الشرق الأوسطتقدير الموقفعاجل

واقع ومستقبل العلاقات التركية – الليبية في ظل تحول السياسة الخارجية التركية

اعداد : فاطِمة سُليمان – المركز الديمقراطي العربي

 

في ظل التحولات الكبيرة التي يشهدها النظام العالمي والساحة العالمية، من حروب وصراعات ونزاعات إقليمية وعالمية، ومرور منطقة الشرق الأوسط خاصة بمرحلة تحول جذرية، خاصة على مستوى العلاقات بين دول الشرق الأوسط والدول الأخرى، نجد أن من أبرز هذه التحولات هو تحول السياسة الخارجية التُركية، والتي تُريد أن تكون فاعلاً أكثرة قوة وتأثيراً في المنطقة ولكن في هذه المرة بالدمج بين القوة الناعمة والقوة العسكرية، فبعد أن استمرت تُركيا لمراحل في التعامل مع المنطقة من خلال القوة العسكرية والتي أدت لتدهور علاقاتها مع الدول العربية والشرق أوسطية وحتى الغربية، وهو ما أدى إلى عُزلتها وتوتر علاقتها مع الدول الأخرى، بدأت في تغيير كل هذا من خلال تبني مواقف واضحة سواء كانت رسمية أو حادة دون الإخلال بعلاقاتها المُستقبلية التي تتطلع إليها، وذلك لتجنب المشكلات السياسية والخلافات الإقليمية، وفي الوقت نفسه تستطيع السيطرة والحصول على ما تُريد بتغير إستراتيجيتها وتكتيكاتها حتى وإن كانت الأهداف هي نفسها، وذلك من خلال إقامة علاقات جديدة ومتوازنة في المنطقة وحل الخلافات وبدء صفح جديدة مع الدول التي ليها معها خلافات ؛ وعلى رأسهم مِصر، الدولة الأكبر في ريادة المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط.

أولا- اقتراب جديد في السياسة الخارجية التركية

مرت السياسة الخارجية التركية لحزب العدالة والتنمية منذ أن وصل للحكم في عام 2002 بثلاث مراحل رئيسية؛ كالآتي:[1]

المرحلة الأولى “صفر مشاكل”: اعتمدت هذه المرحلة على هذا المفهوم الذي اعتمده رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، وجوهره إقامة علاقات دبلوماسية ومؤسسية مستقرة مع المناطق التي تُشكل عُمق استراتيجي لتركيا مثل الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وبحر قزوين والبحر المتوسط غيرها، وذلك بالاعتماد على القوة الناعمة القائمة على العولمة النشطة وتعدد الأطراف والواقعية الحضارية، وذلك للحصول على مكانة مركزية في الشئون الإقليمية، وذلك لاعتقادهم بأن أسلوب أنقرة في التسعينات اتسم بالتراجع والعلاقات خارج حلف الناتو كانت ضعيفة، بالرغم من القوة العسكرية والإمكانات الاقتصادية، والذي بدوره اضعف من تأثير أنقرة إقليمياً؛ وأدى لتراجع استثماراتها الخارجية وشراكاتها العسكرية.

لذلك تم الاعتماد على أسلوب “صفر مشاكل” و”العمق الاستراتيجي”، والذي قاد أنقرة إلى قيادة محاولات تهدئة إقليمية، مثل الانخراط في محادثات نووية مع إيران نيابة عن الولايات المتحدة الأمريكية، والدخول في شراكة تعاونية ثلاثية مع أذربيجان وجورجيا.

المرحلة الثانية “الأمننة”: والتي بدأت منذ اندلاع ثورات الربيع العربي في 2011، وأخذت شكلاً أكثر عنفاً وعسكرة في منتصف 2016، وذلك لعلاج المشكلات الأمنية التي فشلت القوة الناعمة في تحقيقها، وحكم السياسة الخارجية التركية خلال تلك المرحلة مفاهيم التدخلات الأحادية والاستقلال ودبلوماسية المدافع وذلك لحماية مصالحها الأمنية غير القابلة للتفاوض؛ وتقديم الدعم للتيار الإسلامي السياسي، وذلك من خلال تنفيذ سلسلة عمليات عسكرية داخل الشمال السوري والتحالف مع هيئة تحرير الشام وقصف الشمال العراقي عدة مرات وغيرها من العمليات، والتي أدت لعزلها بسبب صراعها مع معظم جيرانها الإقليميين، وعزز الاصطفافات متعددة الأطراف المناهضة لها، وعمق الخلافات الثنائية مع شركائها الغربيين التقليديين مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية.

المرحلة الثالثة “النهج البراجماتي”: وهو منعطف جديد على السياسة الخارجية التركية؛ بحكم الابتعاد عن الأحادية والعودة لسياسة خارجية متعددة المحاور وذلك لتقليل الأضرار الناتجة عن حقبة العداوات والسياسات العدوانية، وتتسم هذه المرحلة بتعزيز التحالفات القائمة وتحسين العلاقات الثنائية، وإتباع الدبلوماسية وإدارة تضارب المصالح والاستفادة من دبلوماسية القمم متعددة الأطراف.

ويتضح هذا النهج في جهود إصلاح العلاقات المتدهورة مع أربع دول شرق أوسطية وهم (مصر – الإمارات – السعودية – إسرائيل)، وإحراز التقدم في العلاقات التركية الأرمينية، والتهدئة في الشرق الأوسط، وتسهيل المساعدات بين روسيا وأوكرانيا، وذلك للتعزيز الدبلوماسي للمكاسب من الانتصارات العسكرية الأخيرة في سوريا وليبيا وجنوب القوقاز، وكسر الاصطفافات المناهضة لها، وتزايد المنافسة الإقليمية مع إيران وروسيا، وخفض التكلفة الاقتصادية للمغامرات الخارجية، وتغيير الرئاسة الأمريكية في بداية عام 2021.

وقد طويت تُركيا في عام 2023 بمزيد من التحولات الخارجية، والتي أطلقتها منذ 2020 وذلك بهدف إصلاح العلاقات مع المحيط الإقليمي؛ وإعادة تشكيل علاقات مع الغرب من منظور الواقعية الجيوسياسية، وكان من أبرز التحولات التي شهدها هذا العام هي إعادة تطبيع تركيا مع مصر وإسرائيل، وتعميق شراكاتها الجديدة مع الدول الخليجية، والشروع في حوار مع دمشق، فضلاً عن المصادقة على عضوية فلنلندا في الناتو، وإبرام اتفاق مع السويد لإتمام عضويتها في الحلف، وعكس تعيين هاكان فيدان وزيراً للخارجية والذي يملك خبرة واسعة في مجال الأمن والاستخبارات بحكم وظيفته السابقة؛ رغبة تركيا في المواءمة بين الدبلوماسية والقوة في تفاعلاتها الخارجية مع العالم، بالإضافة لزيارة أردوغان لليونان وإعلان أثينا المشترك الذي رسم الطريق لإصلاح العلاقات بين البلدين.[2]

واستناداً للحملة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية وخطابات النصر لأردوغان وبيانات أعضاء مجلس الوزراء الجدد يمكن ملاحظة أن أولويات السياسية الخارجية التركية الجديدة تتمثل في استخدام مفهوم الاستقلال الاستراتيجي وهو الذي ينطبق على صناعة الدفاع وإمدادات الطاقة والتدفقات التجارية، فهو الآن العنصر المحدد للموقف السياسي للبلاد، وبالنسبة للسياسة المتوازنة بين الناتو وروسيا هو أحد الأعمدة الأساسية للسياسة الخارجية التركية الجديدة. هذا المفهوم موجود قبل الحرب في أوكرانيا لكنه الآن أصبح مرتبط بنتيجة الحرب، فتركيا لديها تبادلات اقتصادية مهمة مع روسيا؛ مثل السياحة والتجارة الزراعية وعقود البناء في روسيا وواردات الغاز والنفط.[3]

كما اعتمدت السياسة الخارجية الجديدة على الدبلوماسية متعددة النواقل وذلك لتوسيع شبكة سفاراتها، وفتح طرق جديدة للخطوط الجوية التركية، وتسهيل الصفقات التجارية ومبيعات الأسلحة، بالغضافة إلى إعادة إطلاق الاقتصاد على أسس سليمة والاعتماد على التطبيع عند الحاجة والتكثيف في كل مكان.[4]

ثانياً- واقع العلاقات الليبية – التركية

تتحرك تركيا داخل ليبيا في خطوط متوازية، من حيث تقديم الدعم للكتائب المسلحة ودعم العناصر الموالية لها، واستقطاب القيادات التي تقبل التعاون معها، حتى وإن لم تكن تحمل موقف واضح ومؤيد لها، مع وجود رحلات جوية مباشرة من تركيا لمصراتة تنقل المسلحين من جبهة النصرة في سوريا لليبيا، ومن هُنا وجب علينا إعادة النظر في حدود وطبيعة الدور التركي في ليبيا.

في البداية عارض أردوغان التدخل الدولي في ليبيا عام 2011؛ وذلك لمصالحة الاقتصادية، وحث الدول للتخلي عن المعايير المزدوجة والتصرف بأسلوب متماسك لإنهاء معاناة الليبيين، ولكن بعد أن صار التدخل الغربي واقعاً لا محالة في ليبيا غيرت موقفها كلياً، واعترفت بالمجلس الوطني الانتقالي متأخراً، فهي جاهزه لاقتناص الفرص التي توفرها تناقضات أطراف الصراع.[5]

أي أن الموقف التركي حاضر وبقوة منذ اندلاع الأزمة الليبية لكن من أجل الحرص على المصالح التركية الاقتصادية في ليبيا، والتي كانت تُقدر وقتها بنحو 15 مليار دولار، حيث أنه يوجد نحو 120 شركة تركية في ليبيا، وبعد سقوط معمر القذافي لجأت لتقديم الدعم للتنظيمات المُسلحة الممثلة في حزب العدالة والبناء المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، وميلشيات مدينة مصراتة، ودعمت تحالف فجر ليبيا في مواجهة عملية الكرامة التي قام بها الجيش الوطني في 2014 بقيادة خليفة حفتر، وهو ما وتر العلاقة مع الشرق الليبي لأن حفتر قد وجه الاتهامات لتركيا بدعم الإرهاب في ليبيا، وأصدرت حكومة الشرق الليبي قرار بإيقاف التعامل مع الشركات التركية رداً على تعاون تركيا مع فجر ليبيا.[6]

وتُمثل ليبيا حالياً ساحة صراع بين تركيا ومِصر، وتعتبر نقطة تحول في موقع ومكانة الدولتين في المجال الإقليمي، فتركيا تتصرف على أساس أنها وريث الإمبراطورية العثمانية، ومِصر كزعيمة العالم العربي لمرة واحدة ولأفريقيا لفترة طويلة، ومركز القوة الروحية للإسلام السُني، والبطل العربي الأساسي والرئيسي في مواجهة إسرائيل في النضال من أجل فلسطين، فقد غيرت المُشاركة التركية في الحرب الأهلية الليبية أمنيات جميع المُشاركين في الساحة الليبية، وتُبرر أنقرة تدخلها في ليبيا بامتلاكها الشرعية القانونية، وأن وجودها العسكري قانوني وشرعي مثل الوجود الروسي في روسيا.[7]

ويكمُن طمع تركيا في أن ليبيا دولة غنية بالموارد الطبيعية، حيث أن مواردها أكثر من ضعف موارد تركيا، ولكن عدد سكانها قليل جداً لا يزيد عن 6 ملايين نسمة، فبالتالي الموارد الطبيعية مثل النفط والغاز واليورانيوم والذهب تجذب القوى الكُبرى؛ والتي لم تسمح بالتحول الديمقراطي في ليبيا من أجل الاستفادة من مواردها، والذي أسفر عن عدم استقرار حالة البلاد ووجود الحرب الأهلية والانقلاب والإرهاب والاضطرابات السياسية في ليبيا.

ولأن ليبيا كانت تتمتع بعلاقة قوية مع الدول المغاربية لاسيما ليبيا في الفترة العثمانية، والتي تعتبر آخر مكان غادرته تركيا في إفريقيا، واستمرت هذه العلاقة الوثيقة حتى حرب الاستقلال في تركيا، حتى أن إدارة المملكة الليبية التي تم تأسيسها بعد الاستقلال كانت تتبقى الدعم من تركيا فيما يتعلق بإضفاء الطابع المؤسسي على الدولة.[8]

صور التدخل العسكري في ليبيا[9]

أولاً- التواجد العسكري الرسمي

تقدم أردوغان للبرلمان بمذكرة لتفويضه في إرسال قوات عسكرية لليبيا على غرار الدولة السورية والعراقية، وقد وافق المجلس على هذا الأمر لمدة عام قابلة للتجديد، ولكن التعهد بالتدخل العسكري واتخاذ الإجراءات في هذا الصدد هو ما أعطى منحنى جديد للعلاقات التركية – الليبية، وبالرغم من أن تُركيا يُمكنها دعم حليفها السراج بدون التواجد العسكري ولكنها فضلت استغلال حاجة السراج لمثل هذا الدعم ليحصل على موطئ قدم في ليبيا لعدة اعتبارات منها توتر علاقته مع مِصر، وبالطبع الاستفادة من حقول النفط وغاز المتوسط، وقد تكون هذه هي البداية لإقامة قاعدة عسكرية تركية دائمة في ليبيا.

ثانياً- إمدادات السلاح

تقدم تركيا دعم عسكري لقوات السراج والميليشيات المُسلحة، وذلك من خلال الأسلحة والمعدات، خارقة بذلك الحظر الأممي المفروض منذ 2011 والذي كان آخر تجديد له من قِبل مجلس الأمن في 2019، وذلك لتحقيق ثلاثة أهداف وهي؛ دعم قوات السراج والميليشيات أمام قوات الجيش الوطني الليبي في المعارك، تسويق الأسلحة والمعدات التركية وتجربتها مما يعمل على تسويق الأسلحة التركية، وتحقيق الأهداف الاقتصادية المُباشرة.

ثالثاً- العلاقات التركية مع الميليشيات المُسلحة في ليبيا

يتمتع أردوغان وحكومته بعلاقة قوية مع الميليشيات المُسلحة في ليبيا، وذلك يظهر من خلال الدعم والتنسيق والإمداد بالمعدات والأسلحة العسكرية، وعلى رأسهم المجموعات التابعة لجماعة الإخوان المُسلمين، بالإضافة لكتائب مصراته وقادة الجماعة الليبية المقاتلة وغيرها، وتهدف من خلال هذا التعاون الوثيق لأن تكون أحد الفاعلين السياسيين في الأزمة الليبية، والبعد قدر الإمكان عن الخسائر البشرية للمعارك.

رابعاً- إعادة توظيف المقاتلين السوريين

دعم المقاتلين السوريين في ليبيا ليس بجديد على تركيا، ولكن الفرق الآن هو التوسع في هذا التدفق للمقاتلين، منذ 2019 بدأت تركيا في تسيير رحلات يومية ليلية من إسطنبول لليبيا؛ بمعدل رحلتين إلى أربع رحلات في اتجاه طرابلس ومصراته وذلك لنقل العناصر المُسلحة لدعم حكومة الوفاق.

مذكرة التفاهم

بدأت العلاقات التركية – الليبية في أخذ منحنى جديد في العلاقات منذ 2019 حتى يومنا هذا، وهذا كله يرجع لمذكرة التفاهم الخاصة بالسيادة على المناطق البحرية في البحر الأبيض المتوسط، فهذه المنطقة تشهد خلافات كثيرة حول ترسيم الحدود البحرية بين دولها، وذلك بعد أن أثبتت المسوحات الجيولوجية وجود مخزون كبير من الغاز والنفط القابل للاستخراج، بالإضافة إلى توقيع مذكرة التعاون الأمني بين الدولتين، والتي شملت مجالات التدريب العسكري ومكافحة الإرهاب، والهجرة غير الشرعية؛ بالإضافة للأمور اللوجيستية ونقل الخبرات والخرائط والتخطيط العسكري، فبعد موافقة البرلمان التركي أكد أردوغان على أن بلاده ستُرسل الدعم العسكري الجوي والبحري والبري لليبيا بناء على الطلب الرسمي الذي تقدمت به حكومة الوفاق الوطني.[10]

وقد احتج المجلس الرئاسي الليبي ضد الحكومة الوطنية مُعتبراً أن إبرام أي اتفاقية مع أي جهة يتطلب التشاور معها والمصادقة عليه من الجهات التشريعية، وقد عارضت مِصر واليونان أي نشاط في المناطق المتنازع عليها مؤكدين على أن حكومة طرابلس لا تلك صلاحية إبرام أية اتفاقيات دولية أو مذكرة تفاهم، وأعلنت أثينا أنها لديها النية في الدفاع عن حقوق سيادتها في المناطق التي تعتبرها خاصتها، وخاصة أن اتفاقية عام 2020 بين مِصر وأثينا تحدد منطقتيهما الاقتصاديتين الخالصتين في شرق البحر المتوسط.[11]

وأثناء الانتخابات التركية في عام 2023 راقب القادة السياسيون الليبيون الانتخابات عن كثب، وكان الرئيس الليبي محمد المنفي ورئيس مجلس الوزراء عبد الحميد الدبيبة من أوائل المسئولين الذين قدموا التهنئة لأردوغان، آملين في أن يستمر الدعم المتواصل من تركيا لليبيا وذلك في مواجهة حفتر في المنطقة الشرقية، ففي حال فوز المعارضة التركية في هذه الانتخابات كان سيحدث خلل في العلاقات التركية – الليبية والتي كانت تُريد أن تسحب الدعم من حكومة طرابلس وتوقف المساعدات العسكرية.[12]

لذلك ستستمر السياسية الخارجية التركية كما هي في ليبيا ولكن قد يحاول أردوغان الحفاظ على علاقته مع الحكومة في طرابلس، وفي الوقت نفسه سيعمل على المصالحة مع بنغازي حتى وإن كان الأمر مستحيلاً، ولكن في ضوء المصالحة بين مصر وتركيا والإمارات العربية المتحدة وتركيا؛ واللتين لطالما قدمتا الدعم لحكومة بنغازي لا يمكن استبعاد هذا الأمر.[13]

ثالثاً- آفاق مستقبلية

من الناحية الفعلية، ورغم كل السياسات والإجراءات التي تتخذها تركيا في ليبيا أو تُصرح بها في خطاباتها عن ليبيا؛ ومدى رغبتها في حمايتها من الإرهاب والحفاظ عليها من القوى الكُبرى من محاولة استغلال الوضع الراهن فيها من أجل مصالحهم الاقتصادية، إلا أن تُركيا في حد ذاتها في كل قرار أو سياسة تتخذها هي من أجل الحفاظ على مصالحها الاقتصادية في ليبيا والاستفادة من مواردها الطبيعية الوفيرة والتي لا يتوافر بمثل كميتها في تُركيا.

وذلك يبرز كثيراً في سياستها في دعم الإرهابيين والمقاتلين في ليبيا بحجة حماية البلاد من الجيش الوطني الليبي وحكومة حفتر، بل أن تُركيا استفادتها الحقيقية تكمُن في استمرار زعزعة الاستقرار في ليبيا وتحويلها لأرض بها حروب لا تنضب كحال روسيا واليمن، خاصة وأنها الفاعل الذي يحتوى على إمكانية أكبر في اللعب على الأراضي الليبية نتيجة اتفاقياتها وتحالفاتها مع حكومة الوفاق الوطني في شرق البلاد.

بالإضافة إلى أن دعم الإرهاب والميليشيات المُسلحة لا يُحقق لتركيا مكاسب اقتصادية وسياسية فقط في ليبيا؛ بل يُحقق لها مكاسب أيضاً خارج الحدود الليبية، مِثل أن يكون لها موطئ قدم في القارة السمراء ومنطقة الشرق الأوسط بالأخص، وأن يكون هذا الموطئ هو موطئ نفوذ، تستطيع منه التدخل والتحكم في كل ما تُريد، ومن أدلة ذلك هي مذكرة التفاهم التي وقعتها مع الحكومة الليبية، فمشكلة الحدود البحرية المُتنازع عليها في هذه المنطقة لن تكون المُشكلة الأخيرة، فكلما ثبتت تُركيا نفسها في المنطقة ستخرج بين الفينة والأخرى بمشكلة جديدة.

ومن الناحية الأخرى ترمي السياسة الخارجية التركية التي اعتمدت على النهج البراجماتي لتوطيد العلاقة مع دول الدول الشرق أوسطية، لتثبيت موطئ قدمها أكثر في المنطقة، وربما حتى كسب تحالفات جديدة لها قد يدعمونها داخل الأراضي الليبية، حتى تُنافس مِصر التي تدعمها السعودية والإمارات وفرنسا، أو على الأقل الدخول في شراكات اقتصادية جديدة من شأنها مساعدة الوضع الاقتصادي في تُركيا خاصة مع الدول الخليجية والتي تتميز بغناها.

إلى أين المصير؟

وبناءً على هذا التطور الذي تشهده المنطقة في العلاقة التُركية الليبية نجد أن هُناك العديد من الاحتمالات والرؤى المُستقبلية التي يتوقع حدوثها، منها؛

رؤى مُستقبلية

عاجلاً أم آجلاً ستتحول ليبيا لبؤرة إرهابية ضخمة لن يستطيع أحد الوقوف أمامها، فعدم اتحاد الحكومة الليبية لن يُثمر عن نتائج مُرضية وموفقة في مواجهة هذا الإرهاب، خاصة وأن حكومة الوفاق الوطني في حد ذاتها لا تعترض على دعم تركيا للإرهابيين والميليشيات المُسلحة لمواجهة الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر، وهذا في حد ذاته لن يكون خطراً فقط على الجيش الوطني الليبي والمواطنين اللبيبين بل سيكون خطراً أيضاً على حكومة الوفاق الوطني، إذا ما قررت الاتحاد في يوم ما مع الجيش الوطني أو حتى انتصرت عليه وقررت إخراج هؤلاء المُسلحين من البلاد، وحتى وإن لم تفعل فهؤلاء المُرتزقة في يوم ما سيتطلعون لحكم ليبيا لعدم وجود حاكم لها!

ليبيا هي الأرض الجديدة الواعدة للإرهابيين والتي لن يبعدهم عنها شيء أو أحد، وسيكون الوضع أصعب بكثير من سوريا واليمن خاصة مع تفكك الحكومة ورغبة أحد طرفاها في وجود الميليشيات المُسلحة في البلاد، تتميز حكومة الوفاق الوطني بأفكار تُماثل أفكار الأطفال فهي مُتشبثة بالحكم مثل تشبث الأطفال باللعب، لدرجة أنها استقطعت جزءاً من حدودها البحرية لتركيا فقط من أجل مزيد من الدعم! والدعم من أجل ماذا من أجل الخراب!!

لن ترضى تُركيا باستقرار الوضع في ليبيا خاصة وأن هذا هو ما تريده، هذه هي الأوضاع التي ستستفيد منها ومن أكبر الدلائل على ذلك هو دعمها للميليشيات المُسلحة التي لا تعرف حتى وضوح أهدافها تجاه تُركيا، والبدء في تحسين العلاقات مع الحكومة الموجودة في الجانب الآخر من ليبيا، فكما اعترضت تُركيا في البداية على تدخل القوى الكُبرى في ليبيا وعزل القذافي عن الحُكم؛ وذلك حفاظاً على مصالحها الاقتصادية في ليبيا، وبعدها غيرت موقفها كلياً واعترفت بالمجلس الوطني الانتقالي، وأصبحت من بعدها من أكثر الدول تدخلاً وتأثيراً في الشؤون الليبية، ولكنها ستستمر، ستستمر العلاقات الليبية – التركية وستتوطد أكثر وهذا بدوره سيؤثر على مِصر والمنطقة.

على الأرجح لن تدخل مِصر بحرب مُباشرة في الوقت الحالي داخل ليبيا وذلك لوضع مسافة آمنة وفاصلة بين مصر والإرهابيين في ليبيا، لأن عملية مثل هذه في الوضع الاقتصادي الحالي سيؤثر كثيراً على مِصر حتى في ظل دعم الدول الموالية لمِصر، ولكن الوضع الراهن لا يسمح بذلك خاصة وأن الحدود المِصرية مُشتعلة من كل الجوانب وتركيز مِصر على ليبيا الآن سيفقدها التركيز على ما يحدث في الجبهات الأخرى، ففي الشرق تقوم إسرائيل بالإبادة الجماعية في الفلسطينيين مع ضرب بضع مناطق على الحدود المِصرية من الداخل المِصري، والذي أسفر عن توتر العلاقات بين البلدين أكثر من توترها خاصة مع رغبة إسرائيل في تشجيع الفلسطينيين للنزوح للشمال وذلك لبدء مخططها الاستيطاني بتهجير الفلسطينيين في مِصر.

وأما في الجنوب فالوضع ليس بأفضل من الشرق، خاصة مع حالة الحرب الأهلية التي تمر بها السودان، وهجرة الأهالي من السودان لمِصر وذلك بسبب تعرضهم للنهب والسرقة والقتل والاغتصاب وغيرها من جرائم الإنسانية، وعلى ذِكر الحرب الأهلية في السودان فيجب الإشارة إلى أن هذا الأمر أصبح ليس ببعيد على ليبيا، وإنما هي مسألة وقت وستشتعل الجبهة أكثر هي الأخرى.

المراجع:

الدراسات

دريسي، حنان، (2022)، التدخل التركي في الأزمة الليبية: المحددات والتداعيات، مجلة الناقد للدراسات السياسية، مج6، ع1.

مقالات

تشاندار، جنكير، (2020)، مازق تركيا في ليبيا وشرق المتوسط، مجلة الدراسات الفلسطينية، ع124.

أويصال، أحمد، (2023)، مفترق طرق جديد في ليبيا والتموضعات المتغيرة، شؤون الشرق الأوسط، مج3، ع10.

الشيخ، محمد عبد الحفيظ المهدي، (2020)، التدخل العسكري التركي في ليبيا وانعكاساته إقليمياً ودولياً، شؤون عربية، ع184.

صلاح، مصطفى، (2022)، تداعيات الإنخراط: ماذا يعني توقيع تركيا وليبيا اتفاق جديد للنفط؟ آفاق سياسية، ع92.

سويدان، محمد حسن، (2023)، السياسة الخارجية التركية في حوض المتوسط، محاور وحوار، ع27.

صلاح، مصطفى، (2019)، الدور التركي في ليبيا : الآليات وحدود التأثير، آفاق سياسية، ع43.

أبو العلا، عبد المجيد، (2020)، التدخل العسكري التركي في ليبيا صوره وتداعياته على الجماعات الإرهابية، آفاق سياسية، ع52.

المواقع الالكترونية

ماهر، ماري، (2022)، تعدد المحاور: قراءة في تحولات السياسة الخارجية التركية، تم استرجاعه في 24/1/2024، على الرابط https://2u.pw/tnYvn4q

علوس، محمود، (2023)، تقليل العداوات وزيادة الأصدقاء.. ملامح السياسية الخارجية التركية 2024، تم استرجاعه في 24/1/2024، على الرابط https://2u.pw/iYmRCFD

بولات، فرحات، (2023)، العلاقات التركية – الليبية: تقييم مرحلة ما بعد الانتخابات، تم استرجاعه في 27/1/2024، على الرابط https://2h.ae/wUVG

[1]  ماهر، ماري، (2022)، تعدد المحاور: قراءة في تحولات السياسة الخارجية التركية، تم استرجاعه في 24/1/2024، على الرابط https://2u.pw/tnYvn4q

[2]  علوس، محمود، (2023)، تقليل العداوات وزيادة الأصدقاء.. ملامح السياسية الخارجية التركية 2024، تم استرجاعه في 24/1/2024، على الرابط https://2u.pw/iYmRCFD

[3]  سويدان، محمد حسن، (2023)، السياسة الخارجية التركية في حوض المتوسط، محاور وحوار، ع27، ص18.

[4]  سويدان، محمد حسن، المرجع السابق نفسه.

[5]  الشيخ، محمد عبد الحفيظ المهدي، (2020)، التدخل العسكري التركي في ليبيا وانعكاساته إقليمياً ودولياً، شؤون عربية، ع184، ص169، 170.

[6]  صلاح، مصطفى، (2019)، الدور التركي في ليبيا : الآليات وحدود التأثير، آفاق سياسية، ع43، ص55، 56.

[7]  تشاندار، جنكير، (2020)، مازق تركيا في ليبيا وشرق المتوسط، مجلة الدراسات الفلسطينية، ع124، ص021، 022.

[8]  أويصال، أحمد، (2023)، مفترق طرق جديد في ليبيا والتموضعات المتغيرة، شؤون الشرق الأوسط، مج3، ع10، ص4.

[9]  أبو العلا، عبد المجيد، (2020)، التدخل العسكري التركي في ليبيا صوره وتداعياته على الجماعات الإرهابية، آفاق سياسية، ع52، ص52، 54،55.

[10]  دريسي، حنان، (2022)، التدخل التركي في الأزمة الليبية: المحددات والتداعيات، مجلة الناقد للدراسات السياسية، مج6، ع1، ص643.

[11]  صلاح، مصطفى، (2022)، تداعيات الإنخراط: ماذا يعني توقيع تركيا وليبيا اتفاق جديد للنفط؟ آفاق سياسية، ع92، ص37.

[12]  بولات، فرحات، (2023)، العلاقات التركية – الليبية: تقييم مرحلة ما بعد الانتخابات، تم استرجاعه في 27/1/2024، على الرابط https://2h.ae/wUVG

[13]  بولات، فرحات، المرجع السابق نفسه.

5/5 - (2 صوتين)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى