الاستبداد من عيون الكواكبي واتيان دي لابواسيه
اعداد الباحث : برا سنان – المركز الديمقراطي العربي
في سياق تشريح الاستبداد ونقده لن نجد في نظرنا المتواضع أفضل من الكواكبي نموذجا لفضح الاستبداد وتعريته، فكتابه باعتباره معالجة ” للمسالة الاجتماعية التي يعاني منها الشرق”، المسألة التي كثر فيها القول في مصر، الوطن الذي استضاف الكواكبي وفيه نشر كتابه “طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد”، بل وعم القول في المسألة في أقطار أخرى كسوريا بلده الأصلي ولبنان. لذلك فأن ما أصاب هذه المنطقة من انحطاط وتأخر كان يحفزه كمعظم كتاب عصر النهضة ومصلحيه، النهضة التي سادت أوروبا من جهة ومن جهة أخرى قياس هذه الفترة مع العهود التي خلت[1].
في مقدمة الكتاب يعلن عن أصل الداء قائلا:” كل يذهب مذهبا في سبب الانحطاط وفي ما هو الدواء، وحيث إني قد تمحص عندي أن أصل هذا الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية” ويحاول إثبات عمق نظره وتصوره وما استلزمه من وقت للموافقة على ان اصل داء المسألة الاجتماعية هو الاستبداد السياسي الا بعد “عناء طويل” ليصل لهذه النتيجة” وقد استقر فكري على ذلك_كما أن لكل نبأ مستقرا_ بعد بحث ثلاثين عاما… بحثا أظنه كاد يشمل كل ما يخطر على البال من سبب يتوهم فيه الباحث عند النظرة الأولى، أنه ظفر بأصل الداء أو بأهم أصوله، ولكن لا يلبث له أن يكشف له التدقيق أنه لم يظفر بشيء. أو أن ذلك فرع لأصل. أو هو نتيجة لا وسيلة”[2].
وتقوم منهجية الكواكبي في الكتاب عن طريق الوصف والتحليل عبر السلب ومن خلال تقديم المرادفات والمقابلات لا بطريق السبر والتقسيم أو الاستدلال والاستنباط كما هو الحال في الطرق المنطقية على اختلافها، ونستدل على ذلك بتعريفين: أولهما تعريف السياسة وثاني المفهومين، مفهوم الاستبداد[3]
حيث عرف الاستبداد عبر المرادفات من استعباد واعتساف وتسلط وتحكم وعرفه عن طريق الأضداد فجعل ضد الاستبداد المساواة وحس مشترك وتكافؤ وسلطة عامة ،وعرفه وصفيا بقوله:” الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلا أو حكما التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين”.[4] وكذلك هو الأمر بالنسبة للسياسة فهي وان كانت” إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة” فان الاستبداد السياسي أو السياسة الاستبدادية تصبح: “التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى”. ويقوم الاستبداد على وسيلتين عظيمتين يجعلهما في خدمته وهما جهالة الأمة والجنود المنظمة وهما اكبر مصائب الأمم وأهم معائب الانسانية .
ويصور لنا الكواكبي المستبد باعتباره عدوا للحق والحرية وقاتلا لهما ويؤكد على مسؤولية العلماء في استنهاض الهمم والدعوة إلى الاستيقاظ من النوم الذي قد يصير موتا للأمة التي تركها علمائها ومثقفوها عرضة لنبش ونهش الاستبداد وهو بطبعه شرير يجنح إلى الشر اختيارا ولا يجنح إلى الخير إلا اضطرارا، كما يود المستبد أن تكون رعيته كالغنم في طاعتها والكلاب في تملقها ويود الكواكبي لو تغيرت الحالة من الرعية المجبولة على الطاعة إلى الخيل التي تبادل الفعل برد الفعل، فهي وبتعبيره أن خدمت (بضم حرف الخاء) خدمت وان ضربت شرست، ويود الكواكبي لو أن الرعية صارت صقورا لا تلاعب[5] وهو في هذه الاستعارة يعاكس التصور السلطاني، الذي رأيناه سابقا[6] وحسب الآداب السلطانية أن الرعية هي الجيفة وان السلطان هو النسر، بل وكيف وصل التنظير السلطاني إلى جعل الرعية جسدا بلا روح بل ولولا وجود السلطان لما وجدت الرعية.
الكواكبي يكشف أصول وجذور الاستبداد ويناصر الرعية، ويقف حليفا لها مناصرا عن قضاياها وينزع بساط السلطة من تحت أقدام السلطان قائلا:”نعم على الرعية أن تعرف مقامها هل خلقت خادمة لحاكمها تطيعه إن عدل أو جار، وخلق هو ليحكمها كيف شاء بعدل أو اعتساف، أم هي جاءت به ليخدمها لا ليستخدمها !”[7]. ويساهم بشكل مقتضب في التنظير لمبدأ الفصل بين السلطات،ذلك الفصل المرن، الذي يقتضي تبادل المراقبة بين السلطة التشريعية والتنفيذية وتقييد الأمة بالحكومة ويرجح أن تكون مصادره في هذه الفكرة كتابات الطهطاوي أو خير الدين التونسي اللذين أشارا إلى هذا التطور وأشادا به في مؤلفاتهما والكواكبي لم يجهل ذلك وفي معرض التوضيح يقول” أن الاستبداد لا يرتفع ما لم يكن هناك ارتباط في المسؤولية.فيكون المنفذون مسئولين لدى المشرعين. وهؤلاء مسؤولون لدى الأمة.تلك الأمة التي تعرف أنها صاحبة الشأن كله، وتعرف أن تراقب وأن تتقاضى الحساب”. وفي هذه الفقرة اقتباس واضح عن أفكار الطهطاوي في معنى السلطات وتقسيمها وفي تحديده لسلطة القانون كما اقتبسها هذا الأخير في كتابه” تخليص الإبريز في تلخيص باريز”، عن الميثاق الدستوري الفرنسي[8].
وفي سياق تحليل الاستبداد يذكر أفلاطون أن الاستبداد ليس هو استيلاء شخص واحد على الحكم، أو تحكم فرد واحد في قرارات المجتمع، بل هو نمط معين من الشخصية التي تتكاثر لتصبح قوة اجتماعية تستولي على الحكم، فينتخب المستبدون أكثرهم استبدادًا، ومن ثم، فإن الاستبداد لا يفرض على المجتمع فرضًا، وإنما هو اختيار اجتماعي. هذه الشخصية الاستبدادية هي مقلوب الإنسان الطبيعي، فإذا كان هذا الأخير كائن عقلاني، فإن الشخصية المستبدة تخضع لأهوائها وشهواتها، وهو عبد لذاته وهو عبد للآخرين، وهو لا يعرف شكل العلاقات الأفقية، فلا يعرف معنى الصداقة ولا يعرف معنى الحرية، ولا يستطيع أن يدخل في علاقات اجتماعية أفقية، فحينما يكون ضعيفًا، فهو متزلف ومتسلق ووصولي خاضع، فإذا ما تغير الوضع وصار في موقع السلطة فهو طاغية متكبر متأله، يصدق هذا على نمط الشخصية ونمط الحكم الاستبدادي[9].
والواضح أن الكواكبي مستميت في فضح الاستبداد وأعوانه وتجلياته وأسبابه وترابطاته وأثاره على المجتمع، فهو حينما يتحدث عن الاستبداد الديني وعلاقته بالاستبداد السياسي يقول ” صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان” فالاستبداد الديني حاكم على القلوب والأخر على الأجسام، وهما أخوان أبوهما التغلب وأمهما الرياسة، ويفرق بين تعاليم الإسلام الحقة وما صار عليه الوضع:” وليس من العذر شيء أن يقولوا نحن لا ندرك دقائق القران نظرا لخفائها علينا في طي بلاغته ووراء العلم بأسباب نزول آياته وإنما نبني نتيجتنا على مقدمات ما نشاهد عليه المسلمين منذ قرون إلى ألان من استعانة مستبديهم بالدين”، ويتكأ الاستبداد السياسي على استغلال النص الديني ،بل ومشاركة المقدس في صفاته، ذلك ما يوافق عليه ويذهب إليه قائلا” انه ما من مستبد سياسي إلى الآن لا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله أو تعطي مقام ذي علاقة مع الله”، والدين يهذب السياسة، والسياسة تؤثر في الدين، فبينهما علاقة متى وجد أحدهما في أمة حر الأخر إليه، ومتى صلح احدهما ضعف الثاني، كما لا يتوانى في فضح الكهنوت الديني الإسلامي والسلطة الفقهية التي تؤبد الاستبداد وتؤيده عبر الاستشهاد بالنصوص الدينية، حيث يعود لبعض الآيات ويقوم بإعادة تأويلها بطريقة تخدم توجهه الفكري، فعلماء الاستبداد كما يسميهم، جعلوا مثلا قوله تعالى “إن الله يأمر بالعدل”،تعني أن الله يأمر بالحكم وهذا في نظره تحريف لكلام الله، ويعني العدل هنا التسوية ويستنكر كيف يقبلون شهادة الأمراء الظالمين مع أنهم عددوا من لا تقبل شهادتهم لسقوط عدالتهم فذكروا حتى من يأكل ماشيا في الأسواق ![10] وهو لهذا يشنع عليهم فعلتهم ويدعوا لنقدهم وفضحهم وعدم اتباع سعيهم ولا نهج سيرهم .
في صحبتنا لكتاب الكواكبي وحينما وقفنا على الفصل الذي يناقش فيه علاقة العلم بالاستبداد، تذكرنا مثلا شعبيا مغربيا تعلمناه في الصغر ونحن إلى اليوم وكلما طال بنا العمر الزمني و الفكري نحس بعظمة فحواه وروعة أثره في الحياة الإنسانية،و هو “العلم نور والجهل عار”، ويخلص الكواكبي أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان، فكل إدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم وحصر الرعية في حالك الجهل[11].
العلم فضاح للشر حسب تعبيره ويحلل أي أنواع العلوم تخيف المستبد، ليجيب عن سؤاله بكون المستبد ترتعد فرائصه من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع والسياسة المدنية والتاريخ المفصل والخطابة الأدبية وكل علم يكبر النفس ويوسع العقل ويعرف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها وكيف الطلب وكيف النوال وكيف الحفظ.
وإذا كان الكواكبي انتقد رجال الدين في الفصل المعنون بالاستبداد والدين ، فانه وفي الفصل المتعلق بالاستبداد والعلم ما ينفك أن يوجه سهام النقد اللاذع للمثقفين المتملقين اللذين يسد أفواههم بلقيمات من فتات مائدة الاستبداد[12]، ويحبذ الكواكبي المجد ويدعوا إليه معاشر الأحرار، ويذم التمجد، وهو يعرفه بكونه:” أن ينال المرء جذوة نار من جهنم كبرياء المستبد ليحرق بها شرف المساواة في الإنسانية”، وبعبارة أوجز وأوضح:”أن يصير الإنسان مستبدا صغيرا في كنف المستبد الأعظم”[13].
إذا كان الاستبداد بهذا السوء والمذلة والخسة والنذالة والاحتقار للنفس البشرية بل لنفس المستبد نفسه، فلم ترضى الرعية بهذا الأسلوب من الحياة ؟ فقد يعذر إذا المستبد لأنه يستلذ بملذات السلطة وثمارها العذبة، ويعذر المستبد لأنه ليس حكيما وأنى إن يكون له ذلك، يريد أن يحكم بالحكمة فهو يحكم بالهوى وبالجهل فينتج عن حكم الجهل وإتباع الهوى امتهان الناس وهدر حقوقهم إرضاء لنزواته الحسية والنفسية، وكما يقول ايتيان لا بويسي الطاغية سجين طغيانه ولا يستطيع التحرر من سجنه، فلا يمكن أن يغير سلوكه. ويذهب “لابويسي” إلى أنّه لا يمكن للحاكم العاقل الحر استعباد شعبه، إلا إذا كان يعيش حالة الاستعباد ذاته، فهو شخص غير طبيعي في خوف دائم من شعبه يلجأ إلى الترهيب والعنف لقمع الاحتجاجات والتمردات، ويسعى إلى تقوية سلطته بالقوة والحيل، والكذب والإعلام الفاسد، والمهرجانات المنحطة والحفلات الشعبية السخيفة، لتخدير الناس وتنويمهم، ويعيش في عزلة دائمة عن الناس، لا كرامة له ولا أخلاق، يمتاز سلوكه بالتعالي والاستعلاء، ويحث الناس على تقديسه والركوع له وعبادته، فهو فوق القانون وفوق التاريخ، ولا يمكن محاسبته أو مساءلته وكأنه إله يسمو فوق البشر. لكن هل تعذر الرعية ولماذا تقبل بهذا النمط من أسلوب تدبير الحياة السياسية وما يترتب على تداخل الشأن السياسي بشتى ضروب ومناحي الحياة ، تلك هي نوع الأسئلة التي حاول ايتيين دي لابواسيه[14] .
يسال صاحبنا ونسال معه، مع أن السؤال يحمل في طياته جوابا على السؤال” كيف أمكن هذا العدد من الناس، من البلدان، من المدن، من الأمم، أن يحتملوا أحيانا طاغية واحدا لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه، ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه، ولا كان يستطيع إنزال الشر بهم لولا إيثارهم الصبر عليه بدل مواجهته.”[15] فبعد أن يسال عن سبب طغيان الطاغية، يجيب بكون السبب الرضوخ الإرادي، هذا الأخير هو سبب ولادة أي طاغية” وكل هذا الخراب، هذا البؤس وهذا الدمار، يأتيكم لا على يد أعدائكم بل يأتيكم يقينا على يد العدو الذي صنعتم انتم كبره،والذي تمشون إلى الحرب بلا وجل من أجله ولا تنفرون من مواجهة الموت بأشخاصكم في سبيل مجده…أي قدرة له عليكم إن لم تكونوا حماة للص الذي ينهبكم، شركاء للقاتل الذي يصرعكم، خونة لأنفسكم؟ …تربون بناتكم كيما يجد ما يشبع شهواته. تنشئون أولادكم حتى يكون أحسن ما يصيبهم منه جرهم إلى حروبه وسوقهم إلى المجزرة”[16]. ونلاحظ هنا وفي كثير من المتن الايبواسي استنهاض للشعوب من اجل أن تكسب أعظم خير وحب وهو نيل الحرية أو الحفاظ عليها، وذلك عن طريق الموعظة، وهو ما لا ينفيه” أردت أن أسدي هنا الموعظة إلى الشعب”[17].
إذا ضاعت الحرية والتي هي الخير الأعظم،فتتبعها النكبات وما يبقى بعدها تفسده العبودية وتفقده رونقه، و يعقد خالص جلبي مقارنة بين اتييان دي لابواسيه وعبد الرحمان الكواكبي فيجدهما يشتركان في توصيف الاستبداد بأقذر النعوت وأقبحها، فالكواكبي يقول ولو أن الاستبداد كان رجلا وأراد أن يعرف نفسه لقال :” أنا الشر وأبي الظلم، وأمي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسكنة، وعمي الضرر، وخالي الذل، وابني الفقر، وابنتي البطالة، ووطني الخراب، وعشيرتي الجهالة”، بينما يصف لابواسيه الدكتاتورية :” ما هذا يا ربي؟ كيف نسمي ذلك؟ أي رذيلة تعيسة أن نرى عددا لا حصر لهم من الناس يحتملون السلب والنهب،وضروب القسوة لا من عسكر أجنبي ، بل من واحد لا هو بهرقل ولا شمشون. أن لكل رذيلة حدا تأبى طبيعتها تجاوزه.فأي مسخ من مسوخ الرذيلة هذه لا يستحق حتى اسم الجبن، ولا يجد كلمة تكفي قبحه، والذي تنكر الطبيعة صنعه، وتأبى اللغة تسميته؟ّ”[18].
ذكرنا في بداية عرض أفكار هذا الرجل أن كتابه هو إجابة عن بعض تساؤلات جوهرية ومهمة ولعل من بين أبرزها ،لماذا إذن تختار الرعية الرضوخ وبمحض إرادتها للطاغية، مع أن الأصل في الإنسان هو الحرية ؟ ويجيبنا اتييان دي لابواسيه :” أجل إن طبيعة الإنسان أن يكون حرا وأن يريد كونه كذلك، ولكن من طبيعته أيضا أن يتطبع بما نشأ عليه.” ويضيف قائلا:” لنقل إذن أن ما درج الإنسان عليه وتعوده يجري عنده بمثابة الشيء الطبيعي،فلا شيء ينتسب إلى فطرته سوى ما تدعوه إليه طبيعته الخالصة التي لم يمسسها التغيير. ومنه كانت العادة أول أسباب العبودية المختارة”[19]، ويجعل من الخيل أنموذجا لتقديم فكرته، فالخيل ترفض في بداية الأمر تطويعها ثم ما تلبث أن تقبل بذلك، غير أن الجيل القادم والذي ولد في العبودية ينظر للأمر على انه شيء طبيعي، غير أن الإنسان يختلف عن الخيل، فقد يأتي جيل أو أفراد يعون قيمة الحرية ويقارنون أوضاعهم بأصلهم الفطري وما يقتضيه العقل فينتفضون ضد الطغيان، ويدرك لابواسيه قيمة الفكر والكتب والثقافة الصحية التي تزود الناس بالحس والفهم اللذين يتيحان لهم التعارف والاجتماع على كراهية الطغيان ولعلم الطغاة بذلك، فهم يحاولون إهدار حتى حرية الفكر إن أمكنهم ذلك[20] حتى يفقد الناس السيطرة، وإفلات زمام تسيير حاضرهم واستشراف المستقبل وصناعته، وبالتالي هدر الكيان الإنساني ذاته من خلال رده إلى مستوى النشاط العصبي النباتي، وإشباع حاجات البقاء البيولوجي، و:”هنا يعطل استغلال الدماغ ولا يبقى فاعلا منه سوى ذلك الجزء المسمى” الهيبوتلاموس” وهو كتلة من حجم الدماغ البشري الراشد”، وهو الجزء الذي يضبط وظائف الأكل والنوم والجنس والانفعال، والنتيجة تفكير الناس فقط في المعاش،كما أن تدني مكانة الفكر والمفكرين لحساب استفحال قيم الملكية والأرصدة والأسهم، يدفع جل أصحاب الفكر إلى حالة الحزن العميق اللافت للنظر، ومع التجريم والتحريم والحجر يخصى الذهن وبالتالي يهدر الكيان ، “فلقد اثبثت الأبحاث الحديثة على الدماغ البشري أن البيئة الرتيبة المملة الخالية من المثيرات والإثارات، كما هو الحال في أنظمة القمع والمنع والتحريم ،تعمل على ترقيق القشرة الدماغية، وبالتالي تؤدي إلى تدهور الكفاءة الذهنية” ويضيف الحجازي ويتجلى ذلك في قصور التخطيط والانتباه وصناعة القرار وحل المشكلات، وتشكيل الخيارات وتنفيذها، فترقيق القشرة الدماغية يفتح السبيل أمام غلبة السلوك الانفعالي الاندفاعي. أننا بصدد تدهور كفاءة سيطرة العقل على الحياة وتوجيهها وهو هدر خطير بالطبع للكيان الإنساني[21] ، ونقول كيف يمكن لنا أن نتحدث عن المواطنة كقيمة تجعل من الإنسان ركيزة لها في دول الاستبداد والتي كان فيها الحاكم دوما يتسم بهذا النوع من التفكير الطغياني.
إذا كان السبب الأول الذي يجعل الناس ينصاعون طواعية للاستعباد، هو كونهم يولدون رقيقا ويترعرعون كذلك، فيضاف إلى هذا السبب ،سبب أخر: فالناس يسهل تحولهم تحت وطأة الطغيان إلى جبناء مخنثين[22]، وإذا كان هذا الكلام لا يصدق على الجميع، فهناك قلة من الأحرار، اللذين يتنافسون كل من أجل الجماعة ومن أجل نفسه، وينتظرون جميعا نصيبهم المشترك من ألم الانكسار أو فرحة الانتصار، أما المستعبدون فهم عدا هذه الشجاعة في القتال يفقدون أيضا الهمة في كل موقف، وتسقط قلوبهم وتخور وتقصر عن عظيم الأعمال،وهذا الأمر يعلمه الطغاة جيدا، فهم ما أن يروا الناس في هذا المنعطف إلا عاونوهم على المضي فيه حتى يزيدوا استنعاجا[23]، ويلاحظ اتييان دي لابواسيه في معرض آخر كيف أن الطغاة كانوا يسعون دائما كيف يستتب سلطانهم، إلى تعويد الناس على أن يدينوا لهم لا بالطاعة والعبودية فحسب، بل بالإخلاص كذلك[24] ، وليس الإخلاص هنا للدولة ، ولكنه إخلاص لشخص المستبد، ولهذا الأمر تجليات وتبعات أخرى، فالحجازي مثلا يتحدث على انه وفي ظل دولة الهدر والقهر والاستبداد والطغيان، تنعدم الترقيات عبر عوامل الكفاءة والانجاز، لتحل محلها عوامل أخرى،وعلى رأسها الولاء، وعلى الفرد المستبد به، القبول بالمديح، للواقع حتى ولو كان هذا الواقع غير صحي ثقافيا أو سياسيا أو اجتماعيا، وأي نقد ” ولو جزئي يتخذ دلالة التشكيك بالكيان الكلي من قبل أصحاب النفوذ والشوكة في العصبية، ولابد من قمعه وإرجاع العضو إلى ” الحظيرة”، كما ترد الكباش الضائعة.” لتتحول الحياة إلى خضوع وانقياد مع ما يرافقهما من مراوغة وكذب ونفاق وتجميل، ومن المعروف في علم الصحة النفسية أن القبول المشروط _ أنا أقبلك ما دمت كما أريد أنا، وليس كما ترغب أن تكون أنت أن تكون_، هو أحد ابرز أسباب الاضطراب النفسي والمرض الكياني، فالإنسان مدفوع لأن يكون كيانا قائما بذاته ولأن يحقق هوية كيانية مستقبلة وقائمة بذاتها، فان تم الاعتراف به كإنسان وبشكل غير مشروط تفتح أمامه أفاق التوازن النفسي والوفاق مع الذات ومع العالم ومع الآخرين ليكون في النهاية مبدعا في الحياة ، وعلى العكس فالقبول المشروط يؤدي إلى ترسيخ ثقافة الولاء للعصبية[25] عند أعضائها، وينتج عن ذلك هدر من نوع أخر كبير الخطورة على صعيد التنمية وبناء المستقبل.ينتج عن ذلك ثقافة الولاء وهي البنية الفوقية التي تسند بنية العصبية، وهي تذهب مباشرة إلى النقيض من ثقافة الإنجاز، يقوم الولاء على معادلة التبعية والمكانة والحظوة والنصيب من الغنيمة وهذا ما يجعل أعضاء العصبية يوظفون كل طاقاتهم أو جلها في إثبات تبعيتهم وولائهم الشخصي للعصبية وزعامتها، وهو ما يجعل الجهد الإنتاجي ثانويا من حيث الأهمية والقيمة والأولوية، مادامت المكاسب والترقيات تقوم على إثبات الولاء[26].
ولان الاستبداد يقوم على الولاء، فالمستبد يختار دوما أربعة أو خمسة ممن يستعين بهم على الحفاظ على استمراريته، وهم من يبقونه في مكانه، هم سمعه وبصره ورجلاه ويداه، هم شركاء جرائمه، وخلان ملذاته وقواد شهواته، ومقاسميه في ما نهب، وهؤلاء الستة يفسدون وينتفعون بهم ستمائة آخرين، يذيلهم ستة ألاف تابع،لتصير الشبكة الاستبدادية تصل لا ستة ألاف ولا مئة ألف بل يصبح الملايين يربطهم بالطاغية هذا الحبل، غير أن إتييان دي لابواسيه ولانتصاره للشعب،يقول كلاما يدخل إلى النفوس فيرقيها من ما طبعت عليه وجبلت عليه من حب السلطة ونزعة الانبطاح للمتغلب، يقول هذا الشاب:” غير أني إذ أنظر إلى هؤلاء الضالين الذين يجرون وراء كرات الطاغية، حتى يحققوا مآربهم من وراء طغيانه، ومن وراء عبودية الشعب على حد سواء يتملكني أحيانا كثرة العجب لرداءتهم، وأرثي أحيانا لحماقتهم، فهل يعني القرب من الطاغية، في الحقيقة شيئا آخر سوى البعد عن الحرية واحتضانها بالذراعين[27].
بهذا الكلام النفيس المؤسس لقيم التحرر من داء الاستبداد نختم المقال الذي نهديه لروح الاستاذ محمد عابد الجابري والى معتقلي حراك تندرارة[28] الذي يعرف بضحايا تأخر سيارة الاسعاف.
الهوامش:
[1] جورج كتورة، طبائع الكواكبي في طبائع الاستبداد دراسة تحليلية،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت،1987، ص.21
[2] عبد الرحمان الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، كلمات عربية للترجمة والنشر، 2011، ص. 7 و8 و9.
[3] جورج كتورة، مرجع سابق، ص.29.
[4] عبد الرحمان الكواكبي، مرجع سابق، ص. 16.
[5] عبد الرحمان الكواكبي،مرجع سابق، ص. 18 و19.
[6] راجع كتاب اشكالية الموطانة/الرعية في التراث السياسي الاسلامي ، الصادر بالمركز الديمقراطي العربي ، سنة 2017 ، https://democraticac.de/?p=47673.
كذلك راجع كتاب لآداب السلطانية دراسة في بنية و ثوابت الخطاب السياسي
[7] عبد الرحمان الكواكبي ، ص. 19.
[8] جورج كتورة، مرجع سابق، ص.32.
[9] بشير صفار، “الطاغية في المجال العام”، مداخلة تم تقديمها في ندوة بعنوان، “الخطاب الإسلامي وإعادة تأسيس المجال العام”، منظمة من مؤسسة مؤمنون بلا حدود، القاهرة، مصر، بتاريخ 4 و5 يناير2013. http://www.mominoun.com/ قسم قضايا لدين والفلسفة.
[10] عبد الرحمان الكواكبي، مرجع سابق، انظر الفصل المتعلق بالاستبداد والدين.
[11] عبد الرحمان الكواكبي، مرجع سابق، ص.40
[12] المرجع نفسه، ص. 37.
[13] المرجع نفسه، ص. 44.
[14] اقتبسنا تعريفا للكاتب من خالص جلبي حيث يقول انه وفي 18 من شهر اغسطس/غشت من عام 1562 توفي ايتيين دي لا بواسييه عن عمر32سنة بعد أن ترك كتابه “مقالة في العبودية المختارة” واختفى الكتاب تحت لجة التاريخ، وكان صديقه الفيلسوف =ميشيل مونتيني هو من انتبه إلى أهمية النص ولكن لم يتمكن من نشره ، لأنه وكما قال فيه ( فيه حياكة أدق وألطف من أن تخرج إلى الجو الخشن الذي اتسم به ذلك العصر الفاسد) وهكذا غطست أفكار لا بواسييه، عبر العصور ، لينشر النص الكامل عام 1835م للمرة الأولى بعد 273 سنة من وفاة صاحبها.لكن هذا الانفجار المعرفي لم يصل إلى فضاء الثقافة العربية إلا بعد أربعة قرون ونصف مع نهاية القرن العشرين، على نحو باهت يكاد لا يرى بفعل كثافة قشرة الثقافة العربية ومناعتها، ضد التغيير وغيابها عن الحضور العالمي وهو كتاب لم يلاق الرواج إلى اليوم ولم ينتبه إليه إلا الآحاد.
خالص جلبي،”دراسة في الاستبداد العربي تاريخ الانحطاط الثقافي وتوطن الاستبداد (نحو نظرية كوبرنيكوس الاجتماعية)”، مجلة أفلا يتفكرون، العدد الثامن،2016، ص. 86.
[15] اتييان دي لابواسيه، مقالة في العبودية المختارة،ترجمة مصطفى صفوان، مجلة الدوحة، العدد 34 مارس2014، وزارة الثقافة والفنون والتراث، ص.32.
[16] المرجع نفسه، ص. 37.
[17] المرجع نفسه، ص.39.
[18] خالص جلبي،”دراسة في الاستبداد العربي تاريخ الانحطاط الثقافي وتوطن الاستبداد ( نحو نظرية كوبرنيكوس الاجتماعية)”،مجلة أفلا يتفكرون ، العدد الثامن،2016، ص.91
[19] اتييان دي لابواسيه، مرجع سابق، ص. 46.
[20] المرجع نفسه، ص.48.
[21] مصطفى حجازي،الإنسان المهدور دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، مرجع سابق، ص. 167 و168 و169.
[22] اتييان دي لابواسيه، مرجع سابق، ص. 49.
[23] اتييان دي لابواسيه، المرجع نفسه.
[24] المرجع نفسه،ص.56.
[25] العصبية نسبة إلى العصبة، هي جماعة الأقارب المرتبطين ببعض والملتزمين ببعض، ينتمي الفرد إلى العصبة في حالة من التعصب من خلال روابط مادية ومعنوية تجعل انتماءه إليها حالة من الاندماج الكلي في الوحدة الجماعية، مصطفى حجازي ، الإنسان المهدور، مرجع سابق، ص.55و56.
[26] المرجع نفسه، ص.55.56.57
[27] اتيين دي لابواسيه،مرجع سابق، ص. 57و59.
[28] حراك تندرارة ، هو حراك اجتماعي وقع باقليم فجيج بالمغرب باحدى الجماعات القروية التي تعرف خصاص مهول في العديد من القطاعات وقد ابتدأ الحراك في يناير من سنة ،2018 حيث تم وأده من طرف السلطات المغربية بسرعة شديدة ، بعد ان تم استغلال بعض احداث الشغب التي تم افتعالها من طرف جهات مجهولة ،ليتم بعدها فبركة ملفات ساخنة للزج ببعض نشطاء الحراك بالمنطقة بالسجن وترهيب عائلات المناضلين وتخويفهم كألية من اليات الترهيب التي تلجأ اليها الدول الغير الدمقراطية او السائرة في طريق الدمقراطية