الدراسات البحثيةالمتخصصة

تفكيك وتحليل مفهوم الأناركية

إعداد: أنجيلوس عبد الملك عدلي – المركز الديمقراطي العربي

 

مقدمة:

يُعد الفكر الاناراكي أو الفوضوي أحد أكثر الأفكار التي لاقت رواجاً واسعاً خلال القرن العشرين، وأثارت العديد من الجدل كذلك حولها لا سيما في الدول الغربية، ونحاول في هذه الدراسة عرض تحليل لهذا المفهوم من خلال رصد نشأته وتطوره والإشكاليات التي يثيرها، ومدى تداخله مع مفاهيم أخرى وتمايزه عنها، وأيضاً أهم الانتقادات التي وجهت إليه.

اولاً: نشأة المفهوم وتطوره:

يُرجح بعض الكتاب أن مفهوم الاناركية يعود الى عصور قديمة حيث أن العديد من المدارس الفكرية في اليونان القديمة (القرن الرابع و الخامس و السادس قبل الميلاد) كانت ذات نزعة اناركية في تحليلها للفرد، فنجد افكاراً ذات صبغة اناركية، على سبيل المثال عند زينون الذي كان يدعو الى سيادة القانون الأخلاقي، وأن الافراد إذا اتبعوا القوانين الطبيعي يمكنهم أن يعيشوا في سلام وتجانس مع بعضهم البعض ولن يكون هناك حاجة لوجود مؤسسات تمارس القهر علي الأفراد كالمحاكم أو الجيوش أو الكهنة[1].

وقد أرتبط مفهوم الاناركية حديثاً بجوزيف برودون الذي حاول إستخدام كلمة اناركية بشكل مختلف حيث كان ينطقها بشكل مركب (ان – اركي) وذلك لتجنب الانتقادات وليبعد هذه الكلمة عن معني الفوضي المرتبط بها في الاذهان، وقد كانت الحكومة هي المسئولة عن الفوضي من وجهة نظره وبالتالي يمكن للمجتمع ان يستعيد الانسجام الاجتماعي اذا لم يكن هناك حكومة، و نجد انه في ظل الجدالات التي خاضها برودون فقد وصل في النهاية الي استعمال كلمة الاناركية بالمعني الذي يؤدي الي الفوضي ايضاً، وهو ما وقع فيه تلميذه ميخائيل باكونين، وقد استخدم برودون وباكونين مفهوم الاناركية للإشارة الى اقصى انواع الفوضى وغياب التنظيم الكامل عن المجتمع، لكن هذا التغير الثوري يحمل وراءه بناء نظام جديد مستقر قائم على قواعد التضامن والحرية.

ونجد ان تلاميذ برودون و باكونين قد ترددوا في إستخدام هذا المصطلح نظراً لمرونته، بالإضافة الي ما ينطوي عليه المصطلح من سلبيات وما يثيره من التباس، فقد فضل اتباع برودن من المنتمين الى البرجوازية الصغيرة وصف “تبادلية”، اما اتباعه من الاشتراكيين فقد فضلوا مصطلح “جماعاتية”، و قد استخدم سيباستيان فور في نهاية القرن التاسع عشر لفظ “الليبرتارية”، ولكننا نجد ان اغلب هذه المصطلحات كانت تواجه مشكلة اساسية وهي عدم تمكنها من التعبير عن المظهر الرئيسي للمذاهب التي يفترض أن تقوم بوصفها[2].

وقد ظل الاناركيون جزء من الحركة الاشتراكية لسنوات عديدة حيث اتحد كلاً من اتباع برودون واتباع ماركس وتمت اقامة رابطة العمال الدولية، ولكن بعد وفاة ماركس تم استبعاد الاناركيين، وقد تراجع انتشار الفكر الاناركي بعد الحرب العالمية الاولي للعديد من الاسباب منها: إحياء الشعور القومي، نمو الاشتراكية الاصلاحية، صعود الفاشية.

وفي حين أن الاناركية ساهمت في الثورة الروسية إلا أن الثورة البلشفية المضادة نجحت في هزيمتها[3]، وقد ظهرت حركات نقابية اناركية كذلك في اميركا اللاتينية وذلك في اوائل القرن العشرين، وقد ظهرت هذه الحركات بشكل خاص في الارجنتين و الاورجواي، كما استطاعت الافكار النقابية الاناركية التأثير علي الثورة المكسيكية، و لكن نجد انه نتيجة لانتشار السلطوية والقمع السياسي فقد حدث تدمير تدريجي للاناركية في اوروبا و امريكا اللاتينية، فبعد ان استطاع الجنرال فرانكو الانتصار في الحرب الاهلية الاسبانية – التي استمرت من عام 1936 وحتي عام 1939 – تم إنهاء الاناركية كحركة جماهيرية، بالإضافة الى ذلك فقد تم قمع الاتحاد القومي للعمل وملاحقة من يؤمن بالافكار الاناركية واصحاب التوجه اليساري بشكل عام [4].

ثانياً: تعريف المفهوم:

كلمة الاناركية مستمدة من اليونانية وهي كلمة مركبة من كلمتين وتعني (لا حكومة) أو (لا نظام) ونجد انه عندما تم تعريبها فقد ترجمت الى الفوضي لكن هذه الترجمة لا تدل على المعني الموجود في الإنجليزية بشكل كامل، ” فقد ورد في اللغة : قوم فوضي اي متساوون لا رئيس لهم. علي ان مدلول الكلمة الاجنبية الاصطلاحي هو الخروج علي الحكم و التهييج ضد الحكام لقلب النظام لا للمساواة “[5].

اما من ناحية التعريف الاجرائي فنجد أن هناك تعريفات مختلفة للاناركية منها ما ذكره كروبتكن أنها “مبدأ للحياة و السلوك في المجتمع الذي يتم تصوره بدون حكومة”، أما ايما جولدمان فقد عرفتها بأنها “النظرية القائلة بأن جميع اشكال الحكومة تقوم على العنف وبالتالي فهي خاطئة وضارة بالإضافة الى أنها غير ضرورية”، في حين عرفها كولين ورد بأنها “التصور الممكن للمجتمع لتنظيم نفسه بدون حكومة”[6].

و في الواقع ينطوي مفهوم الاناركية على أربع عناصر اساسية وهي:

  1. رؤية لمجتمع مثالي وغير مستبد
  2. انتقاد للمجتمع القائم ومؤسساته
  3. رؤية للطبيعة البشرية تؤكد على إمكانية تحقيق المثل العليا
  4. استراتيجة لتغيير المجتمع القائم علي سلطة استبدادية [7]

ثالثاً: الإشكاليات والقضايا التي يطرحها المفهوم:

يفترض الاناركيون أن الدولة هي تطور حديث في المنظومة الاجتماعية والسياسية، وأن معظم الافراد في التاريخ البشري كانوا يقوموا بتنظيم انفسهم في مجتمع دون وجود حكومة، كذلك فإن الاناركيين يرون أن المؤسسات السياسية والدينية القائمة هي في الاغلب غير رشيدة وتمنع وجود حياة اجتماعية منظمة وأنه إذا تركنا المجتمع لتفاعلاته الخاصة سوف نجد أنفسنا امام مجتمع منتج وخلاق، فالاناركيون يعتقدوا أنه يمكن للناس أن يعيشوا في حرية وسلام وفي حالة من الثقة مع بعضهم البعض[8]، وبالتالي نجد موقف الاناركية المعادي للسلطة على أساس أن وجود السلطة يُعد اعتداء على مبادئ المساواة والحرية، فالسلطة تقوم بفرض الاستعباد كما انها تقوم بقمع وتقييد الحياة الانسانية ذلك أنها تقوم على عدم المساواة السياسية ومنح أحقية مزعومة لفرد واحد للتحكم في سلوك الآخرين، فوجود هذه السلطة بالتالي يسبب ضرراً مزدوجاً فهو من ناحية يُلحق الضرر بالخاضعين لها حيث أن الانسان كائن حر مستقل وبالتالي فإن خضوعه للسلطة يعني أن تتعرض طبيعته للقمع وبالتالي ينزلق الى التبعية، ومن ناحية اخري فإن السلطة تلحق الضرر بمن يكون فيها إذ أنها تُكسب هذا الشخص الرغبة في التحكم والسيطرة وبالتالي فإن السلطة تؤدي الى بروز “سيكولوجيا القوة ” التي تعتمد على شكل أو نمط من الخضوع والسيطرة، وسلطة الدولة بالتالي هي سلطة مطلقة لا حدود لها، ونجد أن موقف الاناركيين قد جاء رافضاً للنظرة الليبرالية الخاصة بنشأة السلطة السياسية من خلال العقد الاجتماعي فهم يعتقدون أن الافراد اصبحوا خاضعين للسلطة الخاصة بالدولة إما لأنهم ولدوا في بلد معين أو من خلال الغزو كما أن الدولة هي جهاز يقوم على القمع وبالتالي لابد من إتباع قوانينه لأنها تقوم على التهديد بالعقاب، ومن هنا نجد أن نظرة الاناركيين الى الدولة جاءت مختلفة تماماً عنها في نظرية العقد الاجتماعي، حيث تشير نظرية العقد الاجتماعي الخاصة بهوبز ولوك الى ان حالة المجتمع الذي لا توجد فيه سلطة الدولة (او حالة الطبيعة الاولي) تعني الحرب الاهلية التي يكون فيها كل فرد في حالة حرب مع جميع الافراد، و سبب هذه الحالة بحسب هوبز ولوك يرجع الى الطبيعة البشرية ذاتها التي تتصف بالأنانية والجشع وبالتالي فإن الدولة ذات السيادة هي وحدها التي يمكنها تقييد هذه الدوافع وحفظ النظام الاجتماعي، أما بالنسبة لجودوين فهو يشير الى أن الانسان هو كائن عقلاني وأنه يميل الي الحياة وفقاً للحقيقة والقوانين الاخلاقية، وأن الحكومة والقوانين غير الطبيعية هي التي تتسبب في الظلم والعدوان والجشع وأن هذا الظلم ليس نتيجة لأي خطيئة اصيلة في البشر وإنما هو نتيجة لوجود هذه الحكومة، وبالتالي فإن النظام الاجتماعي ينشأ بشكل طبيعي وتلقائي[9].

ونجد أن الاناركيين اهتموا ايضاً بالبنى الاقتصادية والاجتماعية حيث كان باكونين يرى أن السياسة والثروة لا يمكنهما أن ينفصلا، وقد كان الاناركيون خلال القرن التاسع عشر يعملوا داخل اوساط الحركة العمالية، وقد ترك ذلك أثره عليهم فنجد أنهم قد حَملوا نفس الفلسفة الاشتراكية للحركة العمالية بل أنهم نظروا الى الرأسمالية من خلال مفهوم الطبقة الذي يعني وجود طبقة حاكمة تقوم بإستغلال الشعب، ولكن مفهوم الطبقة لدى الاناركيين اختلف عنه لدى الماركسيين حيث أن المعني الماركسي لهذا المفهوم كان ينطوي فقط على تفسير اقتصادي ضيق، اما لدى الاناركيين فقد كان هذا المفهوم يمتد ليشمل كل الذين يتحكمون في الثروة او السلطة بالمجتمع بما في ذلك الملوك والامراء والقضاة ورجال الدين والساسة، وكان باكونين يرى أنه يوجد في اي مجتمع ثلاث مجموعات هي: الطبقة الحاكمة العليا وهي اقلية صغيرة من المستبدين، والأغلبية الكاسحة التي يتم إستغلالها، بالإضافة الى أقلية التي يتم إستغلالها أيضاً ولكنها تستغل الآخرين كذلك وبنفس القدر الذي يتم إستغلالها به.

وفي الواقع فإن الاناركيون انقسموا فيما بينهم فيما يتعلق بالبنية الاقتصادية التي تقوم عليها حياة الشعوب ففي حين رفض بعض الاناركيين فكرة المِلكية وعدم المساواة فقد دافع البعض الآخر عن حقوق المِلكية، وبرغم هذه الاختلافات فإن الاناركيون قد أجمعوا على رفض الأنظمة الاقتصادية التي سادت اغلب الفترات خلال القرن العشرين، فقد رفض الاناركيون جميعهم الرأسمالية الموجودة في الدول الغربية كما أنهم رفضوا الاشتراكية بشكلها المُتبع في الاتحاد السوفيتي، إذ أنهم يفضلون نمط الاقتصاد الذي يقوم فيه الافراد بإدارة شئونهم الخاصة دون الحاجة الي مِلكية وتنظيم الدولة[10].

المسألة الاخري التي نجدها عند تناولنا للاناركية هي الدعوة الى الحرية في التعليم، فنجد أن جودوين كان لديه ثلاث اعتراضات اساسية تتعلق بنظام التعليم القومي:

  1. أن التعليم العام كان يتضمن دائماً أشكال من التحيز، فعلى سبيل المثال كان يتم في بريطانيا تعليم الأطفال في مدارس الآحاد التبجيل الهائل لكنيسة انجلترا.
  2. أن التعليم القومي يقوم على عدم الاهتمام بطبيعة العقل.
  3. أن التعليم القومي هو في حقيقة الأمر متحالف مع الحكومة القومية وهذا التحالف إنما هو أشد وطأة من التحالف القديم بين الكنيسة والدولة إذ ان الحكومة يُمكنها من خلال التعليم القومي تشكيل العقول في قالب واحد.

ونجد أيضاً ميخائيل باكونين يقول فيما يتعلق بحرية التعليم:

” لن تكون مدارس بعد الان؛ ستكون أكاديميات عامة، لن يعرف فيها لا التلامذة ولا الأساتذة، حيث سيأتي الناس بحريتهم ليحصلوا – إذا احتاجون -على تعليم مجاني، وهؤلاء الناس، بفضل ثراء تجربتهم الخاصة، سيعلِمون بدورهم العديد من الأشياء للأساتذة الذين سيكسبونهم المعرفة التي يفتقرون إليها؛ سيكون هذا عندئذ تعليما متبادلا ، أو فعلا أخويا تثقيفيا ” [11].

لم يقتصر انتقاد الاناركية لسلطة الدولة فقط ولكنه امتد الى جميع اشكال السلطة القسرية، فقد عَبر أصحاب الفكر الاناركي عن شعورهم بالمرارة ناحية الكنيسة كما فعلوا مع الدولة وخصوصاً خلال القرن التاسع عشر ، فقد رأى أصحاب الفكر الاناركي أن كلا السلطتين السياسية والدينية يُعضد بعضهما البعض دوماً، وأعلن باكونين أن الشرط الأول من أجل تحرر المجتمع يجب أن يكون إلغاء الكنيسة والدولة، وقد رأى أصحاب هذا الفكر أن الدين هو أحد ركائز سلطة الدولة حيث أن الدين يُساهم في إشاعة فكر الطاعة لدى القادة، فدائماً ما يسعي القادة والحكام الى الدين بإعتباره مصدراً للشرعية التي تقوم عليها سلطتهم وقد كان ذلك ظاهراً بوضوح في مبدأ الحق الإلهي للملوك، بالإضافة الى أن معايير الخير والشر التي يتطلبها الايمان الديني يقوم بتحديدها رجال الدين مما يَسلب الفرد استقلاليته الاخلاقية [12].

وفيما يتعلق بقضية الاخلاق نجد باكونين يرى أن نشر الاخلاق في المجتمع لا يمكن إلا من خلال الحرية، حيث أن كل تضييق يكون غرضه حماية الاخلاق فإنه لن يؤدي الى ذلك بل سيؤدي الى تقويضها حيث أن القمع يساهم في انتشار السلوكيات غير الاخلاقية، ولذلك فقد كان يرى أنه لا قيمة لسَن تشريعات صارمة من أجل الحفاظ على الاخلاق، أما فيما يتعلق بالاشرار فإن باكونين كان يرى أن عقوبتهم الوحيدة يجب أن تكون حرمانهم من الحقوق السياسية [13].

رابعاً: أبعاد المفهوم:

بعد ان تعرضنا للإشكاليات التي يثيرها مفهوم الاناركية فإننا سنتوقف الأن عند ابعاد المفهوم، فمن الواضح كما رأينا من خلال إستعراض أهم القضايا التي يثيرها مفهوم الاناركية أنه يشتمل على أكثر من بعد، ولعل أحد هذه الأبعاد هو البعد الديني حيث أن الاناركيين رفضوا السلطة الدينية إلا انهم لم يرفضوا الدين بشكل كامل فالاناركيون كان لديهم دائماً تصور روحاني عن الطبيعة الانسانية، بل أن الاناركية في بدايات ظهورها كان يُنظر إليها بإعتبارها أحد الأشكال السياسية للعقيدة الآلفية (وهي إحدى العقائد المسيحية)، كما أن الاناركيين المُحدثين قد جَذبتهم بعض المعتقدات كالطاوية والبوذية لتضمنها قيم مثل الإحترام والتناغم والإنسجام الطبيعي [14].

أيضاً فإن مفهوم الاناركية يشتمل على بعد إجتماعي واقتصادي فالاناركية ترفض وجود سلطة تمارس القهر و تطرح بدلاً من ذلك مجتمع يتعايش فيه الأفراد مع عدم تركز القوة في يد سلطة معينة، وآلية العقوبة في هذا المجتمع من الممكن ان تتم من خلال الاستبعاد، فالعلاقات الإجتماعية هنا يُمكن تنظيمها من خلال الأفراد أنفسهم دون حاجة لوجود سلطة[15]، أما البعد الإقتصادي فإن الاناركية تؤكد على مسألة حرية الافراد في إدارة شئونهم الخاصة دون الحاجة الى تنظيم و مِلكية الدولة.

خامساً: شبكة المفاهيم:

الاناركية والعنف: في الواقع فإن علاقة الاناركية بالعنف تُعد مسألة معقدة ومتشابكة، ففي الماضي كانت الأفكار التي تدعو الى العنف او التي تدافع عنه على قل تقدير هي المُسيطرة على الفكر الاناركي، ولكن على الرغم من ذلك نجد أن الفكر الاناركي لم يخل من هؤلاء الذين يؤكدون على اهمية اللاعنف بالنسبة للاناركية، ولعل تولستوي كان أحد هؤلاء، ففي كتاباته السياسية نجده ينظر الى الحضارة الحديثة بإعتبارها حضارة زائفة وفاسدة، وأنه من الأفضل العودة الى الحياة البسيطة الموجودة في الريف والإلتزام بالمبادئ الدينية وقد كان تولستوي يرى أن الإحترام المسيحي للحياة يتطلب ألا يقوم أي فرد تحت أي ظرف بإستخدام العنف ضد فرد آخر [16].

وفي الحقيقة فإن نظرة الاناركيين للعنف يمكن تحليلها على أكثر من مستوى، أول هذه المستويات هو عنف الدولة، فالدولة كما عَرفها ماكس فيبر هي الكيان الذي يملك حق احتكار القوة وبالتالي فإن الاناركيين يرفضون هذا الأمر ولعل رفض الاناركيين لاحتكار الدولة للقوة قد ازداد مع العنف الذي مارسته بعض الدول الحديثة تجاه مواطنيها، مثال على ذلك ما حدث بالاتحاد السوفيتي في عهد ستالين، وأيضاً مع ازدياد امتلاك الدول لقوى الدمار الشامل نتيجة للتطور العلمي، الأمر الثاني هنا هو ان العنف يرتبط بالسلطوية لدي الاناركيين حيث أن المؤسسة العسكرية داخل أي دولة هي مؤسسة سلطوية تعتمد على وجود أنماط سلطوية وهيراركية بداخلها، كما أن العنف بالنسبة لهم يؤدي الى السلطوية فإذا وقعت حرب أهلية على سبيل المثال فإنها تَعصف بحريات الأفراد مما يؤدي في النهاية للجوء الى حكم سلطوي، الأمر الثالث هو أن القيم الاناركية التي تقوم على الفردية والتحررية تتعارض مع العنف الذي يلحق الاذى والضرر بجسد الانسان و عقله وروحه، فالفكر الاناركي يؤكد على الحقوق المطلقة للأفراد في الحياة والحرية [17]، ولكن نجد أن هناك بعض التيارات داخل الاناركية تؤمن بالعنف حيث تعتقد أنه يُمكن إستخدام القليل من العنف لمنع المزيد من العنف الذي يتم ممارسته من خلال السلطة أو الدولة، أو إستخدام العنف من أجل تحقيق تصوراتهم لمجتمع اناركي، كما أن هذا العنف سيكون موجوداً أيضاً حتى في ظل مجتمع لاسلطوي وذلك من أجل منع إعادة الهرمية السلطوية التي كانت موجودة قبل ذلك وإعادة فرضها على الأفراد من جديد[18].

الاناركية والحرية: نجد أن الاناركية ترتبط بمفهوم الحرية، فقد عملت الاناركية على توسيع مبدأ الحرية ليشمل المجال السياسي والاقتصادي أيضاً، فالحرية من وجهة النظر الاناركية لا يمكن أن تتحقق من خلال الدولة ولذلك فلا حاجة الى وجود دستور أو عقد اجتماعي لحماية الحرية، بل أن الأفراد يمكنهم أن يحققوا التناغم بينهم إذا تُركوا لأنفسهم، فالاناركيون يروا أن المؤسسات لا تحمي الحرية ولكنها تُعد بمثابة مقبرة للحرية، فالفكر الاناركي يؤكد على حرية الفرد في أن يفعل ما يشاء وأيضاً يؤكد على حرية الفكر والتعبير والعقيدة بالنسبة للأفراد [19].

الاناركية والديمقراطية: نجد أن الاناركية تعارض الديمقراطية في مجموعة من النقاط منها أن الديمقراطية الحالية هي الديمقراطية التمثيلية وبالتالي فإن آراء الأقلية من الممكن ألا يؤخذ بها وهو أمر غير مقبول بالنسبة للاناركية فهو يعني طغيان الأغلبية وفرض آرائهم على الأقلية بالإضافة الى ذلك فإن الديمقراطية التمثيلية بالنسبة للفكر الاناركي تُشجع الناخبين على السلبية بالإضافة الى أنها تتعامل مع الناخب بوصفه مستهلكاً، فالسياسيون يكونوا مهتمين للغاية بالآراء الخاصة بالناخبين خلال الحملات الانتخابية ولكن بمجرد فوزهم فإن الناخبين الذين قاموا بانتخابهم لا يشعروا بأن آراءهم يُعتد بها مما يدفعهم الى حالة من السلبية والاغتراب أو العزلة عن الحياة السياسية وهذا الشعور يزداد عليى الأخص عند الاقليات التي يتم استدعاءها أوقات الانتخابات ثم يتم تجاهلها بعد ذلك، ويمكن القول أن الاناركيين استمدوا بعض الأشياء من الديمقراطية المباشرة التي كانت موجودة في اثينا، حيث أن الديمقراطية الاثينية المباشرة كانت تتيح لأي مواطن حضور الجمعية العامة والتصويت، ولكن في حقيقة الامر فإن الاناركيين قد ذهبوا بعيداً في بعض الامور عن مفهوم الديمقراطية المباشرة الذي كان معمولاً به في اثينا، فالديمقراطية الاثينية كانت في حقيقة الأمر تتعلق بالمجال السياسي فقط ولكن بالنسبة للفكر الاناركي فإن الأمر لابد أن يمتد ليشمل باقي الجوانب وعلى وجه الخصوص الجانب الاقتصادي بحيث يستطيع العمال تقرير طرق الانتاج في المصانع، فعندئذ فقط يمكن أن يتمتع المرء بالإستقلال الذاتي [20] .

الاناركية و السلطوية: نجد أن الاناركية لا ترفض وجود تنظيم في حد ذاته ولكنها ترفض مفهوم السلطوية أو المؤسسات السلطوية، فالاناركية تؤمن بأن البشر قد أستطاعوا خلال تاريخهم الطويل من تنظيم أإنفسهم وإنشاء تنظيمات مُدارة ذاتياً بغرض إشباع احتياجاتهم، فالبشر بالنسبة للاناركية لابد أن يقرروا الطريقة التي يودوا العيش بها، ونجد أن تصور الاناركيين للمجتمع اللاسلطوي يقوم على عدم وجود سلطة مركزية تفرض إرادتها على الناس، فلن يتم الاعتراف بأي سلطة سياسية بإعتبارها شرعية ولن يكون هناك جهاز قسري لفرض القوانين، فالمجتمع سيقوم بتنظيم نفسه في اتحاد لا مركزي[21]  .

الاناركية و التبادلية: نجد أن الافكار الاناركية المُتعلقة بمفهوم التبادلية مرتبطة ببرودون فنجد عبارته الشهيرة “المِلكية سرقة” في كتابه (ما هي المِلكية) حيث أن برودون كان يدين النظام الاقتصادي الذي يقوم على تراكم رأس المال بإعتباره نظاماً إستغلالياً، ولكننا نجد أن هذا الأمر لم يدفع برودون كما دفع ماركس الى معارضة كل أشكال المِلكية الخاصة، فقد كان برودون يُفرق بين المِلكية وما أطلق عليه الممتلكات، وكان برودون يسعى من خلال فكرة التبادلية الى إنشاء نظام للمِلكية يُمكن من خلاله تجنب الإستغلال ونشر الوفاق الإجتماعي وهذا النظام كما كان يتصوره برودون لن يتطلب اي تنظيم او تدخل من جانب الحكومة حيث أن التفاعل الإجتماعي فيه يكون بشكل طوعي وتوافقي و يؤدي الى المنفعة المتبادلة، ونجد أن اتباع برودون قد حاولوا تنفيذ هذه الأفكار من خلال إنشاء مصارف الائتمان المتبادل في فرنسا وسويسرا [22].

سادساً: نقد المفهوم:

أحد الإنتقادات التي تم توجيهها الى الاناركية هي أنها تقوم على رؤية مثالية لمجتمع مثالي وترفض الحقائق الإجتماعية و الاقتصادية الحديثة، و من الإنتقادات التي وجهت الى الاناركية ايضاً هي رفضها لفكرة المشاركة في العملية السياسية القائمة، ومن ناحية اخري فهي لا تُقدم برنامج محدد للتغيير السياسي، حيث يميل الاناركيون الى البقاء علي هامش الحياة السياسية نتيجة لرفضهم للحكومة، لذلك فهم غير فاعلين من الناحية العملية ويتسموا بالركود السياسي، كما تم توجيه إنتقاد لنظرة الاناركية للطبيعة البشرية، إذ أن الاناركية تنظر الى الطبيعة البشرية نظرة بسيطة للغاية فهي تقوم على إفتراض أن البشر بإمكانهم العيش دون وجود سلطة أو قهر وأن فكرة النظام القائم على الثواب والعقاب ليست ضرورية لتشكيل سلوكياتهم، وأنه لا حاجة بالتالي لوجود قادة او حكام حيث أن البشر قد أستطاعوا تنظيم انفسهم في معظم فترات التاريخ.

ولعل من اهم الانتقادات التي تم توجيهها الى الاناركية هي انها تشتمل علي نظرة شمولية وذلك من خلال إستبدال القوانين بالرأي العام حينما يكون المجتمع بلا سلطة، حيث يصبح هنا المعيار الحاكم للسلوك هو الرأي العام[23].

قائمة المراجع

اولا : المراجع باللغة العربية :

– الشيخ رشيد عطية ، معجم عطية في العامي و الدخيل ، ( بيروت : دار الكتب العلمية ، 1956 )

–  اندرو هيود ، مدخل الي الايدلوجيات السياسية ، ، ترجمة : د.محمد صفار  ( القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب ،2012)

–  دانيال غيران ، الاناركية من النظرية الي التطبيق ، ترجمة : عومرية سلطاني ، ( القاهرة : دار تنوير ، 2015 )

–  كولين وارد ، اللاسلطوية ، ترجمة : مروة عبد السلام  ( القاهرة : مؤسسة هنداوي للتعليم و الثقافة ، 2014 )

ثانيا : المراجع باللغة الانجليزية :

Books:

– Clark, Patricia, et al. “Anarchism and Democracy”. In Understanding Democratic Politics: An Introduction, edited by Roland Axtmann, 261-270. SAGE Publications Ltd, 2003.

 Gordon, Uri. Anarchism and Political Theory: Contemporary Problems. Oxford: Mansfield College University of Oxford, 2007.

 MARSHAL, PETER. Demanding the Impossible: A History of Anarchism. London: HARPER PERENNIA, 1993.

Periodicals:

 CARTER, APRIL, “ANARCHISM AND VIOLENCE,” Nomos19 (1978): 320-340. http://www.jstor.org/stable/24219053.

CLARK, JOHN P.” WHAT IS ANARCHISM?” Nomos19 (1978): 3–28. http://www.jstor.org/stable/24219036.

 Novak, D. “The Place of Anarchism in the History of Political Thought,” The Review of Politics 20 (1958): 307-329. http://www.jstor.org/stable/1404980

Websites:

– “Anarchism: Arguments for and again.” The Anarchist Library, Accessed March 20, 2019. https://theanarchistlibrary.org/library/albert-meltzer-anarchism-arguments-for-and-against

[1] D. Novak, “The Place of Anarchism in the History of Political Thought,” The Review of Politics 20 (1958): 312-314. http://www.jstor.org/stable/1404980

 دانيال غيران ، الاناركية من النظرية الي التطبيق ، ترجمة : عومرية سلطاني ، ( القاهرة : دار تنوير ، 2015 ) ، ص 58-60 [2]

 [3] “Anarchism: Arguments for and again ,” The Anarchist Library ,last modified  February 2 ,2011, https://theanarchistlibrary.org/library/albert-meltzer-anarchism-arguments-for-and-against

اندرو هيود ، مدخل الي الايدلوجيات السياسية ، ، ترجمة : د.محمد صفار  ( القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب ،2012 ) ، ص 217 [4]

 الشيخ رشيد عطية ، معجم عطية في العامي و الدخيل ، ( بيروت : دار الكتب العلمية ، 1956 ) ، ص 200. [5]

[6]   JOHN P.CLARK,”WHAT IS ANARCHISM? ,” Nomos19 (1978): 4. http://www.jstor.org/stable/24219036.

[7] CLARK,”WHAT IS ANARCHISM? ,”13.

[8] PETER MARSHAL, Demanding the Impossible: A History of Anarchism (London: HARPER PERENNIA   , 1993), 12-14.

اندرو هيود ، مدخل الي الايدلوجيات السياسية ، ترجمة : د.محمد صفار ، مرجع سابق ، ص 222 [9]

 اندرو هيود ، مدخل الي الايدلوجيات السياسية ، ترجمة : د.محمد صفار ، مرجع سابق ، ص 225 ، 226 [10]

 كولين وارد ، اللاسلطوية ، ترجمة : مروة عبد السلام  ( القاهرة : مؤسسة هنداوي للتعليم و الثقافة ، 2014 ) ، ص 58-61 [11]

 اندرو هيود ، مدخل الي الايدلوجيات السياسية ، ترجمة : د.محمد صفار ، مرجع سابق ، ص 223 ،224 [12]

 دانيال غيران ، الاناركية من النظرية الي التطبيق ، ترجمة : عومرية سلطاني ، ( القاهرة : دار تنوير ، 2015 ) ، ص 84 [13]

اندرو هيود ، مدخل الي الايدلوجيات السياسية ، ترجمة : د.محمد صفار ، مرجع سابق ، ص 224، 225 [14]

[15] MARSHAL , Demanding the Impossible,12

 اندرو هيود ، مدخل الي الايدلوجيات السياسية ، ترجمة : د.محمد صفار ، مرجع سابق ، ص 241 [16]

[17]APRIL CARTER, “ANARCHISM AND VIOLENCE,” Nomos19 (1978): 321. http://www.jstor.org/stable/24219053.

[18]  Uri Gordon .Anarchism and Political Theory: Contemporary Problems  ( Oxford : Mansfield College

University of Oxford, 2007), 124-125.

[19] MARSHAL , Demanding the Impossible, 639-640

[20] Patricia Clark, et al, “Anarchism and Democracy,” In Understanding Democratic Politics: An Introduction, ed. Roland Axtmann,261-270.( SAGE Publications Ltd, 2003).

[21] MARSHAL , Demanding the Impossible, 625

 اندرو هيود ، مدخل الي الايدلوجيات السياسية ، ترجمة : د.محمد صفار ، مرجع سابق ، ص228 [22]

[23] MARSHAL , Demanding the Impossible,  642-665

5/5 - (3 أصوات)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى