الفلسفة ودورها في تشخيص الأزمات ووضع الحلول الملائمة لها
بقلم : د. جميل أبو العباس زكير الريان – مدرس الفلسفة الحديثة والمعاصرة- كلية الآداب- جامعة المنيا- مصر
- المركز الديمقراطي العربي
الأزمة هي نمط معين من المشكلات أو المواقف التي يتعرض لها فرد أو أسرة أو جماعة. وفيما يتعلق بدور الفلسفة تجاه الأزمات فإنه كثيرًا ما تُكال الاتهامات للفلسفة والفلاسفة والمشتغلين بها من قبِل فئات مختلفة في المجتمع من: المثقفين وغير المثقفين، والمتخصصين وغير المتخصصين، والعلماء وغير العلماء، حتى وصل الأمر إلى أن أصبحت الفلسفة موطن ازدراء وتهميش؛ وذلك لأنها منقطعة الصلة بالواقع المعيش من وجهة نظرهم. في الوقت الذي تم النظر فيه إلى الفلاسفة على أنهم يعيشون في أبراجٍ عاجيةٍ بعيدًا عن صخب الحياة ومشكلات مجتمعاتها، وأنهم عالة على غيرهم، وبالتالي لا جدوى من وجودهم في دنيا الناس.
يستند هؤلاء في رأيهم إلى أن الفلسفة عديمة الجدوى في الحياة العملية؛ لأنها تعبير عن شيء غامض، لا سبيل إلي فهمه، ولا جدوى من الاشتغال به، ومن ثم فإن الاشتغال بها جهد ضائع، وإنهاك للفكر فيما لا طائل من ورائه. بالإضافة إلى بعض الاتهامات الأخرى مثل: كونها لا تسعى لحل أزمات المجتمع ولا تشارك فيها، وأنها صعبة اللغة، ومعقدة وغامضة، وأنها سبب للانحراف الفكري والعقدي، وغيرها من الاتهامات التي تم الرد عليها في أكثر من موضع.
لكن هذه الادعاءات والفِرًى (جمع فِرْيَة وهي الكذب) جميعها مردود عليها، وما يعنينا في هذا الإطار هو الرد على الاتهام الذي يصف موقف الفلسفة من الأزمات- سواء أكانت أزمات فكرية أم مادية- بأنه موقف سلبي وذلك من خلال عدة أوجه أهمها:
أولًا، يمكن الرد على مهاجمي الفلسفة من منطلق أنهم في محاولتهم هذه- على الرغم من أنها موجهة ضد الفلسفة- هي أيضًا نوع من التفلسف تثبت الفلسفة بدلاً من أن تقضي عليها. فالذي يرفض الفلسفة أو ينكرها هو في حقيقة الأمر متفلسف؛ لأنه لا ينطلق من فراغ، وإنما هو يحاول أن يجد له أرضاً صلبة يقف عليها ويطلق منها سهامه على الفلسفة. أي أنه يحاول بناء وجهة نظر مضادة (فلسفة بديلة) ويجتهد في أن تكون منطقية ومتينة ومستندة إلي أسس قوية وهذا يعني في النهاية أنه يتفلسف.
على هذا فإن السخط والنفور من الفلسفة والتفلسف إن دل على شيء فإنما يدل على عدم إدراك للفلسفة، وجهل بقيمة المهمة التي تؤديها في المجتمع. وقد قال “أزفلد كولبه”: “إن الأصوات التي نسمعها اليوم معلنة قرب انتهاء الفلسفة، أو الزعم بأنها من الأمور التي لا نفع فيها إن هي إلا أصوات تصدر عن جهل بماهية الفلسفة ومعناها ورسالتها التي اضطلعت بها في عصورها المختلفة”.
ثانيًا، إن منهج الفلسفة التأملي العقلي النقدي لا يمكنه أن يجعل الفيلسوف صاحب العقل المُتَّقِد والمتوهج يقف مكتوف الأيدي إزاء مشكلات مجتمعه خاصة تلك التي تتعلق بالصالح العام والإرادة العامة؛ لأن هدف الفلسفة الأسمى في إسعاد الناس لا إشقائهم.
فليست الفلسفة مجرد تأمل يستغرق صاحبه وهو في عزلة عن ضجيج الحياة وزحمة الدنيا. إنما تُكتسب فلسفتنا بدراسة دقيقة للوجود والإنسان ومكانه من الوجود. ونستغل فلسفتنا في الترقي بمستوى تجاربنا وتصحيح نظراتنا إلي الحياة دون أن نقنع بالتطلع إلي وجوه النشاط. إن الفلسفة هي التي تمكننا من أن نشرف من علٍ على الأهداف البعيدة التي تجاهد البشرية من أجلها، وتحفزنا على أن نساهم في تحقيقها ما استطعنا إلي ذلك سبيلاً.
ثالثًا، إن الفلاسفة أصحاب الفكر الراقي والمستنير دائمًا ما يسعون لإصلاح حال مجتمعاهم بهدف تحقيق السلام الداخلي والخارجي، من أجل العيش في عالم مفعم بالحب والتسامح والعدل والرخاء، وتاريخ الفكر الفلسفي زاخر بفلاسفة دعاة حلول لأزمات مجتمعاتهم ومشكلاتها؛ ولا أدل على ذلك من الفيلسوف الظاهراتي إدموند هوسرل خاصة في كتابه في كتابه الموسوم ﺑ “أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية”، وغيره من الفلاسفة السابقين الذين عبَّروا عن أزمات مجتمعاتهم ومشكلاتها ولا يزالون من أمثال: سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وتوما الأكويني، وابن رشد، وتوماس هوبز، وجون لوك، وبرتراند رسل، وليو شتراوس وغيرهم.
بالتالي فإن تَفَكُّر الفلسفة في الأزمة وفي إدارة الأزمات ليس بالشيء المستغرب أو هو بالفعل الهجين عنها باعتبار أن الفلسفة منذ ولادتها حاولت العمل من أجل الـتأسيس لفعل اللوغوس؛ أي فعل العقل وقوة الفعل من خلال الفكر وإعطاء صلاحية كبرى للفيلسوف على التدبير، وعلى نحت المفاهيم، وعلى النظر في النظر بعين مغايرة من أجل البحث عن المنكسف في المنكشف، ولمزيد تمتين العلاقة بين الإنسان وفكره من خلال مواصلة التجرؤ على استخدام العقل والنظر إلى ما يعيشه هذا الإنسان من أزمات مفخخة قد تحول بينه وبين التفكير والمعيش اليومي على غرار أزمة “الكورونا “التي شهدتها العشرات من الدول العربية والأوروبية منذ مدة قصيرة والتي ظهرت أواخر سنة 2019 في مدينة ووهان الصينية لتواصل انتشارها أكثر من الورم الخبيث باعتبارها فصيلة كبيرة من الفيروسات التي قد تسبب المرض للحيوان وللإنسان حيث يسبب فيروس كورونا المُكتشف مؤخراً مرض فيروس كورونا كوفيد-19.
رابعًا، يختلف منهج الفلاسفة في مواجهتهم للأزمات عن غيره من منهج: كمنهج العلمييِن والتجريبيين، ومنهج رجال الدين (كما في الفكر الغربي إزاء العصور الوسطى المسيحية)؛ فالأول، منهج تأملي عقلاني كلي شمولي نقدي تساؤلي، في حين أن الثاني، تجريبي يعتمد على الملاحظة والمشاهدة والتجريب فحسب وهو منهج عملي محدود وجزئي، بينما الثالث منهج قلبي صرف محنصر فيما عنده من نصوص فقط وهو منهج عاطفي.
إنه لما كانت الفلسفة في صميمها تساؤل دائم عن معنى الحياة الإنسانية، وسعي دائب من أجل تفهم حقيقة المصير البشري. فإنه يمكن القول بأن الفلسفة ما انفصلت في يوم من الأيام عن الواقع ولا المجتمع الذي تظهر فيه.
صحيح أن الفيلسوف يكون بحاجة إلي “خلوة فكرية” يبتعد فيها عن الحياة اليومية الدراجة. لكن هذا لا يجب تفسيره على أنه انعزال عن الحياة، بل مجرد تصفية مؤقتة للذهن الذي ينشد الوضوح، لكي يمارس التفكير في جوٍ بعيدٍ عن صخب الحياة وضوضائه.
خامسًا، بالنسبة للأزمات الفكرية فإن تاريخ الفلسفة الطويل يشهد بما قدَّمه الفلاسفة والمفكرون من جهود مضنية إزاء وأد فتنة الأفكار الدخيلة، والغريبة، والمنحرفة عن قواعد الدين أو العرف أو المجتمع وتصدَّوا لها بكل ما أُوتوا من قوة، وإن كان ذلك سببًا في إزهاق حياة الكثيرين منهم. ولا أدل على ذلك مما فعله الإمامان العظيمان أبو حامد الغزَّالي وابن تيمية وغيرهما حين تصديَّا لأصحاب العقائد الباطلة والمنحرفة من خلال المنهج الفلسفي العقلاني النقدي المتزن.
سادسًا، أما فيما يتعلق بالأزمات المادية، وإن كان الدور الأكبر فيها للعلم؛ فهو الذي يقوم بتشخيص الداء محاولًا إيجاد العلاج الناجع والنافع له، إلا أن دور الفلاسفة والمفكرين لا يقل أهمية عن دور هؤلاء العلماء؛ فدورهم يتمثل في كيفية تقديم الحلول الكلية التي تقتلع المشكلة أو الأزمة من جذورها دون الاكتفاء بحلول جزئية لها، مع الوضع في الاعتبار نظرتهم الاستشرافية لمستقبل تلك الأزمة أو تلك وكيفية حصرها وتضييق نطاقها في زاوية بعينها.
يقوم الفلاسفة والمفكرون بمحاولة علاج المشكلات الإنسانية: الاجتماعية والأخلاقية والدينية والعرفية، التي تظهر مع الأزمات المادية سواء أكانت: أزمة اقتصادية، أو صحية، أو علمية.
فكما أننا بحاجة للحلول العملية التطبيقية إلا أننا لسنا في غنى عن التنظير لهذه الحلول والسعي للبحث عن أفضلها.
بهذا نكون عرضنا لكيفية تشخيص الفلاسفة للأزمات، أما عن كيفية إيجاد حلول لها فيمكنني القول: إن الفيلسوف لا يقنع بالحلول المعلَّبة الجزئية الفردية، وإنما دائمًا ما يُفكر خارج الصندوق- وإن كان هذا سببًا في معاداة المجتمع له في كثير من الأحيان لنظرته الضيقة- لأنه صاحب فكر إبداعي، لا فكر تقليدي؛ إذ يقوم بوضع الاحتمالات وفرض الفروض، ثم يجتهد في الإبقاء على أفضلها، ثم يسأل غيره ويستشير؛ وذلك من منطلق مرونة الفكر لديه وتقبله للرأي والرأي الآخر، كي يصل إلى أفضل نتيجة ممكنة.
لذا كان للفيلسوف في تعامله مع الأزمة وحلها سمات أهمها إنه:
– لا يبدأ بما هو كائن كما يفعل العالِم، بل ينطلق إلى ما ينبغي أن يكون، فأداة الفيلسوف؛ العلم والمعرفة والفكر معًا، فلا يتكلم دون علم، ولا يرضى إلا بتحليل ما لديه من معارف مستخدمًا عقله وفكره بموضوعية تامة دون تحيز أو تطرف.
– لا يبني الفيلسوف آراءه على معارف ظنية أو احتمالية، وإنما معارف يقينية حقيقية، لا أقول أنه صاحب معرفة مطلقة، وإنما أقصد مصادر معلوماته، إذ ثمة فارق بين أن تكون مصادر معارفه يقينية وبين أن نقول إنه صاحب معرفة يقينية مطلقة وثابتة، فالأولى جائزة بينما الثانية تكاد تكون مستحيلة.
من هذا المنطلق فإن فلسفة الإدارة بالمعلومات تنبع من حقيقة أساسية هي أن المعلومات تمثل القوة والقدرة. وبالتالي يجب أن يتم بناء الهياكل الإدارية للمؤسسات بالطريقة التي تحقق إفراز المعلومات الكافية والمناسبة لتصل لمن يحتاجها، وأيضًا يجب أن تتدفق المعلومات بشفافية وتصبح مسئولية وحق الجميع، وأخيرًا خارج منظومة المؤسسة على المنظمات العليا (المكونة للبيئة التي تعمل فيها منظومة المؤسسة) أن تستند إلى مؤشرات أداء دقيقة ومعايير تعبر عن فعالية نظم الإدارة بالمؤسسات التابعة لها مع العمل على تحقيق التكامل والتجانس في التقييم على أن يصبح التقييم المستمر أحد سمات الإدارة بالمعلومات.
– نظرة الفيلسوف نظرة واقعية استشرافية بالنسبة لمستقبل الأزمة وتبعاتها، كما أوضحت آنفًا أن من سمات الفيلسوف أنه يقترح حلولًا لعلاج الأزمة الراهنة ويطرح تساؤلات من قبيل: ماذا لو حدث كذا؟ وماذ لو لم يحدث كذا؟ ثم يضع إجاباته عن كل سؤال بما يخدم حل المشكلة والخروج من الأزمة. وهذا ما فعله أستاذنا الأستاذ الدكتور/ بهاء درويش أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة المنيا ووكيل الكلية السابق، إزاء جائحة كورونا التي نعيشها الآن حينما طالب في مقالة له ضرورة تدخل العلماء ورجال الدين [علماء الدين] بسرعة لحسم صورة الوصم: أي التمييز بين الأفراد، والإعلان عن موقفهم منها بصراحة لما للتأخر في ذلك من نتائج غير مرغوبة. وبعدها بأيام قليلة حدث ما كان يُحذِّر منه أستاذنا إذ رفض أهالي شبرا البهو في الدقهلية دفن طبيبة توفيت بكورونا، مما كان له بالغ الحزن والأسى ليس في حق أهالي هذه البلدة بل في حق الإنسانية كلها جراء هذه الفعلة الشنيعة!
– من هذا الاعتبار تبنَّى الفليسوف فكرة التخطيط الاستراتيجي للأزمة، بمعنى آخر يتساءل ماذا لو تبيَّن عدم صواب مقترحه؟ أيقف عاجزًا عن حل الأزمة؟ كلا! وإنما على الفور يستخرج الخطة البديلة أو الحل البديل الذي كان قد أعده تحسبًا لفشل الحل الأول، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنه لا يؤمن بالقطعية أو الدوجماطيقية وإنما بالانفتاحية، والتحررية، والمرونة في الفكر.
– إن كل ما سبق يؤكد وبقوة أن سلاح الفيلسوف هو عقله وتفكيره الذي لا ينصب على الانغلاق والأنانية وإنما يسعى جاهدًا للعمل تحت مظلة التفكير الجمعي الذي يخدم الإرادة العامة للمجموع من أجل تحقيق أكبرقدر ممكن من السعادة والمنفعة.
بهذا لم يكن الفلاسفة والمفكرون يومًا ما سببًا في تأخر المجتمعات وانهيارها، بل العكس هو الصحيح، إذ لا يخل عصر من العصور إلا وفيه منهم من يرصد أزمات مجتمعه ويتوقعها ويُقدم الحلول الناجحة لها، فكم من الفلاسفة والمفكرين والمصلحين كانوا سببًا- بفضل الله تعالى- في إنقاذ بلادهم من الوقوع في براثن الأزمات التي قد تودي بهلاك أمة بأكملها!
المراجع:
– الدكتور بهاء درويش يكتب: مبدأ عدم الوصم يستنجد بالعلماء ورجال الدين هل من مجيب؟ جريدة الجارديان المصرية. https://www.alguardian.com/32746
– علي البهلول: الفلسفة وسؤال الأزمة حول فيروس الكورونا أو في كيفية التعامل مع الموت؟ الحوار المتمدن، بتاريخ: 16/3/2020. http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=668928&r=0
– على حسن السعدنى: فن إدارة الأزمات، دنيا الوطن، بتاريخ: 24/7/2013.
https://pulpit.alwatanvoice.com/content/print/301014.html
– محمود السيد مراد: رد الاتهامات الموجهة إلي الفلسفة، http://kenanaonline.com/users/MahmoudMorad/posts/321432
– محمود حمدي زقزوق: تمهيد الفلسفة، القاهرة، دار المعارف، الطبعة الخامسة، 1994، ص 11: 14.