اتفاقية باريس والقيود المتواصلة
بقلم : د. عقل صلاح – كاتب وباحث فلسطيني مختص بالحركات الأيديولوجية.
- المركز الديمقراطي العربي
وقعت منظمة التحرير وإسرائيل اتفاق أوسلو في 13 أيلول/سبتمبر 1993، الذي نص على إقامة سلطة حكم ذاتي انتقالي (السلطة الفلسطينية) لفترة انتقالية لا تتجاوز خمس سنوات، وشكلت هذه الاتفاقية غطاء لعدة اتفاقيات بين الطرفين، منها اتفاقيات تتعلق بالنواحي الاقتصادية.
ومع انتهاء الفترة الانتقالية لاتفاقية السلام، فشل الرئيس الأميركي بيل كلينتون سنة 2000 في التوصل لاتفاق جديد بين الطرفين، وإثر فشل تلك المفاوضات اندلعت الانتفاضة الثانية عام 2000، وكردة فعل قامت إسرائيل باقتحام المناطق التي تسيطر عليها السلطة ودمرت مقرات السلطة. كما تعرض الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات لحصار في مقره برام الله دام حتى استشهاده سنة 2004.
وعقب استشهاد الرئيس عرفات، انتخب محمود عباس رئيسًا للسلطة، وأعلن منذ أيامه الأولى رفضه للعنف، كما قام بوقف المفاوضات مع إسرائيل، مصرًا على وقف الأعمال الاستيطانية كشرط لاستئناف المفاوضات التي لا زالت متوقفة، والاستيطان يتوسع بشكل جنوني لغاية الآن. وقد لوح الرئيس عباس أكثر من مرة بورقة حل السلطة التي قال عنها أنها سلطة بلا سلطات، وبوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، إلا أنه لم يتخذ أي خطوة فعلية في هذا الإطار، مع العلم أن المجلس الوطني والمركزي على مدار سنوات اتخذ أكثر من قرار حول الموضوع، وشكلت لجان لتنفيذ هذه القرارات التي بقيت حبر على ورق.
تعتبر اتفاقية باريس الاقتصادية ملحقًا اقتصاديًا لاتفاقية أوسلو التي وقعتها السلطة وإسرائيل في باريس في 29 نيسان/أبريل 1994، لتنظِّيم العلاقات الاقتصادية بين السلطة وإسرائيل؛ وتم تحديد الإطار الزمني لها بخمسة سنوات، وكان من المقرر أن يتم تعديل هذه الاتفاقية حسب معطيات الواقع الفلسطيني والإسرائيلي؛ وهو الأمر الذي لم يحدث.
وتتكون اتفاقية باريس الاقتصادية من 83 بندًا، ويبين البند الأول إطار عمل البروتوكول وأهدافه وآفاقه، ويؤسس هذا البروتوكول الاتفاق التعاقدي الذي سيحكم العلاقات الاقتصادية بين الجانبين، ويشمل الضفة والقطاع، وهذا البروتوكول وملاحقه سيتم دمجها في اتفاقية أوسلو وسيكون جزءًا منها، ويشكل الجانبان لجنة اقتصادية فلسطينية- إسرائيلية مشتركة، وذلك لمتابعة تنفيذ هذا البروتوكول ومعالجة المشاكل المتعلقة به، والتي قد تبرز من وقت لآخر، ويمكن لكل جانب أن يطالب بمراجعة أي مسألة تتعلق بالاتفاق عن طريق اللجنة.
ويذكر أن هذه الاتفاقية أعطت إسرائيل اليد العليا في السيطرة على الوضع الاقتصادي الداخلي والخارجي الفلسطيني، وألحقت الاقتصاد بإسرائيل بعدما أعطى اتفاق أوسلو أيضا اليد العليا الأمنية لإسرائيل في السيطرة الداخلية والخارجية، حيث غدت إسرائيل تتحكم في الشأن الفلسطيني الاقتصادي والأمني. ولكن إسرائيل تنصلت من كل الاتفاقيات الموقعة ولم تقم بتطبيق أي منها، على الرغم من تنفيذ السلطة لكل التزاماتها وعلى رأسها التنسيق الأمني. إلا أن إسرائيل تتمسك لغاية اليوم في اتفاقية باريس الاقتصادية التي تعتبر الرافد الاقتصادي الدائم الذي منحه بروتوكول باريس الاقتصادي لإسرائيل.
إضافة لما سبق، لا يمكن للفلسطينيين إقامة علاقات اقتصادية مع دول لا تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، كما تقف الاتفاقية عائقًا أمام إنجاز عملة فلسطينية. وقد قامت إسرائيل بحجز أموال الضرائب في عدة مناسبات، في سنة 2006 بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية، وفي أيار/مايو2012 بعد توقيع اتفاق المصالحة الفلسطينية، وفي أيلول/سبتمبر 2012 عند مطالبة الأمم المتحدة بنيل عضوية كاملة، والاعتراف بدولة فلسطينية على حدود سنة 67.
وفي هذا الصدد، وافقت منظمة التحرير على اتفاقيات اقتصادية منحت الاحتلال سلطة الجباية وسلطة القرار على كل الوارد والصادر. وكان ممكن أن يجعلوا استيراد البضائع عبر الأردن وأن تصل لنقطة فلسطينية مباشرة وليس لنقطة إسرائيلية حتى لا يقعوا فريسة ابتزاز الاحتلال وجبايته. حيث كان أمام السلطة فرصة ذهبية للتخلص من هذا الاتفاق بفتح منطقة تجارة حرة بين قطاع غزة ومصر للتخلص من التبعية الإسرائيلية لا سيما بعد انسحاب قوات الاحتلال من قطاع غزة عام 2005، إلا أنها عادت وكررت الخطأ بتوقيع اتفاق المعابر لسنة 2005 لإعادة سيطرت الاحتلال على المعبر الفلسطيني – المصري.
وفي اتجاه آخر، أصدر رامي الحمد لله رئيس الوزراء الأسبق في أيلول/سبتمبر2018، تعميمًا إلى المؤسسات المعنية بالشأن الاقتصادي والمالي، طالب فيه بتقديم مقترحات من أجل تعديل اتفاق باريس الاقتصادي أو إضافة بنود جديدة إليه. إلا أنه لم يتم تعديل ولا حتى مناقشة الأمر جديا من قبل السلطة، وبقيت هذه الاتفاقية التي مازال الشعب الفلسطيني يعاني من تبعياتها التي تفاقمت في فترة الحكومة الإسرائيلية الحالية حيث قام وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموترتش بحجز أموال المقاصة لعدة شهور، وزاد على هذا الحجز بحجز رواتب موظفي السلطة في غزة.
وفي هذا الصدد، صرح الرئيس عباس في عام 2018 بضرورة التخلص من بروتوكول باريس الاقتصادي أو تعديل بنوده، وإلزام إسرائيل بتطبيق كل بنوده بوجود طرف ثالث، معولًا على الدور الفرنسي راعي الاتّفاق في ذلك. أما بخصوص الموقف الإسرائيلي، فقد كشفت القناة العاشرة الإسرائيلية، في 22كانون أول/ديسمبر2018، أن رئيس وزراء بنيامين نتنياهو سينظر في الطلب الذي تقدمت به السلطة لإجراء تعديلات على اتفاقية باريس الاقتصادية. إلا أنه لم يتغير شيء بل زادت إسرائيل في التوغل بالاقتطاع من أموال الضرائب. لقد أقر الكنيست قانون خصم قيمة رواتب الأسرى والشهداء من أموال المقاصة وبشكل نهائي في 2تموز/يوليو2018، وقرر الكابنيت في 17شباط/ فبراير 2019، خصم جزء من أموال الضرائب بما يوازي مجموع الأموال التي تدفعها السلطة لأسر الشهداء والأسرى.
يهدف هذا القانون إلى تجريم النضال الوطني الفلسطيني، واستخدام ورقة الضغط المالي من أجل كسر إرادة المقاومة، ومنع الفلسطينيين من ممارسة حقهم في المقاومة المشروعة ضد الاحتلال. ويهمنا في هذا السياق أن نشير إلى التأثير من الناحية المالية، فالمبلغ المقتطع كبير ويؤثر على الموازنة العامة، فهو يشكل ما يوازي 13% من إيرادات المقاصّة مع إسرائيل والتي تبلغ حوالي 9 مليار شيقل، والتي تشكل بدورها حوالي 68% من الإيرادات المحلية للموازنة العامة. أي أنها أكبر مكوّن من مكونات إيرادات السلطة.
وتتفاوت المبالغ المقتطعة تحت هذا البند من شهر لآخر، حيث بلغ مجموعها نحو 11 مليار دولار في عشر سنوات من سنة 2011 وحتى2021، وفي سنة 2019، بدأت حلقة جديدة للاقتطاعات، بخصم حوالي 50 مليون شيقل شهريا، توازي رواتب عوائل الشهداء والأسرى والجرحى، وفي سنة 2022، بلغ إجمالي الاقتطاعات حوالي 450 مليون دولار، وبحسب رئيس الوزراء محمد أشتية، فإن إجمالي المبالغ المقتطعة، المتراكمة تحت هذا البند منذ بداية 2019 حتى نهاية 2022، بلغ حوالي ملياري شيقل.
وقد رفضت السلطة، تسلم أموال الضرائب، بعد إعلان إسرائيل تحويلها، بعد خصم مبالغ كانت توجه سابقا لقطاع غزة، حيث صدر قرارًا رئاسيًا بعدم تسلم أموال المقاصة منقوصة، وقالت القناة 12 العبرية إن سموتريتش، وقع على قرار تحويل عائدات الضرائب إلى السلطة، بعد خصم الحصة التي تحولها السلطة لغزة.
وقالت القناة 12 العبرية “رغم أن المجلس الوزاري السياسي والأمني الإسرائيلي وافق على تحويل الأموال إلى السلطة، لم يوقع سموتريتش على الأمر الذي يسمح بذلك، ثم بدأ رئيس الشاباك، رونين بار، محادثة مع سموتريتش، أن “هذه الأموال، سيستخدمها رئيس السلطة لدفع رواتب موظفي السلطة، حتى يتمكنوا من الحفاظ على استقرار نسبي في الضفة”. لم تتمكن الحكومات الفلسطينية الـ 18 المتعاقبة، من تحقيق أي اختراق في أموال المقاصة، بهدف تحويل جبايتها فلسطينيًا، الأمر الذي جعل هذه الأموال ورقة ضغط إسرائيلية على الفلسطينيين، للحصول على مكاسب سياسية. للمرة الثانية عشرة منذ 30 سنة، تستخدم إسرائيل أموال المقاصة كورقة ابتزاز لتحقيق أهداف سياسية. إلا أنه بعد التدخل الأمريكي، وافق مجلس الوزراء الإسرائيلي على تحويل الأموال إلى السلطة عبر النرويج.
وتعقيبًا على ما سبق، صبغت إسرائيل الاقتطاعات بصبغة قانونية، مما يجعل تراجع الحكومة الإسرائيلية عنه أمر مستحيل، وحل الأزمة كان يتطلب إما تراجع إسرائيل عن حجز الأموال، وهو غير متوقع لسببين: أولها، الأحزاب اليمينية المتطرفة. وثانيها، أن حجز الأموال تم بتشريع وقانون أقر رسميًا. أما الحل الآخر فهو تراجع السلطة عن موقفها ورفض استلام أموال المقاصة منقوصة، وهذا ما حصل في ظل محدودية خياراتها. أما من الناحية القانونية، فقد استند الاحتلال في اقتطاعه للأموال إلى التزامات السلطة في اتفاقات أوسلو وملحقاتها التي تنص على أن تلتزم السلطة في علاجها للمشاكل مع إسرائيل على المفاوضات المباشرة.
ووفقًا لهذه الاتفاقيات باتت إسرائيل هي الخصم والحكم على السلطة، ومن هنا جاء موقف الاحتلال باعتبار المبالغ المالية التي تدفعها السلطة للشهداء والأسرى هي خرق لاتفاقات أوسلو، وبالتالي تم إصدار القانون المشار إليه لخصم هذه المبالغ المالية. وفي الوقت نفسه حصنت أوسلو كل عدوان يقوم به الاحتلال أو أي إسرائيلي ضد السلطة وشعبها، وباتت اعتداءات الاحتلال خارج ولاية القضاء الفلسطيني.
أما على المستوى السياسي، فقد كانت المشكلة الكبرى للقيادة المهيمنة على منظمة التحرير هي أن تقبل منذ البداية بخضوع الحكم الذاتي الفلسطيني الأعزل والمحاصر لسيادة الاحتلال بكل ما تعنيه السيادة من مفاهيم وصلاحيات وذلك بصرف النظر عما ورد في هذه الاتفاقيات من كلمات معسولة خادعة.
لكن في حال تحررت السلطة من أوسلو، ستنقلب الأمور رأسًا على عقب، فقانونيًا الاحتلال مرفوض في القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وقرارتها التي أقرت بحق الشعوب المستعمرة في الدفاع عن حقها في التحرر والاستقلال وعودة كل مواطنيها إلى بلدهم الأصلي. وسياسيًا، فإن ذلك يتيح للحركة الوطنية الفلسطينية بحشد كل الشعوب الحرة في العالم وكل الدول المناصرة للحرية للوقوف في جبهة عالمية واحدة ضد الحلف الصهيوني الإمبريالي الأمريكي الجاثم على فلسطين وشعبها. صحيح أن هذا الطريق طويل ولكنه مضمون النتائج على المدى الطويل.
فقد أقر المجلس المركزي عام 2015، وفي عام 2018 وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل في ضوء عدم التزامها بالاتفاقيات الموقعة بين الجانبين، لكن القرار بقي حبرًا على ورق. لقد أثبتت السلطة المرة تلو الأخرى بأنها غير قادرة على تنفيذ وتطبيق القرارات التي تتخذها تجاه مقاومة القرارات الإسرائيلية، وهذا نتاج سلسلة القرارات التي اتخذها الرئيس عباس وما لبث أن تراجع عنها.
فقد رفضت السلطة استلام أموال المقاصة عام 2019 لمدة 7 أشهر احتجاجًا على اقتطاع إسرائيل لرواتب الأسرى وبعدها استلمتها، وامتنعت السلطة مرة ثانية في عام 2020، عن استلامها، وفي بداية سنة 2024، رفضت للمرة الثالثة استلامها لعدة أشهر، ولكنها استلمتها؛ السؤال في الثلاث مرات استلمتها دون تحقيق أي شرط من شروط عدم استلامها، إذن ما الهدف من عدم استلامها للمرة الثالثة؟!.