بقلم: دانييل كرانزلبيندر(*) زميل في مركز هارفارد للدراسات الهيلينية. واعتبارًا من عام 2024، سيكون أيضًا زميلًا في مركز القدرات البشرية بجامعة هومبولت في برلين
ترجمة : د. حمدي عبد الحميد الشريف(*) دكتوراه في الفلسفة من جامعة سوهاج (2015)، أستاذ الفلسفة السياسية المساعد في كلية الآداب، ووكيل كلية الدراسات العليا والبحوث البيئية في جامعة سوهاج
- المركز الديمقراطي العربي
– تسلط رياضة رمي الحجارة الملونة في سويسرا الضوء على رؤى أرسطو حول عيوب الفكر المحافظ.
بين قدمي توجد صخرة تزن 184 رطلًا. والصخرة لها شكل مستطيل قليلا، وإن كان غير متساو. إنه مصنوع من الجرانيت من جبال الألب في بيرن، وقد نُقش عليه عامي 1805 و1905- التواريخ المهمة لمهرجان الأنسبانين، وهو احتفال بالتقاليد الثقافية في سويسرا. ويتواجد هنا بضع مئات من المتفرجين لمشاهدة التصفيات المبكرة للحجر في نسخة 2023 من ألعاب الأنسبانين. وسيتأهل أفضل ثلاثة رياضيين فقط إلى النهائيات الي تُعرض على شاشات التليفزيون في الملعب الرئيسي للألعاب، والذي يتسع لحوالي 16000 شخص. للوصول إلى هناك، سأحتاج إلى الرمي بالقرب من علامة 12 قدمًا. وأقوم بحبس أنفاسي وأتخذ موقفي. وأرفع الصخرة فوق رأسي، وأجد وضعية مريحة، وأعد قدمي استعدادًا لبدء الجري: وأحتاج إلى زيادة السرعة الكافية على مسافة 40 قدمًا تقريبًا بيني وبين حافة حفرة الرمل.
إن حجم النهائيات- كاميرات البث التلفزيوني المباشر، والمعلقون، والنقاد، واختبارات المنشطات- إنما يتعارض مع الصورة الرومانتيكية لحياة جبال الألب من الشاعرية الرعوية التي تحافظ عليها المنافسة بوعي ذاتي. وتتنافس مضارب الجولف الحجرية مع الصخور التاريخية، وتؤكد الألعاب على التقاليد والصور الرعوية المصاحبة لها: إذ يرتدي الرياضيون القمصان التقليدية ذات اللون الأزرق الفاتح لعمال الألبان في جبال الألب، ويتنافسون على الأجراس أو الأثاث الخشبي المنحوت بشكل مزخرف. وتقودهم إلى الساحة بطولةُ «نساء الشرف»، بالزي التقليدي أيضًا. إذن، يبدو أن رياضة رمي الحجر هي في المقام الأول واحدة من التقاليد في سويسرا.
تم افتتاح أول عرض لمهرجان الأنسبانين في عام 1805 بالقرب من قلعة الأنسبانين، كرد واضح على حالة عدم الاستقرار التي عصفت بسويسرا كجزء من الحروب الثورية الفرنسية. ففي أعقاب الاحتلال الفرنسي لسويسرا، انخرطت العائلات الوطنية البيرنية (التي ينتمي إليها جميع الأعضاء المؤسسين) في عملية إعادة تفاوض مطولة حول هيمنتها على المجتمعات الريفية. وبقي جيش نابليون في سويسرا حتى عام 1802، وفي ظل حكمه تمتعت المناطق الريفية باستقلال ذاتي غير مسبوق. وعندما غادرت هذه المناطق، سقطت مرة أخرى تحت حكومة مدينة برن Bern: وهي حالة كانت تنطوي على احتمال نشوب حرب أهلية وتمرد. وأرادت النخب الحضرية الحفاظ على هياكل السلطة القديمة، قبل أن تؤدي الاضطرابات وأفكار الثورة الفرنسية إلى زعزعة الوضع الراهن. وحاول الآباء المؤسسون للألعاب القيام بذلك من خلال التأكيد على الحفاظ على التقاليد. ولم يفصحوا عن نيتهم الحقيقية المتمثلة في إعادة المجتمعات الريفية إلى سيطرتهم. وبدلًا من هذا، ذكروا علنًا قوة هذه التقاليد التصالحية. وفي إعلان صحفي، يصف المؤسس المشارك فرانز سيغموند فاغنر Franz Sigmund Wagner «الغرض الوحيد» للألعاب بأنه «إحياء التقاليد القديمة البسيطة وأفراح أجدادنا والحفاظ عليها [حتى] نسمح للخير القديم والمتبادل أن ينمو ويزدهر مرة أخرى».
واعتنقت الطبقة الأرستقراطية تقاليد جبال الألب لأنها كانت وسيلة للحفاظ على الطبقة الأرستقراطية المحافظة. ويمثل مهرجان الأنسبانين إحدى المناسبات الأولى في تاريخ سويسرا، حيث تم تقديم التقاليد القديمة حقًا في سياق جديد، مع أهداف سياسية، وتحت ستار محافظ بشكل واضح. وهكذا فإن مهرجان عام 1805 يخون السمات المميزة لما أسماه المؤرخ البريطاني إريك هوبسباوم Eric Hobsbawm في عام 1983 «التقليد المخترع(*)» (Invented Tradition). وربما لهذا السبب فشل الهدف المعلن لمؤسسي المهرجان، وهو المصالحة. وتكشف الملفات السرية لمجلس ولاية برن في ذلك الوقت أن المعارضين السياسيين للأرستقراطيين اكتشفوا خداعهم. وهي تحتوي على مذكرة من فريدريش لودفيج ثورمان Friedrich Ludwig Thormann، وهو أحد المؤسسين الآخرين، تفيد بأن رجلًا من البلدة التي كان من المقرر أن يُعقد فيها مهرجان الأنسبانين قام بتخزين البارود والذخيرة. وتم القبض على يوهان كاسبار بيجر Johan Caspar Beugger، أحد أبطال الألعاب الافتتاحية، لاحقًا باعتباره مشاركًا في الانتفاضات الثورية لعام 1814.
من هنا تم التحالف بين تقاليد جبال الألب ومبادئ الحنين والمحافظة لأول مرة: فأي شيء لا يتناسب مع صورة تقاليد جبال الألب التي استحضرها منظمو مهرجان الأنسبانين يجب رفضه. وفي 30 مارس 1804 (قبل عام واحد من المهرجان)، تعهد ثورمان وفقًا لذلك بـ«قمع كل شيء» يتعارض مع هياكل القديم ويتحداها. ومن هنا كان لزامًا أن تسير الأمور بطريقة معينة لأنها كانت دائمًا على هذا النحو. لقد جلبت أفكار الثورة الفرنسية ابتكارات خطيرة من شأنها- كما كتب فاغنر في ملاحظاته الشخصية- أن تعني «التدمير الكامل للتقاليد القديمة والمحتشمة لشعبنا في جبال الألب». ومن وجهة النظر المحافظة هذه، فإن التقليد هو ما يجب الحفاظ عليه ونقله، دون خلطه بأي تدخلات غريبة. ولذلك فإن التقليد يقف على النقيض من التقدم.
ولكن هل تحتكر الحركة المحافظة حقًا التقاليد؟ فهل التقليد هو حتمًا ملك الحنين والحليف الطبيعي لمن ينظرون إلى الوراء، مدفوعين إلى الحفاظ على الأشياء وإبقائها كما كانت في الماضي؟ وهل يمكن فصل الحركة المحافظة عن التقليد؟
يجد المفهوم المحافظ للتقليد تعبيره الفلسفي الأكمل والأكثر تأثيرًا في أعمال السياسي والفيلسوف الأنجلو أيرلندي إدموند بيرك Edmund Burke. ومثل العائلات المنتمية إلى الطبقة الحاكمة أو طبقة الأشراف والنبلاء في مدينة برن، كان رد فعل بيرك هو عدم الموافقة على الثورة الفرنسية، كما أوضح في كتابه «تأملات حول الثورة في فرنسا» (1790)، وهو عمل محدد للحركة المحافظة في العصور الحديثة. وهنا يكشف بوضوح عن تحالف التقاليد مع الحركة المحافظة التي لا تزال تتمتع بشعبية حتى اليوم.
وإذا نظرنا إلى أفضل حجة لبيرك للدفاع عن التقاليد سنجدها تعتمد على الفائدة الاجتماعية للتقاليد: فالتقليد يوفر أساسًا قويًا وربما ضروريًا للتضامن الاجتماعي. وهو يرى أن تفكك كل التقاليد يعني أن لا يوجد شيء سوى القوة والخوف من العقاب سيحافظ على تماسك المجتمع. وبناء على ذلك، ساوى بيرك الثورة في فرنسا بالرفض التعسفي والاستبدادي للتقاليد. وكما كتب في رسالة عام 1791، فإن ما حدث كان بمثابة «ثورة للابتكار، وبالتالي تم خلخلة وتدمير عناصر المجتمع ذاتها». إن التقاليد تشكّل البنى السياسية والنظام الاجتماعي، وبالتالي فإن الالتزام بها يضمن الاستقرار، و«الثبات غير القابل للتغيير» للنظام السياسي. وبعد سنوات قليلة، عندما حل حكم الإرهاب على فرنسا ولقي الآلاف حتفهم على المقصلة، رأى كثيرون أن تحذيرات بيرك كانت لها ما يبررها. وبدا أن الابتكار والثورة، المنفصلين عن يقينيات التقاليد، أدى إلى الخراب والفوضى.
– إن نوع التغييرات والتطورات التي يتصورها بيرك ليست تقدمية أو مبتكرة.
عرّف بيرك «التقليد» بأنه «ما نرثه من الأجداد». وهذا الميراث الذي يضم المؤسسات المدنية والأجداد والآثار وغيرها من المخترعات الثقافية، يغرس فينا الشعور بالكرامة والنبل. إننا نبجل تراثنا التقليدي ليس لأنه يحمل قيمة جوهرية ما، بل لأنه قديم: فمجرد النظر في عمره القديم يغرس فينا شعورًا طبيعيًا بالتبجيل. وهذا التبجيل يفسّر أيضًا سبب ضرورة الحفاظ عليه. ويوضح بيرك أن الحفاظ على التقاليد هو مسألة الحفاظ عليها غير ممزوجة بأي تدخلات- وعلى حد تعبيره، يجب أن نحرص على عدم «تلقيح أي سليل غريب عن طبيعة النبات الأصلي». إن تطعيم شجرة على جذع نبات آخر سيكون أمرًا مخالفًا للطبيعة وبالتالي أمرًا مدمرًا.
وفي حين أن بيرك يرفض فكرة الثورة والتغيير الجذري، فإنه يسمح ويحتضن أنواعًا معينة من التغيير: أعني تلك المجالات التي تعتمد على التقاليد، والتي تُعَدُّ بالتالي تعديلات أساسية للتقاليد. وعلى وجه التحديد، ينبغي لأي إصلاحات أن تكون على غرار السوابق والسلطة والمثال من أجدادنا. ومن هنا يسمح لنا التقليد بتوجيه أنفسنا فيما يتعلق بسلطات الماضي، ومن خلال استخدام القياسات على الأفكار التقليدية والاعتماد عليها يمكننا إيجاد حلول للمشاكل الحالية. وفي أي موقف، يجب على المرء أولًا استشارة الأجداد والسؤال عن كيفية حل المشكلة. إذن فإن نوع التغييرات والتطورات التي يتصورها بيرك ليست تقدمية أو مبتكرة. إنها محافظة في الأساس.
ولذا، في طريقة التفكير الحركة المحافظة، يقف التقليد بوعي ذاتي على النقيض من التقدم. وردًا على سؤالنا– ما إذا كانت الحركة المحافظة تحتكر التقاليد– فإن هذا الانقسام بين التقليد والتقدم هو دليل على أن الحركة المحافظة نجحت في الادعاء الذي مفاده أن التقاليد هي ملك لها. ومع هذا، ليس هناك دليل على أن تحالفهما مندرج في مفهوم التقليد نفسه. ويمكننا أن نلاحظ النقطة الأخيرة من خلال العودة بالزمن إلى ما قبل أن يصبح هذا التحالف محصنًا، إلى أرسطو في كتابه «التفنيدات السفسطائية» Sophistical Refutations.
يعتبر كتاب «التفنيدات السفسطائية» آخر كتاب في مجموعة مؤلفات أرسطو في التحليل المنطقي والجدل. وتُعرف هذه النصوص باسم «الأورغانون» Organon، وهي التسمية التي أطلقها طلابه على هذا الجزء من مجموعته لأن هذه الكتابات تتعلق بأدوات (أورجانا) organa للمعرفة والبحث العلمي. وتوفر السطور الختامية لكتاب «التفنيدات السفسطائية» لأرسطو فرصة للتأمل في الديون الفكرية التي يدين بها أرسطو لأولئك الذين عملوا في هذه المواضيع من قبله. وفي هذه السطور، يوضح مفهومين للتقاليد– أحدهما محافظ والآخر تقدمي. وتؤكد مفاهيم أرسطو المختلفة للتقليد على جوانب مختلفة مما نسميه اليوم ببساطة «التقليد». احدهما ينتقي المحتويات التي سيتم تمريرها (والتي يجب الحفاظ عليها). ويؤكد الآخر على فعل تمرير شيء ما للتطوير أو الاكتمال. ويستخدم أرسطو كلمتين مختلفتين لوصفهما: بارادوسیس/التسليم Paradosis للنوع الأول (بمعنی يعهد شخص لآخر بشيء أو يسلمه شيئًا يدًا بيد)، وهو النوع المحافظ، والإبيدوت/الزيادة Epidosis للمفهوم التقدمي الأخير. ومن وجهة النظر هذه، فإن التقاليد والتقدم ليسا قوتين متعارضتين. ومن هنا كان أرسطو واضحًا في أن المساهمة الجديرة بالاهتمام في أي مجال ستكون جزءًا من تقليد تقدمي وليس تقليدًا محافظًا.
ويتضمن الجزء الأول من مناقشته جانبًا من التفكير فيما يمكن للتقليد المحافظ تحقيقه وما لا يمكنه تحقيقه. ومن خلال التركيز على المحتوى الذي يتم تمريره، يتصور المفهوم المحافظ للتقليد نموذجًا يتعلم فيه أولئك الذين هم في الطرف المتلقي من التقليد عن ظهر قلب ما ينتقل إليهم. ويقدم أرسطو مثالين لما يبدو عليه التقليد المحافظ في الممارسة العملية. أولًا، هناك جورجياس Gorgias الذي «كان يلقي خطبًا بلاغية ليحفظها عن ظهر قلب». وثانيًا، هناك معلمو الخطابة الإريستية Eristic (أي الحجج المصممة لمعارضة جميع الحجج التي قد يقدمها المحاور، بغض النظر عن حقيقتها)، الذين «ألقوا خطابات في شكل سؤال وجواب»، والتي، مثل حجج جورجياس البلاغية، يجب أن يحفظها المتلقون. وينصب التركيز في كلا المثالين للتقليد المحافظ على المحتويات التي ينتجها شخص ما: فهو يمرر محتويات عمله ليتم الحفاظ عليها تمامًا كما كانت.
إن توقع كل من جورجياس ومعلمي الخطابة الإريستية هو أنه يمكن التعامل مع أي مشكلة أو سؤال بشكل مناسب من خلال الرجوع إلى المحتوى المحفوظ. والنتيجة هي أن مفهوم التقليد هذا يضمن بقاء الأشياء بطريقة معينة: فهو نوع معين من الأسئلة سيحصل دائمًا على الإجابة نفسها بالضبط. فالتقليد هو مخزون من الحكمة التي ورثناها عن أجدادنا، ونستحضرها في أي موقف، وعلى الحالات السابقة والسلطة والمثال الذي نصمم به حلولنا الخاصة للمشاكل. وهذه وجهة نظر للتقليد باعتباره منظورًا رجعيًا بطبيعته: فهو منشغل بالحفاظ على الأشياء دون تغيير أو تعديل. وسوف يوافق بيرك على هذا النموذج تمامًا.
– إن التقاليد المحافظة تزود أولئك الذين يعتمدون على ما يتم تسليمه بآراء خاطئة حول موضوع ما.
لكن أرسطو يدرك خطورة وجهة النظر المحافظة. وهو يقارن هذا النوع من التقاليد بتمرير مجموعة من جميع أنواع الأحذية المختلفة- بدلًا من فن صناعة الأحذية، حيث يقرر الآتي: «لأنهم اعتادوا أن يفترضوا أنهم يدربون الناس من خلال نقل منتجاتهم وليس الفن، كما لو كان أي شخص يدعي أنه سينقل شكلًا من أشكال المعرفة لتجنب أي ألم في القدمين حيث لم يكن من الممكن تعليم الرجل فن صناعة الأحذية… ولكن كان عليهم أن يقدموا له عدة أشكال من الأحذية من كل الأنواع».
وهذا يشير إلى عيب مهم في التقليد المحافظ. إن الانشغال بالحفاظ على محتويات معينة يحرم أولئك الموجودين في الطرف المتلقي من القدرة على إتقان المحتويات التي يتم تمريرها وإحراز تقدم فيها.
ولهذا يلاحظ أرسطو أنه في حين أن التقاليد التي تحافظ على محتويات محددة وتمررها إلى الأجيال اللاحقة تتمتع بميزة كونها سريعة وسهلة التنفيذ نسبيًا، فإنها تنطوي أيضًا على نوع خبيث من الجهل (عدم التقنية). وعلى وجه الخصوص، يقرر أرسطو أنه في حين أن أولئك الذين هم في الطرف المتلقي من التقليد المحافظ قد يكونون قادرين على تلبية بعض احتياجاتهم من خلال الاعتماد على المواد المنقولة إليهم، فإن مجرد حيازة هذه المحتويات يعيق تقدمهم إلى الكفاءة الفعلية وبالتالي أيضًا قدرتهم على إحراز التقدم. ولا يقتصر الأمر على أن التقاليد المحافظة تنطوي على نقص في البصيرة، ولكنها تزود أولئك الذين يعتمدون على ما يُنقل إليهم أو يُسلم إليهم بآراء وأفكار زائفة حول موضوع ما. ولننظر إلى أولئك الذين حفظوا حجج جورجياس البلاغية أو الحجج في شكل سؤال وجواب من معلمي الخطابة الإريستية: فحتى لو أصبحوا ماهرين جدًا في تعلم هذه الحجج، فإن مجرد امتلاك تلك المهارة سيعيق قدرتهم على تقديم حجج خاصة بهم.
وعلى النقيض من هذا، فإن المفهوم التقدمي للتقليد- الذي يؤيده أرسطو نفسه- لا يركز على المحتويات، بل على عملية تمرير شيء ما من أجل التطوير. ويتناسب هذا المفهوم التقدمي للتقليد مع تفاؤل أرسطو الأوسع بشأن المعرفة الإنسانية، التي يعتقد أن لها بنية غائية واسعة النطاق. وفي هذا المفهوم للتقاليد تكون المحتويات التي تنتقل إلى الأجيال اللاحقة صغيرة مقارنة بما سيتم تطويره منها فيما بعد، كما أن دلالة وأهمية هذه المحتويات التقليدية لا تكمن في ما هي عليه حاليًا بل في التطورات الجوهرية اللاحقة التي تسهلها. ولذا يقرر أرسطو: «[في] جميع الاكتشافات، فإن نتائج الأعمال السابقة التي تم تسليمها من الآخرين قد تم تطويرها شيئًا فشيئًا بواسطة أولئك الذين قاموا بها… وكما يقول المثل: (البداية الأولى هي الجزء الرئيسي)؛ … لأنه بقدر ما يكون أقوى في تأثيره فهو أصغر حجمًا؛ … ولكن عندما يتم اكتشاف ذلك، يصبح من الأسهل إضافة ما تبقى وتطويره».
إن التقليد لا يعني الحفاظ على نقاط البداية الصغيرة هذه في شكل غير متغير وغير مغشوش، بل هو تطويرها من خلال توريثها إلى الأجيال المتعاقبة. وبعبارة أخرى، فإن التركيز في التقليد التقدمي لا ينصب على المحتويات الموروثة والمنتقلة، بل على تطورها. وتكمن قوتها في قدرتها على تحقيق التقدم: فالتقليد يستثمر في المستقبل.
ومع هذا، بالنظر إلى هذا التركيز على التطوير، لماذا التفكير في هذا باعتباره «تقليدًا» على الإطلاق؟ يعتقد أرسطو أنه غالبًا ما يكون من الأسهل تطوير شيء ما بشكل أكبر عندما يكون التقليد (بهذا المعنى) موجودًا عما لو كان علينا أن نبدأ بصفحة بيضاء. لقد «بلغت البلاغة أبعادًا كبيرة» فقط بسبب هذا النوع التقدمي من التقاليد (وليس بفضل جورجياس، كما يقول أرسطو). إن «مشاهير اليوم» هم في موقعهم البارز لأنهم، كما يقول أرسطو، «ورثة (إذا جاز التعبير) لخلافة طويلة»- أي لتقليد تقدمي. وعلى النقيض من هذا، يعتبر أرسطو نفسه أول من قدم المساهمات في هذه الجدلية. إن إنجازه، كما يراه، هو أنه بدأ بصفحة بيضاء، ولأول مرة وضع شيئًا يمكن تطويره الآن. ويدرك أرسطو أنه سيبدو للبعض أنه من غير المعقول الادعاء بأنه لم يكن هناك شيء على الإطلاق في هذا الموضوع قبل عمله: يمكن للمرء أن يقرر بأن معلمي الخطابة الإريستية كانوا بالفعل يمارسون هذه الجدلية منذ فترة طويلة في الوقت الذي كتب فيه كتاب «التفنيدات السفسطائية». ويرفض أرسطو هذا الاعتراض من خلال توضيح أن هذا العمل السابق هو جزء من تقليد من النوع المحافظ، أي التقليد الذي يؤكد على الحفاظ على محتويات محددة يتم تناقلها وليس نقل شيء ما للتطوير والاكتمال.
ويتيح لنا أرسطو فكرة أن التحالف بين التقليد والمحافظة ليس جزءًا من مفهوم التقليد نفسه. إن النظرة التقدمية للتقليد التي يحددها لا تتوافق فقط مع التقدم– فالمسألة لا تتعلق بكيفية التوفيق بين القوى المتعارضة لجانبي الانقسام– ولكن التقليد في حد ذاته هو وسيلة لتحقيق التقدم. وعلاوة على ذلك، فإن ما يقوله أرسطو عن المفهوم المحافظ للتقليد في سياق معلمي الخطابة الإريستية وجورجياس وتوارث صناعة الأحذية، يشير إلى أن التحالف بين التقليد والمحافظة لا يفشل في أن يكون حتميًا فحسب، بل هو في الواقع اقتران غير سهل في البداية.
وهذا ما يعيدنا إلى مهرجان جبال الألب. فوضع الحجر هو تقليد يتكون من رياضة. ومن الناحية التاريخية، تم تحليل هذا الادعاء من خلال المنظور المحافظ للتقاليد وتم استخدامه للتعبير عن فكرتين لا يمكن التوفيق بينهما: فهي كتقليد محافظ، يجب الحفاظ على وضع الحجر دون تغيير؛ ولكن، كرياضة، فهي تدور حول التحسين (سواء بالنسبة للذات أو للآخرين أيضًا) وبالتالي فهي مدينة بالفضل لما يتطلبه التقدم الرياضي، سواء كان هذا معدات أفضل، أو أساليب التدريب، أو الأماكن. وكان الانقسام بين التقاليد المحافظة والرياضة حادًا للغاية حتى أن الانقسام ظهر في ثمانينيات القرن العشرين: فقد زعم المحافظون التقليديون أن الرياضيين الذين يتعاملون مع ألعاب جبال الألب كرياضة- وهو ما يعني أنهم يتدربون ويستعدون بشكل منهجي للمنافسات- ينتهكون روح المهرجان، ويؤدي إلى حصولهم على ميزة غير عادلة.
ومع هذا، فباتباع أرسطو، يمكننا الاستغناء عن هذا الانقسام القديم، والتفكير في أن رمي الحجر يضع نفسه كتقليد تقدمي. وينبغي النظر إلى وضع الحجر على أنه تقليد بمعنى أنه يمرر محتوياته إلى الأمام من أجل التحسين والكمال في نهاية المطاف. فما يتم تمريره يمكن أن يشمل من حيث المبدأ كلًا من ما هو أساسي في هذه الرياضة– قواعدها، وسجلاتها، ومعداتها، وتقنياتها، بالإضافة إلى الأدوات التي يتنافس بها الرياضيون- وما هو ثانوي بالنسبة لها (مثل طبيعة الجوائز، مواصفات قواعد اللباس، الخ). فالمعيار ذو الصلة لمعرفة ما إذا كان شيء ما يقع في متناول التقليد التقدمي ليس سوى ما إذا كان مفهوم التقليد يؤكد على فعل تمريره للأمام من أجل التطوير أو الحفاظ على محتوى معين في شكله الخالص.
وبطبيعة الحال، فإن يمكن للمرء بدلًا من هذا الانضمام إلى الآباء المؤسسين للمهرجان والتفكير في وضع الحجر بطريقة الحنين، مع المفهوم المحافظ للتقاليد الذي يؤكد على الحفاظ على محتويات معينة. ويفسح هذا المجال للتقاليد المخترعة من خلال إضفاء الطبيعة المثالية والرومانتيكية والخيال على الماضي (حيث، من الناحية التاريخية، أصل القمصان الزرقاء لعمال الألبان للرياضيين، وجوائز الجرس، والأزياء التاريخية، و«نساء الشرف» وما إلى ذلك). والسبب في ذلك- كما رأينا مع الآباء الأرستقراطيين للمهرجان الأصلي- هو أن ما يهم أولئك الذين يحددون التقاليد المحافظة ليس ما إذا كانت هذه التقاليد مخترعة أم حقيقية (أو ما إذا كانت الأجيال المتعاقبة قادرة في الواقع على الحفاظ بنجاح على ما هو قديم وغير مغشوش من الناحية الظاهرية) ولكن ما إذا كانت هذه التقاليد تحقق لهم ما يريدون تحقيقه في الوقت الحاضر.
– لقد فقد الحجر 4.5 رطلًا، ونظرًا لموضع النقوش الجديدة، لم يَعُدْ من الممكن التعامل معه بالطريقة نفسها.
وعلى النقيض من هذا، ففي التقليد التقدمي للوضع بالحجر، لن تكون الأجراس والأزياء التاريخية وما إلى ذلك جزءًا من تقليد الوضع بالحجر على الإطلاق. ويشكل النشاط الرياضي بحد ذاته تقليدًا: إذ ينقل الرماة تقنياتهم وسجلاتهم وأفكارهم حول التدريب إلى الأجيال اللاحقة. وتتطلب طبيعة الرياضة والمنافسة الرياضية أن يتم تمرير هذه الأشياء إلى الأمام لتحقيق الكمال المتتالي (بدلًا من الحفاظ عليها دون تغيير). وعلاوة على ذلك، ونظرًا لواحدة من أكثر ميزاته الفريدة- استخدام الحجر نفسه في المنافسة- فإن مفهوم التقليد الذي يؤكد على فعل تمرير الأشياء إلى الأمام ليس مجرد أمر خارجي عن وضع الحجر ولكنه جزء من النشاط الرياضي نفسه: فمنذ المهرجان بهدف الاحتفاظ بالحجر نفسه للمنافسة، فإن تاريخ الرياضة منخرط بشكل بارز في العمل الرياضي نفسه.
ومنذ اللحظة التي يستخدم فيها مضرب الحجر التواريخ المنقوشة فيه لوضع الصخرة للتنظيف الأولي، يعلمون أن هذا الحجر قد تم استخدامه في المنافسة من قبل العديد من الرياضيين قبلهم وسيتم استخدامه من قبل العديد من بعدهم. وبإلقاء الحجر نفسه- وهو استعارة مجسمة للصمود- في حفرة الرمل كجزء من المنافسة الرياضية، فإنهم يعلمون أنهم يطورون شيئًا ما ويضعون أيضًا نقاط البداية لمزيد من التطوير من قبل الأجيال اللاحقة من الرياضيين. ومن هنا فنحن بحاجة إلى المفهوم التقدمي للتقاليد لفهم هذه الرياضة.
ومع هذا، وحتى هنا، فإن وضع الحجر ليس تقليدًا، بمعنى أنه يسعى إلى الحفاظ على عنصر أو محتوى معين. ويتضح ذلك من خلال رد فعل الحجر على أحد الجوانب الأكثر غرابة في تاريخه. ففي عام 1984، قامت مجموعة من أربعة من الانفصاليين الجورا (الذين يسعون إلى الاستقلال الكامل لمنطقة الجورا عن كانتون برن) بسرقة حجر أونسبونين. أما أولئك الذين تناولوا الحجر- وكذلك أولئك الذين اشتكوا بصوت عالٍ من اختفائه- فكانوا يميلون إلى مناقشة قضيتهم من حيث دور الحجر كبقايا لما كنت أسميه المفهوم المحافظ للتقليد: فالتقليد، كما بدا لهم، قد تم تعطيله.
وعندما ظهر الحجر مرة أخرى في عام 2001، كان الانفصاليون قد صنعوا سلسلة من النقوش الإضافية عليه. ونتيجة لذلك، فقد الحجر حوالي 4.5 رطل من وزنه، ونظرًا لموضع النقوش الجديدة، لم يَعُدْ التعامل معه كما هو (تختلف الآراء حول ما إذا كان الإمساك به أصبح أصعب أم أسهل). وباختصار، لم يَعُدْ الحجر صالحًا للاستخدام في المنافسة. ولكن من المثير للاهتمام أن هذا الأمر ترك الانضباط في الحجر غير متأثر إلى حد كبير. وطلب حراس الحجر في بلدة إنترلاكن Interlaken، في سويسرا، على الفور إنشاء نسخة طبق الأصل، وعندما اختفت هذه النسخة مرة أخرى في عام 2005، ذهب أحد أساطير هذه الرياضة منذ فترة طويلة إلى حد القول إنه سعيد باختفاء الحجر مرة أخرى، ونأمل أن يكون للأبد هذه المرة. وأضاف أن النسخة المتماثلة كانت أجمل بكثير كأداة رياضية على أي حال. ويمكن تفسير ما حدث هنا من حيث المفهومين المختلفين للتقاليد التي تجتاح بعضها البعض: الاختفاء يتعلق بالتقاليد المحافظة، لكن رياضة وضع الحجر تجسد في النهاية الرياضة التقدمية.
إذن، لا تحتكر النزعة المحافظة هذا النوع من التقاليد التي ننخرط فيها أنا وزملائي من مضارب الحجر في هذا اليوم في ألعاب الأنسبانين لعام 2023. إن فصل التقاليد عن الحركة المحافظة بالطريقة التي يقترحها المفهوم التقدمي للتقاليد يَعِد بعلاج القلق الذي يميّز عصرنا: فكيف يمكننا إحراز التقدم دون أن ننفصل عن المكان الذي بدأنا فيه، ودون أن نزداد خوفًا من العملية نفسها؟ يقدّم مفهوم أرسطو للتقليد نموذجًا لكيفية بقاء التقاليد على قيد الحياة مع التقدم الذي تلعب فيه دورًا أساسيًا في تسهيله، وكيف يتغير محتواها في هذه العملية. ويمنحنا التقليد التقدمي الأدوات اللازمة لتحقيق التوازن بين إنجازاتنا وإنجازات عصرنا من ناحية، وقيمة التقاليد وسلطتها من ناحية أخرى. ومن خلال القيام بذلك، يمكننا من انتقاد العمليات التي يتم من خلالها تحقيق التقدم السياسي والاجتماعي، دون الإضرار بالثقة فيها.
وعندما أصل إلى حافة حفرة الرمل- الصخرة المتوازنة فوق رأسي- أضع قدمي اليسرى، وأقفز وأدفع للأعلى مقابل 184 رطلًا لأسمح لها بالطيران. وهبطت على قدمي اليمنى وذراعاي ممدودتان للحفاظ على توازني (تجاوز العارضة أو الوقوف عليها يجعل المحاولة غير صالحة). وهبطت الصخرة بقوة، واقترب المسؤولون حاملين عصا وشريط قياس: 11.98 قدمًا يضعني في المركز الرابع بشكل عام. وهذا، بفارق ضئيل، لا يكفي ليأخذني إلى النهائيات غدًا؛ لكنها بالتأكيد نقطة انطلاق.
(*) Daniel Kranzelbinder: How Traditions Progress, Aeon, 13 November 2023.
(*) دانييل كرانزلبيندر: زميل في مركز هارفارد للدراسات الهيلينية. واعتبارًا من عام 2024، سيكون أيضًا زميلًا في مركز القدرات البشرية بجامعة هومبولت في برلين.
(*) د. حمدي عبد الحميد الشريف: دكتوراه في الفلسفة من جامعة سوهاج (2015)، أستاذ الفلسفة السياسية المساعد في كلية الآداب، ووكيل كلية الدراسات العليا والبحوث البيئية في جامعة سوهاج، وحاصل على جائزة الدولة التشجيعية المصرية في مجال العلوم الاجتماعية لعام 2023، ومن بين كتبه: (الدين والثورة بين لاهوت التحرير المسيحي واليسار الإسلامي المعاصر، 2016)، (فلسفة الكذب والخداع السياسي، 2019)، (مفهوم العدالة في فلسفة مايكل وولتـزر السياسية، 2020)، (الرمزية السياسية: مفهوم الرمز ووظيفته في الفكر السياسي، 2023)، وأخرى غيرها، ولديه العديد من البحوث والدراسات المنشورة في مجلات محكمة، إضافة إلى عديد من المقالات الفلسفية، وعدد من الترجمات. وهو عضو محكِّم في عديد من المجلات والدوريات العلمية والعربية، وعضو خبير في لجنة (فحص المشروعات والجوائز ومكافأة النشر العلمي) في جامعة سوهاج.
(*) «التقليد المخترع»: عنوان كتاب ألفه عام 1983 إريك هوبسباوم وتيرنس رينجر. وقد رأى الكاتبان أن كثيرًا من المخترعات التي يدعي أصحابها أنها قديمة هي في الحقيقة حديثة نسبيًا. ويضربان مثلًا لذلك بمفهوم الوطنية. ومن هنا يُستعمل تعبير التقاليد المخترعة للإشارة إلى الممارسات الثقافية التي يتم تقديمها أو اعتبارها تقليدية، وناشئة عن الأشخاص الذين يبدأون في الماضي البعيد، ولكنها في الواقع حديثة نسبيًا وغالبًا ما يتم اختراعها عن قصد من قِبل الجهات الفاعلة التاريخية القابلة للتحديد. ومن الجدير بالذكر ن هذا الكتاب تُرجم إلى العربية تحت عنوان: «اختراع التقاليد» عام 2015. (المترجم).
العنوان الأصلي للمقال: How Traditions Progress، ونُشر في موقع Aeon، في 13 نوفمبر 2023.
رابط المقال: https://aeon.co/essays/how-swiss-stone-putting-shows-traditions-can-be-progressive
مجال تخصص المقال: (القيم والمعتقدات- الفلسفة السياسية- الرياضة والألعاب).