كورونا … جلد أفعى جديد لنظام دولي قديم
بقلم : أ. د قميتي بدر الدين – الجزائر – المركز الديمقراطي العربي
مقدمة:
تضرب العالم اليوم جائحة كرونا التي منذ سقوط المعسكر الشرقي و سقوط حائط برلين و الاتحاد السوفيتي سابقا لم نرى أو نواجه أزمة عالمية مثلها في المجال البيئي الصحي ، الملاحظ للخريطة الجغرافية لقبل كرونا لابد أن يرى ويحدد مدى قوة الدول في السيطرة على الأزمات و استعدادها لها و دول أخرى هشة عرضة للتهديدات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والصحية .
لكن لم يتصور احد أن تسبب أزمة كرونا شللا تاما حتى في تلك الدول التي كنا ننظر لها سابقا أنها متقدمة تمتلك مؤهلات و بنية تحتية قوية و ترسانة عسكرية لمواجهة أي تهديد ، لكن عكس ما كنا نتصور فقد أظهرت كرونا عدم قدرة تلك الدول لمواجهة الكارثة و التي إن صح التعبير يمكننا القول أنها تمثل ركائز النظام الدولي الذي نشا بعد فترة الحرب الباردة .
من خلال هذه المشاهد للجغرافيا السياسية هناك شكوك تظهر حول تغييرات قد تطرأ على المنظومة العالمية بعد أزمة كرونا وراح الباحثون والمفكرون يقدمون وجهات نظرهم حول نظام دولي جديد سينشأ جراء هذه الأزمة و أن ما بعد كرونا ليس كما قبل كرونا و على العالم التأهب إلى حركة عالمية في توزيع القوى من جديد .
و لمناقشة هذه الفكرة التي قد تبدو نوعا ما واقعية نطرح إشكاليتنا :
- هل هناك إرادة سياسية لدى صناع القرار داخل الدول و نية واضحة نحو التغيير العالمي ؟
أولا : الأزمات تولد المفاهيم و الأطروحات :
فالدارس للعلاقات الدولية يعلم جيدا إن هناك طريقين للتحليل و فهم التحولات الدولية و هما إما صراع أو تعاون و من خلال هذان المحورين تتبلور الكثير من النظريات و الاتجاهات الحديثة في تشابكات وتعقيدات المنظومة الدولية و محاولة تقريب الرؤى يمثل الصراع نظرية القوة و ما لف حولها من أنصار الواقعية، و يمثل التعاون دعاة الليبرالية و نظريات السلام الديمقراطي و ما سار على نهجهم. لهذا سيتبادر في أذهاننا ما هو المسار الذي سيسلكه العالم ما بعد كرونا ؟ و ما هي الآثار التي ستترتب على العلاقات الدولية ؟ و الدارس للعلاقات الدولية يستطيع عبر المسار التاريخي و المفاهيمي الابستمولوجي إن تطور مجموعة النظريات و الاتجاهات كان نتيجة أزمات دولية حيث تسقط مفهوم أو تحيده و تسقط نظرية وتثبت فشلها من عدمها و تظهر مفاهيم جديدة أخرى تحتاج إلى تحليل و استنباطات ، فجائحة كورونا التي ضربت العالم ستحدث خللا و صدمة في النموذج المعرفي الغربي و الشرقي و سيتجه الجميع إلى محاولة فهم النتائج المترتبة على هذه الجائحة و التي ترجح عودة التنافس والصراع، أو ما زالت تؤمن بانتصار قيم السلم والتعاون.
ثانيا : تحليلات بسيطة لأزمة عالمية
إن أنصار الليبرالية رأوا أن هذه الجائحة ستحدث تغيرا عميقا في العالم لا يمكن تحديد نوعه وبالنظر إلى الضرر الاقتصادي من انهيار أسعار النفط و تراجع دور الدول الخارجي و سعيها في إنقاذ ما يمكن إنقاذه داخليا فكثير من الدول وقفت تصدير منتجاتها و خاصة الطبية و الغذائية تحسبا لأي طارئ أو امتداد الأزمة و بقاء الجائحة إلى أشهر ، و بالمقابل إنهيار الاجتماعي الذي سيترتب عن هذه الأزمة بخصوص حالات الخوف والهلع و أزمة غذاء عالمي قد تعصف بالدول المتقدمة قبل الفقيرة و مجمل الحالات النفسية التي تركتها هذه الجائحة داخل المجتمع .
فالشيء الظاهر لنا من خلال ملاحظة الفواعل الدولية في العلاقات الدولية سنجد فقط الدولة هي من تغلق الحدود والدولة هي من تقدم المساعدات و الدولة هي من تقوم بالحجر دون أي وجود لفواعل أخرى و هذا يعزز تنامي النزعات القومية، واحتدام التنافس بين القوى العظمى من جديد حول الموارد و استعادة أدوارها من جديد بعد أزمة كورونا في ظل منافسة جيوسياسية من الصعب تحديد معالمها و مناطق النفوذ الجديدة للدول العظمى و ساحة التنافس و آليات الصراع بينهم.
وفي اتجاه آخر يرى آخرون إن مسألة التعاون الدولي أصبحت أكثر من ملحة و على المجتمع نبذ كل النزاعات و التقارب أكثر للقضاء على هذه الجائحة و الاستعداد أكثر من ذي قبل لازمات أخرى مستقبلية و لا بد من المجتمع الدولي إلى ضبط سياساته إلى انضباطً كبير للحفاظ على التعاون الدولي وعدم المنافسة الجيوسياسية الصراعية التي لم تقدم للمنظومة الدولية سوى استنزاف الموارد و تأخر معدلات النمو والتنمية في البلدان الفقيرة و ضرر بيئي عالمي يهدد المعمورة ككل .
ثالثا : الإرتدادت العالمية لجائحة كورونا
أظهرت الجائحة أننا أمام عولمة هشة حين توجهت الدول إلى إغلاق الحدود و مبدأ الحمائية لمواجهة الجائحة مع وقف حركة الطيران و إعلان الطوارئ و وقف التصدير، كلها تدفع بالاتجاه السلبي و المضاد لمواجهة الأزمة لان الاعتماد المتبادل و التعاون الدولي أدى بالدول إلى عدم تلبية احتياجاتها الداخلية لمواطنيها دون أي تعاون دولي أو اعتماد على الواردات بسب غلق المصانع غلق الحدود …الخ.
و أصبحت كل دول تواجه الجائحة بالإنفراد دون اللجوء إلى العمل و التنسيق الجماعي حتى داخل التكتلات الموجودة حاليا (مثال ايطاليا و اسبانيا داخل الاتحاد الأوروبي).
قــد تســببت الأزمة في تداعيــات اقتصاديــة، مثــل: تباطــؤ معــدلات النمــو العالمــي، وتراجــع الطلــب على النفــط في الأســواق العالميــة، ونقــص في القطاعــات التكنولوجيــة و خطوط الإنتاج العالمية تعمقــت الأزمــة أكثر بتأثــرها بحركــة التصديــر و الاستيراد العالمية بحيث جــاءت هــذه العوامل في صالــح التيــارات الداعمــة للرجوع إلى مفاهيم قديمة كالدولة القومية و النزعات القومية التي ستؤدي إلى تفكك بعض التكتلات الإقليمية والدولية .
و كمثال إن ما حدث في حالة من لا استقرار داخل الاتحاد الأوروبي والامتحان الذي مرت به البلدان الأوروبية في خضم معركتها ضد هذه الجائحة سيجعل الاتحاد على المحك و إعادة النظر إلى جميع القرارات التي اتخذت داخل هذا الاتحاد في مواجهة الأزمة و النظر في مصير الاتحاد بعد الخروج من هذه الجائحة ، وعلى أي حال، فإن المجتمع الدولي في حاجة إلى إعادة صياغة مفاهيم كالعولمة البديلة أكثر إنسانية و اجتماعية داخل قيم تضامنية و تعاونية أكثر ، فهل تستطيع الدولة القومية العمل نحو عولمة ذات البعد التعاوني الذي يحقق العدالة و المساواة داخل الأوطان و السلم والأمن العالمين .
حتى المفاهيم الأمنية أو أمننة الظاهرة أو الجائحة تظهر جليا من خلال خطابات قادة الدول التي تقول إننا في حرب أو إننا نوجه عدو خفي هذا يقودنا إلى إنتاج مفاهيم جديدة لمفهوم الأمن التقليدي و توسع هذه التهديدات إلى تهديدات أمنية مستحدثة تشمل الأوبئة و البيئة و الصحة العالمية وذلك نتيجة تركيز الدول على مسائل التسليح و الصناعة العسكرية مع إغفال الجوانب الصحية لذا وجدت الدول نفسها في مواجهة فيروس مع نقص الامدادت الطبية مع توظيف الجيش في عمليات التعقيم و إنشاء المنشآت الصحية الميدانية ، إن الخطابات السياسية التي تدعو إلى أمننة الجائحة ربما عملت ارتداد عكسي و نشرت الذعر و الخوف داخل المجتمع .
فمن بين الإرتدادات ، بروز الدولة القومية كفاعل الأقوى ، تراجع أو عدم جدوى التكامل الدولي ، إعادة النظر في مفاهيم كالعولمة و الأمن الدولي ، مركزية بعض المجالات كالرعاية الصحية و البنى التحتية عن قضايا التسليح و التسلح.
رابعا : مستقبل المجتمع الدولي و نظامه :
أرى انه من السابق لأوانه للحديث عن التغيير الذي سيطرأ على النظام الدولي أو المنظومة الدولية و هذا لعدة أسباب و تباينات التي أظهرتها جائحة كورونا :
- من الصعب أن ننام ونصحو على نظام دولي جديد فهذا نوع من التسرع في الحكم و عدم إدراك مفاهيمي و رؤية تاريخية في مسارات العلاقات الدولية نحن نحتاج إلى عدة سنوات لتظهر ملامح نظام دولي جديد و يصاحب تلك السنوات عاده تغييرات دولية و إقليمية تسبق النظام الجديد و لا بد أن تمس هذه التغيرات الفواعل الدولية المؤثرة في المنظومة الدولية ، أتصور من 5 إلى 10 سنة هي المدة الزمنية الكافية التي قد يستغرقها تشكل نظام دولي من التشكل إلى الظهور و الاستقرار .
- الذي قد يتبلور حاليا هو تراجع القوى الكبرى في التأثير و ذلك نتائج عن الأزمة و الالتفاف إلى أزماتها الداخلية و الذي سيحدث سيتم إجبار الولايات الأمريكية المتحدة بوصفها متزعمة العالم الغربي والليبرالي إلى إشراك أطراف دولية جديدة في قيادة العالم و سيتحول بالتدرج إلى عالم متعدد الأقطاب بشكل صريح .
- يجب أن نفهم و ندرك تمام الإدراك أن تفوق الليبرالية الرأسمالية الغربية على النموذج الاشتراكي الشرقي ليس لقوتها الفكرية و التنظيرية و إنما قدرتها على تجاوز المشاكل و تكيفها معها و تعمل على إعادة تعريفها للواقع ، فيوجد داخل الليبرالية آلية نقدية مع الاستفادة من النقد الموجه لها و تعمل على تحسين و تجاوز الإشكاليات الدولية و هذا ما سيحدث لما بعد الكورونا فان الدول الليبرالية القوية القدرة على المناورة و إعادة تأهيل اقتصادياتها و الرجوع إلى ساحة الصراع و المنافسة والقيادة .
- انتقال مراكز القوى نحو الشرق و بالتحديد الصين بالرغم إن الحضارة الصينية مسالمة مع الدول الإفريقية وأمريكيا اللاتينية إلا أن الحضارة الغربية لا يمكنها التنازل بسهول عن موقعها العالمي سيؤدي هذا المشهد بالضرورة إلى صراع بين الشرق والغرب و سكون صراع و صدام مباشر وعلني و هذا ما يقوض فرضية نظام عالمي جديد ( صراع بين أوراسيا بقيادة الصين والقوى الصاعدة الهند و إيران و باكستان و أطلسي بقيادة الولايات الأمريكية المتحدة و الاتحاد الأوروبي) .
الخاتمة:
من خلال تصور كيسنجر عن ترميم النيوليبرالية بالتلويح بقيم التنوير الجديدة التي من شأنها حماية العالم الليبيرالي من هذه الجائحة العالمية بحيث يدعو كيسنجر لثلاث خطوات يتعين على الولايات المتحدة اتخاذها في مرحلة الخروج من أزمة كورونا: تطوير تقنيات جديدة لمكافحة العدوى، وتضميد جراح الاقتصاد العالمي، وحماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي، و يركز بالأخص على حماية اقتصاد النيوليبرالية ومستقبلها، دون إثارة المسؤولية الأخلاقية للولايات المتحدة أو المجتمع العالمي ، هذه الرؤية أو هذا المسار سيكون المخرج للعالم الليبيرالي الذي سينجح نوعا ما في الخروج من هذه الجائحة بأخف الأضرار و أن الترميم الذي دعا إليه كيسنجر هو محاولة نقدية لإعادة تحريك ركائز النظام العالمي الذي ظل راكدا منذ انهيار المعسكر الشرقي و خلق ميكانزمات أكثر مرونة مع المتغيرات الحالية دون المساس بتحولات القوى داخل النظام الدولي الحالي و الذي قد ينشأ مستقبلا .