الدراسات البحثيةالمتخصصةالنظم السياسي

إشكاليات بناء الدولة العراقية

اعداد : م.م تمارا كاظم الاسدي  – باحثة متخصصة في الشؤون الدولية- العراق

  • المركز الديمقراطي العربي

 

المقدمة:

أن العراق يعاني من ضعف البناء الدستوري ولا ينسجم مع مقتضيات وجود الدولة، بسبب الحروب وأزمات عدة عانى منها، لتكون المحصلة نظام سياسي مشوه غير قادر على تمثيل العراق كدولة وشعب، انما صار ينذر بحدوث ازمة اوسع تأثيراً واعمق خطراً مما حصل في العام 1921، إذ حمل معه ازمات عقود تسعة لم يتم تسويتها، فضلاً عن ازمات العقد الاخير بعد العام 2003، وهذا طريق صار يمهد لتفكك العراق اكثر مما يمهده لبناءه.

فرضية البحث:

تدور فرضية البحث حول فكرة مفادها ان استمرار الاداء الحالي للقوى السياسية، مع عدم الثقة بينها، وعدم توحد الرؤية حول العراق كمشروع دولة، يجعل العراق مقبل على انهيار مؤسسات الدولة والنظام السياسي، وعلى المدى المتوسط يتوقع تفكك الدولة العراقية، مستندين الى الخلل البنيوي الحاصل في النظام السياسي الاتحادي والى معضلتي دستور الدولة وسياسات بنائها غير السليمة المتبعة من قبل القوى السياسية.

أشكالية البحث:

 يعالج البحث أشكالية محددة متعلقة بأن عدم اهتمام الدستور ببناء دولة عراقية على صعيد علاقات الاقاليم ومجالس المحافظات والحكومات المحلية، وعلى صعيد معنى الدولة وكيفية ادارة انشطتها الداخلية والضمانات لحماية حقوق الافراد، وتعريف من هو العراقي، قد خلق مشكلة بنيوية للنظام السياسي، تطرح احتمالات لإنهيار هذا النظام، والدستور وانتهاء بقايا الدولة القائمة اليوم.

لذلك جاء البحث للإجابة عن الأسئلة الاتية:-

  • ما هي اهم الاشكاليات التي يعاني منها النظام السياسي العراقي ؟
  • ما هي اوجه الخلل في بناء الدولة العراقية حالياً ؟

أولاً:- مفهوم الإشكالية.

ان الاشكالية هي مفهوم اوسع من المشكلة وتحتوي الاشكالية على عدد من المشكلات، وهي اكثر عمومية من المشكلة فهي قضية عامة ومُعقدة وينضوي تحتها عدد من التساؤلات، وقد نجد أجوبة لهذه التساؤلات أو لا نجد بحيث تبقى القضية مفتوحة، وغالباً ما تُسبب الإشكالية جدلاً واسعاً يُقابَل بالرفض من قِبل الكثيرين ([1]).

ثانياً:- تأسيس الدولة العراقية .

يرجع تأسيس الدولة العراقية الحديثة إلى عام 1921 في جملة أحداث دولية، وداخلية، سياسية وعسكرية، ساهمت في ذلك التأسيس، وقد تكون هي أيضا السبب في رمزية ذكرى التأسيس، إلا أن العراق الكيان السياسي والجغرافي كما تشير كتب التاريخ شهدت أرضه استيطان عدد من الحضارات العرقية كالحضارة السومرية، والبابلية والكلدانية، وكان مركزا للخلافة الإسلامية في عهد الإمام علي (ع) في مدينة الكوفة، وكذلك مركزا للدولة العباسية في مدينة بغداد، ومن ثم للدولة البويهية والدولة العثمانية.

وكان لها لبريطانيا الدور الأكبر في قيام النظام السياسي آنذاك وإقراره بالدستور الوضعي، وحاولت أن تؤسس لحياة سياسية قائمة على الانتخابات البرلمانية في اختيار السلطة التنفيذية المتمثلة في رئيس الوزراء في حين كان على رأس الدولة الملك وهي تجربة تشبه إلى حد كبير النظام السياسي في بريطانيا، ومع صعود النزعة المعادية للنظام الملكي في العراق، أطيح به كلياً في حادثة دموية قتل فيها أغلب أفراد العائلة المالكة، وأركان الحكومة آنذاك، ليؤسس مع عام 1958 نظاما سياسيا قائما على الحكم الجمهوري ذو النزعة الشمولية لينحدر هذا النظام إلى صيغة أكثر استبدادية ودموية مع صعود نظام حزب البعث بعد القضاء على حكم عبد الكريم قاسم ذو النزعة الوحدوية المواطناتية، وحكم الأخوين العارفين ذو الصبغة الدينية المحافظة، ولم تكن سمة الدولة العراقية في عهد البعث الصراعات الداخلية فحسب كما كان في نهاية العهد الملكي وحقبة حكومة عبد الكريم قاسم والعارفين وإنما أدخل نظام صدام حسين الدولة العراقية في صراعات خارجية بدأها من الحرب الثمان سنوات المتواصلة مع إيران، ومن ثم الحرب مع الخليج أثر دخول الكويت، ومن ثم تصاعد التوتر مع الجانب الدولي المتمثل بإسرائيل والولايات المتحدة تحت شعارات قومجية مثل تحرير فلسطين والقضاء على إسرائيل طوال عقد التسعينات.

مما تقدم، فان الدولة العراقية منذ التأسيس كانت تغلب عليها سمة عدم الاستقرار والصراع ، وأنها وأن كانت رائدة نسبيا في عدة مجالات في سنوات التأسيس الأولى: تعليميا، صناعيا، تجاريا وحتى سياسيا على مستوى دول الشرق الأوسط حيث كانت الدولة العراقية تقارن بالدول الغربية في سنوات العهد الملكي إلا أن الدولة العراقية في الجمهوريات التي مرت بها تعرضت إلى انتكاسات متعددة جعلتها متراجعة في كل الجوانب، وبالمقارنة مع التجارب الإقليمية الحديثة النشأة فهي فاشلة، وتعيش حالة الهشاشة وفق المعايير الدولية([2]).

ثالثاً:- الإشكالية الاجتماعية:

أن العراق يعانى من جملة إشكاليات اجتماعية تحول دون بناء دولة، ويمكن وصفها وتحديدها بالاتي ([3]):-

  • ازمة الثقة: ففقدان الثقة السياسية هي بين اطراف العملية السياسية، وهذا يعد واحدة من اوجه المعضلة السياسية التي تحول دون بناء دولة عراقية، فالعراق كما هو معرف منقسم الى عدة طوائف واقليات اثنية ودينية، إذ تكمن المعضلة السياسية من فقدان الثقة السياسية بين كلاً من العرب من جهة والاكراد من جهة الساعين لتحقيق اكبر قدر من المكاسب السياسية والاستقلالية من السلطة الاتحادية،
  • ان الانقسام الديني المذهبي من جهة اخرى، قد القى بضلاله هو الاخر على الواقع السياسي.
  • كما تعد مشكلة تدني مستوى الثقافة السياسية لدى الشعب العراقي مشكلة حقيقية امام استيعاب شكل نظام الحكم (الديمقراطي)، فأن غياب هذه الثقافة يشكل عائق امام تقدم بناء الدولة.
  • تفتقر الحكومة العراقية الى تطبيق نظام التكنوقراطي، بمعنى ان المشكلة الاخرى التي تواجه بناء الدولة العراقية هي حاجتها الى الكفاءة والعقول في ادارة مفاصل الدولة العراقية.
  • التكوينات العشائرية والقبلية أن أحد أهم الإشكالات الاجتماعية المؤثرة في بناء الدولة في العراق هو تنامي دور العشائر، مما يؤثر في عملية التطور السياسي.
  • غياب الترابط الاجتماعي بين افراد المجتمع العراقي.

رابعاً: إشكالية إدارة التنوع.

أن هناك عوامل عدة أسهمت في أضفاء سمة عدم الاستقرار السياسي في العراق، ولعل أهمها ظاهرة التنوع العرقي والمذهبي والديني، التي ذهبت كثير من الرؤى والتحليلات إلى عدها بؤرة حيوية لتغذية الصراعات، وهذا التنوع العرقي قد أفرز واقعاً تجزيئياً على مستوى العراق، إذ تنتج عراقاً مجزءاً قومياً، فالعروبة تضم العرب فقط والعراق بحدوده الحالية ليس عربياً صرفاً فمنطق جوهر التنظير يبرر للأكراد دولتهم القومية وللتركمان كذلك ، فلم يعد مناسباً أن تدعى احدى هذهِ الفئات العرقية والدينية احقيتها وحدها بالحكم.

لذلك فإن ظاهرة التنوع بالعراق تبرز عبر نسيجه الاجتماعي الذي يتكون من قوميات واديان ومذاهب عدة، وأن هذهِ الأعراق الموجودة حالياً في العراق (العرب- الكرد- التركمان)، هي في الأصل نتاج لهجرات تاريخية متعاقبة، فهناك تنوعاً مذهبياً يتطابق مع شكل الأرض والمناخ ففي حين ينتشر التشيع في مناطق السهل الجنوبي المنبسط ذي النشاط الاقتصادي الزراعي، ينتشر التسنن في مناطق الفرات الأعلى والمناطق الغربية الصحراوية، لهذا أدت الهجرات إلى وادي الرافدين إلى بزوغ حضارات تاريخية عدة أسهمت في أغناء التنوع، وانتجت اهم خاصيتين كان لهما الأثر الكبير في حياة الانسان العراقي وهما المؤسسة الدينية والسلطة السياسية ، فضلاً عن تأثير الصراع الفارسي- العثماني على أرض العراق وتأثير نتائجه في التنوع الذهبي، الذي كان مثالاً على طائفية السلطة الدينية الفارسية والعثمانية.

وهذا الترابط بين السلطة السياسية والمؤسسة الدينية وانعكاساته على طبيعة التنوع العرقي والمذهبي في العراق يدفع الباحثة الى التأكيد على أن نظام الحكم الديني لا يلائم طبيعة التنوع المذهبي في العراق لأن أي سلطة دينية ستوجه استقطابها الطائفي لأبناء مذهبها، مما يجعل هذا التنوع يؤثر في بناء الدولة بسبب طريقة تعامل السلطة مع هذهِ الإشكاليات العرقية والمذهبية أما بالعنف، أو التجاهل، أو التهميش، أو الاقصاء ، أو الدمج القسري دون النظر إلى المطالب.

وعلى هذا الأساس فأن طريقة التعامل مع هذهِ الإشكالية تتطلب قراءة حقيقية ومنطقية لواقع التنوع في العراق، فالدولة العراقية واستقرارها بحاجة إلى هذهِ القراءة لتجاوز حالات الانشقاق القومي والطائفي؛ وذلك عبر ضرورة اصلاح السلطة السياسية بحيث تصبح معبرة سياسياً عن مختلف فئات التنوع، فضلاً عن ترسيخ الوحدة الوطنية عبر الاعتراف بالتنوع كخطوة في دمج فئاته سلمياً بالوطن([4]).

خامساً: إشكالية الاستبداد.

يقصد بالاستبداد بالسلطة الرغبة الشديدة للتمسك بها والاستحواذ على مغانمها، ومحاولة عدم التفريط بها مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك (حروب، فتن، اغتيالات، فقر، فساد بأنواعه، ضياع جزء من الأراضي، وضع البلد في مستقبل مجهول)، فالبعض يضحي بوطنه ويضحي بشعبه ويضحي بولده لغرض الاستمرار والبقاء على رأس السلطة.

لذلك فأن الاستبداد بالسلطة هو بمثابة مرض نفسي، إلا انه مرض لا يمكن علاجه بسهولة كون المصاب به يرفض التشخيص، فضلاً عن رفضه الشديد لأخذ العلاج،  لهذا السبب نظر أغلب الباحثين والمفكرين إلى السلطة بأنها مفسدة، فسعى كل من يريد تجنب هذه المفسدة إلى تقييدها وتقنينها في إطار المؤسسات القانونية والدستورية.

وهذا يدفعنا إلى طرح سؤال يتعلق بظاهرة الاستبداد، وهو هل الطاغية المستبد هو من صنعها، أم أن الشعوب لها دور في ذلك على مقولة (الشعوب تصنع الطغاة)؟، ثم هل يدرك الحاكم المستبد أنه مستبد وسوف يؤدي استبداده إلى ظلم وخراب بالضرورة؟.

وهنا توضح الباحثة إن استبداد الأنظمة ليس على وتيرة واحدة، هناك نظام شمولي، ليس فيه أي هامش للحرية (التعددية معدومة)، حيث لا يترك الحاكم الشمولي شيء خارج سيطرته وسطوته، في حين هناك بعض الأنظمة الدكتاتورية التي تتمتع بنوع ولو بسيط من هامش نسبي من الحرية النقابية أو السياسية، كذلك يختلف الاستبداد السلطة من رئيس لآخر بين من يصبح لديه لحد الجنون (جنون العظمة) وبين من يكون محبا للسلطة ومغانمها وشهواتها بدواعي نفسية مرضية.

لهذا مهما حاول المستبد من أن يتشبث بالسلطة فإن مصيره الزوال لا محال (لو دامت لغيرك لما وصلت إليك)، ولكن الزوال يختلف باختلاف الطريقة التي يغير بها، فالزوال قد يكون بالإعدام أو بالقتل أو بالنفي، فالمستبد لا يعرف صديق ولا يعرف عدو، صديقه من يساهم في بقاءه في السلطة ولو كان أبعد ما يكون عنه دينياً وقومياً ومذهبياً وفكرياً وإيديولوجياً، أما عدوه فهو من يساهم ويدعو إلى زواله وتغييره حتى وأن كان الأقرب له، وفي أحيان الطاغية من صنع المستعمر وأحيان الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية تصنع الطاغية، فضلاً عن اغتنام الفرص في أحيان تؤدي دورا جوهرياً في صناعة المستبد الطاغية، أما الشعوب فهي في حالات تصنع الطغاة دون شعور، وتحاول بعد فوات الأوان للتخلص منه لكن النتيجة بعد ترسيخ الطاغية سلطته سلبية وفي غير صالح الشعوب، لذلك تثبيت الطاغية سهل نسبيا، لكن تغييره صعب لغاية لما يمتلكه من أدوات السلطة تمكنه من القمع المستمر لشعبه ، وقد ابتُليت أغلب الشعوب العربية بأنظمة سياسية مستبدة جثمت على صدورها لمدة زمنية ليست بالقليلة، البعض تخلص منها بفعل التدخلات الخارجية ، كما حصل عن طريق اسقاط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين بفعل الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003([5]).

سادساً: إشكالية الهوية.

تعد أزمة الهوية عاملاً حاسماً في عملية بناء الدولة واستقرارها لا سيما في المجتمعات التي تتكون من جماعات عرقية أو دينية أو ثقافية، والعراق كأحد هذه الدول لم يصل إلى مستوى دمج هذه الانتماءات الفرعية من أجل الوصول إلى هوية مشتركة وعامة ، علماً أن هذا الدمج لا يعني إزالة أو تهميش الانتماءات الفرعية بقدر ما يعني عدم التعارض بين الهويات الفرعية والهوية الوطنية الشاملة للجميع.

كما أن ن تقسيمات البيئة الاجتماعية والتعدد الذي يتسم به المجتمع العراقي نقلت الولاء من الدولة إلى الولاءات الفرعية بحسب الإنتماء العرقي أو الطائفي ، الأمر الذي أضعف الشعور بالهوية العراقية وبالمواطنة العراقية، ولعل ما عمق من هذه الحالة هو فشل الخطاب السياسي العراقي بعد عام 2003 في إيجاد روابط مشتركة تعيد اللحمة الوطنية وتدفع بالمواطنة إلى الأمام، بل على العكس نراه عمق من الأزمة لأنه لم يستند إلى خطاب جامع واحد يصهر كل خصوصيات المجتمع العراقي وانتماءاتهم تحت الهوية الوطنية العراقية.

فالواقع يؤشر على أن هناك من روج للهوية الإسلامية كما هو حال الأحزاب الدينية، وهناك من روج لمفهوم الأمة العراقية، وهناك من روج للعلمانية، وهناك من روج للهوية العربية وآخرون يتمسكون بالهوية الكُردية، ومن ثم أسهم هذا الارتباك والتخبط في الخطاب السياسي لمعظم القوى والتيارات السياسية بجعل المواطن العراقي لا يشعر بهويته الوطنية ومواطنته لأنه يراها أما عينيه ضعيفة بفعل سيادة الولاء الحزبي على الولاء الوطني.

ولا شك فإن هذا الواقع الاجتماعي العراقي قد سُيس في بعض جوانبه ولم يعد يأخذ بعداً خالصاً متعلقاً بكون الاختلاف مدعاة لقوة الدولة بقدر ما أصبح الاختلاف أحد عوامل عدم الاستقرار المجتمعي، وهذا بدوره انعكس لخلق حالة من عدم الاستقرار وإضعاف مرتكزات بناء الدولة العراقية([6]).

ومما سبق يمكن القول أن الأساس لبناء هوية عراقية حتى في ظرف الرجة الاجتماعية التي يمر بها العراق الان، تكمن في اصلاح السلطة ونظام الحكم ليكون مدخلاً مهماً لترميم الهوية الوطنية العراقية.

سابعاً: إشكالية المحاصصة.

لقد عانت عملية بناء الدولة العراقية بعد عام 2003 من مشكلة جوهرية فعند تأسيس مجلس الحكم الانتقالي على وفق مبدأ التمثيل النسبي للقوميات والاديان والطوائف العراقية، لضمان تمثيلها واسماع اصواتها والاعتراف بوجودها وحقوقها لتتأسس الدولة العراقية على قاعدة المحاصصة القومية والدينية والطائفية ، إذ لم يتمكن النظام السياسي من تكوين مشروع وطني لدولة وطنية مبنية على العدالة والمساواة والحرية بل أتت بدولة مشوهة قائمة على اساس عرقي وطائفي ومذهبي، مما ادى الى فشلها والذي تتحمله الكتل السياسية المشاركة في العملية السياسية، فاعتمد النظام السياسي العراقي على المحاصصة التي تعمل على تقاسم مراكز الحكم في الدولة بين الاحزاب والقوى السياسية ،  فقامت الاحزاب والقوى السياسية على اساس الانتماءات الطائفية والاثنية في الانتخابات وفي تشكيل الحكومات بعد عام 2003، وتم تفنين المحاصصة الطائفية في الدستور ضمنياً حيث لم تعطِ صلاحيات لفصل اي وزير من رئاسة مجلس الوزراء الا بموافقة البرلمان، وبذلك غيب دور البرلمان الذي تحول في بعض الاحيان الى واجهة للسلطة التنفيذية .

وبالتالي اصبح نظام المحاصصة على المستوى السياسي والاداري هو احد خصائص الدولة العراقية بعد عام 2003، واستمراره يهدد اي بناء محتمل لدولة عراقية تقوم على المؤسسات ونظام الكفاءة في ادارة الدولة، واخطر ما في المحاصصة هو ركونها الى التقسيم الحزبي، وان اي دولة تقوم على هذا النوع من النظام في ادارة المؤسسات سوف يؤدي بها الى تفشي الفساد والاسلوب السيء في ادارة الدولة كمرحلة اولى وانهيار الدولة كمرحلة اخيرة([7]).

ثامناً:- الديمقراطية التوافقية.

الديمقراطية التوافقية تعني ان كل ما يقر انتخابياً لا يعمل به سياسياً، انما كل قرار عليه ان يعاد صياغته، وفقاً لمنطق قبول وجود المحاصصة، ومن ثم ان تكون القرارات والتشريعات وسطياً تراعي مصالح من موجود في قمة الحكم في عراق ما بعد العام 2003، فقد يكون من المناسب الاخذ بالديمقراطية التوافقية بعد انهيار النظام السياسي العراقي للاتفاق على حد ادنى من القواعد التي تحكم ممارسة السلطة على قاعدة ضمانات متبادلة للمصالح الحيوية للاطراف المشاركة كلها في العملية السياسية، لأجل ارساء اسس بناء الدولة والشروع في عملية التحول الديمقراطي ، ويكاد ينطبق هذا على الاحزاب والقوى السياسية التي ادارت العملية السياسية بعد عام 2003، فهي ذات انتماء ديني او مذهبي، إذ أعاد المشهد السياسي نمذجة المجتمع العراقي على اساس الهوية الطائفية والعرقية  إذ تحمل التوافقية اعترافاً ضمنياً بالواقع الراهن كحل انتقالي، إلا أن استمرارها يغدو عقبة امام بناء الدولة العراقية، لأنها تصطدم بحواجز جرى ترسيخها عبر ذلك كجزء من التسوية السياسية، وهذه الحواجز هي الطائفية والعرقية والاثنية التي يصعب تجاوزها وتخطيها ولم تستطع ثقافة المجتمع السياسية القفز فوقها وتجاوزها، مما ادى الى ترسيخ هذه الحواجز ، إذ تؤدي الى ضعف مفاهيم القيم السياسية الديمقراطية او غيابها واهمها المعارضة والاغلبية السياسية، لأن التوافقية في هذه الحالة تحاول ان تجهض على موضوعية الاختلاف التي هي القاعدة الاساسية للمعارضة، وان الركون الى المحاصصة الطائفية، ما دامت صيغت على اساس التمثيل الاجتماعي السياسي ذوي الاستقطاب الطائفي([8]).

تاسعاً: إشكالية الطائفية.

الطائفية هي ظاهرة حديثة بمعناها الذي يتميز عن العصبية والطوائف والتي عرفها المجتمع العربي عامة والعراقي خاصة منذ قرون طويلة، والمقصود بالطائفية هنا هو تسييس الطائفة، والطائفية السياسية بمعناها التحاصصي المحدد، والذي يرتبط بمرحلة تاريخية جديدة نشأت فيها الدولة الوطنية والجماعة القومية.

والطائفية السياسية بالمعنى المعاصر لها هي وليدة تفاعل المنظومة الاجتماعية القائمة مع عوامل جديدة مثل “الدولة” ودخول العامة مجال السياسة، والاستعمار الحديث وطريقة بناء الدولة الوطنية المستقلة أو ستصطدم بها لاحقاً كما في العراق وسوريا ولبنان وغيرها من الدول العربية.

لذا فالنظر إلى المجتمع العراقي يؤشر لنا طبيعة التعدد العرقي والتنوع المذهبي والاختلاف الديني، هذا التنوع الذي غالباً ما يجعل الدولة أمام فكرة الصراع والانقسامات الدائمة، لاسيمّا إذا ما توفرت بيئة حاضنة، أو شرارة للنزاع، مما يجعلنا أمام حالة اللاستقرار في الدولة. ولعل هذا التعدد في بعده الطائفي دفع إلى تحويل الطائفية الموجودة في المجتمع إلى خطر حقيقي يهدد التجانس الاجتماعي وكيان الدولة ككل، والسبب يعود في تعميق تلك الظاهرة إلى التنشئة السياسية الخاطئة التي مارستها السلطة السياسية ما بعد عام 2003، والتي بنيت على أسس طائفية ودينية وعرقية متناسية وحدة العراق الوطنية، إذ وجدت الأطراف المكونة للعملية السياسية في ترسيخ الانقسامات المجتمعية والطائفية مصلحة جوهرية لها وذلك من خلال علاقة الطائفية السياسية بالسلطة والثروة والنفوذ، على حساب مصلحة الوطن والمواطن([9]).

لذلك فأن اهم مقومات تجاوز الطائفية السياسية في العراق المعاصر تتمثل بالاتي([10]):

  • الديمقراطية والمواطنة تمثلان حلاً لمشكلة الطائفية السياسية، وتحتاج بالتأكيد الى تأصيل واختيار النموذج المناسب بين الديمقراطية التوافقية والديمقراطية الليبرالية الحديثة.
  • تفعيل دور المرجعيات الدينية والنخب السياسية المعتدلة.

أما معوقات تجاوز الطائفية السياسية فهي:-

  • استحضار الصراع التاريخي الديني والمذهبي، وغياب الهوية.
  • فشل السلطات في ادارة التنوع الاجتماعي الموجود في العراق والتنافس الانتخابي المحتدم.

في حين تتمثل المعالجات السياسية والدينية للطائفية السياسية في العراق بالاتي([11]):-

  • المعالجات السياسية.
  • حل الخلافات السياسية.
  • اصدار قانون تحريم الطائفية.
  • منهضة سياسات الاحتلال.
  • متابعة الاعلام الطائفي.
  • المعالجات الدينية.
  • الحوار الديني والتقريب بين المذاهب.
  • متابعة المناهج الدينية التعليمية.
  • رفض الخطاب الديني المتطرف.
  • النخب الدينية المعتدلة.

عاشراً:- إشكالية الدستور العراقي لعام 2005.

يتخلل الدستور العراقي إشكاليات عدة ولعل ابرزها:-

  • أشكالية كتابة الدستور: لقد واجهت مرحلة أعداد الدستور أمور عدة منها ان العرب السنة قاطعوا التصويت على الدستور، ولجنة الدستور كانت تريد تمديد الوقت لكتابة وايضاح المسودة الدستورية بشكل اكثر مقبولية لأن مدة الستة اشهر غير كافية، فضلاً عن كتابة الدستور كانت في وجود قوات احتلال تتحكم بالقرار العراقي، لذلك رفض نصوصه كثيرون منه بينما نادى العديد من الشخصيات السياسية وعدد من الخبراء الدستوريين والقانونيين بتعديل بعض نصوصه وقد جرى فعلا تشكيل لجنة طبقاً لنص المادة(142) من الدستور، إلا انها واجهت الكثير من المعرقلات.
  • أشكالية النفط والغاز: تمثل المادة (111) والمادة (112) التي تخص الثروات الطبيعية والنفطية واستخراجها وتوزيعه اشكالية بين حكومة المركز وحكمة اقليم كردستان ، وتمثلت في تفسير نص المادة فقد فسرته حكومة الأقليم وفق مبدأ نفطنا لنا ونشارككم ببقية نفط العراق وقامت بتصدير النفط دون الرجوع للحكومة الاتحادية، ويعد نص المادة (112) من اكثر مواد الدستور ركاكة في التعبير ، وضبابية في الفهم ، واشكالية في التفسير المتعدد وحتى المتناقض؛ وبالنتيجة من اكثر المواد الدستورية خطورة.
  • المادة 140 والمناطق المتنازع عليها:  نصت هذه المادة على آلية تضم ثلاث مراحل: أولاها التطبيع، ويعني علاج التغييرات التي طرأت على التركيبة السكانية في كركوك والمناطق المتنازع عليها في عهد نظام صدام وبعده، والثانية الإحصاء السكاني في تلك المناطق، وآخرها الاستفتاء لتحديد ما يريده سكانها، وذلك قبل 31 ديسمبر/كانون الأول 2007.

إلا انها جوبهت بالاعتراض  من قبل العرب والتركمان ، وحجتهم في ذلك أن السقف الزمني  للمادة انتهى في ديسمبر/كانون الأول 2007، وبالتالي فهي كما يرون بحاجة إلى تعديل دستوري ، ويتهمون في المقابل الأحزاب الكردية بجلب مئات الآلاف من الأكراد للسكن في تلك المناطق لتغيير هويتها الديمغرافية، ويتخوفون من احتمال ضم محافظة كركوك الغنية بالنفط إلى إقليم كردستان.

لهذا فقضية كركوك لم تحل وفق الدستور والقانون واصبح القوة هي من تحكم الارض، ويبقى الدستور وغموضه السبب وراء تلك الاشكالية وعامل معرقل للتسوية بدل الحل.

  • أشكالية تعديل الدستور: جرت محالات عديدة لتعديل الدستور العراقي  ، إلا انها اصطدمت بالمادتين(126) و،(142) التي حددتا آلية أي تعديل يجري على مواد الدستور ، واشترطت أن يخضع التعديل لاستفتاء شعبي وأن لا يتم رفضه من قبل ثلاث محافظات عراقية وهذا يعني شبه استحالة أي تعديل في الدستور العراقي  والذي يعد من الدساتير الجامدة([12]).
  • إشكالية المادة (76) أولاً محددة بنص واضح وجلي، حيث تنص على ما يلي: (يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً بتشكيل مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوما من تاريخ انتخاب رئيس الجهورية)، أما الفقرة ثانياً من نفس المادة فقد حددت المدة الدستورية التي تمنح لرئيس الوزراء المكلف وهي (ثلاثون يوماً) فقط، وعند الرجوع إلى ذات المادة (76) لكن الفقرة ثالثاً، هنا الوضع اختلف بشكل كلي، حيث نجد أن نص المادة ينص على ما يلي: (يكلف رئيس الجمهورية مرشحا جديدا لرئاسة مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوما عند إخفاق رئيس مجلس الوزراء المكلف في تشكيل الوزارة خلال المدة المنصوص عليها في البند ثانيا من هذه المادة).

للوهلة الأولى وعند قراءة نص المادة (76) أولاً وثانياً يتضح أن رئيس الجمهورية صلاحياته واضحة فهو يختار ما تم اختياره، لكن عند قراءة نص الفقرة (ثالثاً) من نفس المادة يتضح جدا أن الدستور أعطاه الصلاحية الكاملة بأن يختار مرشحا جديداً دون الرجوع إلى الكتلة النيابية الأكثر عدداً بشرط إخفاق التكليف الأول، بمعنى آخر، أن نص المادة صريح وواضح في الفقرة ثالثاً، حيث التكليف الثاني لا يحتاج الرجوع إلى الكتلة الأكبر كون المادة لم تشر إلى الكتلة الأكبر هنا بل أشار إلى صلاحية رئيس الجمهورية بالتكليف في حالة الإخفاق.

لذلك يتضح مما سبق، إن تكليف رئيس الجمهورية برهم صالح، بتاريخ 17/3/2020 للنائب عدنان الزرفي دون الرجوع إلى الكتلة الأكبر صحيح وفق نص المادة (76) ثالثاً الواضحة الدلالة، ويعني ذلك أن رئيس الجمهورية لديه صلاحية أخرى مستترة داخل المادة تعطيه صلاحية غير مفعلة، والاعتراض الذي تم يفترض أن يوجه إلى المشرع (لجنة كتابة الدستور)([13]).

الخاتمة:

إن الدولة العراقية تواجه أزمات عدة تهدد وحدة العراق ومستقبل الدولة العراقية ، مما يتطلب إعادة النظر بالدستور العراقي وتقويم مسار النظام السياسي ككل، وخلق التوافق بين القوى السياسية، لذلك تطرح الباحثة جملة من المعالجات لتجاوز هذه الإشكاليات وهي:-

  • تعميق مفهوم المواطنة.
  • ترسيخ الوحدة الوطنية بحيث يصبح الولاء للوطن بعيداً عن السياسات القسرية.
  • ضرورة اصلاح السلطة السياسية من أجل أن تعبر عن جميع فئات المجتمع العراقي.
  • تعميق الوحدة الوطنية العراقية عبر توحيد شعارات الدولة ، والعلم العراقي ، والعملة وغيرها.
  • تحقيق تنمية عادلة تشمل جميع المحافظات.
  • اصلاح المناهج التعليمية لتؤكد على ضرورة التعريف بتاريخ الفئات المكونة للمجتمع بدلاً من التحفيز على الانشقاق.

المصادر:

  • اسراء ربحي ،ما الفرق بين الاشكالية والمشكلة ، مقال منشور، على الموقع الالكتروني: \https://mawdoo3.com
  • د. اسراء علاء الدين نوري وآخرون، معضلة بناء الدولة في العراق، دراسة بحثية، المركز الديمقراطي العربي، برلين- المانيا، 2017.
  • د. اسعد كاظم شبيب، العراق: مائة عام على تأسيس دولته الحديثة، دراسة منشورة، مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية، كربلاء- العراق، 12 كانون الثاني 2021.
  • د. طارق عبد الحافظ الزبيدي، إشكالية الطائفية السياسية، محاضرة ملقاة على طلبة الدراسات العليا، جامعة بغداد، كلية العلوم السياسية، 15/ 12/ 2020.
  • د. طارق عبد الحافظ الزبيدي، الصلاحية الدستورية لرئيس جمهورية العراق، مقال منشور، مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية، كربلاء- العراق، 7 كانون الثاني 2021.
  • د. ياسين سعد محمد البكري، بنية المجتمع العراقي: جدلية السلطة والتنوع، مؤسسة المرتضى للكتاب العراقي، بغداد- العراق، 2011.
  • غيث عبود طالب، أشكالية تطبيق الدستور، ورقة بحثية مقدمة للدكتور طارق عبد الحافظ الزبيدي، جامعة بغداد، كلية العلوم السياسية، قسم الفكر السياسي، 5/1/2021.
  • مجموعة باحثين، معوقات بناء الدولة في العراق قراءة في الإشكالات الاجتماعية، حلقة نقاشية، شبكة النبأ المعلوماتية، 15 أيلول 2019.
  • محمد علاء الصافي، الطائفية السياسية واشكالية بناء الدولة في العراق، مقال منشور، شبكة النبأ المعلوماتية، 1 آب 2019.

([1]) اسراء ربحي ،ما الفرق بين الاشكالية والمشكلة ، مقال منشور، على الموقع الالكتروني:

\https://mawdoo3.com

([2]) د. اسعد كاظم شبيب، العراق: مائة عام على تأسيس دولته الحديثة، دراسة منشورة، مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية، كربلاء العراق، 12 كانون الثاني 2021.

([3]) د. اسراء علاء الدين نوري وآخرون، معضلة بناء الدولة في العراق، دراسة بحثية، المركز الديمقراطي العربي، برلين- المانيا، 2017.

([4]) د. ياسين سعد محمد البكري، بنية المجتمع العراقي: جدلية السلطة والتنوع، مؤسسة المرتضى للكتاب العراقي، بغداد- العراق، 2011، ص263-268.

([5]) د. طارق عبد الحافظ الزبيدي، هوس السلطة في الأنظمة الاستبدادية : الجزائر انموذجاً، مقال منشور، شبكة النبأ المعلوماتية، 26 أذار 2019.

([6]) مجموعة باحثين، معوقات بناء الدولة في العراق قراءة في الإشكالات الاجتماعية، حلقة نقاشية، شبكة النبأ المعلوماتية، 15 أيلول 2019.

([7]) د. اسراء علاء الدين نوري وآخرون، مصدر سبق ذكره.

([8]) المصدر نفسه.

([9]) محمد علاء الصافي، الطائفية السياسية واشكالية بناء الدولة في العراق، مقال منشور، شبكة النبأ المعلوماتية، 1 آب 2019.

([10]) د. طارق عبد الحافظ الزبيدي، إشكالية الطائفية السياسية، محاضرة ملقاة على طلبة الدراسات العليا، جامعة بغداد، كلية العلوم السياسية، 15/ 12/ 2020.

([11])د. طارق عبد الحافظ الزبيدي، إشكالية الطائفية السياسية، المصدر نفسه.

([12]) غيث عبود طالب، أشكالية تطبيق الدستور، ورقة بحثية مقدمة للدكتور طارق عبد الحافظ الزبيدي، جامعة بغداد، كلية العلوم السياسية، قسم الفكر السياسي، 5/1/2021.

([13]) د. طارق عبد الحافظ الزبيدي، الصلاحية الدستورية لرئيس جمهورية العراق، مقال منشور، مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية، كربلاء- العراق، 7 كانون الثاني 2021.

5/5 - (5 أصوات)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى