الدراسات البحثيةالمتخصصة

المواطنة في الوطن العربي : دراسة في الأسس النظرية والممارسات العملية

إعــــــــداد : 

  • شاكر علي دومان/ باحث سياسي يمني
  • عمرو هزاع سعيد سعد/ باحث سياسي يمني

 

مقدمة:

لقد انتقلت دولنا العربية بعد تحقيق الاستقلال من مرحلة الحكم الشمولي الى الحكم الديمقراطي، وبفعل عوامل العولمة فقد تدافعت مجتمعاتنا العربية نحو موجة التطور وخاصة ما يتعلق بالقيم الثقافية والسياسية المرتبطة بالديمقراطية كالاعتراف بالحريات العامة وحقوق الإنسان، وتفعيل دور المجتمع المدني كشريك في اتخاذ القرار العام. وفي خضم هذا التدافع فقد ظهر مصطلح المواطنة في الوطن العربي كحل جذري للعديد من القضايا الخلافية الداخلية، وأهمها النزعة القبلية والطائفية التي عرقلت البناء الحديث للدولة، ففي كل البلدان العربية هناك تنوع طائفي ثقافي يهدد كيان الدولة، ولقد عانت المجتمعات العربية كثيرا وناضلت أكثر في سبيل صناعة حياتها العادلة ومستقبلها المنشودة، وعانت من طبيعة نظام الحكم في غير قطر عربي. ولقد كان لهذا الضغط الداخلي، والتدخل الخارجي المعطل لدور الأنظمة السياسية فاعلية في انفجار الشعوب العربية في وجه الأنظمة السياسية الدكتاتورية فيما يسمى ب “ثورات الربيع العربي”. وأملا في تحقيق التغيير السياسي الذي ينشده المواطن العربي، الا ان أكثر من عامل احباط عملية خلق نظام سياسي عربي رشيد يراعي مبدأ المواطنة ويعلي من سيادة القانون. وفي مضمار بحث الشعوب العربية عن المواطنة فإن ذلك أصبح أبعد ما مما كان عليه قبل ثورات الربيع العربي، بفعل ارتداد هذه الموجة الثورية بشكل سلبي على الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي العربي. سندري في هذه الصفحات الأسس الفكرية العربية لمفهوم المواطنة وتطورها، وما يتعلق بها من مبادئ وأسس وخصائص وأبعاد,

كما سنستعرض واقع الممارسة السياسية والاجتماعية المتصلة بقيم وأبعاد المواطنة في الوطن العربي.

اولا: مفهوم المواطنة وتطورها

يعود أصل كلمة المواطنة ومدلولها إلى عهد الحضارة اليونانية القديمة، وهي مشتقة من كلمة  (City)  وتعني المدينة باعتبارها بناء حقوقيا ومشاركة في شؤون المدينة، وتقابها بالغة الانجليزية كلمة  (Citizenship).

ومما سبق يمكننا القول ان المواطنة هي رابطة قانونية بين الفرد ودولة التي يقيم فيها، تنشأ منها جملة من حقوق والواجبات، ويعبر عن هذا الرابطة-القانونية والسياسية والاجتماعية-بالجنسية التي تجعل الفرد بمركز التبعية القانونية والسياسية لدولته.

  • المواطنة بمعناها الاصطلاحي:

تعرِف دائرة المعارف البريطانية المواطنة بأنها: “العلاقة بين الفرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة“. وتؤكد دائرة المعارف البريطانية مفهومها للمواطنة” بأن المواطنة على وجه العموم تسبغ على المواطن حقوقاً سياسية، مثل حق الانتخاب وتولي المناصب العامة”[1]

المواطنة بمعناها العربي اللغوي:

هي صفة مشتقة من اسم الفاعل “مواطن” وقد ذكرت في القران بقوله تعالى (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) والموطن في قواميس اللغة العربية تعني المنزل او المكان الذي اتخذه الانسان للإقامة والحماية واستوطن فيه. اما المواطن فهو الانسان الذي يستقر في بقعة أرض معينة وينسب إليها, فالعلاقة بين المواطنة والمواطن والوطن لا تنحصر على الاشتقاق اللغوي وانما تمتد الى الارتباط الوثيق في المضامين[2]

وبشكل عام تعرف المواطنة أنها المكان الذي يستقر فيه الفرد بشكل ثابت داخل الدولة أو يحمل جنسيتها ويكون مشاركا في الحكم ويخضع للقوانين الصادرة عنها، ويتمتع بشكل متساوي دون أي نوع من التمييز -كاللون أو اللغة -مع بقية المواطنين بمجموعة من الحقوق، ويلتزم بأداء مجموعة من الواجبات تجاه الدولة الّتي ينتمي إليها، بما تشعره بالانتماء إليها. ويترتب على المواطنة أنواع رئيسية من الحقوق والحريات الّتي يجب أن يتمتع بها جميع المواطنين كالحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الخ.[3]

الفرق بين مفهوم المواطنة والجنسية

انقسمت الآراء حول الفرق بين مفهوم المواطنة والجنسية, الى 3 اتجاهات:

الاتجاه الاول: ويرى ان الجنسية مفهوم مرادف للمواطنة, أي لا فرق بينهم, وهو ما إشارة اليه دائرة المعارف البريطانية.

الاتجاه الثاني: ويرى ان هناك خلاف بين المفهومين, من حيث الوضعية القانونية, اذ ان المواطنة هي إطار قانوني يعبر به داخل حدود الدولة التي تسمح بمن يتمتع بالمواطنة بممارسة الحقوق والواجبات السياسية والمدنية, في حين ان الجنسية يعبر عنها عندما يكون مواطن هذه الدولة في الخارج.

الاتجاه الثالث: ويرى ان الجنسية أحد الصفات الأربعة للمواطنة وهم:

المواطنة كوضع قانوني, والمواطنة كمجموعة من الحقوق والواجبات, والمواطنة كنشاط سياسي, والمواطنة كتعبير عن الهوية والانتماء

  • تطور مفهوم المواطنة

بــدأت فكــرة المواطنــة فــي عـصـر دولــة اليونــان القديمــة، عندمــا كان المواطنــون هــم مــن يملكــون حقــا قانونيـا فـي المشـاركة فـي شـؤون الدولـة وإدارتهـا.[4]

تم إرساء مبدأ المواطنة مع تشكل الدولة القومية الأوروبية الحديثة، التي أعطت لنفسها السيادة المطلقة داخل حدودها من أجل منع استبداد الدولة، ونشأت فكرة المواطن الذي يمتلك الحقوق غير القابلة للأخذ والاعتداء والتي أكد عليها الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان 1789 والإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948. [5]

ثانيا: خصائص المواطنة

فيما يلي بعض أهم خصائص المواطنة:

  • الخصائص المعرفية: والمتمثلة بوعي الفرد لجميع حقوقه المترتبة على الدولة، واستيعابه لجميع الواجبات التي تقع على عاتقه اتجاهها.
  • الخصائص المهارية: وهي مشاركة الفرد للأنشطة والفعاليات التي تخص الدولة، سواء فعاليات اجتماعية أو اقتصادية.
  • خصائص وجدانية: والمتمثلة بتقدير الشعور بالولاء والانتماء للدولة، والشعور بالعدل والمساواة بين أفرادها.
  • علاقة الأفراد فيما بينهم: بأن تكون متوازنة وقائمة على الاحترام المتبادل لبعضهم البعض.
  • مشاركة الفرد في الحياة الديمقراطية: سواء بحقه في الانتخاب، أو بتشكيل الأحزاب والجمعيات.[6]

رابعاً: قيم المواطنة ومرتكزاتها الأساسية

  • أسس ومبادئ المواطنة:
  • المشاركة في الحكم: اذ ان جوهر تطبيق مبدأ المواطنة تمكن المواطنين من الوصول الى سدة الحكم، والمشاركة في صناعة القرار السياسي بمختلف مستوياته. اذ ان المشاركة السياسية تعد من صلب حقوق المواطنين.
  • المساواة بين جميع المواطنين: وتعد من ركائز مبدأ المواطنة، وتعني ان يتلقى المواطنون نفس المعاملة من قبل السلطة، فيما يخص تمتعهم بالحقوق وقيامهم بالواجبات العامة، وذلك دون تفريق بينهم على أي أساس كان، كاللغة والدين والعرق ..الخ.
  • الحرية: ومعناه أن تعمل الدولة على رعاية وعماية حرية المواطنين، ولا تضيق عليهم في
  • ممارسة حياتهم العامة والخاصة، وممارستهم لأنشطة والأفكار والتعبير في إطار القانون، باعتبار قيمة الحرية أغلى القيم الإنسانية في تاريخ نضال الإنسان المتواتر.
  • قبول الآخر ونشر ثقافة التعددية: بمعنى أن تتمتع جميع الفئات الثقافية في الدولة بحرية تمكنهم من التميز والتفرد الثقافي، وتحمي خصوصيتهم من الذوبان في الجماعات الثقافية الأخرى، بحيث تعني المواطنة التمتع بالحقوق والقيام بالواجبات، دون تمييز أن اقصاء او تنمر بسبب الاختلاف.
  • قيم المواطنة: فبالإضافة الى قيم الحرية والمساواة والتي تعد من ركائز المواطنة، هناك قيم يجب ان تراعا على مستوى كلا من السلطة والمواطنين على حد سواء، وتعتبر مظاهر لتطبيق مبدأ المواطنة، ومنها التالي:
  • الالتزام: لابد لتطبيق مبدأ المواطنة أت يتحلى المواطنون جنبا الى جنب السلطة بالقانون والنظام العام، واحترامها وعدم تجاوزها، اذ ان الالتزام يمثل الضمانة الجماعية لحماية حقوق الناس في مواجهة الدولة والمواطنين على حد سواء.
  • الولاء: حيث يجب ان تعمل كلا من الدولة على تعميق قيم الانتماء للوطن والاعتزاز بالهوية والوطنية، وحمايتها. وهو ما يقود المواطن الى حب الوطن وحمايته والذود عنه.
  • التوازن: يقصده التوازن المسئول الذي يحقق المصلحة الخاصة في ظل تحقيق المصلحة العامة، أو عدم معارضتها بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
  • العدل: بمعنى ان يحصل جميع المواطنون على العدل والانصاف في دولتهم، وان تسعى الدولة لرعاية حقوق الناس من الظلم، سواء ظلم المواطنين بعضهم البعض، أو ظلمهم من قبل السلطات العامة.
  • قيم المشاركة: وتعني ان يتمكن المواطنون من المساهمة بفاعلية بالحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، دون عوائق، وفقا للقانون. [7]

ولأن قضية المواطنة محوراً رئيسا في النظرية والممارسة الديمقراطية الحديثة فإن تحديد أبعادها وكيفية ممارستها ينبع من الطريقة التي يمنح بها هذا النظام أو ذاك حقوق المواطنة للجميع ومدى وعي المواطنين وحرصهم على أداء هذه الحقوق والواجبات. [8]

خامساً: ابعاد المواطنة

  • البعد السياسي: حق الشعب في تقرير مصيره بنفسه، حقه في تقلد المناصب العامة، حقه في الانتخاب والترشح، حقه في المعارضة السياسية.
  • البعد المدني: وهي الحقوق المدنية، وتشمل حق المساواة أمام القانون والحق في حرية التعبير، وحق المشاركة السياسية وحق الملكية والعاقد.
  • البعد الاجتماعي: حق المساواة بين الجنسين ومنع التمييز، الحق بالتعليم والعمل والرعاية الصحية.
  • البعد الاقتصادي: الحق في ممارسة النشاط الاقتصادي والمساهمة بالتنمية الاقتصادية، وحق المواطنين في الحصول على نصيب من الثروة. [9]

سادساً: المواطنة في الوطن العربي

بدأت الحاجة الى المواطنة تبرز في الوطن العربي بعد الحراك التحرري من الاستعمار الأجنبي وتحقيق الاستقلال، ومع تكون الدول العربية الحديثة ظهرت مشكلات الأقليات في الدول العبية والمهددة بالانفصال، والتي عززتها الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي عانت منها الدولة العربية حديثة النشأة، فقد شكلت مشكلة الأقليات تحديا خطيرا للدولة العربية التي لم تختبر بعد في التجسيد الواقعي لمبدأ المواطنة، اذ لم تستوعب الاختلافات والتباينات العرقية في الدول العربية بل تعاملت معها الدول العربية بالطرق التقليدية، وواجهتها بالقمع في أغلب الحالات. الأمر الذي ضاعف من عدم الشعور بالانتماء والهوية الوطنية لهذه الجماعات داخل اوطانها. مما أطال عمر الأزمات الداخلية العربية، وفتحها على التدخلات الخارجية.

  • مبدأ المواطنة في الفكر القومي العربي: أن مبدأ المواطنة بمعناه الحديث لم يحظ بتأصيل عميق في الفكر القومي العربي التقليدي في القرن العشرين بل ظل مهجوراً من الناحيتين النظرية والتطبيقية في الدول التي حكمتها أنظمة قومية التوجه وذلك بسبب تجاهل أجنداتها لقضية الديمقراطية التي – تعد الحاضنة الأولى للمواطنة او انشغالها باهتمامات أخرى كان الاعتقاد أنها أكثر إلحاحاً. حيث أنه يمكن – التأكد من صحة هذه النتيجة بمتابعتها في كل من: الفكر القومي للمؤسسين الأوائل، والفكر القومي العلمي، والفكر القومي الثوري الاشتراكي؛ اذ أنه لا توجد أية معالجة مباشرة لمبدأ المواطنة في فكر المؤسسين الأوائل بسبب استغراقهم التام في مسألة بعث الهوية العربية، أما الفكر القومي العلمي فقد شيد بداية ظهور مقاربات قومية تكرس الهوية العربية الجماعية، بينما يخلو الفكر القومي الثوري الاشتراكي من اهتمام جدي بموضوع المواطنة أو إيلاء مفهوم المواطن الأهمية اللازمة، واتسم بتحرير العلاقة بين الفرد والوطن من زاوية الحقوق والواجبات.[10]

سابعاً: واقع المواطنة في الوطن العربي

  • اتجاهات دراسة واقع المواطنة في الوطن العربي
  • إقرار مبدأ المواطنة في الدساتير العربية:

فيما يخص كفالة الدساتير العربية لحقوق المواطنين، وتضمينه لنصوص دستورية تؤكد على رعاية حقوق المواطنين، فإن معظم الدساتير العربية قد أكدت هذه الحقوق بصريح النص، وهنا نورد نماذج لنصوص دساتير بعض الدول العربية على النحو التالي:

دستور الكويت في المادة (29) ينص على “الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، وهم متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين”.

كما هو في النظام الأساسي لدولة قطر في المادة (9) “الناس متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، وذلك دون تمييز بينهم بسبب العنصر أو الجنس أو الدين”.

وفي الدستور العراقي في المادة (19) الفقرة أ-“المواطنون سواسية أمام القانون دون تفريق بسبب الجنس أو العرق أو اللغة أو المنشأ الاجتماعي أو الدين”، كما نصت الفقرة ب-على “تكافؤ الفرص لجميع المواطنين مضمون بحكم القانون”.

ثم يأتي الدستور السوري ليؤكد في المادة (25) الفقرة أ-“الحرية حق مقدس وتكفل الدولة للمواطنين حريتهم الشخصية وتحافظ على كرامتهم وأمنهم”، كما ينص في الفقر ب-على ان “المواطنون متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات”.

في مصر أقر الدستور في نص المادة (8) على أن “تكفل الدولة تكافؤ الفرص لجميع المواطنين”[11].

وهناك نصوص تقريباً متشابهة في كلا من تونس واليمن والجزائر وعمان وبقية البلدان العربية

  • مراعاة مبدأ المواطنة في الحياة السياسية العربية

إن تضمين النصوص الدستورية وحده لا يكفل حماية مبدأ المواطنة، اذ ان جميع الدول العربية قد رمت بهذه النصوص أو بعضها جانبا في ممارستها للسلطة. وقد أشار تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2004 بأزمة المواطن العربي، الذي بالرغم من ضمان الدساتير العربية لحقوقه المدنية والسياسية، بيد أن ممارسته لها على الواقع مقيدة من قبل السلطة الحاكمة، التي تعتبر المواطن النموذجي هو ذلك المواطن المطيع، الذي لا يتساءل ولا يحاسب حكومته، لذلك فإنه ليس من مصلحة النخبة الحاكمة في الدول العربية ان تقوم بتعزيز حس المواطنة لدى شعوبها، مخافة استعادة هذا المواطن لحريته في المبادرة والاقتراح أو الاعتراض. [12] ومع ذلك فإننا لا نجزم بعدم وجود قدرا من الممارسات التي تتضمن بعض مظاهر مبدا المواطنة، أي عدم غياب المواطنة بصورة قطعية، غير أن الدول العربية تتفاوت في مدى تطبيقها لمبدأ المواطنة، وذلك بدرجة ونوعية هذا التطبيق.

  • قبول مبدأ المواطنة في المجتمع:

أي مدى استيعاب المواطن العربي لمفهوم المواطنة، ومدى تفاعله معه، وذلك عبر إدراكه لحقه الذي ترتبه العلاقة التي تربطه بالدولة، ثم تجسيد ذلك عبر أهداف وممارسات ومساعي مكوناته المدنية والنقابية. بالإضافة الى إدراكه بالواجب التي ترتبه هذه العلاقة نفسها.

وفي الحقيقة فإن مسألة تعاطي المواطن العربي مع مفهوم المواطنة قد اعتراها كثير من الشكوك والريبة وامتازت بحالة من عدم الثقة، تحسبا لمنشأه الغربي أولاً، ومزاحمته لمفاهيم مشابهة أخرى متأصلة في المجتمع العربي، كمفهوم الهوية، والوطنية، حتى رأته بعض المجتمعات يتصادم مع عقيدتها الدينية ..الخ. على أن التفاعل مع مفهوم المواطنة تفاوت من قطر عربي الى آخر. وتباعاً لذلك ونظراً للأهمية البالغة لدور المجتمع “المواطنين” في تفعيل مبدأ المواطنة، وإجبار السلطة على تطبيق هذا المبدأ لحماية لحقوق المواطنين، فإن المواطن العربي قد فشل في تمثل هذا الدور سواء باعتباره مواطن، او عبر تكوينه المدني او الحزبي او النقابي، اذ تبن ان مؤسسات المجتمع المدني نفسها في البلدان العربية تخفق كثيرا في مسألة ممارسة الديمقراطية والالزام بمبادئ الشفافية الالتزام بلوائحها الداخلية.

  • المقاربات الفكرية والمصالحات التاريخية المطلوبة:

بمعنى ما مدى كفاية مقاربات كل من تيارات الإسلام السياسي والتيارات القومية العربية والتيارات الليبرالية العربية والتيارات الماركسية الاشتراكية العربية لمبدأ المواطنة؟ ومدى انعكاس ذلك على تمتع المواطنين في البلدان العربية بالمواطنة التي تمنحهم حقوقهم.

اذ تين أن كل التيارات الفكرية التي تشربت منها المنطقة العربية، وأصبحت تقاسم المواطن العربي انتماءه، قد وقفت لم تظهر تفاعل حقيقي مع مفهوم المواطنة بالصورة التي تمكن المجتمع العربي من استيعاب ابعاد وأهمية الاندماج في إطار اجتماعي وسياسي جامع اسمه “المواطنة”. وذلك لخشية تقاسم الانتماء مع هذا المفهوم بالنسبة لهذه التيارات من جهة، وللنزعة التقليدية لدى أفراد هذه التيارات عند وصولهم للسلطة، والمتجذرة من الثقافة السياسية التقليدية التي لا تخلو من الدكتاتورية في الحكم، والتسلط والتنكر لحقوق المواطنين، أي كان هذا التيار، وتحت أي مسمى كان هذا الاستبداد.

  • واقع المواطنة في العالم العربي

لقد لعبت الدولة في العالم العربي دوراً مضاداً في وأد أو عرقلة نمو مفهوم المواطنة، فقد ساهمت أولوية السلطة أو الدولة على الفرد أو المواطن كما أبرزتها بعض المقاربات القومية ولا تزال في تراجع البعد الديموقراطي-وبناء ثقافة الديمقراطية في هذا الفكر ومن ثم تهميش مبدأ المواطنة إن لم يكن إهماله، لمبدأ المواطنة في المراحل الأولى لتشكل الفكر القومي وعلى هذا الأساس فإننا لا نلاحظ لها مكانا. [13]

مما أدى الى تخلف حالة المواطنة، فمن ناحية نجد أن المجتمعات العربية تخضع لما يمكن أن يسمى بحالة القهر الفائض، سواء بسبب قهر النظام السياسي أو بسبب قهر الظروف الاقتصادية والمعيشية، أو بسبب حالة الفقر التي يعيش في إطارها نسبة كبيرة من السكان. هذا بالإضافة إلى ظروف الأمية وتخلف الوعي الاجتماعي والسياسي، وجميعها ظروف تدفع بغالبية البشر إلى حالة من نصف المواطنة، حيث تفرض عليها الالتزامات دون منحها فرصة التمتع بالحقوق، ومن الطبيعي أن تنصرف هذه النوعية من الجماهير إلى محاولة تأمين ما يؤمن البقاء على قيد الحياة، ولو كان على حساب قيم المواطنة.

معوقات المواطنة المتساوية

معوقات المواطنة في الوطن العربي: أن معوقات ممارسة والمواطنة المتساوية هي الأمية وتخلف المجتمع وضعف القاعدة المادية وسيادة العادات والتقاليد الموروثة بطابعها السلبي، والتوارث الشمولي، وسيادة مبدأ الغلبة في الحياة اليومية، وضعف الثقافة الديمقراطية، وضعف المعارضة ومؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات الدولة. وهو ما يمكن إجمالي في النقاط الأربع التالية: غياب دولة النظام والقانون، وهيمنة الثقافة الشمولية، والبنية الاجتماعية التقليدية، والفساد. ولتعميق مفهوم المواطنة المتساوية وتحويل النصوص الدستورية إلى واقع لابد من توافر عدة شروط، هي: النيات الحسنة، والثقافة الديمقراطية، والمؤسسات الديمقراطية، ومؤسسات المجتمع المدني، وتطوير البنية الاجتماعية التقليدية، ومحاربة الفساد، ورفع المستوى المعيشي.

تداعيات واقع المواطنة في الوطن العربي

لقد أدى تقاعس الدولة العربية عن القيام بواجبها تجاهه مواطنيها، الى شعور المواطنين بالنفور منها، وتكون لدى المواطن العربي رفضا للواقع ورغبة في التمرد على السلطة. الأمر الذي انتهى بانفجار ثورات الربيع العربي مطلع العام 2011 وما بعده في مختلف البلدان العربية، لا سيما البلدان الجمهورية التي تمكن ابناءها من إدراك حقوقهم وواجباتهم، ولو بصورة بسيطة. وقد نادت هذه الجماهير العربية بإسقاط النظام الحاكم، واستبداله بنظام يكون أكثر مراعاة لحقوق وحريات المواطنين، وأكثر حرصا على مصالحهم ومتطلبات عيشهم ورفاههم. الا ان معظم هذه الثورات العربية، ان لم يكن كلها، لم تحقق مبتغاها في خلق نظام حكم صالح وحكم رشيد يكرس جهوده لخدمة الوطن والمواطن. حيث انه وان نجحت بعض هذه الثورات في اقتلاع أنظمتها الحاكمة، الا أنها قد استبدلتها بأخرى لا تقل عنها بطشا وتسلط، كمصر وتونس. في حين فشلت بلدان الثورات الأخرى في المحافظة على هيكل النظام السياسي العام في البلد، ناهيك عن بناء نظام حكم ودولة ملبية لمطامح الشعب الذي قام بالثورة، كما هو الحال في كلا ليبيا واليمن والسودان والعراق..الخ. حيث تواجه هذه الدول اليوم خطر التقسيم والتفتيت الى دويلات وأقاليم عدة.

الن العاملين الداخلي والخارجي قد عملا بصورة مطردة وبشكل متناسق على اجهاض مساعي الشعوب العربية الى تغيير الأنظمة السياسية الفاسدة واستبدالها بأنظمة رشيدة تراعي مصالح المواطنين وتحمي تطبيق القانون. فالتخلف (المعرفي والمعيشي) الذي تعاني منه الشعوب العربية، والذي خلق مجموعة من الشروخ المجتمعية المؤدية الى التناحر، ومنع من تبلور المجتمع الثقافي في البلدان العربية، باعتبارها النخبة الاجتماعية الواعية. الى جانب حالة التخلف الساسي التي تعاني منه أنظمة الحكم العربية. بالإضافة الى الممارسات السياسية والضغوط والتدخلات المختلفة للدول الأجنبية في الدول العربية، وفي الاشراف المباشر على أنظمة الحكم وعلى صياغة الأهداف القومية لدولنا وتصميم السياسات العامة لها، قد عمل على تكريس حالة انعدام المواطنة وتمرد السلطات على التزاماتها الدستورية والقانونية تجاه مواطنيها وأوطانها.

وهما نفسهما –أي العاملان الداخلي والخارجي-قد أحبطا محاولة الشعوب العربية لصناعة مستقبلها السياسية والاجتماعي والاقتصادي والحضاري بنفسها، وبالصورة التي ترغب بها، عبر ثورات الربيع العربي.

مستقبل المواطنة في الوطن العربي

في ظل الواقع العربي المضرب والتي تعاني منه الدولة العربية من علة عدم الاستقرار وخطر التهديد بالسقوط والتفت والانقسام. وبعد التجارب العربية الفاشلة في السعي لتغيير مستقبلها السياسي، فإن الحديث عن إمكانية لعب الدولة العربية مزيدا من الأدوار الإيجابية تجاه الشعوب، في تطبيق القانون والالتزام به، وتلبية حاجات شعوبها المختلف، بما في ذلك حقه في المشاركة بالحكم، يعد شيئا من المبالغة، ليس بفعل هذه العوامل فحسب، بل في سياق مستجداتها الحالية والآنية على المستويين الخارجي والداخلي.

فإن التغيرات في النظام الدولي وفي المؤثرين والمتدخلين، بمن في ذلك الفاعلين الإقليميين في الدول العربية، لا يبشر سوى بمزيد من انكماش فاعلية الدولة العربية فيما يخص سياساتها وأدوارها تجاه تحقيق استقرا ورفاه الشعوب العربية. فقد زادت التدخلات الخارجية في الدول العربية بصورة خطيرة تهدد الاستقلال والسيادة العربية. وتحول دون امتلاك حكومات هذه الدول لقرارها السياسي في الحاضر والمستقبل البعيد.

من ناحية أخرى فإن الوضع السياسي المحلي للدول العربية، والذي يعاني من تعدد فواعل الصراع والاقتتال والتفتت الاجتماعي والاحتراب لصالح قوى اجنبيةـ لا يساعد على خلق المجتمع المتزن الواعي والمنضم، الذي يدرك علاقته بالدولة فيسعى للتأثير على الوضع القائم وضبطه بواسطة التغيير السياسية او الضبط السياسي للدولة. وبالرغم من تصاعد ظاهرة توسع قاعدة المجتمع المدني في الدول العربية وارتفاع الوعي الشعبي العام بالقانون، بفعل الحراك الشعبي الثوري الذي أحدثته ثورات الربيع، الا ان فاعلية وجدوى هذه الحصيلة لا زالت غير مضمونة.

انه مع ازدياد المخاطر التي تهدد الدولة العربية بالانقسام والتحلل والانجرار الى الصراع والاحتراب الأهلي المدمر، كما هو حاصل اليوم في بعض الدول العربية، يقود السلطات العربية الى المغالاة في ضرورة طاعة الشعب لها والسعي للحافظ عليها باعتبار ذلك بديلا عن التحول للحرب الأهلية، من  جانب آخر فإن هذا الهاجس قد وجد لها قاعدة حقيقة لدى النخب السياسية والثقافية الوطن العربي، بصورة قادت معها بعض النخب الى التحول الى الدفاع عن نظام الحكم القائم واستعداء التغيير السياسي في البلدان العربية، باعتبار هذا هو الضامن الى استمرار حالة الاستقرار -وان لم توجد- وعدم الدخول في حرب أهلية او تصدع النظام السياسي. حيث ان هذه القناعات او التفهمات “الواقعية” لدى النخب بالتحديد قد تستمر الى المستقبل الغير معلوم.

غير أنه يجدر بنا الإشارة الى التأثير الذي أحدثه التطور التقني والتكنولوجي في وسائل التعبير والاعلام والتأثير والمشاركة والتأثير الفكري والثقافي والقانوني، لا زال يسير بوتيرة جيدة، مما يعزز من طرائق وخيارات وحلول المجتمعات العربية في التعاطي مع مشاكلها وقضاياها فما في ذلك السياسية والمتصلة بالشأن العام. الأمر الذي يؤثر بطبيعة الحال على السلوك السياسي للسلطات في الدول العربية ولو بصورة صغيرة. الأمر الذي يجسد دور المجتمع العربي في تطبيق قيم المواطنة والديمقراطية والحث على الالتزام بها.

مراجع للبحث

  • أبو سكين حنان، المواطنة والمشاركة السياسية في مصر: ثورة الاتصالات الشبكة الدولية للمعلومات، المؤتمر العلمي السنوي الحادي عشر، المسؤولية الاجتماعية والمواطنة، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، 2009.
  • زدام يوسف، دور الثقافة السياسية في تفعيل المواطنة بالبلدان العربية، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة باتنة، الجزائر، 2013.
  • عبد الوهاب الكيالي: موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، ج 6، سنه1990م.
  • نورا عبه جي، مفهوم المواطنة، الموسوعة السياسية، نشر في 2نوفمبر2017، شوهد في: 2فبراير2023م، على الرابط: https://shortest.link/focK
  • زياد علاونة، “المواطنة”، وزارة الشؤون السياسية، تقرير بتمويل من الاتحاد الأوربي للمؤسسات الديمقراطية الأردنية والتنمية.
  • ميساء حمزة، دراسة تحليلية لقيم المواطنة، المتضمنة في كتاب المواطنة وحقوق الانسان.
  • علي خليفة الكواري واخرون، المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، 2004، مجموعة من المؤلفين.
  • صبري بديع عبد المطلب، المواطنة والشرعية: سياسة شرعية وتحديات معاصرة، مجلة اتجاهات سياسية، العدد الثاني، يناير 2018، المركز الديمقراطي العربي، برلين.
  • عبد المنعم عدي، ثقافة المواطنة وأثرها على الفرد الجزائري، مجلة العلوم الاجتماعية – المركز الديمقراطي العربي ألمانيا-برلين، العدد 6، اكتوبر.

[1] عبد الوهاب الكيالي: موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، ج 6، سنه1990م، ص373.

1-هديل مصطفى الخولى: التعليم وتغيير مفهوم المواطنة في المجتمع المصري، كلية التربية، جامعة حلوان، رسالة دكتوراه، عام2009م, ص21

[3] نورا عبه جي، مفهوم المواطنة، الموسوعة السياسية، نشر في 2نوفمبر2017، شوهد في: 2فبراير2023م، على الرابط: https://shortest.link/focK

[4] زياد علاونة، “المواطنة”، وزارة الشؤون السياسية، تقرير بتمويل من الاتحاد الأوربي للمؤسسات الديمقراطية الأردنية والتنمية.

[5] نورا عبه جي، مفهوم المواطنة، مرجع سابق.

[6] ميساء حمزة، دراسة تحليلية لقيم المواطنة، المتضمنة في كتاب المواطنة وحقوق الانسان، ص 20.

 [7] صبري بديع عبد المطلب، المواطنة والشرعية: سياسة شرعية وتحديات معاصرة، مجلة اتجاهات سياسية، العدد الثاني، يناير 2018، المركز الديمقراطي العربي، برلين، ص 29-32.

[8]  عبد المنعم عدي، ثقافة المواطنة وأثرها على الفرد الجزائري، مجلة العلوم الاجتماعية – المركز الديمقراطي العربي ألمانيا-برلين، العدد 06، أكتوبر 201

[9] عدنان السيد حسين، المواطنة في الوطن العربي، الجامعة اللبنانية، بيروت، 2008، ص 11.

[10] هالة الكعبي، قراءة في كتاب “المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية”، تأليف علي الكواري وآخرون، ص 5.

[11] علي خليفة الكواري وآخرون، المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، 2004، مجموعة من المؤلفين، ص 129 – 130.

[12] رحماني مروة، عسالي مريم، المواطنة وقضايا الانتقال الديمقراطي بالعالم العربي، دراسة حالة الجزائر جامعة زيان عاشور الجلفة، ص 45-46.

[13]  صبري بديع، مجلة اتجاهات سياسية، مرجع سابق، ص 64.

5/5 - (3 أصوات)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى