارجية السوري وليد المعلم ” ان بلاده مستعدة لتقديم كافة التحفيزات الممكنة للشركات التي تساهم في إعادة الإصلاح “، وقد عرضت الحكومة السورية في جويلية 2017 قيمة 25 % من أرباح حقول النفط والغاز المحررة من ” تنظيم داعش ” على شركة ” ايفروبوليس Evro Polis” [17].
جدير بالذكر ان روسيا ليست الفاعل الوحيد في منطقة شرق المتوسط، فالشركات الروسية تواجه منافسة قوية من قبل قوى اقليمية كإيران وتركيا اللتين تضطلعان بنفوذ واسع في المنطقة، فإيران لديها خط أنابيب ينطلق منها ويمر بالعراق ثم سوريا وينتهي بالأردن، اما تركيا فترتبط حقولها الغازية بالجغرافيا السورية انطلاقا من مصر مرورا بالأردن ثم سوريا وانتهاءا تركيا في الخط المعروف ب ” الغاز العربي”، وهذا التشابك في خطوط الطاقة في المنطقة لا يمكن ان تكون روسيا بعيدة عنه، بل تسعى دائما للانخراط فيه لعدم الاخلال بمصالحها بحسب الباحث الروسي ” جيف مانكوف Jeff Mankoff ” الذي يرى ان روسيا تحرص على عدم اقدام اطراف أخرى على زيادة امداداتها بطريقة تنافس الروس”، وبالتركيز على الجيوبولتيك السوري كمركز ثقل لتجميع و نقل النفط و الغاز للدول الأخرى تحرص روسيا على ان يكون حضورها في المشاريع الطاقوية في هذه المنطقة كشريك و ليس كمنافس، والتحفيزات السورية للشركات الروسية في هذا الشأن تجعل من أي دولة تدرس احتمال شحن منتجاتها النفطية عبر المرافئ و الموانئ السورية تضطر للتفاوض مع روسيا بشكل مباشر او غير مباشر.
يساعد التمركز الروسي في سوريا والاستثمار في الطاقة هناك في ضمان مصالحها في دول الجوار أيضا كالعراق حيث وقعت ” سترويترانسغاز Stroytransgaz” اتفاقا مع الحكومة العراقية يقضي بإعادة بناء خط انابيب كركوك ـ بنياس الذي سيربط حقول ” لوك أويل Lukoil” بالقرب من البصرة وحقول “غاز بروم Gazprom” قرب ميناء كركوك بميناء بنياس السوري على بعد 35 كيلومتر مربع شمال منشأة روسيا البحرية في طرطوس، لكن تبقى المخاطر الإرهابية والتهديدات الأمنية في سوريا والعراق تحول دون البدء الفعلي في هذا المشروع الواعد.
خاتمة
نستخلص في ختام هذه الورقة البحثية الموسومة باستراتيجـية أمــــن الـــطاقــــة الروسية بشرق المتوسط في ظل التهديدات الأمنية بعد 2011 ان متغير الطاقة عامل أساسي في توجهات السياسية الخارجية الروسية وأداة تأثير فعالة إقليميا ودوليا.
تضطلع روسيا بدور نشيط في شرق المتوسط خاصة في النزاع السوري المسلح سياسيا وعسكريا اقتصاديا والاكتشافات الطاقوية الجديدة على طول الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط تعزز من الحضور الروسي كشريك لإيران وتركيا في العديد من الاستثمارات الطاقوية.
تمثل البيئة الأمنية غير المستقرة في شرق المتوسط نتيجة النزاعات المسلحة وانتشار الإرهاب وفوضى السلاح أكبر التحديات التي تواجهها استراتيجية امن الطاقة الروسية في شرق المتوسط منذ يداية الحراك العربي 2011، ورغم ذلك تبقى استراتيجية أمن الطاقة الروسية تؤثر في شرق المتوسط من خلال نشاطها الدبلوماسي والعسكري اقليميا ودوليا لتسوية النزاع السوري مع تركيا وإيران والولايات المتحدة الامريكية بما يخدم مصالحها، والقضاء على الإرهاب بما يسمح من عودة الامن جزئيا للمناطق المحررة وإعادة اعمارها ، و بالتالي عودة رأسمال الأجنبي و الاستثمارات الطاقوية الروسية التي علقت نشاطها سابقا.
المراجع:
[1]ـ كارل بيلني، جيرارد ريد، لعبة الطاقة الكبرى، ترجمة: أسماء عليوة، القاهرة: مجموعة النيل العربية، 2014، ص 37.
[2]ـ عبد المطلب النقرش، الطاقة: مفاهيمها، أنواعها، مصادرها، عمان: مديرية التخطيط وزارة الطاقة والثروة المعدنية، 2005، ص 06.
[3]ـ مصطفى علوي، (خريطة جديدة: تحولات أمن الطاقة و مستقبل العلاقات الدولية)، السياسة الدولية، 18 / 01/ 2017 ، على الرابط الالكتروني التالي :
http://www.siyassa.org.eg/NewsContent/3/135/8769/
تاريخ التصفح: 05 / 09 / 2017 .
[4]ـ خديجة محمد عرفة، أمن الطاقة وآثاره الاستراتيجية، الرياض: جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، 2014، ص ص 59 ـ 60.
[5]ـ المرجع نفسه، ص 61.
[6]ـ المرجع نفسه، ص ص 177ـ 178.
[7]ـ الكسندر دوغين، أسس الجيوبوليتيكا: مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي، تر: عماد حاتم، طرابلس: دار الكتاب الجديدة المتحدة، 2014، ص 322، 323 .
[8] Liliana Trofim , Le Secteure énergétique de la Russie entre économique et politique , Diplôme des Hautes Etude Européennes et International , Center International de Formation Européenne , 2009 , P 15 .
[9] ـ نورهان الشيخ، سياسة الطاقة الروسية وتأثيرا على التوازن الاستراتيجي العالمي، القاهرة: المركز الدولي للدراسات المستقبلية والاستراتيجية، 2009، ص 10ـ 12.
[10]ـ محمد سليمان الزواوي، بحر النار تصاعد محفزات الصراع شرق المتوسط، الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 2015، ص 05 ـ 07.
[11]ـ صحبت كاربوز، موارد الغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط: التحديات و الفرص، في الكتاب المتوسطي (المتوسطي 2012)، عمان : دار فضاء للنشر ، 2012 ، ص 214.
[12]ـ محمد سليمان الزواوي، مرجع سابق، ص 70ـ 73.
[13]ـ احمد حلواني، ” أمن البحر المتوسط و الافاق المستقبلية من وجهة النظر العربية “، مداخلة في الملتقى الدولي الجزائر و الامن في منطقة المتوسط: واقع و افاق، قسنطينة: جامعة منتوري، يومي29ـ30 أفريل، 2008 ، ص265.
[14]ـ وردة عيد، صراع القوى العالمية حول مناطق الطاقة، القاهرة: المكتب العربي للمعارف، 2013، ص 226.
[15] Roland Lombardi, Guerre en Syrie et Géopolitique du Gas , 05/03/2013, On Line :
http://www.riskenergy.fr/p/geopolitique.html#G26
[16] Nikita Sogoloff , Russia’s Energy Goals in Syria , The Washington Institute for Near East Policy , 30/08/2017, On Line :
www.washingtoninstitute.org [17] Ibid
- خاص – المركز الديمقراطي العربي