الدراسات البحثيةالمتخصصة

الليبرالية ضد الرأسمالية

Liberalism against Capitalism

بقلم: كولين برادلي(*) فيلسوف وباحث قانوني. ويعمل الآن على استكمال درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة برينستون، وهو زميل فورمان الأكاديمي في كلية الحقوق بجامعة نيويورك

ترجمة د. حمدي عبد الحميد الشريف(*)دكتوراه في الفلسفة من جامعة سوهاج (2015)، أستاذ الفلسفة السياسية المساعد في كلية الآداب، ووكيل كلية الدراسات العليا والبحوث البيئية في جامعة سوهاج

  • المركز الديمقراطي العربي

 

في مصنع للصلب، في مدينة يونغزتاون بولاية أوهايو، 1953. الصورة من مكتبة الكونغرس/ وكالة جيتي للتصوير

 – يُظهر عمل جون رولز أن القيم الليبرالية للمساواة والحرية تتعارض بشكل أساسي مع الرأسمالية.

تم الانتهاء من إحياء دُور القضاء في مقاطعة ماهوننغ Mahoningy في مدينة يونغزتاون Youngstown بولاية أوهايو في عام 1910، مما سيجعل أي مدينة فخورة بها. فأخشاب الماهوجني من دولة هندوراس في أمريكا الوسطى والفَخَّار و 12 عمودًا رخاميًا وقبة زجاجية ملونة يبلغ قطرها 40 قدمًا، كل هذا يشهد على نجاح المقاطعة في مطلع القرن العشرين كقوة صناعية معتدلة. وعبر شارع السوق، استحضرت المحكمة الفيدرالية الأكثر تواضعًا التي اكتملت في عام 1995 أسلوب بناء مكاتب الشركة: وهو عبارة عن حجر خرساني وألواح مرصوفة بالزجاج الأزرق والأسود، مع مربعات ودوائر مزخرفة منتشرة هنا وهناك.

وتم تسمية مبنى المحكمة باسم مبنى توماس د. لامبروس للمحاكم الفيدرالية ومحاكم الولاية التي تنطوي على نقطة من القانون الفيدرالية الأمريكية، وذلك نسبة إلى القاضي توماس ديميتريوس لامبروس Thomas Demetrios Lambros (1930-2019)، ابن مدينة أشتابولا، في أوهايو، الذي عيّنه الرئيس الأمريكي ليندون جونسون في عام 1967 رئيسًا للمحكمة العليا للولايات المتحدة. ويذكر الموقع الإلكتروني لإدارة الخدمات العامة الأمريكية القاضي لامبروس بأنه «رائد في الحركة البديلة لتسوية المنازعات»- أو التحكيم، كما هو معروف عمومًا. لكن سكان يونغزتاون بصفة عامة ومنطقة ماهونينغ بصفة خاصة قد يذكرون القاضي لامبروس لسبب مختلف.

فقد ترأس القاضي لامبروس دعوى قضائية متنازع عليها بشدة في عامي 1979-1980 رفعها 3500 عامل من عمّال الصلب الذين تم تسريحهم من مصنع في يونغزتاون تابع لشركة فولاذ الولايات المتحدة- وهو جزء من موجة من الإغلاق عبر ما نسميه الآن حزام الصدأ(*). وكانت الدعوى مجرد محاولة لإجبار شركة فولاذ الولايات المتحدة على بيع الشركة إما لحكومة الولاية أو للعمال الذين شرعوا في طريق القروض الفيدرالية لاستمرار تشغيل المصنع والاستمرار في إرسال شيكات رواتب لآلاف العائلات التي تعتمد عليها.

وفي جلسة استماع مبكرة، قدّم القاضي لامبروس اقتراحًا رائعًا- اقتراحًا ثوريًا، تقريبًا- لمحامي العمال، حيث يقول اقتراحه أنه قد يكون لدى العمال فرصة ذهبية إذا أثبتوا أن سكان يونغزتاون لديهم «حق في الملكية العامة» في الشركة مستمد من «العلاقة الطويلة والراسخة بين شركة فولاذ الولايات المتحدة، وصناعة الصلب كمؤسسة، والمجتمع في يونغزتاون، وأهالي مقاطعة ماهوننغ، ومنطقة ماهوننغ في تقديم وتكريس حياتهم لهذه الصناعة». وكان اقتراح القاضي مدعومًا بمبررات منها، أنه نظرًا لأن إنتاج الصلب أصبح جزءًا أساسيًا من حياة المجتمع، فيمكن القول إن المجتمع له الحق في تقرير مصير مصنع الصلب.

لكن الدعوى فشلت! فعندما طُلب من لامبروس إصدار حكم في قضية يونغزتاون، أدار القاضي ظهره لاقتراحه. فلم تكن هناك سابقة في قانون الولايات المتحدة تقول بأن العمال أو الناس لديهم في الواقع «حق في الملكية العامة». لكن لامبروس كان مشتتًا بين واجبه الأخلاقي بأنه يجب أن يكون هذا المصنع من حق العمال، وواجبه المهني كقاضي يقضي بأن القانون (آنذاك كما هو الحال الآن) لا يعترف بمثل هذا الحق. ومن هنا تم إغلاق مصنع عمال يونغزتاون نهائيًّا.

وعلى أية حال، فإن هذا التناقض العميق لدى القاضي لامبروس يعكس تناقضًا يبدو أنه يكمن في جوهر الليبرالية. فمن ناحية، فإن المجتمع الليبرالي هو مجتمع من الأنداد- من الأشخاص الذين يتمتعون بنفس الحقوق والسلطة لاتخاذ القرارات المتعلقة بحياتهم، والذين يشاركون على قدم المساواة في الحكم الجماعي لذلك المجتمع. وتدعي الليبرالية تحقيق ذلك من خلال حماية الحريات. وبعض هذه الحريات شخصية، وتتمثل في جوانب مثل: أن أقرر كيفية تصفيف شعري، والدين الذي أؤمن به، وما أقوله أو لا أقوله، والمجموعات التي أنضم إليها، وكيفية التصرف بممتلكاتي الخاصة. وبعض هذه الحريات سياسية، وتتمثل في جوانب مثل: يجب أن أحظى بنفس الفرصة مثل أي شخص آخر للتأثير على اتجاه مجتمعنا وحكومتنا من خلال التصويت، والانضمام إلى الأحزاب السياسية، والمشاركة المسيرات والتظاهر، والترشح للمناصب، وكتابة مقالات الرأي، أو تنظيم الدعم للقضايا أو المرشحين.

ومن ناحية أخرى، فإنه عادة ما يتم الحديث عن الليبرالية في سياق من الرأسمالية. والرأسمالية هي نظام اجتماعي واقتصادي يتميز بالحقيقة التي مفادها أن الأفراد (أو الكيانات القانونية مثل الشركات) يمتلكون وسائل الإنتاج. وفي ضوء الحقيقة التي مفادها أن الليبرالية ينبغي أن تقوم بحماية الحقوق والحريات، فإن هذا يعني أنه، مثلما أقرر ما أفعله بما أمتلكه (كأن أمتلك سيارة هيونداي 2004 ووحدة تكييف لا تعمل ومحامل العجلات الحادة)، فكذلك يحق للكيان القانوني لشركة فولاذ الولايات المتحدة في يونغزتاون أن يقرر ما يجب أن يفعله بما هو ملكية خاصة للشركة.

لكن التزام الليبرالية الواضح بالرأسمالية يهدّد بمنعها من الوفاء بما تَعِد به. ولتوضيح هذا، فمن المهم أن نتذكر أن العمليات السياسية الرسمية قد لا تنطلق من الطريقة التي ينبغي أن يحكم بها مجتمعنا نفسه. وتتمثل إحدى المهام الرئيسية للمجتمع في تنظيم الإنتاج الاقتصادي. فنحن البشر كائنات تصنع الأشياء، ونصنع الأدوات والمساكن والطعام والفن والثقافة، وننجب المزيد من البشر الصغار، وغير ذلك الكثير. وعلاوة على ذلك، فعادة ما نقوم بذلك معًا كنشاط مشترك. ويتطلب هذا الإنتاج التعاوني حتمًا نوعًا من تقسيم العمل: فالبعض يقوم بمهمة صيد الأسماك بينما يقوم البعض الآخر بزراعة الأرض؛ والبعض يقوم بتصميم وسائل الذكاء الاصطناعي بينما يقوم البعض الآخر بمسح زجاج السيارات عند التوقف عند إشارات المرور.

وعندما تتحول المجتمعات إلى التصنيع، فإن تحقيق اقتصاديات الحجم(*) والقدرة على شراء أحدث التقنيات اللازمة لإنتاج مربح يصبح مكلفًا للغاية. وفي الواقع، إنه مكلف للغاية لدرجة أنه من الممكن فقط لعدد صغير نسبيًا من الأشخاص أو الكيانات القيام بذلك. وهذا لا يؤدي فقط إلى تقسيم العمل، ولكن إلى مجتمع طبقي. فيمتلك بعض الناس- الرأسماليين- المواد أو التقنيات التي تنتج ثروة المجتمع، بينما يتعيَّن على الآخرين- العمال- العمل لدى الرأسماليين مقابل أجر. وفي مثل هذا المجتمع الطبقي، لا يتخذ الرأسماليون قرارات الاستثمار المهمة التي توجه الاتجاه العام للمجتمع فحسب، بل إنهم أيضًا مستبدون من نوع خاص يخبرون عمالهم بما يجب عليهم فعله، ومتى يفعلون ذلك، وماذا يرتدون، ومتى يتبولون، وماذا ينشرون على الإنترنت. وبالنظر إلى دفاع الليبرالية عن حقوق الرأسماليين في القيام بكل هذا، من الصعب أن نرى كيف يمكن أن تحقق الليبرالية بشكل موثوق هدفها المتمثل في بناء مجتمع متساوٍ يكون لنا جميعًا فيه نصيب في حكمنا الجماعي. ومن هنا يأتي التناقض في جوهره، وهو نفسه التناقض الذي أحس به القاضي لامبروس.

– نادرًا ما يشكك الليبراليون في أساسيات الاقتصاد السياسي مثل من يملك ماذا ويسيطر على من.

تُعَدُّ الخلفية السياسية والاقتصادية لإغلاق يونغزتاون موضوعًا للجدل المستمر بين المؤرخين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع. ويتفق الجميع على أنها كانت جزءًا من ظاهرة «العولمة». ولكن في حين أن الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون- الذي أشرفت إدارته على بناء مبنى لامبروس الفيدرالي- كان يمكنه أن يعلن في عام 2000 أن العولمة هي «المعادل الاقتصادي لقوة الطبيعة»، فإنه لم يَعُدّ أحد يعتقد ذلك بجدية. فتحت قيادة الولايات المتحدة (وهي نفسها استجابة للتنافس الصيني)، يتجه العالم نحو «النزعة التجارية الجديدة(*)» Neomercantilism، حيث يتبنى استراتيجيات تحمي الحكوماتُ بموجبها الصناعاتَ المحلية بينما تتدخل بقوة في الأسواق، وتفرض سياسة الجزرة والعصا لتوجيه المستثمرين من القطاع الخاص نحو أهداف اقتصادية مستهدفة مثل الاستثمارات في التكنولوجيا الخضراء.

وهذا يعني أن الطريقة القديمة التي ينظم بها المجتمعُ الإنتاجَ قد عادت إلى الظهور كقضية سياسية متنازع عليها. لكنها ظهرت هذه المرة في أجواء أيديولوجية متناحرة. وربما تكون سيادة الليبرالية الآن فقيرة وباهتة. فلقد حقق السلطويون الشعبويون و«الديمقراطيون غير الليبراليين» مستوى مفاجئًا من الشرعية والدعم، بينما تتطلع أيديولوجيات ما بعد الليبرالية إلى إمكانيات جديدة. ويقدّم النقاد من اليسار واليمين رؤيتين مغايرتين رئيسيتين للمستقبل القريب. ففي التيارات اليسارية، يشكك النقاد في أن عودة السياسة الصناعية قد تكون أقل ظلمًا من «النظام الاقتصادي العالمي الجديد» الذي يروج له أنصاره، مما يعكس عدم قدرة الليبرالية على الوصول إلى جذور المشكلات الكامنة في الرأسمالية. أما أولئك الذين يتبنون وجهة النظر هذه، مثل الخبيرة الاقتصادية دانييلا جابور Daniela Gabor، فيرون أن الجهود التشريعية مثل قانون الحد من التضخم Inflation Reduction Act (IRA) الذي أصدره الرئيس الأمريكي جو بايدن، أو السياسة الصناعية الأوروبية التي اقترحها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مجرد ضمان لتحقيق أرباح خاصة من خلال استخدام الدولة من أجل «الحد من المخاطر» بالنسبة لبعض الاستثمارات الرأسمالية، مما يجعلها أكثر أمانًا للرأسماليين الذين يجنون مكاسب ضخمة مع القليل من الجوانب السلبية. ويذهب بعض الاشتراكيين أيضًا إلى حد القول بأن قانون الحد من التضخم الذي أصدره بايدن إنما هو انحدار إلى نوع من فلسفة الأنظمة الإقطاعية. أما في التيارات اليمينية، فيأمل بعض من يُطلق عليهم ما بعد الليبراليين، مثل المُنظِّر السياسي باتريك دينين Patrick Deneen، أن تتحول السياسة الصناعية التي تركّز على استعادة وظائف التصنيع ذات الياقات الزرقاء في قلب الولايات المتحدة إلى خطوة ثورية أولى نحو التخلص من الليبرالية بكل تطلعاتها (الزائفة) نحو الحريات الفردية والمساواة الاجتماعية.

ويتجاهل هذا الانقسام الحاد في الرؤى بين اليسار واليمين إمكانية وجود نظام ليبرالي معادي للرأسمالية Liberal Anticapitalism. وقد يبدو هذا النظام وكأنه نظام متناقض. فلا الليبراليون ولا منتقدوهم يفصلون الليبرالية عن الرأسمالية (رغم أن بعض المؤرخين بدأوا في ذلك). وحتى أن معظم الليبراليين يؤكدون على الزواج السعيد بين الاثنين. ويؤكد الليبراليون من دعاة مبدأ المساواة Liberal Egalitarians (مثل جون رولز John Rawls) على قيام اتفاقات جديدة انطلاقًا من سياسة إعادة التوزيع على اعتبار أن هذا هو الجوهر الأخلاقي لليبرالية، غير أن القليل من الليبراليين هم من يتعاملون بجدية مع القضايا الكبرى للاقتصاد السياسي. وإذا كان الليبراليون يقدّمون الحلول المؤسسية والإجرائية- مثل «التغيير في بنية المؤسسات» للعمليات التمثيلية، وتوسيع نطاق الوصول إلى التصويت، وما إلى ذلك- فإنهم نادرًا ما يشككون في أساسيات الاقتصاد السياسي مثل من يملك ماذا ويسيطر على من.

وهذا ما يجعل الأمر أكثر إثارة للدهشة، خاصة وأن أعظم فلاسفة اليبرالية المعاصرين، ونعني به جون رولز، قد طوّر مجموعة من الحجج القوية والمنهجية والأصلية مفادها أنه حتى أكثر أشكال الرأسمالية إنسانية ورخاءً ورعايةً لا يتوافق مع إمكانية تحقيق الهدف الأعمق لليبرالية: ونعني به إيجاد أناس أحرار يعيشون معًا في مجتمع مكون من أنداد. ومن هنا يتوجب أن تكون هذه الحجج معروفة بشكل أفضل.

وعلى عكس الرسوم الساخرة الشائعة عن آرائه، لا يختزل رولز السياسة إلى دَفعات تكنوقراطية وإصلاح معدلات الضرائب الفعلية. فالليبرالية هي فلسفة «البنية الأساسية» للمجتمع. وتشمل البنية الأساسية المؤسسات الرئيسية للمجتمع: ليس فقط البني السياسية مثل الدساتير (حيثما وجدت)، ولكن أيضًا الأسواق وحقوق الملكية. فكل شيء خاضع للتقييم الأخلاقي، ليس فقط من منظور مجرد، ولكن فيما يتعلق بكيفية تفاعل المؤسسات المختلفة مع بعضها البعض ومع السلوك البشري الطبيعي، على مدى الأجيال.

ويتضمن تعبير «كل شيء» هنا أساسيات الاقتصاد السياسي مثل من يصنع ماذا ومن يمتلك ماذا ومن يقرر. وهذا يشمل بشكل محدد، بالنسبة لرولز، الطريقة التي ينظم بها المجتمع إنتاج الخيرات والخدمات. وبالتركيز على عدم المساواة والهيمنة اللذين يظهران من الطريقة التي تمكّن الرأسماليةُ بها مجموعة صغيرة في المجتمع من التحكم في كيفية إنتاجنا لثروة المجتمع، فإن رولز يؤكد أنه لا يمكن لأي شكل من أشكال الرأسمالية أن يتماشى مع النموذج الليبرالي الحقيقي للمجتمع الذي يتكون من أنداد أو أفراد متساوين. وفي مثل هذه الحالة، فإن المساواة الاجتماعية والحريات الأساسية سيغيبان دائمًا.

والواقع أن مجموعة كتابات رولز معقّدة وتحوي جوانب من الاختلاف. لكننا لسنا ملزمين بأن نتفق معه في كل شيء. فحتى لو تخلينا عن أدوات رولز الأساسية والتعديلات العديدة التي أجراها على موضوعات معينة بعد نشر كتابه «نظرية في العدالة» (A Theory of Justice) (1971)، فقد أقر رولز صراحة بجوهر الاقتصاد السياسي الليبرالي المناهض للرأسمالية، ولم يتخل أبدًا عن الاقتناع بأن المجتمع الليبرالي يجب أن يتجاوز سلبيات الرأسمالية.

وبالنسبة إلى رولز، تتمحور الليبرالية حول مُثْلَين اثنين: المجتمع بوصفه نظامًا عادلاً للتعاون، والأفراد بوصفهم أشخاصًا أحرارًا، ومتساوين، وقادرين على التمتع بالخيرات؛ واستعدادهم- إن لم يكن دائمًا من دون تردد- للتعاون مع بعضهم البعض لتحقيق الازدهار فيما بينهم. ويوضح رولز أن هذه المُثل العليا تقودنا إلى إقرار مبادئ يمكننا أن ننشدها في تصميم وتحسين وحماية البني السياسية والاقتصادية الأساسية الخاصة بمجتمعنا العادل.

أما الرأسمالية فهي نظام اقتصادي يحوي ثلاث سمات. فأولاً، كما يقول رولز إنها «نظام اجتماعي يقوم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج». وهو نظام يسمح بالملكية الخاصة غير المقيدة تقريبًا ليس فقط بالنسبة للممتلكات الشخصية، ولكن أيضًا بالنسبة للأصول الصناعية الإنتاجية والمالية ذات الفائدة الكبيرة التي تعود على المجتمع- وهو ما أطلق عليه فلاديمير لينين Vladimir Lenin في عام 1922 «المرتفعات القيادية» (Commanding Heights) للاقتصاد. وثانيًا، إنها نظام يكرّس السعي الدائم إلى الملكية الخاصة عبر الأسواق في المقام الأول. وهذا يشمل أسواق السلع وأسواق المنتجات المالية وأسواق العمل. ويؤدي هذا إلى السمة الثالثة: حيث يحاول معظم الناس- العمال- كسب ما يكفي لإعالة أنفسهم أو أسرهم من خلال بيع عملهم مقابل أجر محدد للرأسمالي الذي يمتلك وسائل الإنتاج.

ونتيجة لذلك، فإن الرأسمالية هي نظام اقتصادي ينتج مجتمعًا قائمًا على أساسين: التصنيف الطبقي، وتقسيم العمل. وهذا هو ما يستهدفه النظام الليبرالي المعادي للرأسمالية عند رولز، بالتركيز على العقبات التي يفرضها المجتمع القائم على التصنيفات الطبقية المكون من الرأسماليين المالكين والعمال غير المالكين سعيًا إلى تحقيق المجتمع الليبرالي التعاوني والتحرري الحقيقي. ويؤكد رولز أن الرأسمالية تنتهك مبدأين أساسيين من مبادئ الليبرالية، وهما: مبدأ المساواة الاجتماعية Social Equality، ومبدأ الحرية السياسية Political Liberty بمعناها الأوسع. وعلاوة على ذلك، فمن غير المرجح أن تكون الإصلاحات التي تترك جوهر الرأسمالية في مكانها مستقرة. ودعونا نلقي نظرة على هذين المبدأين بشيء من التفصيل النسبي.

– أولاً: المساواة الاجتماعية.

أحد مكونات مبدأ المساواة الاجتماعية هو التكافؤ العادل للفرص. فلا ينبغي أن تعتمد فرصك في بلوغ هدفك أو النجاح في أي دور مهم في حياتك على جوانب من ظروف نشأتك أو ولادتك أو ظروف ليس لديك سيطرة تذكر عليها أو لا تتحكم فيها على الإطلاق. والواقع أن جميع المجتمعات الحالية تخفق في تحقيق هذا المكون: فاختلاف العرق والنوع والدين والإعاقة والجنس والظروف الأخرى تعمل على تفضيل فرص البعض على الآخرين. وبالمثل، ففي المجتمع الرأسمالي القائم على التصنيفات الطبقية، سواء كنت تمتلك أنت أو والديك أصولًا إنتاجية خاصة، فإن ذلك يحدّد بشكل كبير مجموعة من الفرص الكبيرة في حياتك. ولذا، فإن مكون التكافؤ العادل للفرص أمر غير وارد في ظل الرأسمالية. وأقول «غير وارد» لأنه من الممكن أن تعزّز دولة الرفاه الرأسمالية تكافؤ الفرص من خلال الاستثمار بمستويات كبيرة في التعليم والرعاية الصحية.

ولكن حتى المجتمعات التي حقّقت تكافؤ الفرص ستظل عاجزة عن تحقيق المثل الأعلى للمساواة الليبرالية. وهناك قيمة أكثر صعوبة في تحديدها ولكنها أقوى وتخلو من قيود تكافؤ الفرص ونعني بها القيمة التي يطلق عليها رولز «المعاملة بالمثل» Reciprocity. وهي قيمة يشير رولز من خلالها إلى أنه من المهم أن نعتبر أنفسنا، ويعتبرنا الآخرون، على أننا أعضاء مشاركين مشاركة كاملة في المجتمع، على قدم المساواة والمكانة مع المشاركين الآخرين. لكن الرأسمالية تجعل قيمة المعاملة بالمثل مستحيلة لأنها تتطلب تقسيمًا للعمل يفصل بين «الأدوار والأهداف الاجتماعية للرأسماليين والعمال». ونتيجة لذلك، كما يقول رولز، «ففي النظام الاجتماعي الرأسمالي، فإن الرأسماليين هم الذين يتخذون القرارات التي تتعلق بمصير المجتمع، بشكل فردي وفي نوع من المنافسة مع بعضهم البعض، حول كيفية استثمار موارد المجتمع ونوعية انتاجهم وكيفتها. وهذا يجعل من الصعب على العمال أن يعتبروا أنفسهم مشاركين نشطين في توجيه المجتمع لأنهم، حقًّا، ليسوا كذلك (مع استثناء محدود للتصويت في بطاقات الاقتراع كل بضع سنوات).

– يتخذ الرأسماليون قرارات مهمة نيابة عن المجتمع، لكن مصالحهم تختلف عن مصالح الطبقة العاملة.

هذا ما تعلمه سكان مدينة يونغزتاون عندما قرر مالكو شركة فولاذ الولايات المتحدة غلق المصنع. وبالمثل، يمكن للمدير التنفيذي لماكدونالدز اليوم أن يخبر موظفيه «أننا جميعًا في هذا الأمر سواء» حتى تنفجر براكين غضبه، على الرغم من أنه يحصل على أكثر من 1150 ضعفًا مما يفعلونه في الساعة الواحدة ويتخذ جميع القرارات المتعلقة بكيفية قضاء وقتهم. وفي هذا الصدّد، كتب رولز في كتابه «الليبرالية السياسية» (1993) أنه عندما يكون هذا صحيحًا، فإن «المجتمع» يبدو ببساطة وكأنه شيء «يتم حشرنا فيه» بدلًا من شيء نصنعه ونحافظ عليه معًا.

ومن هنا يتخذ هؤلاء الرأسماليون قرارات مهمة نيابة عن المجتمع، لكن مصالحهم تختلف عن مصالح الطبقة العاملة. وهذا يمثّل شكلاً من أشكال الهيمنة الاجتماعية. وفي كتابه «العدالة كإنصاف: إعادة صياغة» (2001)، كان رولز قلقًا من أن أولئك الذين لا يمتلكون وسائل الإنتاج سوف «ينظرون إلى أنفسهم وسوف ينظر إليهم الآخرون على أنهم أقل شأنًا أو أدنى مكانة من غيرهم» ومن المرجح أن يطوّروا «مواقف تجمع بين الاحترام والخنوع» بينما يعتاد الملاك على «إرادة الهيمنة». ويضيف رولز بأن هذا يتعارض مع «الرباط أو التلاحم الاجتماعي» الحقيقي بين الأنداد، والذي يدعونا إلى تقديم «التزام سياسي عام للحفاظ على الشروط التي تتطلبها علاقتهم القائمة على المساواة».

– الحرية السياسية.

تتعارض الرأسمالية أيضًا مع القيمة الليبرالية الأساسية للحرية السياسية. وقد ظل علماء السياسة يزعمون لبعض الوقت بأن البلدان الديمقراطية المتقدمة مثل الولايات المتحدة وأوروبا الغربية ربما تُصنف بشكل دقيق على أنها حكم الأقلية، لأن سياساتهم لا علاقة لها تقريبًا بمصالح الفقراء عندما تنحرف هذه عن مصالح الأثرياء. والحل المعتاد المقترح هو «انتزاع المال من السياسة» من خلال إصلاح قواعد تمويل الحملات.

لكن قصة عمال مصنع يونغزتاون تشير إلى شيء أعمق. إذ يتمتع عمّال الصلب في الواقع بدعم سياسي كبير في معركتهم. وقد مثلهم المدعي العام السابق للرئيس جونسون، رامسي كلارك Ramsey Clark. وفي غضون ذلك، اتخذ كل من مجلس مدينة يونغزتاون، والهيئة التشريعية لولاية أوهايو، ولجنة مجلس النواب الأمريكي للطرق والوسائل، بعض الإجراءات نيابة عنهم. ولكن، كما أقر القاضي لامبروس أخيرًا، لم يكن أي من هؤلاء يستطيع أن يقف أمام قوة رأس المال.

وتأكيدًا لما ذهب إليه الخبير الاقتصادي توماس بيكيتي Thomas Piketty في كتابه «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» (2013) من أن المجتمعات الرأسمالية «تنجرف نحو حكم الأقلية Oligarchy»، أكد رولز من قبل على أن عدم المساواة الاقتصادية والسياسية «تميلان إلى أن تسيرا جنبًا إلى جنب»، وهذه الحقيقة تشجع الأثرياء على «سن قوانين المِلكية التي تضمّن مكانتهم المهيمنة، ليس فقط في السياسة، ولكن في المجالات الاقتصادية». ويستغل الأثرياء مكانتهم المهيمنة لوضع البرامج التشريعية والتنظيمية، واحتكار الحوار العام، وجعل صنع القرار السياسي رهينة من خلال التهديد بهروب رأس المال، والانخراط في الفساد الصريح. ولهذا، فربما يكون إصلاح قواعد تمويل الحملات لإبعاد الأموال عن السياسة بداية مهمة في كبح هذا الاتجاه. لكنها مجرد بداية.

ومن هنا كان رولز على وعي بالانتقادات التي صوبها كارل ماركس للرأسمالية والتي تقول بأن الحقوق الليبرالية فارغة أو هي مجرد حقوق شكلية- فهي تحدّد الحماية دون توفيرها في الواقع. وفي رده على ماركس، أكد رولز على ضرورة منح حقوق المشاركة السياسية «قيمة عادلة». وفي كتابه« نظرية في العدالة»، لاحظ رولز أن السياسات الكاملة اللازمة لحماية الحرية السياسية «لا يبدو أن قد حظيت مطلقًا بنوع من الحماية والاحتفاء المهمين» في المجتمعات الرأسمالية. والسبب هو أن تحول عدم المساواة الاقتصادية إلى شكل من أشكال الهيمنة السياسية إنما يحدث بسرعة. وهنا يمكن القول «إنّ القوة السياسية تتراكم بسرعة» عندما تكون مستويات الملكية غير متكافئة، كما أن «عدم المساواة في النظام الاقتصادي والاجتماعي قد يقوّض في لحظة أي مساواة سياسية قد تكون موجودة». وبالتالي، فإن ضمان الحرية السياسية لا يتطلب منا فقط تقييد توظيف المال في السياسة، ولكن، وعلى حدّ تعبير رولز، «منع التركيز المفرط للممتلكات والثروة» في المقام الأول.

– إن تعديل حقوق الملكية يقترب من صميم سلطة رأس المال.

كما أوضح بيكيتي وزملاؤه، فإن المستوى الكبير من عدم المساواة اليوم له مصدران رئيسيان: أولهما، التفاوت الهائل في الدخل المدعوم بمعدلات ضرائب فعلية منخفضة، وثانيهما، معدل عائد مرتفع على رأس المال مقارنة بعائدات العمل. وتستمر الفائدة المركبة للأثرياء في جعل الأغنياء أكثر ثراءً بينما يصبح الفقراء أكثر فقرًا نسبيًا. وقد أكد رولز على أننا بحاجة إلى معالجة كلا الأمرين: الأول عن طريق الضرائب وضوابط الأجور، والثاني عن طريق تغيير «التعريف القانوني لحقوق الملكية».

ومن السهل التغاضي عن مدى راديكالية هذا الاقتراح الأخير. وكما أوضحت الباحثة القانونية كاثرينا بيستور Katharina Pistor في كتابها «قانون رأس المال» (2019)، فإن الرأسمالية تعتمد على التعريف القانوني لحقوق الملكية. كما أن جميع حقوق الملكية لا تتراكم بمعدل سريع لرأس المال، ولا تمنح أصحابها القدر نفسه من السيطرة على الآخرين. ولذلك فإن تعديل حقوق الملكية يقترب من صميم سلطة رأس المال. وقد يأخذ هذا شكل الاعتراف «بحقوق الملكية المجتمعية» من النوع الذي اقترحه القاضي لامبروس ثُم تراجع عنه. أو يمكن أن يتضمن الفصل بين حقوق ملكية الرأسماليين للمعدات والآلات في المصانع، على سبيل المثال، وبين حقوق إدارة كيفية استخدام تلك المعدات والآلات، مع الاحتفاظ بالحقوق الأخيرة للعمال الذين يستخدموها بالفعل. ومن هنا قد تحمي الليبرالية الملكية من نوع ما، ولكنها لا تمنح بالضرورة حقوق الملكية المطلقة والمهيمنة التي يتمتع بها الرأسماليون اليوم.

– الاستقرار Stability

لكن ألا يمكننا بالفعل إصلاح الرأسمالية بشكل تدريجي في ضوء المسارات الاجتماعية الديمقراطية للتخفيف من هذه المشكلات؟ يقول رولز لا: فستعود الرأسمالية التي تم إصلاحها بسرعة إلى عدم المساواة والسيطرة. وهذه هي مشكلة عدم الاستقرار. ويجب أن نسأل عن أي نظام مقترح، مثل رأسمالية دولة الرفاه التي تم إصلاحها، ما إذا كان «يولِّد قوى سياسية واقتصادية تجعله يبتعد كثيرًا عن وصفه المؤسسي المثالي». ولتقييم مفهوم للعدالة أو أي ترتيب مؤسسي يهدف إلى تحقيقه، نحتاج إلى النظر في كيفية تأثير الديناميكيات السياسية والاجتماعية والنفسية والاقتصادية التي من المحتمل أن تعززها بمرور الوقت.

ومن الأمور المركزية لفهم رولز للاستقرار ملاحظة ماركس في كتابه «حول المسألة اليهودية» (1844) التي تقول أنه «في حين أن السياسة المثالية لها الأسبقية على المال»، فإنه في ظل الرأسمالية، «تصبح السياسة في الواقع خادمةً للمال». ومن هنا لا يكفي الاعتراف ببعض المجالات على أنها «سياسية» ومحاولة الاحتكام إلى «الإرادة السياسية» لتغييرها. ولا يمكن للسلطة السياسية- والسلطة التشريعية وسلطة صنع السياسات في الدولة- ببساطة تحقيق أي شيء تريده. إنها مقيدة، من بين أمور أخرى، بقوة رأس المال. وبالتالي فمن الضروري أن نفهم كيف أن ديناميكيات ملكية رأس المال قد تحبط التدخلات السياسية المقترحة. وكثير من هذه الأمور مألوفة بالنسبة للجميع: مثل السباق التنظيمي نحو القاع الذي يغذيه خطر هروب رأس المال؛ وهاجسنا «بانضباط السوق»؛ والدائنون الذي يفرضون سلوكيات التقشف وينزعون إلى تعديل بنية المؤسسات في الدول غير السيادية.

ولم يكن لدى رولز الكثير ليقوله حول كيف يمكن للتنظيم الاجتماعي أن يتحدى الهيمنة السياسية لرأس المال، وربما هنا الأهم من ذلك كله أننا يجب أن نبحث في مكان آخر عن نوع آخر من التوجيه. لكن رولز قد أدرك أنه طالما أن رأس المال مسيطر، فإن السياسة الليبرالية محكوم عليها بأن تكون غير فعالة. وإنّ أي جهد للإرادة السياسية يحاول أن يطبع الجوهر السياسي الاقتصادي للرأسمالية بطابعه من شأنه أن يكرّس لمجتمع طبقي قائم على الملكية غير العادلة لوسائل الإنتاج وتقسيم العمل المزعزع للاستقرار والذي يحط من قدر الطبقات الأدنى.

وفي هذه المرحلة، قد يتساءل المرء عن مدى فائدة كل هذا النقد الأخلاقي المجرد للرأسمالية على أرض الواقع. بالنسبة للتيارات اليمينية، فقد يرفض البعض هذه الانتقادات الأخلاقية على أساس أنها بلا جدوى لأنه لا يوجد بديل حقيقي للرأسمالية، كما أن هذه الانتقادات الأخلاقية لم تعترف بالميزة الأساسية للرأسمالية: أعني إنتاجيتها وقدرتها على صنع المزيد من الأشياء لعدد أكبر من الناس. أما بالنسبة للتيارات اليسارية، فقد يشكك البعض في أن الفلسفة السياسية المجرّدة ربما تكون موضع اهتمام، ولكنها في النهاية غير مجدية- مثل بيضة فابرجيه Fabergé egg (مصنوعات صياغة ثمينة على شكل بيضات)، كما وصف المنظر السياسي الماركسي ويليام كلير روبرتس William Clare Roberts نظرية رولز على أنها: عمل رائع، ومحكم الصياغة، ولكنها في النهاية غير مجدية. وبالتالي لن يتم التغلب على الرأسمالية بإقناع أنفسنا بأنها غير عادلة: فالأمر يتطلب ثورة حقيقة عليها.

ولكن كما يقر دعاة «الاقتصاد الأخلاقي» (Moral Economy)، بمن فيهم الباحثون القانونيون المرتبطون بمشروع القانون والاقتصاد السياسي، فهناك دور مهم للنقد الأخلاقي للاقتصاد السياسي من النوع الذي قدّمه رولز وفلاسفة آخرون. وهذا يمكن أن يوفر الوضوح والتركيز. وبالتالي يمكن أن يوفر النقد الأخلاقي نوعًا من الانكشاف والوضوح، خاصةً عندما تكون المعلومات التي يمكن التأكد منها حول الاتجاهات الاقتصادية صريحة.

وهذا يقودنا إلى التساؤل عن طبيعة النظام الليبرالي المعادي للرأسمالية. لقد اعتقد رولز أن هناك نوعين فقط من هذه الأنظمة. الأول، هو «ديمقراطية امتلاك المِلْكية» (Property-owning Democracy)، الذي يسمح لمؤسسات الدولة بتوزيع عادل للملكية الخاصة لوسائل الإنتاج أو المِلْكية الإنتاجية، ولكن بشرط أن يتم الاحتفاظ برأس المال الخاص متساويًا تقريبًا للجميع، مما يمنع ظهور الاحتكارات أو انقسام كبير بين فئات المالكين وغير المالكين. وهذا يتطلب ثروة ضخمة وضرائب على الميراث لنشر ملكية الأصول الإنتاجية، ودولة رفاه ذات بنية قوية لضمان «رأس مال بشري» قوي من خلال توفير كل من التعليم والرعاية الصحية.

– إنّ نقد رولز الليبرالي للرأسمالية لا يقدّم حلول سريعة ومباشرة للتخلص من مثالب الرأسمالية ومشكلاتها، ولكنه يضعنا أمام نوع من الانكشاف والوضوح الأخلاقي وبرنامج عمل جيد.

أما النوع الآخر من النظام العادل فهو الاشتراكية الليبرالية (Liberal Socialism) أو اشتراكية السوق (Market Socialism). وفي ظل اشتراكية السوق، تسيطر الدولة على الاقتصاد بشكل عام، لكن الشركات التي يديرها العمال تُترك للتنافس في سوق يخضع لمراقبة عن كثب وقواعده قابلة للتعديل بشكل مستمر. وهذه محاولة لتسخير الكفاءات التخصيصية للأسواق وآلية الأسعار داخل نظام اشتراكي يضفي الطابع الديمقراطي على قرارات الاستثمار الرئيسية ويمنع التراكم الخاص للثروة الكبيرة. وقد رأى رولز في الدول الاشتراكية الموجودة بالفعل في القرن العشرين غيابًا لا يُطاق للحرية السياسية. وهذا هو السبب في إصراره على أن الاشتراكية العادلة يجب أن ليبرالية ويجب أن تعتمد إلى حد كبير على الأسواق بدلاً من التخطيط المركزي.

لكن النقد الليبرالي للرأسمالية الذي طوّره رولز في أعماله اللاحقة يعطينا أسبابًا لنكون حذرين من أي من هذين النظامين البديلين. فمن المعقول أن نحتاط، على سبيل المثال، من أن الأسواق ستعيد ببساطة إنتاج الديناميكيات المزعزعة للاستقرار التي حدّدها رولز بنفسه، كما فعل ماركس من قبله. وربما كان الفيلسوف الماركسي ج. أ. كوهين G. A. Cohen محقًا عندما أعلن في كتابه «لماذا ليست الاشتراكية؟» (2009) أن «كل نظام للسوق، حتى السوق الاشتراكية، هو نظام للافتراس».

وهذا هو المكان الذي يتركنا فيه نقد رولز الليبرالي للرأسمالية. فهو لا يقدم حلول سريعة ومباشرة للتخلص من مثالب الرأسمالية ومشكلاتها، ولكنه يضعنا أمام نوع من الانكشاف والوضوح الأخلاقي وبرنامج عمل جيد. بالإضافة إلى أن نقده للرأسمالية يستبعد بعض الأشياء المهمة. فمن الجدير بالذكر أنه لم يكن لديه الكثير ليقوله عن مسائل العرق وتجاهل ديناميكيات «الرأسمالية العنصرية». ولا تكتمل محاسبة الرأسمالية من دون هذا البعد. ومع هذا، فقد ساعد رولز في إلقاء الضوء على الحقيقة المهمة وهي أن ما نحتاجه، وما يريده الكثير منا، هو أشكال لامركزية وتعاونية للإنتاج الاقتصادي تتماشى مع القيم الليبرالية الأساسية للمساواة الاجتماعية والحريات الأساسية. لكننا لم نكتشف بعد على نطاق واسع كيفية الحصول على هذا القالب وتطبيقه. وتقدّم أعمال رولز القليل من المساعدة في هذا الأمر، لكن لحسن الحظ لسنا بحاجة إلى الاعتماد على نهجه النظري والفلسفي لوحدها. وهنا يمكننا أن ننتقل إلى العلوم الاجتماعية وإلى أمثلة لا حصر لها من النشطاء وأصحاب الرؤى من مختلف البلدان الذين يطوّرون نوعًا من الاقتصاد التشاركي، وبناء ثروة المجتمع، وأشكال أخرى جديدة وأكثر ثراءً لما يسميه المنظر السياسي برنارد هاركورت Bernard Harcourt اليوم «التعاون».

وهذه التجارب والخبرات الاجتماعية هي استمرار لجهود سكان يونغزتاون في عام 1980 للمطالبة بحقوقهم في اتخاذ قرارات بشأن إدارة المصنع الذي حافظ على وجود هذا المجتمع واستمر من خلال عمل عمّال الصلب الذين قاموا بتشغيله والنساء الداعمات لهم. وهذه من بين الجهود الصغيرة التي تعطينا سببًا للأمل في عالم أكثر مساواة وعدالة من الناحية الاجتماعية.

 (*) Colin Bradley: Liberalism against Capitalism, Aeon, 11 August 2023.

 (*) كولين برادلي: فيلسوف وباحث قانوني. ويعمل الآن على استكمال درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة برينستون، وهو زميل فورمان الأكاديمي في كلية الحقوق بجامعة نيويورك.

 (*) د. حمدي عبد الحميد الشريف: دكتوراه في الفلسفة من جامعة سوهاج (2015)، أستاذ الفلسفة السياسية المساعد في كلية الآداب، ووكيل كلية الدراسات العليا والبحوث البيئية في جامعة سوهاج، وحاصل على جائزة الدولة التشجيعية المصرية في مجال العلوم الاجتماعية لعام 2023، ومن بين كتبه: (الدين والثورة بين لاهوت التحرير المسيحي واليسار الإسلامي المعاصر، 2016)، (فلسفة الكذب والخداع السياسي، 2019)، (مفهوم العدالة في فلسفة مايكل وولتـزر السياسية، 2020)، (الرمزية السياسية: مفهوم الرمز ووظيفته في الفكر السياسي، 2023)، وأخرى غيرها، ولديه العديد من البحوث والدراسات المنشورة في مجلات محكمة، إضافة إلى عديد من المقالات الفلسفية، وعدد من الترجمات. وهو عضو محكِّم في عديد من المجلات والدوريات العلمية والعربية، وعضو خبير في لجنة (فحص المشروعات والجوائز ومكافأة النشر العلمي) في جامعة سوهاج.

 (*) حزام الصدأ Rust Belt: هو مصطلح يطلق على المنطقة المتداخلة العليا شمال شرق الولايات المتحدة، والبحيرات الكبرى وولايات الغرب الأوسط، ويشير إلى التدهور الاقتصادي، وعدد السكان، واضمحلال المناطق الحضرية بسبب تقلص قوة القطاع الصناعي الذي كان قويًا في وقت سابق. وقد اكتسب المصطلح شعبية في الولايات المتحدة في فترة الثمانينات. (المترجم).

 (*) اقتصاديات أو وفورات الحجم Economies of Scale: في الاقتصاد الجزئي، هي عبارة عن مزايا التكلفة التي تحصل عليها الشركات بسبب حجم عملها، فتتناقص تكلفة إنتاج وحدة إضافية من السلعة كلما زاد حجم الإنتاج. وتنطبق وفورات الحجم على مجموعة متنوعة من المواقف التنظيمية والتجارية وعلى مستويات مختلفة، على مستوى الإنتاج مثلًا أو المعمل أو على مستوى المؤسسة بأكملها. (المترجم).

 (*) «النزعة التجارية الجديدة» Neomercantilism: هو نظام للسياسة العامة يشجع الصادرات ويقلل من الواردات ويتحكم في حركة رأس المال ويضع قرارات العملة في أيدي الحكومة المركزية. والهدف من سياسات النزعة التجارية الجديدة هو زيادة مستوى الاحتياطيات الأجنبية التي تحتفظ بها الحكومة، مما يتيح سياسة نقدية وسياسة مالية أكثر فعالية. ويعود المصطلح إلى النزعة التجارية أو مذهب التجاريين أو المركنتيلية Mercantilism‏، التي تُعرف بأنها «نزعة للمتاجرة من غير اهتمام بأي شيء آخر»، وهي مذهب سياسي-اقتصادي ساد في أوروبا فيما بين بداية القرن السادس عشر ومنتصف القرن الثامن عشر. (المترجم).

العنوان الأصلي للمقال: Liberalism against Capitalism، ونُشر في موقع Aeon، في 11 أغسطس 2023.

رابط المقال: https://aeon.co/essays/what-can-we-learn-from-john-rawlss-critique-of-capitalism

مجال تخصص المقال: (الفلسفة السياسية- المفكرون والنظريات- تاريخ الأفكار).

5/5 - (2 صوتين)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى