إحتمالات التصعيد النووي الروسي : قراءة في المشهد الإستراتيجي للحرب
بفلم : عمرو محمد ابراهيم عامر – باحث في العلاقات الدولية ودراسات الأمن الدولي، القاهرة، مصر
- المركز الديمقراطي العربي
في 27 فبراير، أمر الرئيس فلاديمير بوتين القوات النووية الروسية بوضع قوات الردع النووي في البلاد في “وضع التأهب العالي لأداء المهام القتالية الاحتياطية”، وهي المرة الأولى التي يقوم فيها الكرملين بذلك منذ تأسيس الاتحاد الروسي في عام 1991. وقد فُسر ذلك بأنه تهديد بإستخدام الأسلحة النووية ضد دول الناتو إذا تدخلت في أوكرانيا.
بطبيعة الحال، وبالنسبة لبوتين، من غير المعقول على الأرجح أن ينسحب من أوكرانيا دون أي مكاسب. وهذا من شأنه أن يقوض ليس فقط مكانة روسيا كقوة عظمى، ولكن أيضًا من شعبية بوتين في الداخل. في هذه الحالة، قد يرى بوتين أنه من المنطقي تقديم إشارة واضحة على قوته وقوة روسيا. مما لا شك فيه أن لديه الوسائل المتاحة له للقيام بمثل هذا الأمر، على سبيل المصال كما حدث: “الأشارة بأستخدام أسلحة نووية يمكن استخدامها في البداية بطريقة تكتيكية شبه إستراتيجية”.
داخل روسيا، صوّر بوتين ذلك على أنه رد دفاعي طبيعي على فرض العقوبات الاقتصادية، لكن خارج روسيا يُنظر إليه على أنه طريق للكرملين لاستخدام أسلحته النووية في الضربة الأولى المفاجئة. الحقيقة أن هذا يعتبر موقف خطير للغاية حيث يمكن أن تؤدي الرسائل المختلطة مع احتمال سوء التفسير إلى اتخاذ قرارات بناءً على افتراضات خاطئة – وهناك تاريخ موثق جيدًا لمثل هذه الحالات مع الأسلحة النووية.
تم تطوير الردع بالأسلحة النووية في الحرب الباردة بشكل أساسي على أساس ما كان يسمى “التدمير المؤكد المتبادل أو ما يمسى بالـ MDA، وهي استراتيجية تتلخص في أن الرعب والدمار من الأسلحة النووية كافيان لردع الأعمال العدوانية والحرب. لكن تطبيق هذه النظرية على حقائق ما بعد الحرب الباردة موضع خلاف حاد وأكثر تعقيدًا بكثير في عصر الهجمات الإلكترونية التي يمكن أن تتدخل في السيطرة على الأسلحة النووية.
وتقوم عقيدة “التدمير المؤكد والمتبادل MDA، على نظرية الردع في العلاقات الدولية، وبموجب هذه لنظرية، يملك كل جانب أسلحة نووية كافية تدمير الجانب الأخر، وهي ترى أن التهديد بأستخدام هذه الأسلحة ضد العدو؛ يمنع العدو من استخدام الأسلحة ذاتها.
قراءة في الاستراتيجية العسكرية الروسية:
تسمح لنا المواقف المعروفة بوضع افتراضات معينة حول كيفية استخدام روسيا للأسلحة النووية، وفي ضوء ذلك، من المهم التفريق بين “الأسلحة النووية الاستراتيجية وشبه الاستراتيجية (التكتيكية – العملياتية)”.
تؤدي الأسلحة النووية الاستراتيجية دورين رئيسيين:
- أولاً، تعمل كرادع وضمان نهائي للبقاء في مواجهة تهديد وجودي للدولة الروسية، بما في ذلك ضربة مدمرة من قبل قوة نووية أخرى.
- ثانيًا، تساعد هذه الفئة من الأسلحة موسكو في شن الحرب في ظل ظروف مواتية. أي إن مجرد التهديد باستخدام القدرات النووية الاستراتيجية يوفر أداة قوية لإبعاد الأطراف غير المرغوب فيها عن الصراع، مما يسمح لروسيا بمتابعة عمليات عسكرية نشطة بوسائل أخرى.
في غضون ذلك، لعبت الأسلحة النووية شبه الاستراتيجية دورًا متغيرًا في العقيدة العسكرية الروسية. خلال التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت هذه القدرات في قلب الموقف العسكري لروسيا حيث حاولت موسكو تعويض أوجه القصور الهيكلية لقواتها التقليدية. وقد اقترح بعض الاستراتيجيين الروس أن الاستخدام النووي المحدود كان اقتراحًا منطقيًا. قد يؤدي ذلك إلى قلب المد في حرب كان من الممكن أن يؤدي فيها تفوق قوة الناتو التقليدية إلى تحقيق النصر للحلف.
وعليه اقامت روسيا البرنامج الشامل للإصلاحات الدفاعية الذي تم إطلاقه في عام 2008، وقد أعاد القوة التقليدية لروسيا وأزال دور الأسلحة النووية التكتيكية التشغيلية. وظهر جدل مؤخرًا حول ما يسمى بـ “عقيدة التصعيد لوقف التصعيد”، والتي بموجبها قد تستخدم روسيا الأسلحة النووية التكتيكية في وقت مبكر من الصراع من أجل تحقيق نصر سريع.
هذه الفرضية، مع ذلك، تستند إلى أسس مهتزة. لا تقدم التصريحات الروسية أي دليل قاطع على وجود مثل هذا الموقف بالفعل في عقيدتها العسكرية. كما أنها تستند إلى فرضيتين خاطئتين: أن القوة التقليدية غير كافية (ربما مرة واحدة، لكنها لم تعد كذلك) وأن الانتقام النووي غير مرجح (لا يمكن أبدًا افتراض ذلك في عالم الردع النووي).
ما هي الدول التي تمتلك أسلحة نووية؟
هناك خمس دول حائزة للأسلحة النووية معترف بها بموجب معاهدة “عدم انتشار الأسلحة النووية العالمية” وهما، (الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة). تشارك كل دولة في العالم تقريبًا في معاهدة حظر الانتشار النووي، ولكن خارج المعاهدة تعلن ثلاث دول أخرى صراحة امتلاكها لأسلحة نووية، وهم (الهند وباكستان وكوريا الشمالية)، بينما لم تعلن إسرائيل عن امتلاكها أسلحة نووية ولكن يُفترض أنها تمتلكها.
يمكن تقسيم الأسلحة النووية إلى فئات مختلفة اعتمادًا على مركبات إيصالها ومنصات الإطلاق – صواريخ برية أو بحرية أو جوية وصواريخ قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى-. وتتبادل الولايات المتحدة وروسيا المعلومات حول صواريخهما النووية الاستراتيجية “بعيدة المدى” بموجب اتفاقية “ستارت الجديدة”، وهي معاهدة للحد من الأسلحة النووية العابرة للقارات ومراقبتها بين البلدين.
لكن مع قرار الولايات المتحدة بالانسحاب من معاهدة “القوات النووية الوسيطة INF” في عام 2019، لم تعد هناك أي اتفاقيات بين الولايات المتحدة وروسيا تنظم عدد أو نشر الصواريخ النووية المطلقة من الأرض بمدى يتراوح بين 500-5500 كيلومتر.
هل تمتلك أوكرانيا ألأسلحة النووية:
كجزء من الاتحاد السوفياتي؛ استضافت أوكرانيا الصواريخ النووية السوفيتية إلى جانب بيلاروسيا وكازاخستان، وفي نهاية الحرب الباردة، استضافت أوكرانيا ما يقرب من ثلث الأسلحة النووية للاتحاد السوفيتي ولكن لم يكن لديها سيطرة عليها وبالتالي لم يكن بإمكانها استخدامهم.
وفي عام 1994، التزمت أوكرانيا بالانضمام إلى معاهدة “حظر الانتشار النووي: كدولة غير حائزة للأسلحة النووية ووافقت على نقل جميع الرؤوس الحربية النووية إلى روسيا لإزالتها بحلول عام 1996. وكجزء من هذا الترتيب، ووقعت روسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة إلى جانب أوكرانيا وبيلاروسيا على مذكرة “بودابست” لتقديم ضمانات أمنية إذا انضمت الدول السوفيتية السابقة إلى معاهدة حظر الانتشار النووي كدول غير حائزة للأسلحة النووية.
ووافقت المذكرة على احترام استقلال وسيادة بيلاروسيا وكازاخستان وأوكرانيا على الحدود القائمة، وحمايتهم من العدوان الخارجي، وأن تمتنع الأطراف عن التهديد أو استخدام القوة -وتحديداً عن استخدام الأسلحة النووية- ضد بيلاروسيا وكازاخستان وأوكرانيا، ومن استخدام الضغط الاقتصادي للتأثير على سياساتهم. كما اتفقا على اتخاذ إجراء فوري من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لمساعدة بيلاروسيا وكازاخستان وأوكرانيا إذا كانوا “ضحية لعمل عدواني أو هدف للتهديد بالعدوان باستخدام الأسلحة النووية”.
في 27 فبراير، وفي استفتاء وطني تم إدارته على مراحل حول الإصلاحات الدستورية، صوتت بيلاروسيا للسماح باستضافة القوات الروسية والأسلحة النووية والقوات الروسية على أساس دائم، بما يتعارض مع شروط مذكرة “بودابست”. كما سمحت بيلاروسيا للقوات الروسية باستخدام الأراضي البيلاروسية لغزو أوكرانيا من الشمال. بيما يتعارض تعارض صارخ مع شروط المعاهدة.
هل ستستخدم روسيا الأسلحة النووية؟
لقد افترضنا أنه إذا كانت روسيا ستستخدم الأسلحة النووية، فإنها ستفعل ذلك في هجومها على أوكرانيا، وليس لمهاجمة دولة من دول الناتو مما قد يؤدي إلى تفعيل المادة 5 من معاهدة واشنطن ويؤدي إلى رد فوري من جميع دول الناتو. وفي مثل هذا الهجوم –إن حدث-، ستكون الأسلحة النووية قصيرة المدى وذات القدرة المنخفضة في “ساحة المعركة”، والتي يُعتقد أن هناك أكثر من 1000 منها في الاحتياط الروسي؛ هي الأكثر استخدامًا.
ويمكن القول، إن أي حركة لتجهيز ونشر أسلحة نووية روسية يمكن رؤيتها ومراقبتها من قبل الولايات المتحدة والأقمار الصناعية الأخرى ، والتي يمكن أن ترى من خلال الغطاء السحابي وفي الليل. اعتمادًا على المعلومات الاستخبارية والتحليلات الأخرى -وفشل جميع المحاولات الدبلوماسية لإثناء روسيا- قد تقرر دول الناتو التدخل لمنع الإطلاق عن طريق قصف مواقع التخزين ومواقع نشر الصواريخ مسبقًا.
لكن هناك مخاطر هائلة مرتبطة بهذا القرار، حيث قد يؤدي هجوم الناتو إلى هجوم أسوأ بكثير من روسيا ويمكن وصفه بأنه عمل عدواني من قبل الناتو وليس دفاعًا استباقيًا. ومع ذلك، فإن عدم الاستباق يترك أوكرانيا أو دول أخرى عرضة لتفجيرات الأسلحة النووية مع احتمال مقتل مئات الآلاف، حسب الهدف.
كيف سيرد الناتو على هجوم نووي روسي:
إذا كانت روسيا ستهاجم أوكرانيا بأسلحة نووية، فمن المرجح أن ترد دول الناتو على أساس أن تأثير الأسلحة النووية يتجاوز الحدود ويؤثر على البلدان المحيطة بأوكرانيا. لذلك، يمكن لحلف الناتو الرد إما باستخدام القوات التقليدية على الأصول الاستراتيجية الروسية، أو الرد بالمثل باستخدام الأسلحة النووية حيث أن لديه العديد من الخيارات المتاحة. تمتلك الولايات المتحدة حوالي 150 قنبلة جاذبية نووية من طراز B-61 متمركزة في خمس دول تابعة لحلف شمال الأطلسي -بلجيكا وألمانيا وهولندا وإيطاليا وتركيا- ولدى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا أيضًا قدرة طويلة المدى على شن هجمات نووية تحت رعاية الناتو.
لكن كلا السيناريوهين يعني أن الناتو قد انجر إلى حرب كبرى مع روسيا. ومن الممكن دائمًا- على الرغم من أنه من المستبعد جدًا- أن يقرر بوتين شن هجوم صاروخي طويل المدى ضد الولايات المتحدة، لكنه يعلم -كما يفعل جميع مسؤوليه- أن هذه ستكون نهاية روسيا.
سيناريوهات الحد من الازمة:
هناك عاملان يمكننا المراهنة عليها للحد من هذه الازمة:
- العامل الأول هو الانتقام الغربي: إن الرهان على هذا العامل يعني وضع أملنا في حسابات بوتين بأن استخدام الأسلحة النووية من شأنه أن يتجاوز الحدود التي تعرضه لخطر أكبر من ذي قبل. لكن بوتين أظهر بالفعل أنه مستعد لقبول مخاطر جدية للغاية من أجل متابعة مشروعه لإحياء روسيا العظمى وإلغاء “الكارثة الجيوسياسية” لتفكيك الكتلة الشرقية. لذلك لا يمكننا التأكد من أن قدرة الغرب على الانتقام ستمنع بوتين من استخدام الأسلحة النووية التكتيكية. وبمجرد استخدام الأسلحة التكتيكية، فإن استخدام الأسلحة النووية الاستراتيجية تقترب خطوة واحدة.
- العامل الثاني هو المحاولة الغربية لتهدئة الصراع: الرهان على هذا العامل يعني التفكير الجاد في كيفية طمأنة بوتين وروسيا، وفتح طريق لهم للخروج من الحرب التي بدأوها بطريقة تحفظ ماء الوجه. قد يعني هذا التفكير أنه يجب علي الغرب الاستعداد لقبول التنازلات. وقد يعني ذلك أنهم يجب ألا يحاولوا دعم أوكرانيا بأكبر عدد ممكن من الأسلحة والعقوبات. وقد يعني ذلك ايضًا أنهم يجب أن يكونوا مستعدين للتضحية بأوكرانيا.