الدراسات البحثيةالمتخصصة

ضد السلطة

Against Power

بقلم: ساندرين بيرجيس(*) وإريك شليسر(*)ساندرين بيرجيس: أستاذة في قسم الفلسفة بجامعة بيلكنت في أنقرة، تركيا. وتشمل كتبها «رسائل صوفي دي غروشي عن التعاطف» (2019) و«الحرية بأسمائها: فلاسفة الثورة الفرنسية» (2022). إريك شليسر: أستاذ العلوم السياسية بجامعة أمستردام بهولندا. تشمل كتبه «رسائل صوفي دي غروشي عن التعاطف» (2019) و«ميتافيزيقيا نيوتن: مقالات» (2021).

ترجمة : د. حمدي عبد الحميد الشريف(*)دكتوراه في الفلسفة من جامعة سوهاج (2015)، أستاذ الفلسفة السياسية المساعد في كلية الآداب، ووكيل كلية الدراسات العليا والبحوث البيئية في جامعة سوهاج

  • المركز الديمقراطي العربي

– بصفتها واحدة من أنصار النظام الجمهوري، زعمت صوفي دي غروشي أن التعاطف، وليس الهيمنة، يجب أن يكون الرباط الذي يجمع المجتمع معًا.

خلال كومونة باريس عام 1871، كان لا بد من التصويت على جميع المسؤولين الحكوميين والقضاة من قبل الشعب. وقد احتفل كارل ماركس بهذه الحقيقة في كتيبه «الحرب الأهلية في فرنسا». وكانت هذه الفكرة تتردد في الأوساط الثورية الفرنسية، ولكن جذورها تمتد إلى مذهب المساواة الراديكالية الذي اتسم به أنصار المساواة في إنجلترا في القرن السابع عشر.

ومع ذلك، عندما نتتبع الأصول المتنوعة لهذا الاقتراح من النماذج اللاحقة الموجودة في أعمال الطوباويين والاشتراكيين في القرن التاسع عشر، نجد أنه خلال الحقبة الثورية الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، كان أبرز المدافعين عن (على الأقل، جزء منه) هذا الاقتراح كانت المترجمة الفرنسية الأرستقراطية المولد التي اهتمت بترجمة أعمال آدم سميث، صوفي دي غروشي Sophie de Grouchy (1764-1822). وقد نُشرت «رسائل التعاطف»، وهو العمل المؤلف الوحيد المعروف والموقّع لغروشي، في عام 1798 كملحق لترجماتها للطبعة الأخيرة من كتاب سميث «نظرية المشاعر الأخلاقية» (1792) ومقاله «أطروحة حول أصول اللغات» (1792). وظلت هذه الترجمات هي الترجمات المعتمدة لأعمال سميث الرئيسية لمدة قرنين من الزمان. وبالتالي، ظلت رسائل غروشي عن التعاطف منتشرة على نطاق واسع أيضًا، وكانت قادرة على التأثير على تطور الأفكار السياسية.

وفي الرسالة السابعة من رسائلها حول التعاطف، في سياق حجتها الأوسع حول الإصلاح الجنائي، كتبت غروشي: «إذا تم منح جميع التعيينات من خلال اختيار عام وانتخابات حرة، فلن يحتاج ضميرنا إلا نادرًا إلى مقاومة هذا النوع من الدوافع التي تؤدي إلى الجريمة أو الظلم المستوحى من الطموح» (جميع الترجمات بقلم ساندرين بيرجيس). ومن الواضح أن غروشي افترضت أن الحكومة والبيروقراطية التي يشغلها مسؤولون منتخبون ستكون مصدرًا للشرعية والعدالة.

وهناك إشارات إلى هذا النهج في كتاب جان جاك روسو «العقد الاجتماعي» (1762) والجمهورية الرومانية، ولكن صياغة غروشي لهذا لم يتم الاعتراف بها بشكل كاف. فكيف أصبحت امرأة ولدت في عائلة أرستقراطية ثرية نصيرة ومدافعة عن الديمقراطية الراديكالية خلال حقبة الثورة الفرنسية؟

في عام 1793، عملت غروشي كفنانة وكاتبة ومترجمة في استوديو صغير في شارع سانت أونوريه Saint-Honoré، على بعد بضعة أبواب من مكان إقامة ماكسيميليان روبسبير Maximilien Robespierre. وكان زوجها، نيكولا دي كوندورسيه Nicolas de Condorcet، مختبئًا من عهد الإرهاب على بعد بضعة كيلومترات، وكانت تزوره عندما تستطيع، وتحضر معها الكتب ومواد الكتابة إضافة إلى الدعم المعنوي. وأقامت أسفل الاستوديو الخاص بها متجرًا للملابس الداخلية، وكان شقيق سكرتيرة كوندورسيه يديره. وفي أحد الأيام، علمت الميليشيا أنه يمكن العثور على زوجة أحد المنشقين في ذلك العنوان، وطرقت الباب عازمة على اعتقالها. لكن بدلًا من جرها إلى السجن، جلس الضابط الذي اعتقلها لالتقاط صورته في الاستوديو الخاص بها- مجانًا بالطبع. وتم إنقاذ غروشي من عواقب فلسفتها السياسية الراديكالية (وفلسفة زوجها) من خلال مهاراتها الفنية.

ولدت غروشي في شاتو دو فيليت Château de Villette  بالقرب من مولان Meulan  عام 1764. ولم تكن عائلتها غنية وأرستقراطية فحسب، بل كانت أدبية أيضًا: وكان أحد أسلافها مدرسًا لميشيل دي مونتين Michel de Montaigne، وكان والداها يحتفظان بصالون أدبي معروف في باريس. وبصفته طفلًا تقيًا ومجتهدًا، كان كتاب غروشي المفضل هو «التأملات» لماركوس أوريليوس Marcus Aurelius. لكن في أواخر مراهقتها، اكتشفت المفكرين الأكثر خطورة مثل فولتير Voltaire ودينيس ديدرو Denis Diderot وروسو Rousseau. وأصبحت ملحدة – مما أثار رعب والدتها – وجمهورية.

وربما كان تطرفها السياسي أحد الأسباب التي جعلتها تنجذب إلى كوندورسيه (أحد أبرز علماء الرياضيات والمنظرين الاجتماعيين في عصره، والذي أيد، قبل عصره بفارق كبير، الحقوق المتساوية للمرأة)، وانجذب إليها. لقد التقيا من خلال عمها الذي كانت تدرس لابنه. وفي ديسمبر 1786، تزوج غروشي وكوندورسيه في الكنيسة الصغيرة في فيليت، وكان ماركيز دي لافاييت Marquis de Lafayette شاهدًا عليهما.

وانتقل العروسان إلى شقة كوندورسيه في فندق des Monnaies في منطقة كواي دي كونتي Quai de Conti، في مقابل جسر الفنون Pont des Arts، حيث عمل كوندورسيه كمفتش عام لـ Monnaie (أي دار سك العملة). وكانت لغة صوفي الإنجليزية ممتازة في ذلك الوقت، وقد استقبلت العديد من الزوار الأجانب بما في ذلك توماس جيفرسون Thomas Jefferson، وتوماس بين Thomas Paine، وأناشارسيس كلوتس Anacharsis Cloots، وإتيان دومونت Étienne Dumont. وكان صديقهم المخلص بيير جان جورج كابانيس Pierre-Jean-Georges Cabanis، وهو طبيب وعالم فيزيولوجي ومصلح اجتماعي، والذي تزوج لاحقًا من شقيقة صوفي، شارلوت Charlotte، زائرًا متكررًا أيضًا لهم. وكان كابانيس أيضًا «الشخص الأول» الذي وجهت إليه غروشي كتابها «رسائل التعاطف».

– وهاجمت النظام الملكي بوصفه إسرافًا اقتصاديًا، واقترحت استبدال الملك بالآلات.

منذ البداية كان من الواضح أن غروشي لم تتخلف عن زوجها من حيث التزامها بفكره السياسي الراديكالي. وبالتأمل في دورها في الثورة، كتب صديقها السابق، أندريه موريليه André Morellet، أن غروشي هي المسؤولة عن آراء زوجها الأكثر تطرفًا. ومن المؤكد أن رسائلها عن التعاطف تُظهر إطارًا جمهوريًا ثابت الخطى. لكن للحصول على دليل أكمل على وجهات نظرها الأكثر تطرفًا، نحتاج إلى الرجوع إلى الصحيفة التي أسستها مع كوندورسيه وتوماس بين وآخرين: وهي صحيفة «لو ريبوبليكان» Le Républicain. وقد نُشرت المجلة عام 1791، وتضمنت مقالات مجهولة المصدر وأغلب الظن أنها بقلم غروشي وترجماتها لبعض أعمال توماس بين. وقد أصبحت تُعرف بأنها جمهورية «شرسة»، وليس من المستغرب أنها تعرضت للسخرية بوصفها مناهضة للملَكية وتم الاستهزاء بها في المجلات التابعة للنظام الملكي.

وفي إحدى هذه المقالات، هاجمت غروشي النظام الملكي بوصفه إسرافًا اقتصاديًا، وأظهرت في الوقت نفسه أنه لا يخدم أي غرض يتجاوز الغرض الاحتفالي من خلال اقتراح استبدال مجموعة من الآلات بالملك وحاشيته. ونظرًا لتكلفة «المنحوتات المتحركة» الحقيقية وصعوبة إنتاجها وصيانتها في حالة عمل جيدة، فإن الادعاء بأن مجموعة الآلات ستمثل توفيرًا كبيرًا في التكلفة كان بمثابة هجوم مباشر على الإسراف الملكي. ولكن نظرًا لكونها أكثر من مجرد تكلفة اقتصادية، كانت التكلفة النفسية للملكية هي التي كانت أكثر ما يقلق غروشي. وفي المقال الثاني (الذي ربما تكون قد أعادت صياغته من مقال سابق لصديقتها دومونت)، تناولت غروشي موضوعًا طورته في رسائلها حول التعاطف: وهو التكلفة الأخلاقية والنفسية للهيمنة، وهو نوع من الهيمنة المميزة للملكية.

إن الهيمنة هي الضرر السياسي الرئيسي والأكثر انتشارًا بالنسبة للجمهوريين، لأنها، كما تقول غروشي، تحرمنا من حريتنا. وفي هذا، يختلف الجمهوريون إلى حد ما عن الليبراليين، الذين يرون أن الحرية مهددة بالتدخل. إن السيطرة على الآخرين ليست بالضرورة الشيء نفسه الذي يتم التدخل فيه. إن السيطرة تعني الخضوع لقوة تعسفية لديها القدرة على التدخل في أي وقت. وتؤكد غروشي أن الملك غير المقيد بالقانون هو الذي يهيمن دائمًا. وحتى الملك الصالح الذي لا يرغب في التدخل في الحياة الشخصية لرعاياه هو المسيطر. فقد أصر لويس السادس عشر على أنه يهتم قبل كل شيء بسعادة رعاياه، إلا أن سلطته عليهم لم تكن خاضعة للتنظيم بموجب القانون، وبالتالي كانت تعسفية ومهيمنة بهذا المعنى. ولأن موقف الملك قد يتغير على مدار فترة حكمه، وأنه سوف يحل وريثه محله ذات يوم، فلا يمكن الاعتماد على إحسانه لمنع الأضرار في المستقبل من التدخل. ولذا، فإن شخصية الملك لا تشكل فرقًا في ما إذا كان ينبغي لنا أن نقبل الحكم الملكي: فالملوك ما زالوا يهيمنون، بصرف النظر عن مدى حسن النية. وكما كتبت غروشي في صحيفة «لو ريبوبليكان»:

«كيف يكون من الفضيلة أن نحب الملوك، سواء كانوا صالحين أو أشرار، أغبياء أو حكماء، فاعلين صالحين أو أشرار، سواء كانوا طغاة أو أدوات طغيان، غارقين في الكسل ويتركون الحكومة لأتباع فاسدين؟».

هذه هي الحجة الجمهورية الكلاسيكية ضد الهيمنة: فالسلطة الوراثية تعسفية بالضرورة، وتسبّب الضرر بصرف النظر عن شخصية حامل اللقب الحالي. لكن غروشي تذهب إلى أبعد من ذلك: فحتى لو تمكنا من التأكد من عدم التدخل، فإن الهيمنة هي في حد ذاتها ضارة. إن الهيمنة تقلل من استقلالية الأشخاص، مما يجعلهم يشعرون بالقلق المستمر بشأن ما قد يحدث لهم، وغير قادرين على التخلي عن حذرهم إلا من خلال القمع النفسي العام للحقيقة ــ وهي حيلة نفسية لإنكار حقيقة الموقف. وتقول غروشي إن رعايا الملك الخيرين هم مثل الأطفال: غير ناضجين، ويسهل الترفيه عنهم بالتفاهات، وغير قادرين تمامًا على تحمل المسؤولية عن حياتهم وأفكارهم. ولا يمكن لرعاياه أن يدركوا إنسانيتهم في المقام الأخير إلا إذا رفضوا الحكم الملكي تمامًا، ويتركوا طفولتهم الوهمية وراءهم:

«لقد تحطم احترامهم [الفرنسيين لملِكهم]، وكذلك حبهم: لقد توهج قلب الشعب الفرنسي، الذي شُفي من هذه العاطفة الغبية والعبثية، إلى حب القوانين والوطن. إن أرواحهم التي تعلوها المشاعر السخية لن تعود إلى الزحف عند قدمي الأمير. فالملك هو أكثر الخشخيشات طفولية، مما يحط من طفولة الأمم: ولم يَعُدّ الفرنسيون يريدون الخشخيشات: لقد كبروا».

ونظرًا لأن غروشي كانت تؤكد، أولًا، أن الدور السياسي للملك كان ضئيلًا للغاية بحيث يمكن بسهولة استبدال مجموعة من الآلات به هو وحاشيته- وهي مجموعة من الآلات ستكون صيانتها أقل تكلفة بكثير- وثانيًا، فإن مجرد وجود ملك يجعل الشعب الفرنسي طفوليًا، فليس من المستغرب أن تختار غروشي عدم الكشف عن هويتها لعملها. وحتى بين الثوريين الأكثر تطرفًا، كانت مثل هذه الهجمات المباشرة على النظام الملكي نادرة، على الرغم من أن توماس بين شاركتها بالتأكيد العديد من معتقداتها حول هذا الموضوع. ولكن إذا اختارت غروشي عدم الكشف عن هويتها في نشر فكرها السياسي، فقد قدمت الكثير من شخصيتها في المظاهرات العامة لجمهوريتها. وكانت حاضرة مع العديد من النساء الأخريات في ساحة مارس في 17 يوليو 1791، وهو اليوم الذي اقتحم فيه جيش صديقتها لافاييت الحشد. لقد كان منزلها هو المكان الذي أتى إليه جنود مارسيليا عندما وصلوا إلى باريس للانضمام إلى الثورة: وقد احتفى بها الجنود هي وكوندورسيه كأبطال جمهوريين.

وعندما اندلعت الثورة، اختبأ زوجها، وتمت مصادرة ثروة غروشي. وفي وقت لاحق، بعد شائعة مفادها أنها هاجرت، تم رفض ذلك مرة أخرى. وكتبت ابنتها إليزا أن هذه الفترة من الفقر النسبي هي ما دفعها إلى نشر كتابها «رسائل التعاطف»:

«ظلت والدتي لعدة أشهر دون أي دخل. وعندما لم تعد قادرة على العثور على صور لترسمها، قامت بترجمة كتاب سميث نظرية المشاعر الأخلاقية، والذي انضمت إليه رسائل عن التعاطف، موجهة إياه إلى كابانيس، والتي كتبتها في وقت سابق».

ولدينا دليل جيد على أن الرسائل تمت صياغتها في وقت سابق، في عام 1792، حيث أرسلت نسخًا منها إلى صديقها دومونت في ربيع ذلك العام، ويشير كوندورسيه إليها في كتابه عام 1794 بعنوان «نصيحة لابنته». وربما كانت هناك مسودات سابقة: فقد لاحظ بيير لويس روديرر Pierre-Louis Roederer، في مراجعته للرسائل المنشورة في 14 يوليو 1798، وجود مخطوطة سابقة رآها بين يدي إيمانويل سييس Emmanuel Sieyès في عام 1789 أو 1790. وبالتالي فهو نتاج السياسة الثورية، على الرغم من نشره في وقت لاحق إلى حد ما.

وفي رسائلها، تجادل غروشي بأن الأخلاق بالنسبة لآدم سميث تحتاج إلى سبب لتنضج ولكنها تولد من ميل الإنسان إلى الشعور بالتعاطف. وبعبارة أخرى، فإن الأخلاق تأتي إلينا بشكل طبيعي، ولكننا نحتاج إلى عمل فكري لتنميتها. ومع ذلك، لا يشرح سميث مصدر هذا الميل إلى الشعور بالتعاطف مع آلام الآخرين. وفي كتاب «رسائل التعاطف»، تتفق غروشي تمامًا مع سميث على أن العقل يؤدي دورًا مهمًا في تطوير الأخلاق والعدالة من التعاطف الأساسي، لكنها تذهب إلى أبعد من سميث. أولًا، حيث تسأل من أين يأتي ميلنا للشعور بألم بعضنا البعض. وتشير إلى أن سميث يتجاهل فكرة مهمة عندما يفترض فقط أن التعاطف هو سمة إنسانية طبيعية. وثانيًا، تتساءل كيف يمكن تطوير نظرية التعاطف للمساعدة في إصلاح المؤسسات الاجتماعية والسياسية بعد الثورة في فرنسا. وهذه الأفكار الثاقبة، وإيجاز نصها مقارنة بأطروحة سميث الضخمة، تجعل الرسائل تستحق القراءة.

– يجب على الآباء والمعلمين مساعدة الأطفال على إدراك الألم لدى الآخرين والتعلم من هذا الألم.

أول موقف لغروشي من سميث، والذي كشفت عنه في أولى رسائلها، هو أن سميث لا يشرح بشكل كامل ماهية التعاطف، أو يكشف عن مصدره أو منبعه. لقد قام بعمل «تأكيد وجوده، وشرح آثاره الرئيسية»، لكنه لم يعود إلى أصله الأول: فهو «لم يبين أخيرًا لماذا أصبح التعاطف ملكًا لكل كائن معقول قابل للتفكير». وترتكز فرضيتها على علم وظائف الأعضاء، الذي يوفر محفزات جسدية من شأنها أن تجلب المتعة والألم وتخلق في النهاية مشاعر متعاطفة. وتجد هذه المحفزات في العلاقة الأولى التي يختبرها أي إنسان: مثل علاقة الطفل المعال بالشخص الذي يرضعه. ويستمتع الرضيع بقربه من الشخص الذي يطعمه ويسكن آلام جوعه. وهذا القرب يعلمه أيضًا أن يدرك ألم ممرضته، وأن يشعر بنفسه بهذا الألم. وربما عرفت غروشي هذا الأمر من خلال مراقبة ابنتها المولودة عام 1790، وأيضًا من خلال القيام بجولات خيرية مع والدتها عندما كانت طفلة.

وتناقش الرسالتان التاليتان من رسائل غروتشي كيف تؤثر أصول التعاطف على تطورها من خلال العقل والتعليم. وشددت على الطابع الرئيس لدور الآباء والمعلمين: فلا ينبغي عليهم فقط مساعدة الأطفال على تعلم التفكير المجرد، بل يجب عليهم أيضًا تعليمهم الإحساس بألم الآخرين والتعلم من هذا الألم. وهنا، تعتمد غروشي على ذكريات طفولتها:

«لقد علمتني الكثير، أيتها الأم المحترمة، التي كنت أتبع خطواتها كثيرًا تحت السقف المتحلل للبائسين، الذين يحاربون الفقر والمعاناة! … نعم، عندما رأيت يديكِ تخففان البؤس والمرض، والعيون البائسة المتألمة تتجه إليك، وتنعم عندما باركتك، شعرت أن قلبي أصبح كاملًا، واتضح لي الخير الحقيقي للحياة الاجتماعية، وظهرت لي في سعادة محبة الإنسانية وخدمتها».

وتقدم الرسالتان الرابعة والخامسة رؤيتها الخاصة لأصول الأخلاق من منطلق التعاطف. إنها تتفق في الغالب مع سميث. وفي الرسائل الثلاثة الأخيرة، تستكشف غروشي آثار نظريتها على الإصلاحات القانونية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي دعت إليها الثورة الفرنسية، وأصبحت ممكنة. وعلى الرغم من الاهتمام الكبير بهذا الأمر، فإن مجموعة معينة من الحجج تتعلق بالتفاوت الاقتصادي، وعلى وجه الخصوص، التفاوت الشديد.

أما الحجة الرئيسة في رسائل غروشي فهي أن الفضيلة، الأخلاقية أو السياسية، تولد من التعاطف، والقدرة والميل إلى الشعور بألم الآخرين والرغبة في تخفيفه. وأحد ابتكاراتها الرئيسة هو التركيز على الظروف التنموية والاقتصادية والاجتماعية التي تجعل التعاطف أمرًا ممكنًا. ولكي يكون هذا ممكنًا، نحتاج إلى رؤية الآخر الذي يعاني بوصفه إنسانًا، وبوصفه شخصًا قادرًا على معايشة الألم مثلنا تمامًا. وكما يقول الفيلسوف فيليب بيتيت Philip Pettit في كتابه «حول شروط الناس» (On the People’s Terms)  (2012)، نحتاج إلى إجراء «اختبار مقلة العين»: فهل يمكن للناس أن ينظروا في عيون بعضهم البعض دون خوف أو احترام؟ وهذا يعني أننا ننظر إلى بعضنا البعض بوصفنا أعضاء من النوع نفسه، وقادرين على معايشة المشاعر نفسها، وربما الأهم من ذلك، ليس بوصفنا حيوانات مفترسة.

وبالنسبة لغروشي، يصبح اختبار مقلة العين بمثابة اختبار للتقبل العاطفي، أو كما يقول علماء أخلاقيات الرعاية، «الانتباه»: فهل نحن قريبون من الآخرين بالقدر الكافي لإدراك إنسانيتهم؟ ويمكن أن تشكل عدم المساواة الشديدة عقبة أمام ذلك: فالأغنياء والفقراء جدًا لا ينظرون إلى بعضهم البعض على أنهم من النوع نفسه، ولذلك لا يمكنهم التعاطف مع بعضهم البعض بسهولة، وبالتالي من غير المرجح أن يطبقوا قوانين الأخلاق والعدالة. فالعدالة تكمن في تعاملاتهم مع بعضهم البعض. وتقول غروشي إن هذا يؤدي إلى الجريمة:

«دعونا فقط نزيل التفاوت الشديد الذي يجعل الفقراء بعيدين جدًا عن الأغنياء بحيث لا يعرفونهم، والأغنياء بعيدين جدًا عن الفقراء بحيث لا يتمكنون من رؤيتهم، ويدع صوت الإنسانية يصل إلى قلوبهم؛ وعندها ستصبح المصائب غير المتوقعة أكثر ندرة وسيتم إصلاحها بالتأكيد. فانزع من كل الطغاة الصغار صولجانهم الخراب؛ واجعل هذه الأكوام من الذهب تختفي، وأصغرها وأقلها شرعية ربما يكون لها، سرًا، ألف ضحية باسمها؛ ودع الإنسان لا يرقى بعد الآن فوق الإنسان بحيث لا يرى واجباته بجانب مصلحته؛ وبعد ذلك سوف تصبح السرقة والاحتيال ظواهر نادرة بما فيه الكفاية بحيث يكون الخطر الأكبر والعقوبة الأكثر رعبا هو نشر أفعالهم على الملأ».

وتقدم غروشي اقتراحًا ملموسًا للحد من عدم المساواة الشديدة. وتشير تصوراتها إلى أنه، نظرًا لحجم فرنسا الحضرية، حتى مع افتراض بعض التفاوت في إعادة توزيع الأراضي، فسوف يظل هناك ما يكفي للجميع للعيش بشكل مريح، إما خارج الأرض، أو عن طريق بيع أراضيهم والدخول في بعض الأعمال الأخرى. وتقول إن كل ما يتطلبه الأمر، بعد إعادة التقسيم الأولي، هو مجموعة من القوانين الجيدة التي تحمي حقوق الملكية، وغياب الفساد. وهي تتنبأ بـ«الحدود» المعاصرة، مثل إنجريد روبينز Ingrid Robeyns، وتجادل بأنه من دون الفقر المدقع أو الثروة المتطرفة، سيكون المواطنون في وضع يسمح لهم بالنظر إلى بعضهم البعض على أنهم متساوون سياسيًا وأخلاقيًا، ويعاملون بعضهم البعض باحترام.

وتردد غروشي انتقادات سميث للمذهب التجاري والحماية. لكنها تسعى إلى تكييف فكره مع فرنسا ما بعد الإقطاعية وما بعد الثورة. ويشمل ذلك تغيير النظام الضريبي، الذي يفيد الأغنياء على حساب الفقراء، واستبدال المسؤولين الذين يتم تعيينهم لحماية ثرواتهم وثروات أصدقائهم بآخرين منتخبين يتبعون القانون وإرادة الشعب. إن مساهمتها الفكرية في المناقشات حول كيفية تنظيم المجتمع بعد الثورة الفرنسية لا تزال مستمرة. كما أن حقيقة توزيع رسائلها على نطاق واسع كملحق لترجماتها لأعمال سميث تعني أن أفكارها ربما وصلت إلى عدد أكبر بكثير من المثقفين مما كان ممكنًا عادةً لامرأة تكتب عن السياسة الراديكالية في القرن الثامن عشر.

وقد عاشت غروشي نهاية عهد الإرهاب، وحكم الدليل، والإمبراطورية الأولى، والسنوات الأولى من استعادة بوربون. كما ظلت أيضًا في قلب السياسة، وأقامت صالونات في باريس وأوتويل. وكان نابليون بونابرت من بين الأشخاص الذين يترددون على هذه الأماكن. وذات يوم، أخبرها أنه لا يحب النساء اللاتي يتدخلن في السياسة، فأجابت بذكاء أنه في بلد حيث يمكن للسياسة أن ترسل النساء إلى المقصلة، فمن الأفضل أن يفهمن السبب. وللأسف، ليس لدينا أي أعمال متبقية من غروشي خلال تلك الفترة من حياتها، باستثناء إصداراتها من أعمال زوجها كوندورسيه. ومن الممكن، بل من المحتمل، أنها كتبت المزيد، ولكن بينما اهتمت هي وأحفادها كثيرًا بالحفاظ على أوراق كوندورسيه، فقد فقدت أوراقها أو دمرت بطريقة أو بأخرى.

 (*)Sandrine Bergès & Eric Schliesser: Against Power, Aeon, 12 February 2024.

 (*) ساندرين بيرجيس: أستاذة في قسم الفلسفة بجامعة بيلكنت في أنقرة، تركيا. وتشمل كتبها «رسائل صوفي دي غروشي عن التعاطف» (2019) و«الحرية بأسمائها: فلاسفة الثورة الفرنسية» (2022).

 (*) إريك شليسر: أستاذ العلوم السياسية بجامعة أمستردام بهولندا. تشمل كتبه «رسائل صوفي دي غروشي عن التعاطف» (2019) و«ميتافيزيقيا نيوتن: مقالات» (2021).

 (*) د. حمدي عبد الحميد الشريف: دكتوراه في الفلسفة من جامعة سوهاج (2015)، أستاذ الفلسفة السياسية المساعد في كلية الآداب، ووكيل كلية الدراسات العليا والبحوث البيئية في جامعة سوهاج، وحاصل على جائزة الدولة التشجيعية المصرية في مجال العلوم الاجتماعية لعام 2023، ومن بين كتبه: (الدين والثورة بين لاهوت التحرير المسيحي واليسار الإسلامي المعاصر، 2016)، (فلسفة الكذب والخداع السياسي، 2019)، (مفهوم العدالة في فلسفة مايكل وولتـزر السياسية، 2020)، (الرمزية السياسية: مفهوم الرمز ووظيفته في الفكر السياسي، 2023)، وأخرى غيرها، ولديه العديد من البحوث والدراسات المنشورة في مجلات محكمة، إضافة إلى عديد من المقالات الفلسفية، وعدد من الترجمات. وهو عضو محكِّم في عديد من المجلات والدوريات العلمية والعربية، وعضو خبير في لجنة (فحص المشروعات والجوائز ومكافأة النشر العلمي) في جامعة سوهاج.

العنوان الأصلي للمقال: Against Power، ونُشر في موقع Aeon، في 12 فبراير 2024.

رابط المقال: https://aeon.co/essays/the-radical-political-writings-of-sophie-de-grouchy

مجال تخصص المقال: (المفكرون والنظريات- الفلسفة السياسية- السياسة والحكومة).

5/5 - (3 أصوات)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى