مستقبل المالية الإسلامية في ظل تطورات نظام الحوكمة والحوكمة الشرعية
اعداد : المهدي الصالحي – طالب باحث في سلك الدكتوراه تخصص قانون خاص
- المركز الديمقراطي العربي
مقدمة :
أدت الأحداث التي مر بها الاقتصاد العالمي إلى اهتمام كبير بالحوكمة، وذلك جراء حالة الانهيار في المؤسسات والبنوك والشركات العالمية، ما دفع الاقتصادين وصناع القرار في العالم إلى جعل الحوكمة أمرا أساسيا للاستقرار المالي. ومن أبرز هذه الأحداث الأزمة المالية لسنة 2008، التي كان من أهم أسبابها وجود خلل في الرقابة والمتابعة على مستوى الشركات وأسواق المال.
وهو ما دفع المؤسسات الاقتصادية والمالية في مختلف دول العالم، إلى السعي نحو الرفع من كفاءتها ودعم مقدرتها التنافسية على المستوى المحلي وحتى على المستوى الدولي، مما جعل من تطبيق مبادئ وقواعد الحوكمة ضرورة حتمية.
وقد ظهرت كتابات واجتهادات في هذا المجال طيلة العقد الثاني من الألفية الثانية، منها ما أصدرته وأقرته المؤسسات الدولية المختصة في المجال من دراسات ومعايير للحوكمة الشرعية، مثل نشرة مراجعة أدبيات التمويل الإسلامي: الأخلاق، المفاهيم، الممارسة لمؤسسة بحوث معهد CFA لعام 2018، ومنها كتاب : الدليل العملي للمدقق الشرعي في المصارف الإسلامية للباحث يحيى محمد زكريا لعام 2019، وبحث حول حوكمة المؤسسات المالية الإسلامية للأستاذين عبد الله صديقي وخولة فريز النوباني سنة 2016، وآخر للأستاذين سعيد بوهراوة وحليمة بوكروشة في المجلة الجزائرية للتنمية الاقتصادية سنة 2015.
كما واكب ذلك تقنين حكومي للحوكمة الشرعية في الكثير من الدول، إذ أصدر البنك المركزي لماليزيا معيار “الحوكمة الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية” سنة 2010، فيما صادق البرلمان المغربي على القانون البنكي 103-12 الذي يتضمن تقنينا للبنوك التشاركية سنة 2014.
هدف البحث:
تروم هذه الورقة إبراز أهمية الحوكمة في البنوك عموما وفي المؤسسات المالية الإسلامية خصوصا، من أجل إلقاء نظرة على مستقبل المالية في ظل الحوكمة والحوكمة الشرعية، ثم تعرض نماذج معاصرة للحوكمة الشرعية.
أهمية البحث:
يستمد هذا البحث أهميته من الموقع الذي أصبحت تتبوؤه المؤسسات المالية الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، إذ أصبحت تشكل منافسا قويا لنظيراتها التقليدية. ويرجع هذا الأمر إلى نمو المؤسسات الإسلامية في الأسواق العالمية، بالنظر إلى الأرباح التي تحققها، وإلى اشتغالها بالاستثمار، بدل الوساطة في القرض والاقتراض. وهو ما يدفعنا إلى دراسة هذه الظاهرة، وتتبع إيجابياتها وسلبياتها من أجل المحافظة على مكانتها، ودعهما بالأفكار والتجارب الناجحة.
ومن أجل ذلك فقد قسمنا بحثنا إلى ثلاثة محاور؛ يعالج أولها تطور نظام الحوكمة في القطاع البنكي، على أن يتطرق المحور الثاني لمستقبل المالية الإسلامية في ظل الحوكمة الشرعية، فيما خصصنا المحور الثالث لعرض نموذجين تطبيقيين للحوكمة الشرعية في ماليزيا والمغرب.
المحور الأول : تطور نظام الحوكمة في القطاع البنكي
عرف نظام الحوكمة في المؤسسات المالية تطورا كبيرا مع توالي الأزمات المالية، ومن أجل دراسة ذلك لا بد من الاطلاع على مفهوم الحوكمة ومبادئها في البنوك التقليدية، قبل أن نعرج على ذكر أبرز الأليات لإرساء حوكمة فعالة في القطاع البنكي.
- الباب الأول : مفهوم ومبادئ الحوكمة في البنوك التقليدية
يعرض هذا الباب لمفهوم الحوكمة اللغوي، ولمفهوم حوكمة الشركات كما تعرفها بعض المؤسسات المالية الدولية وخاصة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وكما يعرفها بعض الباحثين، ثم ينتقل إلى الحديث عن مبادئ الحوكمة في البنوك التقليدية.
الفصل الأول : مفهوم الحوكمة المالية :[1]
كلمة حوكمة هي كلمة مترجمة عن الإنجليزية للفظة governance، وهي مشتقة من فعل حكم حكما، بمعنى منع الظلم كالفساد. ورغم أن وزن فوعل غير وارد في هذا الفعل إلا أنه عم استعماله في معظم الكتابات، غير أننا نجد في المغرب مثلا، استعمال لفظ حكامة. واللفظ دارج في القاموس السياسي، لكن له مفهوما خاصا في الجانب المالي، حين نتحدث عن حوكمة الشركات.
وحوكمة الشركات هي الإطار الذي تمارس فيه الشركات وجودها، وتركز الحوكمة على العلاقات فيما بين الموظفين وأعضاء مجلس الإدارة والمساهمين وأصحاب المصالح وواضعي التنظيمات الحكومية، وكيفية التفاعل بين كل هذه الأطراف في الإشراف على عمليات الشركة.
وعن نظام حوكمة الشركات جاء في ورقة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية [2] : فأحد العناصر الأساسية في مجال تحسين الكفاءة الاقتصادية هو أسلوب حوكمة الشركات والذي يتضمن مجموعة من العلاقات بين الإدارة التنفيذية للشركة، ومجلس إدارتها والمساهمين فيها، وغيرهم من الأطراف المعنية وصاحبة المصلحة بصور مختلفة. كذلك يقدم أسلوب حوكمة الشركات الهيكل الذي تتحد خلاله أهداف الشركة، ووسائل تحقيق تلك الأهداف، ومتابعة الأداء.
عرفت الحوكمة [3] من المنظور البنكي على أنها:”الأساليب التي يدار بها البنك من خلال مجلس الإدارة والإدارة العليا، والتي تحدد كيفية وضع أهداف البنك، والتشغيل، وحماية مصالح حملة الأسهم وأصحاب المصالح، مع الالتزام بالعمل وفقا للقوانين والنظم السائدة وبما يحقق حماية مصالح المودعين”
من خلال تعريفنا للحوكمة البنكية يمكننا أن نستخلص أهم مبادئ الحوكمة في البنوك كما حددها وصنفها خبراء الأنظمة المالية.
- الفصل الثاني : مبادئ الحوكمة في البنوك التقليدية [4]
تزداد أهمية الحوكمة في البنوك مقارنة بالمؤسسات الأخرى نظرا لطبيعتها الخاصة، وذلك لأن إفلاس البنوك لا يؤثر فقط على أصحاب المصالح من زبائن ومودعين ومقرضين، ولكن يؤثر أيضا على استقرار البنوك الأخرى من خلال مختلف العلاقات الموجودة بينهم وهو ما يعرف بسوق ما بين البنوك. وبالتالي يؤثر على الاستقرار المالي للقطاع البنكي، وبالضرورة على الاقتصاد ككل، وخاصة بعد التحولات العالمية التي مرت كالعولمة والتطور التكنولوجي وسياسات التحرير المالي، الأمر الذي أدى بشكل مباشر إلى ارتفاع حجم المخاطر على مستوى القطاع البنكي، مما يجعل الحوكمة في المصارف ذات أهمية كبرى.
وتعتبر إشكالية الحوكمة أكثر تعقيداً في القطاع المصرفي من القطاعات الأخرى، وذلك لأن المصارف تحتوي على عدة عناصر لا توجد في القطاعات الأخرى، كالتأمين على الودائع وإدارة المخاطر وتقدير رأس المال المخصص للمقترضين ونظام الرقابة الداخلية، وكذلك مكونات رأس المال الذي يتشكل عموما بنسبة كبيرة من الديون ثم من الأموال الخاصة. كما أن مصادر الأموال في البنك تكون غالبا على شكل ودائع يجب أن تكون متوفرة عند الطلب من طرف المودعين، وأصول المصرف تتكون في غالبيتها من قروض متوسطة وطويلة الأجل.
إن الحوكمة في المصارف بصفة خاصة وفي بقية الشركات والمؤسسات الأخرى بصفة عامة ترسي مجموعة من القيم الإنسانية، كالديمقراطية والعدالة والشفافية والمسؤولية والمساءلة القانونية، وتضمن النزاهة في المعاملات وتكرس القانون ضد الفساد، إذ أنها تضع الحدود بين المصلحة الشخصية الخاصة والمصالح العامة، وتمنع الشطط في استخدام السلطة. وتعتمد حوكمة البنوك على تحديد العلاقة بين المودعين والمقترضين، ومجالس الادارة، وحملة الأسهم والمالكين والمديرين والأغيار، وهو ما يضمن زيادة الكفاءة والفاعلية في التسيير، وترشيد اتخاذ القرارات، ويتضمن أيضا إعداد حوافز وإجراءات تخدم مصالح الأطراف المذكورة، وبالتالي احترام رغبات ومصالح كل المتعاملين. ويمكننا إبراز أهمية الحوكمة في البنوك من خلال إرساء المبادئ التالية:
- محاربة الفساد المالي والإداري.
- تحقيق وضمان النزاهة والحيادية والاستقامة لجميع الخدمات البنكية
- تجنب الأخطاء أو الانحرافات المتعمدة، ومنع استمرارها والعمل على تقليلها إلى أدنى المستويات، عبر استخدام نظم رقابية متطورة.
- الاستفادة من نظم المحاسبة والمراقبة الداخلية.
- اعتماد أعلى قدر من الإفصاح والشفافية في الكشوفات المالية بما يضمن مصالح كافة المتعاملين مع البنك.
- ضمان قدر كاف من الفاعلية لمراقبي الحسابات الخارجية، والتأكد من كونهم على درجة عالية من الاستقلالية وعدم خضوعهم لأية ضغوط من مجلس الإدارة أو من المديرين التنفيذيين، أو من أية سلطة عليا أخرى.
- ترشيد الاستخدام لموارد البنك بأكفأ السبل الممكنة، مما يؤدي الى رفع مستوى الأداء البنكي بما ينعكس ايجابا على تعزيز التنمية والنمو الاقتصادي للدولة.
إن تفعيل مبادئ الحوكمة في البنوك يتطلب محاربة الفساد وضمان النزاهة لجميع الخدمات البنكية مع تجنب كل الأخطاء أو الانحرافات المتعمدة، والاستفادة من نظم المحاسبة والمراقبة الداخلية، واعتماد مبدأ الشفافية وضمان فاعلية مراقبي الحسابات الخارجية، والاستخدام الأمثل للموارد المالية. وبإرساء هذه المبادئ تساهم البنوك في الرفع من كفاءتها ودعم مقدرتها التنافسية، في ظل وضع يعرف استقرارا ماليا.
ومن أجل ذلك لابد لها من آليات ومؤسسات قادرة على إرساء هذه المبادئ في البنوك.
- الباب الثاني : آليات إرساء قواعد الحوكمة في البنوك[5] :
من أجل ضمان تفعيل مبادئ الحوكمة الرشيدة في البنوك، لا بد من إرساء قواعد رقابية يتم اعتمادها من طرف البنك المركزي ورقابته على المستوى الخارجي وكذا شركات التصنيف الائتماني والمودعين وحتى وسائل الإعلام، وبإشراف البنك المعني بمؤسساته الحيوية على المستوى الداخلي.
فلنتعرف على آليات إرساء قواعد الحوكمة في البنوك من خلال محدداتها الخارجية والداخلية.
المحددات الخارجية:
يقصد بها ايضا المعايير والتنظيمات الاحترازية، وهي الإجراءات التي تسمح بالتقليل من مختلف المخاطر الناتجة عن مكونات النظام المالي والمصرفي أو التحكم الجيد فيها، وهذه الإجراءات والقواعد يجب ان تعمل على تحقيق استقرار النظام البنكي وحماية كل أصحاب الحقوق. وتقوم على عدة مستويات.
البنك المركزي: يساهم البنك المركزي بشكل أساسي في تفعيل الحوكمة على مستوى البنوك، من خلال إجراءات الرقابة المصرفية ووسائل الوقاية والضبط الداخلي، وذلك من أجل تحقيق الحماية الكافية لأصول المؤسسات المالية والمصرفية وحقوق المودعين، وضمان سلامة مركزها المالي والحفاظ على استقرارها المالي والإداري بمختلف الإجراءات الاستباقية والاحتياطية لمنع وقوعها في صعوبات او إعلان إفلاسها.
شركات التصنيف الائتماني المعتمدة: تعمل شركات التصنيف على دعم الالتزام في السوق، عبر تمكين وصول المعلومات لصغار المستثمرين والمتعاملين، وهو ما يساهم في زيادة درجة الشفافية ودعم الحماية التي يجب توفرها في السوق .
المودعين: للمودعين دور هام يتمثل في الرقابة على أداء النظام البنكي بصفة عامة، أو البنك المتعامل معه بصفة خاصة، وفي قدرتهم على سحب ادخاراتهم أو إنهاء معاملاتهم عندما يلاحظون إقبال البنك على تحمل مخاطر عالية قد تهدد مصالحهم أو حقوقهم .
وسائل الإعلام: تمارس وسائل الإعلام نوعا من الرقابة الخارجية، عبر الضغط على البنوك لنشر المعلومات للرأي العام، ورفع كفاءة الرأسمال البشري، ومراعاة مصالح الفاعلين الآخرين في السوق.
ومجمل القول أن المحددات الخارجية لإرساء قواعد الحوكمة في البنوك تقوم على مستوى البنك المركزي وشركات التصنيف الائتماني المعتمدة، والمودعين، ليبقى لوسائل الإعلام دور كبير في تنوير الرأي العام عبر نشر المعلومات الضرورية.
لا تكفي الرقابة الخارجية لإرساء الحوكمة الرشيدة، بل لا بد للبنوك والمصارف من رقابة داخلية تقوم بها مؤسسات قوية تضم كل الأطراف.
- المحددات الداخلية:
ترتبط بمؤسسات البنك الحيوية، وتشمل المحددات الداخلية ما يلي:
مجلس الإدارة: يحرص مجلس الإدارة على المعاملة العادلة وتطبيق المعايير الأخلاقية، في ظل استراتيجية وأهداف البنك، وكذا ممارسة الرقابة، وإجراءات نشر وتوزيع المعلومات والاتصال بالبنك، وتقديم التوصيات والآراء وتجنب تضارب المصالح والحفاظ على قوة وفعالية البنك.
الإدارة التنفيذية: لابد لأعضاء الإدارة التنفيذية من الكفاءة والمؤهلات المطلوبة لإدارة البنك، وعليهم التعامل وفقا لأخلاقيات المهنة باعتبارها الجهة المسؤولة على تنفيذ السياسات التي يضعها مجلس الإدارة.
المساهمون: يلعب المساهمون دورا أساسيا في مراقبة أداء الشركات بصفة عامة، وبإمكانهم التأثير على تحديد توجهات البنك، فهم من يقومون باختيار أعضاء مجلس الإدارة، وهم المسؤولون عن عمليات الحوكمة، وبالتالي فإن اختيارهم يجب ان يكون اختيارا سليما لضمان ادارة كفؤة في البنك.
لجنة التدقيق والرقابة الداخلية: لجنة التدقيق والرقابة الداخلية تشكل امتدادا لوظيفة سياسة مجلس الإدارة، لذا يجب أن تقوم بالتأكد من التزام البنك بأنظمة رقابية داخلية ونظم المعلومات الفعالة .
إن رقابة داخلية يقوم بها مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية والمساهمون ولجنة التدقيق والرقابة الداخلية لكفيلة بتكريس حوكمة رشيدة داخل البنوك.
لكن تجدر الإشارة إلى أن للحوكمة البنكية بصفة خاصة والحوكمة بصفة عامة أعمدة ثابتة وجب توافرها لإرساء قواعدها وجني ثمارها، و تتمثل في :
- المساءلة: بين البنك أو المصرف وكل المتعاملين معه من الداخل والخارج.
- الشفافية: لترسيخ الثقة بينه وبين المتعاملين معه سواء الحاليين أو المستقبليين.
- النزاهة: التي تتمثل في اندفاع العاملين بالبنك لإبعاد الفساد الاداري والمالي وهي كفيلة بتحقيق أهداف الحوكمة وجني ثمارها.
- الأخلاق: وهي مسؤولية جميع الأطراف المشاركة في حماية البنك وكذا أصحاب المصالح فيه.
إن هذه الأعمدة التي توصل إليها خبراء المالية، تعتبر من المسلمات بالنسبة للشريعة الإسلامية، وكانت دائمة الحضور في المعاملات الإسلامية، لتشكل أساسا تنبني عليه الحوكمة الشرعية في المؤسسات المالية الإسلامية.
في ظل التطور العام الذي يعرفه تدبير المؤسسات المالية العالمية عبر ترسيخ نظام الحوكمة، برز بشكل لافت في الآونة الأخيرة نظام الحوكمة الشرعية الذي يستمد مبادئه من الشريعة الإسلامية.
المحور الثاني : مستقبل المالية الإسلامية في ظل الحوكمة الشرعية
“تؤدي مجالس الرقابة الشرعية وظيفة حاسمة في التمويل الإسلامي. وبصفة عامة، فإن دور هيئة الرقابة الشرعية يتضمن إصدار أحكام دينية، والإشراف، والمراجعة. ومن خلال أحكامهم الدينية (أوالفتوى)، تحدد المجالس ما إذا كان منتج معين أو معاملة معينة يتوافق مع الشريعة الإسلامية. كما أن هذه القرارات تسترشد بها مصادر مثل المعايير الشرعية التي وضعتها هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية في البحرين وقرارات أكاديمية الفقه الإسلامي الدولية التي تتخذ من جدة مقرا لها”.[6]
ترتبط الحوكمة الشرعية بحوكمة الشركات للمؤسسات المالية الإسلامية. ومن النماذج المعمول بها أن يكون للمؤسسة هيئة رقابة شرعية خارجية ومنظمة داخلية للرقابة الشرعية. قد تعتمد بعض المؤسسات اعتمادا على احتياجاتها، على شركة استشارية شرعية، ومجلس الشريعة التابع لها على أساس مستمر، أو للحصول على أحكام دينية بخصوص معاملات معينة.
ومعلوم أن الحوكمة الإسلامية تولي “قدراً عظيماً من اهتمامها وأدبياتها للقواعد الأخلاقية والعقدية التي يمكن أن تكون صمام الأمان في امتثال جيد وحسن لمقتضيات الحوكمة مما لا يوجد مثله أو قريباً منه في المؤسسات المالية التقليدية القائمة على ثقافة القوانين الجامدة والتي يكتسب المديرون والموظفون في تلك المؤسسات المالية مهارات تراكمية عالية في القدرة على التفلت منها وإخفاء جرائمهم المالية، مما يوفر لهم قدراً كبيراً من الحماية القانونية وعدم المساءلة والملاحقة القضائية، ويكون ذلك كله على حساب المودعين وغيرهم من الأطراف ذات العلاقة بأنشطة المؤسسة المالية”[7]
قبل التفصيل في المرتكزات الأساسية لضمان الحصول على نطام فعال للحوكمة الشرعية (الباب الثاني)، لا بد من تعريف مفهومها وعرض مبادئها بالنسبة للمؤسسات المالية الإسلامية (الباب الأول).
الباب الأول : مفهوم ومبادئ الحوكمة الشرعية للمؤسسات المالية
نستنير في هذا الباب ببحث أصدره المعهد الإسلامي للمالية والبنوك سنة 2017، لنتعرض في البداية لمفهوم الحوكمة الشرعية، قبل أن نعرض مبادئها السبعة، من خلال ما فسره الباحثان الأستاذ عبدالعزيز الناهض والدكتور يونس صوالحي.
- الفصل الأول : مفهوم الحوكمة الشرعية [8]
أولى المحاولات لتعريف مفهوم الحوكمة الشرعية، قدمها مجلس الخدمات المالية الإسلامية IFSB، وذلك من خلال المعيار رقم 10 الخاص بالمبادئ الإرشادية لنظم الضوابط الشرعية للمؤسسات التي تقدم خدمات مالية إسلامية الصادر في ديسمبر 2009، وقد تم تعريف الحوكمة الشرعية بأنها: “النظام الذي يشير إلى مجموعة من الترتيبات المؤسساتية والتنظيمية التي تتأكد من خلالها مؤسسات الخدمات المالية الإسلامية أن هنالك إشرافاً شرعياً فاعلاً مستقلاً”.
وقد عرف كلاً من كريم جينينا وأزهر حامد الحوكمة الشرعية بأنها: “النظام الشامل الذي يدير مطابقة أنشطة المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية لمبادئ الشريعة الإسلامية المتعلقة بالمعاملات” . [9]
وأما الدكتور محمد أكرم جلال الدين فقد عرفها بأنها: “الهياكل والعمليات المعتمدة لدى المؤسسات المالية الإسلامية لضمان التوافق مع مبادئ الشريعة الإسلامية وأحكامها”.[10]
إن أغلب التعريفات السابقة قد اتفقت على تعريف الحوكمة الشرعية بأنها ذلك النظام الذي يضمن أن المؤسسة المالية لا تخالف أحكام الشريعة الإسلامية.
وخلاصة القول، فإنه يمكننا تعريف الحوكمة الشرعية للمؤسسات المالية بأنها هي: “النظام الذي يُطَمئِن أصحاب المصلحة، ويضمن لهم عدم مخالفة المؤسسة لأحكام الشريعة الإسلامية، من خلال اتباعها للتعاليم الشرعية الصحيحة، والتأكد من صحة تطبيقها، مع الإفصاح الشرعي عن ذلك”.
بعد تعريف الحوكمة الشرعية بشكل عام، نحاول التعرف على أهم مبادئها.
- الفصل الثاني : مبادئ الحوكمة الشرعية للمؤسسات المالية:[11]
ناقش مجلس الخدمات المالية الإسلامية (IFSB)[12] موضوع مبادئ الحوكمة الشرعية للمؤسسات المالية، وأصدر بذلك معياراً خاصاً حول أهم المبادئ الأساسية للحوكمة الشرعية، ولقد حدد المعيار خمسة مبادئ أساسية للحوكمة الشرعية، وهي: الإطار العام للحوكمة الشرعية، والكفاءة، والاستقلالية، والسرية، والتناسق. وبإمكاننا إضافة مبدأين أساسيين، وهما لا يقلان أهمية عن المعايير الخمسة السابقة، وهما مبدأي: المسؤولية، والشفافية.
وعليه، فيصبح مجموع مبادئ الحوكمة الشرعية للمؤسسات المالية سبعة مبادئ، وهي كالتالي:
1 – الإطار العام للحوكمة الشرعية: وهو مبدأ يهدف إلى ضمان وجود إطار عام فعال للحوكمة الشرعية لدى المؤسسة، ويعتمد هذا المبدأ على قاعدة: “لا يوجد نموذج موحد ولا قياس واحد يناسب الجميع”، وعليه فلا بد للمؤسسة من تبني واعتماد هيكل للحوكمة الشرعية يتناسب مع حجم وتعقيد وطبيعة أعمالها، ويغطي جميع المراحل والإجراءات السابقة واللاحقة لتقديم المنتجات وإتمام المعاملات مع العملاء.
2 – المسؤولية: وتهدف إلى تحديد المسؤوليات بدقة من أجل الأداء الفعال وعدم اختلاط الوظائف. حيث يهدف هذا المبدأ إلى تحديد مسؤوليات وواجبات كل الأطراف ذات العلاقة بإطار الحوكمة الشرعية لدى المؤسسة بما يضمن تحمل المسؤولية والمساءلة.
3 – الكفاءة: وتشمل المؤهلات الأكاديمية، والخبرات العملية، والسمعة الحسنة لأعضاء الهيئة الشرعية والجهاز الشرعي لدى المؤسسة. حيث يهدف هذا المبدأ إلى التأكد من توافر مجموعة من الخبرات والمهارات المعقولة لدى الهيئات الشرعية والجهاز الشرعي لدى المؤسسة، مع السعي الدائم لتطوير قدراتهم وأدائهم المهني.
4 – الاستقلالية: ويقصد بها إفساح المجال أمام الهيئة الشرعية لدى المؤسسة لإصدار الفتاوى والأحكام الشرعية وفق ما تقتضيه ضوابط الاجتهاد وشروط الإفتاء دون مؤثرات على أعضاء الهيئة الشرعية، وبما يكفل تعزيز الثقة لدى أصحاب المصلحة حول سلامة المعاملات من الناحية الشرعية. وذلك من خلال تقليل حالات تعارض المصالح المحتملة ما أمكن.
5 – السرية: ومعناها الحفاظ على المعلومات التي يحصل عليها الجهاز الشرعي للمؤسسة غير المتاحة للجمهور وغير المسموح بالإعلان عنها. ولتحقيق ذلك يجب على أعضاء الجهاز الشرعي لدى المؤسسة التأكد من أن المعلومات الداخلية التي يحصلون عليها طوال أداء واجباتهم تظل سرية.
6- التناسق: وهو توافق أعضاء الهيئة الشرعية في تقديم الآراء والفتاوى المقدمة للمؤسسة، والحرص قدر الإمكان للوصول إلى إجماع فيما يتعلق بالقرارات الشرعية، ولا يلجأ إلى اتخاذ القرار بالأغلبية إلا إذا لم يتمكن الوصول إلى الإجماع في مدة زمنية معقولة، وفي نفس الوقت يجب على الأعضاء أن يكونوا متوافقين في الرأي الذي يقدمونه في الهيئات الشرعية للمؤسسات المالية الأخرى. ومن شأنه أن يساهم في تعزيز مصداقيتهم والتأكد من نزاهتهم.
7 – الشفافية: وتعني وضوح العلاقة بين الأطراف المكونة للمؤسسة من حيث الحقوق والواجبات والمسؤوليات، مع الكشف والإفصاح عن جميع البيانات المطلوبة ورفعها للجهات ذات العلاقة.
إن تحديد إطار عام للحوكمة الشرعية وضمان المسؤولية والكفاءة والاستقلالية والسرية والتناسق بالإضافة إلى الشفافية، لكفيل بترسيخ مبادئ الحوكمة الشرعية في المؤسسات المالية الإسلامية.
ولترسيخها لا بد من الاعتماد على مجموعة من المرتكزات لضمان الحصول على حوكمة شرعية فعالة.
الباب الثاني : المرتكزات الأساسية لضمان الحصول على نظام فعال للحوكمة الشرعية :
إن الحوكمة الشرعية هي النظام الذي يحتوي على أدوات وآليات فاعلة يتم التأكد من خلالها على عدم مخالفة المؤسسة لأحكام الشريعة الإسلامية في جميع عملياتها وأنشطتها المختلفة، وذلك من خلال الاعتماد على التشريع الإسلامي، والرقابة الشرعية الفاعلة، والإفصاح الشرعي المستمر الذي يطمئن أصحاب المصلحة عن مدى توافق المؤسسة مع أحكام الشريعة الإسلامية.
فإذاً، الحوكمة الشرعية للمؤسسات المالية تعتمد على ثلاثة مرتكزات أساسية حتى يتم ضمان فاعلية نظام الحوكمة الشرعية، وهي:
- أولاً: حوكمة الفتوى والتشريع:
ويقصد بحوكمة الفتوى والتشريع وضع مرجعية معيارية تشريعية للمعاملات، وهي التي تضمن اتباع المؤسسة للتعاليم الصحيحة لأحكام الشريعة الإسلامية من خلال حصولها على الفتاوى والقرارات الشرعية الصائبة.
و تعتبر حوكمة الفتوى والتشريع امتداداً لمفاهيم الفتوى والاجتهاد في الفقه الإسلامي.
- ثانياً: حوكمة الرقابة الشرعية:
ويقصد بها التأكد من أن تطبيق جميع عمليات وأنشطة المؤسسة يتم وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، والتحقق من عدم وجود أية مخالفات شرعية، والسعي في معالجتها إن وجدت.
وقد عرفت هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية (AAOIFI) الرقابة الشرعية بأنها عبارة عن: “فحص مدى التزام المؤسسة بالشريعة في جميع أنشطتها. ويشمل الفحص العقود، والاتفاقيات، والسياسات، والمنتجات، والمعاملات، وعقود التأسيس، والنظم الأساسية، والقوائم المالية، والتقارير وخاصة تقارير المراجعة الداخلية وتقارير عمليات التفتيش التي يقوم بها البنك المركزي، والتعاميم…إلخ”.
وعليه فإن حوكمة الرقابة الشرعية تهدف إلى التأكد من أن جميع الأنشطة والعمليات التي تقوم بها المؤسسة لا تخالف أحكام الشريعة الإسلامية. وتتميز حوكمة الرقابة الشرعية بالشمولية من ناحية التطبيق، حيث أنها تغطي كافة أنشطة المؤسسة، والموظفين، والأنظمة، والأهداف، والسياسات والبرامج الحالية والمستقبلية.
ولا بد من الإشارة إلى ضرورة وأهمية استقلالية الرقابة الشرعية، يقول الخبير الاقتصادي د قتيبة عبدالرحمن العاني : “إن استقلالية الرقابة الشرعية، واكتساب قراراتها صفة الإلزام، من المبادئ الأساسية لإعطاء الرقابة الشرعية حقا في القيام بدورها في الإفتاء والتوجيه والمراجعة والتصحيح، ولا توجد أي قيمة للرقابة الشرعية إذا لم تكن قراراتها ملزمة للمصرف، لأن الفتوى الصادرة عنها هي حكم شرعي واجب الاتباع شرعاً”[13]
وتعتبر حوكمة الرقابة الشرعية امتداداً لمفاهيم الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفقه الإسلامي.
يتم ضبط ذلك من خلال الآتي[14]:
أ ) الرقابة الشرعية المركزية: جهاز رقابي شرعي لدى البنوك المركزية يقـوم بفحص مـدى التـزام المؤسسة بأحكام الشـريعة الإسلامية، ومدى توافق إطار حوكمتها الشـرعي مـع القوانيـن والتعليمـــات ذات الصلة.
ب) الرقابة الشرعية الداخلية : للمؤسسة جهاز رقابة شـرعي داخلي يتأكد من مدى التـزام المؤسسـة بأحكام الشريعة الإسلامية، والكشـف عن أي انحرافات أو مخالفات وقعت، مع الإبـلاغ عنها على الفور.
ج) الرقابة الشرعية الخارجية :هنالك جهاز شـرعي خارجي مستقل تتعاقـد معه المؤسسة لفحص مـدى التزامها بأحكام الشريعة الإسلامية، مع تقديم تقرير سنوي للجمعية العامة حـول مدى التـــزام المؤسســـة بذلك.
- ثالثاً: حوكمة الإفصاح الشرعي:[15]
حوكمة الإفصاح الشرعي هي الحوكمة التي يتم من خلالها طمأنة أصحاب المصلحة للمؤسسة المالية أن جميع عملياتها وأنشطتها متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية، مع الكشف والإفصاح عن جميع القضايا والفتاوى الشرعية ذات الصلة، كمنهجية الإفتاء، والرقابة، ومحاسبة الزكاة ونحوها.
و”يعتبر الإفصاح المحاسبي أمرا مطلوبا لكفاءة تكوين رأس المال والسيولة في الأسواق والمؤسسات المالية. وكلما ازدادت درجة الإحساس بالمساواة أو العدالة التي يعتقد المستثمرون بوجودها في تلك الأسواق. وكلما ازدادت أيضا درجة ترحيب أولئك المستثمرين بتقديم رؤوس الأموال. كما يعد من أهم ركائز حوكمة المؤسسات لأهميته القصوى في تمكين إدارة الشركة من تحقيق التوازن المستهدف بين مصالح جميع الفئات ذات العلاقة بأداء المؤسسات. [16]
بعد تعريف مفهوم الحوكمة الشرعية وعرض مبادئها بالنسبة للمؤسسات المالية الإسلامية، وبعد تقديمنا للمرتكزات الأساسية لضمان الحصول على نطام فعال للحوكمة الشرعية، وحتى يسهل علينا الفهم، يجدر بنا أن نبحث عن نماذج حية طبقت الحوكمة الشرعية.
- المحور الثالث : نماذج تطبيقية للحوكمة الشرعية
من أجل فهم أوسع للحوكمة الشرعية في المؤسسات المالية الإسلامية لا بد من عرض تجارب ناجحة لدول تعتمد التمويل الإسلامي، وتطبق فيه نظاما للحوكمة الشرعية. وقد وقع اختيارنا على نموذجين أحدهما له تاريخ حافل ومتطور في خدمة المالية الإسلامية، وهو النموذج الماليزي، والثاني هو النموذج المغربي وهو حديث عهد بالتقنين وقد حاول الاستفادة من التجارب السابقة لتقديم نموذج جديد للتمويل الإسلامي يعتمد على البنوك التشاركية.
الباب الأول : التجربة الماليزية في حوكمة المؤسسات المالية الإسلامية [17]
انطلاقا من القوانين والمعايير الدولية، سن البنك المركزي الماليزي قوانينه ومعاييره مضيفا إليها الجوانب الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية. ولأجل هذا الغرض أسس لجنتين، إحداهما لجنة مراجعة القوانين، والثانية لجنة المواءمة بين القوانين الوضعية والشريعة الإسلامية.
وللاطلاع على التجربة المالية في هذا المجال، نعرض أولا للمبادئ الإطار للحوكمة الشرعية التي أقرها البنك المركزي الماليزي، ثم نعرض رسما بيانيا يوضح هيكل الحوكمة الشرعية للمؤسسات المالية الماليزية.
- الفصل الأول : مبادئ إطار الحوكمة الشرعية في ماليزيا.
حدد البنك المركزي الماليزي المبادئ التالية كإطار للحوكمة الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية.
- تحديد متطلبات المصرف المركزي الماليزي فيما يخص هياكل الحوكمة الشرعية والعمليات، والترتيبات الواجب توفرها في المؤسسة المالية الإسلامية، من أجل ضمان توافق جميع عملياتها وأنشطتها المالية مع أحكام الشريعة الإسلامية.
- توفير دليل إرشادي شامل لمجلس الإدارة وهيئة الرقابة الشرعية وإدارة المؤسسة المالية الإسـلامية برمتهـا ل حول كيفية تأدية واجباتها المتعلقة بالقضايا الشرعية.
- توصيف الوظائف المتعلقة بالمراجعة الشرعية والتدقيق الشرعي وإدارة المخاطر الشرعية والبحث الشـرعي )معيار الحوكمة الشرعية(.
ومن أجل إرساء المبادئ الإطار التي حددها البنك المركزي الماليزي، كان من الضروري وضع هيكلة للحوكمة الشرعية للمؤسسات المالية الماليزية.
- الفصل الثاني : هيكل الحوكمة الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية في ماليزيا.
هيئات الحوكمة الشرعية كما عرضها البنك المركزي الماليزي، وأساسها خدمة المبادئ الشرعية للمصرفية الإسلامية، وتتشكل أساسا من الهيئة الشرعية، ومجلس الإدارة، ثم مجلس لجنة المراجعة، ومجلس لجنة إدارة المخاطر.
ولمعرفة تفاصيل أكثر حول التجربة الماليزية في الحوكمة الشرعية، يستحسن الرجوع إلى بحوث تعنى بالموضوع، لا شك أن أحدها هو البحث الذي استرشدنا به في هذه الفقرة حول “حوكمة المؤسسات المالية، تجربة البنك المركزي الماليزي” للأستاذين سعيد بوهراوة وحليمة بوكروشة المنشور في المجلة الجزائرية للتنمية الاقتصادية.
من أجل تطبيق أمثل للمبادئ المصرفية الإسلامية، وضع البنك المركزي الماليزي هيكلة للحوكمة الشرعية.
وتبقى التجربة الماليزية في الميدان تجربة يحتدى بها نظرا لامتدادها النسبي في الزمان، في حين أن تجربة البنوك التشاركية في المغرب والتي لا زالت في بداياتها، تحاول التأسيس لمسار جديد مستفيدة من الخبرة السابقة للتجارب المتقدمة.
الباب الثاني : هيئات المطابقة في البنوك التشاركية المغربية
اعتمد المشرع المغربي على تجربة البنوك الإسلامية من أجل التأسيس لمؤسسات مالية جديدة، تشتغل تحت إشراف البنك المركزي (بنك المغرب)، وتخضع للقانون الخاص بمؤسسات الائتمان والهيئات المماثلة، عبر تسمية جديدة هي البنوك التشاركية.
ومن أجل حوكمة مثلى في هذا المجال فقد أقرت المادة 54 من القانون البنكي[18]ما يلي : تعتبر بنوكا تشاركية الأشخاص الاعتبارية المؤهلة لمزاولة الأنشطة المشار إليها في المادة الأولى والمادتين 55 و58 (منتجات مالية إسلامية) وكذا العمليات التجارية والمالية والاستثمارية بصفة اعتيادية، بعد الرأي بالمطابقة الصادر عن المجلس العلمي الأعلى، الذي يعتبر أسمى مؤسسة للشأن الديني والفتوى بالمغرب.
هذا مع إشارة مهمة ومحورية وهي أنه يجب ألا تؤدي هذه الأنشطة والعمليات، إلى تحصيل أو دفع فائدة أو هما معا.
وتبعا لذات القانون نكون أمام مؤسستين للحوكمة الشرعية، ينبني دورها على مطابقة أنشطة البنوك التشاركية لمقتضيات الشريعة الإسلامية. إحداهما وظيفة داخلية لكل بنك، والثانية خارجية بإشراف المجلس العلمي الأعلى، مع إشراف وظيفي مركزي لبنك المغرب.
- الفصل الأول: لجنة المالية التشاركية بالمجلس العلمي الأعلى:
تتكلف هذه اللجنة ببحث الآراء بالمطابقة التي يصدرها المجلس العلمي الأعلى حسب المادة 62 من القانون البنكي المغربي، بحيث يجب أن لا تؤدي الأنشطة والعمليات الحاصلة على المطابقة، إلى تحصيل أو دفع فائدة أو هما معا، بمعنى أن لا تؤدي إلى ربا، سواء تلك التي يدفعها البنك أو تلك التي يحصلها من العميل، وهو المنطق الشرعي الأساسي الذي تنبني عليه البنوك الإسلامية.
ويجب على البنوك التشاركية أن ترفع إلى المجلس العلمي الأعلى، عند نهاية كل سنة محاسبية، تقريرا تقييميا حول مطابقة عملياتها وأنشطتها للآراء بالمطابقة الصادرة عن المجلس العلمي الأعلى السالف الذكر.
وعليه فإن اللجنة تقوم بدور الفتوى والتشريع، وتبحث الآراء بالمطابقة من خلال الرقابة السنوية.
- الفصل الثاني : اللجنة الشرعية للمطابقة أو وظيفة المطابقة الداخلية.
حسب المادة 64 من القانون البنكي فإنه يجب على البنوك التشاركية أن تحدث وظيفة للتقيد بآراء المجلس العلمي الأعلى، وحدد القانون مهمتها فيما يلي:
- التعرف على مخاطر عدم مطابقة عملياتها وأنشطتها للآراء بالمطابقة التي يصدرها المجلس العلمي الأعلى وفقا للمقتضيات القانونية والوقاية منها؛
- ضمان تتبع وتطبيق للآراء بالمطابقة الصادرة عن المجلس العلمي الأعلى المذكور ومراقبة احترامها؛
- السهر على وضع واحترام الدليل والمساطر الواجب احترامها
- التوصية باعتماد التدابير المطلوبة في حالة عدم احترام مؤكد للشروط المفروضة عند تقديم منتوج للجمهور صدر في شأنه عن المجلس العلمي الأعلى السالف الذكر رأي بالمطابقة.
وتطبق هذه الأحكام على كل المؤسسات والهيئات المرخص لها بمزاولة العمليات المالية التشاركية.
وتحدد شروط وكيفيات سير وظيفة التقيد بآراء المجلس العلمي الأعلى السالفة الذكر بمنشور يصدره والي بنك المغرب بعد استطلاع رأي لجنة مؤسسات الائتمان.
هذا ويجب على البنوك التشاركية أن ترفع إلى بنك المغرب تقريرا وفق الشروط المحددة حول مطابقة نشاطها للمقتضيات القانونية.
وكأغلب القواعد المنظمة للحوكمة الشرعية، يمكن القول أن المشرع المغربي اعتمد الرقابة في المؤسسات التي تقدم خدمات مالية تشاركية على مستويين، أحدهما داخلي والآخر خارجي. فعلى المستوى الداخلي أوجب القانون البنكي إحداث وظيفة المطابقة للتقييد بالآراء الشرعية ذات الصلة للمجلس العلمي الأعلى، وعلى المستوى الخارجي تقوم لجنة المالية التشاركية ببحث أراء المطابقة التي يصدرها هذا المجلس.
على أن البنك المركزي تبقى له صلاحية المراقبة والإشراف من خلال التقارير الدورية التي ترفعها البنوك التشاركية.
خلاص:
حاولنا في هذه الورقة الإحاطة الكاملة بأهم مضامين الحوكمة الشرعية في المؤسسات المالية، فإذا كانت الأزمات المالية الدولية المتتالية قد ساهمت في تكريس نظام للحوكمة المالية والبنكية، فإن المؤسسات المالية الإسلامية التي كان تصورها وتجربتها ملاذا للاقتصاديين والماليين في العالم قد طورت نظاما خاصا للحوكمة الشرعية مستمد من التعاليم الإسلامية السمحة، ومستفيد من مفهوم الفتوى والاجتهاد الإسلامي ومن نظام كان مطبق في الأوساط الإسلامية يدعى نظام الحسبة.
ومع تطور نظام الحوكمة ومحاولة توحيد مبادئه في العالم عبر المؤسسات المالية الإسلامية الدولية، برزت تجارب محلية في مختلف الدول الإسلامية بل وحتى الغربية منها، خاضت تجاربها الخاصة في تقنين وممارسة الحوكمة الشرعية.
إن مفهوم الحوكمة الشرعية للمؤسسات المالية يعتبر من المفاهيم الحديثة، فلم يسبق أن تم تداول هذا المفهوم بين الأوساط العلمية إلا خلال العقد الأخير، وإن معظم الدراسات الحديثة التي تناولت هذا المفهوم لم تسعى لبناء إطار نظري له، وإنما أغلبها تناول المفهوم من حيث الطابع التطبيقي العملي.
وكانت أولى محاولات تعريف مفهوم الحوكمة الشرعية من قبل مجلس الخدمات المالية الإسلامية (IFSB) كما سبق الإشارة إلى ذلك.
وإذا أمكننا تعريف الحوكمة الشرعية للمؤسسات المالية بأنها هي: “النظام الذي يُطَمئِن أصحاب المصلحة، ويضمن لهم عدم مخالفة المؤسسة لأحكام الشريعة الإسلامية، من خلال اتباعها للتعاليم الشرعية الصحيحة، والتأكد من صحة تطبيقها، مع الإفصاح الشرعي عن ذلك”.. فإن نظرية الحوكمة الشرعية ليست مقتصرة على المؤسسات المالية فقط، بل إن مفهوم الحوكمة الشرعية من الممكن تطبيقه على مختلف المؤسسات التجارية والصناعية، أو المؤسسات الوقفية والخيرية، أو حتى على المؤسسات الحكومية والأهلية.
المراجع :
- حسيف عبد المطلب الأسرج – حوكمة الصناديق الوقفية: بين النظرية والتطبيق – بحث منشور على الأنترنيت بتاريخ 26 فبراير 2015
- جماعة من الباحثين الجزائريين (د. شعابنية سعاد، د. حليمي حكيمة، ط. بوجلال ناصر) في بحث بعنوان : الحوكمة والقطاع البنكي الجزائري -بين الواقع والمأمول. بعد 2016.
- عبدالعزيز الناهض، د. يونس صوالحي- نظرية الحوكمة الشرعية للمؤسسات المالية مفهومها، ومستندها، ومشكلتها، ومبادئها، ومرتكزاتها- IIUM Institute of Islamic Banking and Finance, International Islamic University Malaysia- September 2017
- مبادئ منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في مجال حوكمة الشركات- بدون تاريخ عن موقع oecd.org
- مجلس الخدمات المالية الإسلامية https://www.ifsb.org
- مراجعة أدبيات التمويل الإسلامي: الأخلاق، المفاهيم، الممارسة، Usman Hayat, CFA ، Adeel Malik, PhD، نشرة لمؤسسة بحوث معهد CFA لعام 2018
- عبد الله صديقي، خولة فريز النوباني: حوكمة المؤسسات المالية الاسلامية، كرسي سابك لدارسات الأسواق المالية الإسلامية، كرسي الباحث، جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية، 2016 ، السعودية
- القانون المغربي 103-12 المتعلق بهيئات الائتمان والمؤسسات المماثلة.
- الدليل العملي للمدقق الشرعي في المصارف الإسلامية – يحيى محمد زكريا – الطبعة الأولى 2019 – kie Publications
- سعيد بوهراوة، حليمة بوكروشة – حوكمة المؤسسات المالية الإسلامية – تجربة البنك المركزي الماليزي – المجلة الجزائرية للتنمية الاقتصادية، عدد 02 جوان 2015
- أهمية الإفصاح وفق معايير المحاسبة المالية الإسلامية لدعم الحوكمة بالمؤسسات المالية الإسلامية. حكيم براضية، أ. د. بن علي بلعزوز- جامعة حسيبة بن بوعلي – الشلف- الجزائر، منشور ضمن مجلة العلوم الاقتصادية والتسيير والعلوم التجارية، العدد 14/2015
- د قتيبة عبدالرحمن العاني، خبير اقتصادي – دور الهيئات الرقابية في حوكمة المؤسسات المالية الإسلامية- مقال منشور بتاريخ 28 مايو 2015 في موقع https://www.aliqtisadalislami.net/ تم الاطلاع عليه يوم 09/12/2020
- حوكمــــة الرقابــــة الشرعيــــة فـي البنــــوك الكويتيــــة الإسلاميــــة – نشرة معهد الدراسات المصرفية لدولة الكويت- العدد الثالث- يناير 2019-
[1] حوكمة الصناديق الوقفية: بين النظرية والتطبيق – حسيف عبد المطلب الأسرج – بحث منشور على الأنترنيت بتاريخ 26 فبراير 2015
[2] مبادئ منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في مجال حوكمة الشركات- ص 1و2 – بدون تاريخ عن موقع www.oecd.org
[3] عبد الله صديقي، خولة فريز النوباني: حوكمة المؤسسات المالية الاسلامية، كرسي سابك لدارسات الأسواق المالية الإسلامية، كرسي الباحث، جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية، 2016 ، السعودية، ص 15.
[4] جماعة من الباحثين الجزائريين في بحث بعنوان : الحوكمة والقطاع البنكي الجزائري -بين الواقع والمأمول- ص 3 و 4، بتصرف.
[5] جماعة من الباحثين الجزائريين في بحث بعنوان : الحوكمة والقطاع البنكي الجزائري -بين الواقع والمأمول- ص 4 و 5.
[6] مراجعة أدبيات التمويل الإسلامي: الأخلاق، المفاهيم، الممارسة، Usman Hayat, CFA ، Adeel Malik, PhD، نشرة لمؤسسة بحوث معهد CFA لعام 2018
[7] د قتيبة عبدالرحمن العاني، خبير اقتصادي – دور الهيئات الرقابية في حوكمة المؤسسات المالية الإسلامية- مقال منشوربتاريخ 28 مايو 2015 في موقع https://www.aliqtisadalislami.net/ تم الاطلاع عليه يوم 09/12/2019
[8] نظرية الحوكمة الشرعية للمؤسسات المالية مفهومها، ومستندها، ومشكلتها، ومبادئها، ومرتكزاتها- عبدالعزيز الناهض، د. يونس صوالحي- IIUM Institute of Islamic Banking and Finance, International Islamic University Malaysia- September 2017 ص 2 و 3.
[9] المرجع السابق نقلا عن Karim Ginena and Azhar Hamid, Foundations of Shari’ah Governance of Islamic Banks, (UK:Wiley, UK, First Edition, 2015), p. 80.
[11] المرجع السابق ص 16 و 17.
[12] مجلس الخدمات المالية الإسلامية هو هيئة دولية واضعة للمعايير، تهدف إلى تطوير وتعزيز متانة صناعة الخدمات المالية الإسلامية واستقرارها، وذلك بإصدار معايير احترازية ومبادئ إرشادية لهذه الصناعة التي تضم بصفة عامة قطاعات الصيرفة الإسلامية، وأسواق المال، والتكافل (التأمين الإسلامي). كما يقوم مجلس الخدمات المالية الإسلامية بأنشطة بحثية، وتنسيق مبادرات حول القضايا المتعلقة بهذه الصناعة، فضلاً عن تنظيم حلقات نقاشية وندوات ومؤتمرات علمية للسلطات الرقابية وأصحاب المصالح المهتمين بهذه الصناعة. عن https://www.ifsb.org
[13] د قتيبة عبدالرحمن العاني، خبير اقتصادي – دور الهيئات الرقابية في حوكمة المؤسسات المالية الإسلامية- مقال منشوربتاريخ 28 مايو 2015 في موقع https://www.aliqtisadalislami.net/ تم الاطلاع عليه يوم 09/12/2020
[14] حوكمــــة الرقابــــة الشرعيــــة فـي البنــــوك الكويتيــــة الإسلاميــــة – نشرة معهد الدراسات المصرفية لدولة الكويت- العدد الثالث- يناير 2019- بتصرف.
[15] للتوسع أكثر في الموضوع، يرجي الرجوع إلى البحث التالي : “أهمية الإفصاح وفق معايير المحاسبة المالية الإسلامية لدعم الحوكمة بالمؤسسات المالية الإسلامية. حكيم براضية، أ. د. بن علي بلعزوز- جامعة حسيبة بن بوعلي – الشلف- الجزائر، منشور ضمن مجلة العلوم الاقتصادية والتسيير والعلوم التجارية، العدد 14/2015
[16] المرجع السابق ص 1
[17] سعيد بوهراوة، حليمة بوكروشة – حوكمة المؤسسات المالية الإسلامية – تجربة البنك المركزي الماليزي – المجلة الجزائرية للتنمية الاقتصادية، عدد 02 جوان 2015
[18] القانون المغربي رقم 103-12 المتعلق بهيئات الائتمان والمؤسسات المماثلة
جدول المحتويات:
مستقبل المالية الإسلامية في ظل تطورات نظام الحوكمة والحوكمة الشرعية……………………. 1
مقدمة ………………………………………………………………………………………… 2
المحور الأول :
تطور نظام الحوكمة في القطاع البنكي…………………………………………. 3
الباب الأول : مفهوم ومبادئ الحوكمة في البنوك التقليدية………………………………………. 3
الفصل الأول : مفهوم الحوكمة المالية………………………………………………………….. 3
الفصل الثاني : مبادئ الحوكمة في البنوك التقليدية………………………………………………. 3
الباب الثاني : آليات إرساء قواعد الحوكمة في البنوك…………………………………………… 5
- المحددات الخارجية…………………………………………………………………….. 5
- المحددات الداخلية………………………………………………………………………. 5
المحور الثاني : مستقبل المالية الإسلامية في ظل الحوكمة الشرعية………………………………. 7
الباب الأول : مفهوم ومبادئ الحوكمة الشرعية للمؤسسات المالية………………………………… 7
الفصل الأول : مفهوم الحوكمة الشرعية…………………………………………………………. 7
الفصل الثاني : مبادئ الحوكمة الشرعية للمؤسسات المالية……………………………………….. 8
الباب الثاني : المرتكزات الأساسية لضمان الحصول على نطام فعال للحوكمة الشرعية……………. 9
أولاً: حوكمة الفتوى والتشريع……………………………………………………………………. 9
ثانياً: حوكمة الرقابة الشرعية…………………………………………………………………….. 10
ثالثاً: حوكمة الإفصاح الشرعي…………………………………………………………………… 11
المحور الثالث : نماذج تطبيقية للحوكمة الشرعية…………………………………………………. 12
الباب الأول : التجربة الماليزية في حوكمة المؤسسات المالية الإسلامية…………………………… 12
الفصل الأول : مبادئ إطار الحوكمة الشرعية في ماليزيا……………………………………. 12
الفصل الثاني : هيكل الحوكمة الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية في ماليزيا…………………… 12
الباب الثاني : هيئات المطابقة في البنوك التشاركية المغربية………………………………………. 13
الفصل الأول: لجنة المالية التشاركية بالمجلس العلمي الأعلى……………………………………… 14
الفصل الثاني : اللجنة الشرعية للمطابقة أو وظيفة المطابقة الداخلية……………………………….. 14