التجربة التونسية في التحول الديمقراطي ٢٠١١
إعداد : سناء السعيد حسن – اشراف : د. محمد نور البصراتي- كلية السياسة والاقتصاد – جامعة بني سويف – مصر
- المركز الديمقراطي العربي
المقدمة :
يشير التحول الديمقراطي إلى مختلف الإجراءات الكفيلة بتعزيز المشاركة في السلطة السياسية، فموجة التحول الديمقراطي تهدف إلى معرفة الأسباب التي أدت للدفع بإجراءات الانفتاح السياسي التي تبنتها بعض الأنظمة السياسية واجتياز الحاجز أو المسافة الفاصلة بين أنظمة الحكم غير ديمقراطية، والتحول الديمقراطي يعتبر مرحلة وسطية بين الانتقال من نظام سياسي إلى نظام آخر و تبدأ عملية التحول نحو الديمقراطية بالتفكيك التدريجي للنظام السلطوي، ويقصد بالتحول الديمقراطي في الدلالة اللفظية المرحلة الانتقالية بين نظام غير ديمقراطي ونظام ديمقراطي، فالنظام السياسي الذي يشهد تحولاً ديمقراطياً يمر بمرحلة انتقالية بين نظام غير ديمقراطي في اتجاه التحول إلى نظام ديمقراطي.
لقد انطلقت تجربة التحول الديمقراطي في تونس في 2010 حينما أضرم البوعزيزي النيران في نفسه، وأعقب ذلك احتجاجات شعبية واسعة أدت لهروب بن علي. منذ ذلك الحين مرت تجربة التحول الديمقراطي التونسية بعدد من المحطات التي أسهمت في تشكيل المشهد الحالي. على ضوء ذلك تناقش الدراسة التأصيل النظري للتحول الديمقراطي ومحطات التحول الديمقراطي في تونس بدايةً من الانتفاضة في ديسمبر 2010 انتهاءاً بدستور الجديد في 2022.
المشكلة البحثية
تتمثل المشكلة البحثية في قضية التحول الديمقراطي، وفي هذا البحث سنقوم بإيضاح بعض الجوانب الهامة للتحول الديمقراطي والتعريف به ومقارنته بالتعريفات المرتبطة الاخرى، وأنماطه، وإيضاح أحد عمليات التحول الديمقراطي في العالم العربي والمتمثلة في التجربة التونسية بعد الربيع العربي.
الأهمية
ترجع أهمية هذه الدراسة من الناحية العلمية والعملية في ان قضية تحول الأنظمة إلى أنظمة ديمقراطية وهي من القضايا المثيرة للاهتمام بالنسبة لدارسي العلوم السياسية، وتدعي معظم الأنظمة في العالم بأنها أنظمة ديمقراطية، وأهمية هذه الدراسة تنبع من كون أن إدارة عملية التحول الديمقراطي في تونس هي تجرية تستحق الدراسة ؛ لتفردها عن باقي عمليات التحول الديمقراطي التي شهدتها المنطقة العربية.
تقسيم الدراسة
- المبحث الأول: التحول الديمقراطي (التعريف، الأنماط، المراحل).
- المطلب الأول: مفهوم التحول الديمقراطي والمفاهيم المتشابهة الأخرى.
- المطلب الثاني: أنماط ومراحل التحول الديمقراطي.
- المبحث الثاني: التجربة التونسية في التحول الديمقراطي.
- المطلب الأول: الأسباب التي أدت إلى حدوث التحول الديمقراطي.
- المطلب الثاني: مؤشرات عملية التحول الديمقراطي في تونس.
المبحث الأول
التحول الديمقراطي (التعريف، الأنماط، المراحل).
يشير التحول الديمقراطي إلى مختلف الإجراءات الكفيلة بتعزيز المشاركة في السلطة السياسية، فموجة التحول الديمقراطي تهدف إلى معرفة الأسباب التي أدت للدفع بإجراءات الانفتاح السياسي التي تبنتها بعض الأنظمة السياسية واجتياز الحاجز أو المسافة الفاصلة بين أنظمة الحكم غير ديمقراطية، والتحول الديمقراطي يعتبر مرحلة وسطية بين الانتقال من نظام سياسي إلى نظام آخر و تبدأ عملية التحول نحو الديمقراطية بالتفكيك التدريجي للنظام السلطوي، ويقصد بالتحول الديمقراطي في الدلالة اللفظية المرحلة الانتقالية بين نظام غير ديمقراطي ونظام ديمقراطي، فالنظام السياسي الذي يشهد تحولاً ديمقراطياً يمر بمرحلة انتقالية بين نظام غير ديمقراطي في اتجاه التحول إلى نظام ديمقراطي.
المطلب الأول: مفهوم التحول الديمقراطي والمفاهيم المتشابهة الأخرى.
يعد التحول الديمقراطى من أكثر المفاهيم والمصطلحات تداولا فى عالم اليوم وأضحى على لسان مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية والثقافية والفكرية ويتداول فى وسائل الاعلام، فضلا عن اهتمام الساسة والقادة القوى السياسية بقضية التحول الديمقراطى وعلى الرغم من الفقر النسبي لاسيما في العالم العربي والإسلامي في عدد البحوث والدراسات التي تناولت هذه الظاهرة بالدراسة والتحليل.
أولاً: تعريف التحول الديمقراطي.
تعددت تعريفات التحول الديمقراطي وذلك بحسب اختلاف المداخل علماء السياسة إلى في نظرتهم لعملية التحول.
حيث يعرفه “شميتر” بأنَّها:” عملية تطبيق القواعد الديمقراطية سواءً في مؤسسات التي لم تطبق من قبل، أو امتداد هذه القواعد لتشمل أفراد أو موضوعات لم تشملهم من قبل”.
ويعرفه “رستو” بأنها “عملية اتخاذ قرار يساهم فيها ثلاث قوى ذات دوافع مختلفة وهي النظام، والمعارضة الداخلية والقوى الخارجية، ويحاول كل طرف إضعاف الأطراف الأخرى وتتحدد النتيجة النهائية وفقا للطرف المتغير في هذا الصراع”.
أما صامويل هنتجتون يعرف التحول الديمقراطي على أنه: “مسلسل سياسي معقد تشارك فيه مجموعات سياسية متباينة تتصارع من أجل السلطة وتتباين من حيث إيمانها أو عدائها للديمقراطية، فهو مسلسل تطوري يتم فيه المرور من نظام سياسي تسلطي مغلق إلى نظام مفتوح، وهو مسلسل قابل للتراجع”. ويعرفه آخرون بأنه:” مجموعة من المراحل المتميزة تبدأ بزوال النظم السلطوية يتبعها ظهور ديمقراطيات حديثة تسعى لترسيخ نظمها وتعكس هذه العملية إعادة توزيع القوة بحيث يتضاءل نصيب الدولة منها لصالح مؤسسات المجتمع المدني بما يضمن نوعا من التوازن بين كل من الدولة والمجتمع، بما يعني بلورة مراكز عديدة للقوى وقبول الجدل السياسي”.
وهناك من يرى بأن التحول الديمقراطي “عملية سياسية تقع بين شكلين متباينين من الأنظمة السياسية وهي حالة الديكتاتورية وحالة الديمقراطية وبحيث تكون النتيجة النهائية صعود الشكل الثاني و زوال الشكل الأول السابق”.
ويعرفه تشارلز أندريان بأنَّه:” التحول من نظام إلى آخر، أي تغير النظام القائم وأسلوب صنع السياسة الذي يتبناه النظام، ويسميه التغير بين النظم، وعليه التحول يعني تغييرات عميقة في الأبعاد الأساسية الثلاثة في النظام: البعد الثقافي، البعد الهيكلي والسياسات وهذه التغيرات ناتجة عن وجود تناقضات بين هذه الأبعاد الثلاثة، مما يؤدي إلى عجز النظام القائم على التعامل معها في ظل الإطار والأسلوب القديم.”
حيث يُعرف الدكتور علي الدين هلال التحول الديمقراطي على أنه: ”مجموعة العمليات التي تحقق انتقال نظام سياسي من الحكم السلطوي إلى الحكم الديمُقراطي.”
ويعرف الدكتور خيري أبو العزايم فرجاني عملية التحول إلى الديمقراطية بأنها: “الانتقال من نظام غير ديمقراطي إلى آخر ديمقراطي خلال فترة زمنية محددة، يتوافق معها إرساء مجموعة من القواعد والإجراءات التي تنظم العلاقة بين الحكام والمحكومين، مما يمكن المحكومين من القدرة على رفض أ, قبول أولئك الذين في السلطة، فضلًا عن رقابتهم، وفي المقابل يلتزم المحكومون بطاعة الحكام والالتزام بقراراتهم في إطار مجموعة من القواعد المرعية.”
كما يعرفها الدكتور أحمد تهامي عبد الحي بأنها: ”عملية الانتقال من نظام سلطوي مهما كانت طبيعته (نظام الحزب الواحد، نظام عسكري، نظام شمولي، نظام أوليجارشي، نظام شمولي) إلى نظام يقوم على المواطنة، وتوسيع الحرية الشخصية، والمشاركة السياسية.”
من خلال ما سبق يتضح أن تعدد التعاريف المقدمة للتحول الديمقراطي إنما تعود لنظرة كل مفكر وتركيزه على متغير معين للتعبير عن عملية التحول الديمقراطي، وعموما فإن التحول الديمقراطي يعبر عن الفترة التي التي تعقب حدوث تغيرات جذرية في بنية النظام السياسي أما بالطرق السلمية أو الكفاح المسلح سعيا لتأسيس نظام ديمقراطي يقوم على تداول السلطة وإعداد دستور يحترم مختلف الحقوق والحريات.
ثانياً: التحول الديمقراطي والمفاهيم المتشابهة الأخرى.
إن التطرق لمفهوم التحول الديمقراطي يضعنا أمام العديد من المفاهيم التي تتداخل مع المفهوم أو عدم القدرة على التفريق بين مفهوم التحول الديمقراطي وهذه المفاهيم المتشابهة بالرغم من وجود العديد من خطوط التماس بين هذه المصطلحات، ولذلك نسعى من خلال هذا الطرح إلى المحاولة تأصيل عدد من المفاهيم التي ارتبطت بالتحول الديمقراطي ونأخذ البعض منها ليس على سبيل الحصر و إنما على أساس التقارب وهي: التحول الليبرالي و الانتقال الديمقراطي و الإصلاح السياسي.
- التحول الليبرالي
يفرق الباحثون بين عملية التحول الديمقراطي و التحول الليبرالي حيث عرفت أدبيات التحول الليبرالي بأنه عملية محكومة من الأعلى من خلال زيادة مساحة الحريات المسموح بها و الاهتمام بالحريات العامة فتقوم على ضرورة الاعتراف بدور الفرد على أنه الأساس في المجتمعات وذلك من خلال السماح للفرد للسعي إلى تحقيق ذاته و السعي المستمر وراء غايات و أهداف خاصة متغيرة دائما مع تغيرات الظروف و تنطلق الديمقراطية الليبرالية من فرضية أساسية هي حرية الاختيار، أما أعمدتها الفلسفية فتتمثل في تعظيم المنافع الفردية وتعظيم القدرات الفردية، والفردية التي نشأت عنها الليبرالية تقوم على مبدأ أسبقية الفرد في الوجود على المجتمع، وهو غاية أي نظام اجتماعي، فالفرد هنا قيمة في ذاته والدولة والمجتمع يسعيان في خدمته لتحقيق سعادته، وقد ارتبطت الليبرالية بالديمقراطية على الرغم من اختلافات بين المذهبين، فالديمقراطية بجميع أشكالها المعروفة النيابية والمباشرة والاجتماعية تقوم على مبدأ حكم الشعب، وأنه مصدر الشرعية الوحيد للحكم في الدولة الحديثة، وذلك من خلال انتخابات نزيهة وحرة. ويقوم الحكم الديمقراطي على الفصل بين السلطات، والتعددية السياسية، والحريات العامة التي يكفلها الدستور صراحة، وحماية الأقليات في الدولة، والمواطنة المتناوبة في الحقوق مع تدعيم دستوري. أما الليبرالية فتعنى بتقييد السلطة الحاكمة تجاه الأخلاق الخاصة للأفراد، أي تأمين مساحة محصنة للحياة الخاصة للأفراد ضد الإكراه الأخلاقي الذي تمارسه الدولة بالقانون أو يمارسه المجتمع بالعادات والتقاليد الليبرالية في سعي دؤوب لتأكيد حدود المساحة المتعلقة بالأخلاقيات الخاصة للفرد وكفالتها دستوريا.
ويختلف التحول الليبرالي عن معنى التحول الديمقراطي، في كون الأول يشير إلى مختلف التغيرات التي تحد من سلطة الدولة في التدخل في حياة الناس وتسمح بحرية التعبير للمعارضة، عكس التحول الديمقراطي الذي يشير معناه بصورة خاصة إلى عملية التغير تجاه المشاركة الشعبية وحرية ونزاهة الانتخابات وعادة ما يتم عندما تتراخى قبضة أنظمة الحكم السلطوية، على الرغم من أن التحول الليبرالي ربما يعتبر خطوة نحو فرض المزيد من الضغوط في اتجاه تحقيق تحول ديمقراطي، إلا أنه لا يقود بالضرورة إلى تحقيق الديمقراطية فيمكن أن نفصل التحول الديمقراطي عن التحول الديمقراطي ومثال على ذلك نجد بعض الأنظمة الملكية الدستورية في أوروبا ليبرالية نسبيا مع أنها لم تكن ديمقراطية وكانت كذلك “هونغ كونغ” في ظل حكم الاستعمار البريطاني ليبرالية بإفراط في حين كان لسكانها صوت ضعيف في الطريقة التي ينتخبون بها.
- الانتقال الديمقراطي
يميز الكثير من المفكرين بين الانتقال الديمقراطي والتحول الديمقراطي، حيث يعتقدون أن الانتقال الديمقراطي هو أحد مراحل عملية التحول الديمقراطي ويعد من أخطر المراحل نظرا لإمكانية تعرض النظام فيها لانتكاسات حيث أن النظام في هذه المرحلة يكون ذو طبيعة مختلطة حيث تتعايش فيه كل من مؤسسات النظام القديم والحديث ويشارك كل من ذوي الاتجاهات السلطوية والديمقراطية في السلطة سواء عن طريق الصراع أو الاتفاق، و يتحقق الانتقال الديمقراطي عندما تنتهي سيادة فرد أو قلة على الشعب و يسود مبدأ المواطنة الكاملة المتساوية و يصبح الشعب مصدر السلطان وفق شرعية دستور ديمقراطي نصا وروحا، لذلك فإن الانتقال الديمقراطي يسبق بالضرورة عملية التحول الديمقراطي و هي العملية التي تحقق الانتقال من نظام الوصاية على ترسيخ نظام حكم ديمقراطي و استقراره ، حيث يتم التحول الديمقراطي نحو الممارسة الديمقراطية من حالتها الإجرائية و حدها الأدنى عند لحظة الانتقال الديمقراطي إلى تكريسها كقيمة ثقافية وممارسة عامة ترسخ نظام الحكم الديمقراطي و تطور أداءه نوعيا عبر الزمن، وتتضمن عملية الانتقال إلى حكم ديمقراطي ثلاثة مراحل أساسية :
١- المرحلة الأولى: مرحلة ضعف النظام القديم وظهور جناح إصلاحي داخل النظام أو معارضة ديمقراطية خارجية.
٢- المرحلة الثانية: مرحلة شروع النظام الحاكم في تحقيق إصلاحات من خلال تبني بعض الخطوات الانفتاحية.
٣- المرحلة الثالثة: فهي مرحلة تطور هذه الخطوات نحو عملية انتقال حقيقي إلى الديمقراطية ثم ترسيخ أسس النظام الجديد.
إن مرحلة الانتقال الديمقراطي تعتبر أكثر مرحلة جد حساسة في عملية التحول الديمقراطي نظرا لإمكانية تعرض النظام فيها إلى معيقات و صعوبات نتيجة لمشاركة مختلف مؤسسات النظام القديم و الحديث و يشارك كل من ذوي الاتجاهات السلطوية و الديمقراطية في السلطة عن طريق الصراع أو الاتفاق، لذلك فإن الانتقال الديمقراطي يرتبط بالتحول الديمقراطي و هو مرحلة مهما تتسم يتنوع أشكالها خاصة أنه في إطارها تتم صياغة أساليب وقواعد حل الصراعات بطرق سلمية و تنتهي بوضع دستور ديمقراطي و عقد انتخابات حرة و توسيع نطاق المشاركة السياسية، ومن الأسباب التي تحول دون حدوث هذا الانتقال هو غياب كتلة حقيقية تعمل على أسس ديمقراطية و تعمل أطرافها بشكل مشترك من أجل إقامة نظام حكم ديمقراطي وهذا ما يميزه عن التحول الديمقراطي.
- الإصلاح السياسي
هو أحد المفاهيم التي لا يرد بشأنها مفهوم محدد في إطار العلوم السياسية وعلى العموم، فهو يعني القيام بعملية تغيير في الأبنية السياسية والمؤسساتية ووظائفها، وكذا أساليب عملها وأهدافها، من خلال الأدوات القانونية التي يوفرها النظام السياسي ذاته، واستنادا لمفهوم التدرج، وذلك يعني زيادة فعالية وقدرة النظام السياسي على التعامل مع المتغيرات والإشكاليات الجديدة، فالإصلاح هو تغيير من داخل النظام وبآليات نابعة من داخل النظام وبمعنى آخر هو تطوير كفاءة وفعالية النظام السياسي في بيئته المحيطة داخليا وإقليميا ودوليا، وعلى هذا الأساس فالتحول الديمقراطي يختلف عن الإصلاح السياسي لكونه يرتبط عادة بضغوط خارجية أكثر ما تكون مسعى داخلي في محاولة من قبل الأنظمة للخروج من مأزق الوقوع تحت طائلة الضغوط الخارجية، بالمقابل هناك من يقف مع الأنظمة السياسية و يدافع عنها وذلك حتى لا تتدخل أطراف خارجية فتقوم بعقد صفقات مع الحكومات تقوم على أساس مساندتها في مواجهة الضغوط الخارجية شريطة أن تشرع هذه الحكومات فورا في اتخاذ إجراءات ملموسة من خلال فرض إصلاحات تشمل الجوانب السياسية و الاقتصادية و الثقافية وخاصة منها الاجتماعية و مختلف الأطر القانونية ولا تتعامل بالانتهازية مع الرفض الشعبي للهيمنة الخارجية فتؤجل الإصلاح و تتصرف بما يحقق لها الاستمرار في الحكم.
بالمقابل يمكن أن يقوم الإصلاح السياسي نتيجة تآكل النظام السلطوي في حد ذاته ما يعمل على تحفيز نخب المجتمع للضغط من أجل تحقيق التحول الديمقراطي، والمهم في ذلك كله أن الإصلاح السياسي يعني مرور النظام السياسي بعمليات تغيير واسعة النطاق تتناول بنية النظام بحيث يبدو التحول الديمقراطي أحد أوجه الإصلاح الشامل بالتالي ما يمكن استنتاجه أن الإصلاح السياسي يعتبر مرحلة تسبق عملية التحول الديمقراطي على غرار الانتقال الديمقراطي.
المطلب الثاني: أنماط ومراحل التحول الديمقراطي.
أولاً: أنماط التحول الديمقراطي
يقصد بأنماط التحول الديمقراطي الأشكال التي تتخذها عملية التحول الديمقراطي، و الإجراءات التي تتبناها بعض النخب من أجل التغيير من نظام تسلطي لنظام آخر ديمقراطي، و على الرغم أن كل دولة تتميز بظروف وعوامل تختلف عن باقي الدول الأخرى فهناك أنماط محددة تتخذها عملية التحول الديمقراطي، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه لا يمكن تعميم كل هذه الأنماط على الدولة الواحدة و أنه في كل مضامين هذه الأنماط يكون هناك عامل أساسي و ليس واحدا يدفع نحو التحول الديمقراطي فيكون إما بإرادة من المجتمع السياسي أو من أسباب داخلية للنظام السياسي أو من قبل فواعل خارجية، وقد قدم “صمويل هنتيجتون” ثلاثة أنماط رئيسية تتمثل في:
- نمط التحول من الأعلى
تتسم عملية التحول الديمقراطي في هذه الحالة عندما يبادر قادة النظم غي الديمقراطية (قيادات سياسية أو قيادات عسكرية) بتحويل النظام ليصبح أكثر ديمقراطية، على الرغم من أن هذا الأسلوب من التحول يأتي بمبادرة من السلطة الحاكمة فإنه لا يعني إلغاء دور الجماهير في عملية التحول الديمقراطي حيث يلجأ القادة في بعض الأحيان إلى التحول تحت وطأة الضغوطات الشعبية و تزايد المطالب الاجتماعية بإحداث تغيرات ديمقراطية ، فتكون كخيار ذاتي لدى النخبة الحاكمة و تقبل عليه لأنها تشعر بأنها لن تتمكن من ضمان استمرارها في الحكم ومصالحها المباشرة و غير المباشرة إذا لم تقدم تنازلات إلى المواطنين و إلى المعارضين، هذه القناعة الذاتية تتكون نتيجة مؤثرات متنوعة و متباينة من بلد لآخر لكنها في نهاية المطاف تفضي إلى انفتاح سياسي محدود و بطيء يفتح نافذة على الديمقراطية، كما قد يحدث هذا التحول نتيجة وصول نخب جديدة إلى السلطة تؤيد تحول النظام نحو المزيد من الليبرالية السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية.
كما يطلق البعض تسمية “منحة الديمقراطية” على هذا النمط من التحول الديمقراطي، حيث تكون الحكومة أمام فرصة لقيام نظام ديمقراطي بشكل مستقر و بأقل تكلفة على أن تتعامل مع هذه الفترة بحذر، وقد تنوعت التجارب في هذا النمط من التحول ومن أمثلة ذلك في إفريقيا مبادرة في زامبيا سنة 1991 بالتخلي على نظام الحزب الواحد وكذلك الجزائر بالتخلي على حزب التحرير الوطني كحزب المسيطر على السلطة وتبني خيار التعددية الحزبية كبداية نحو الديمقراطية، و في أمريكا اللاتينية نجد البرازيل في مرحلة نهاية حكم العسكريين، حيث لم تتمكن المعارضة في 1989 من التوصل إلى السلطة لولا تحالفها مع بعض قطاعات داخل السلطة العسكر، كما للضغوطات الخارجية دورا في تغيير الحكومات لنظامها غير الديمقراطية كما حدث في الدول العربية عندما اتجهت اغلب الدول العربية للنظام الديمقراطي نتيجة للتحول في الاستراتيجية الأمريكية و تركزيها على قضية الدول الديمقراطية حتى قبل أحداث 11 سبتمبر2001 بتأثير من اليمين المتشدد، مما ساهم في تشديد الدعوة للديمقراطية في الخطاب الأمريكي إلا ان تجسد في المشروع الأمريكي لدمقرطة العالم و الذي أخذ صيغته الرسمية في الشرق الأوسط او ما يعرف مشروع الشرق الأوسط الكبير بمختلف أبعاده، مما دفع بالدول العربية لتوجيه أنظمتها نحو الديمقراطية كحل لمواجهة الضغوطات الخارجية.
- نمط التحول التفاوضي
مؤشر هذا النمط هو تدهور شرعية النظام السیاسي نتیجة تردي الأوضاع الاقتصادیة والاجتماعية مما یؤدي إلى تزايد الضغوطات الداخلية خاصة والخارجية للمطالبة بالانفتاح الديمقراطي، وهذا ما یدفع بقوى المعارضة التي رغم استنادها إلى الرأي العام للتفاوض ، لكنها تفتقد القوة الكافیة للإطاحة بالنظام، كل هذا یدفع بالنظام للدخول في مفاوضات مع المعارضة من اجل التوصل إلى ميثاق یكفل مصالح كافة القوى السیاسیة، وغالبا ما يأتي هذا النمط كمحصلة لوجود نوع من التوازن النسبي في ميزان القوى بين الطرفين، فالنخبة الحاكمة تصل إلى قناعة مفادها أنها غير قادرة على الاستمرار في السياسات المغلقة والممارسات العقيمة بسبب الضغوط الداخلية و الخارجية، و أن تكلفة الانفتاح السياسي و الانتقال إلى صيغة ما لنظام ديمقراطي ضمن اتفاق مع المعارضة يضمن بعض مصالحها – أي النخبة الحاكمة – هو أقل من كلفة الاستمرار في سياسات غير الديمقراطية، وأنه من الأفضل لهم الانسحاب من السلطة لكن في نفس الوقت تأمين الخروج عن طريق سلسلة من الاتصالات والمشاورات و الاتفاقات و هذا ما حدث في التشيلي و سلفادور.
كما تبدو على الطرف الآخر من عملية التحول الديمقراطي قوى المعارضة غير قادرة على الإطاحة بالنظام السابق، بالتالي تجد أنه لا بديل أمامها غير التفاوض و المساومة مع النخب الحاكمة من أجل تحقيق التحول الديمقراطي، وعادة ما نلاحظ أن المفوضات و المساومات بين الطرفين جرت في كثير من الحالات على خلفية تظاهرات و احتجاجات شعبية حركتها قوى المعارضة و تقابلها ممارسات قمعية من جانب السلطة و قد حدث هذا النمط من التحول في العديد من البلدان منها “بولندا” فترى ضمن هذا الطرح Lee Hongsub أن عملية التحول في بولندا تمت عن طريق إتباع المعارضة استراتيجية التعاون و التنسيق مع الاطراف المعتدلة داخل النظام الاشتراكي وهو الأمر الذي يجعل المعتدلين في الحزب الاشتراكي يشعرون أنهم يأخذون زمام المبادرة في عملية التحول و إن لديهم قدرا من السيطرة على مجريات هذه التحولات.
- نمط التحول من الأسفل
يعرف هذا النمط من التحول الديمقراطي مشاركة الشعب كفاعل رئيس، ويظهر هذا النمط في مرحلة تتسم بتصاعد قوة المعارضة و انهيار قوة النخبة الحاكمة مما يؤدي إلى الإطاحة بها ومن ثمة انهيار النظام السلطوي (الشمولي) مما يدفع بالقيادات في محاولة منها لتدارك الوضع بالانطلاق في إقرار بعض الإصلاحات المطلوبة من أجل احتواء الأزمة ذات الأبعاد المركبة و مثال على ذلك التجربة التونسية 2011 حيث توجه الرئيس المخلوع ( بن علي) برسالة إلى الشعب يعدهم فيها بإجراء إصلاحات جوهرية و تلبي احتياجات الشعب لكنه عجز عن احتواء هذه الاحتجاجات.
إن هذا النمط من التحول يوضح دور وأهمية الضغوط الشعبية في دفع الدول للتوجه نحو الديمقراطية، وهنا نجد ان النخبة قد تستبدل بأخرى جديدة مثل التحول في مصر التي اعتبرت تجربة جديدة استطاعت إزاحة النظام السابق وإطاحة عوائق الإصلاح السياسي وأهمها التوريث، كما ألغت القوى التي تقف أمام البدء في التقدم بشكل حقيقي، فعرفت زوال معالم النظام السابق وتشكيل المجلس العسكري برئاسة المشير طنطاوي وتولي قيادة المرحلة الانتقالية.
ويمكن إضافة نمط رابع وهو: نمط الفرض بالقوة الخارجية (التدخل العسكري الخارجي).
يقوم هذا النمط على فرض النظام الديمقراطي على الدول المهزومة في خلال الخرب من قبل الدول المنتصرة، على غرار ما حدث لألمانيا عقب هزيمتها في الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث يعمل على هدم مؤسسات النظام القديم كلية، وإعادة هيكلته لإنشاء نظام ديمقراطي جديد في الدولة.
ولعل من الجدير بالذكر، أن هذا النمط قلما يأتي بثماره المرجوة، فالنظام الديمقراطي يقوم بالأساس على الثقافة السياسية لمواطنيه، وليس عن طريق الفرض من الخارج، وغالبًا ما يؤدي هذا الفرض إلى اضطراب سياسي واجتماعي وأمني في الدولة المهزومة في الحرب، ومن أبلغ الأمثلة على ذلك ما حدث في العراق بعد الغزو الأنجلو-أمريكي، حيث أدى إنشاء نظام طائفي فيها إلى تردي الأوضاع في العراق منذ الغزو وحتى وقتنا الحالي، مع عدم القدرة على إقامة نظام مستقر فيه.
ثانيا: مراحل عملية التحول الديمقراطي:
لا يوجد إجماع حول مكان تحديد نقاط البداية والنهاية لعملية الدمقرطة، ولكن يرى الكثيرون بأن نقطة البداية التي تنطلق منها عملية التحول إلى الديمقراطية، تكون في انهيار النظام السلطوي الذي كان قائمًا، حيث يرى الدكتور شريف البوشي، بأن مراحل عملية الدمقرطة تتمحور حول:
انهيار النظام السلطوي.
مرحلة الانتقال الديمقراطي.
مرحلة الرسوخ الديمقراطي.
ويرى أن أهم المراحل الثلاثة وأخطرها هي المرحلة الثانية، بسبب الاحتمالات المتزايدة للتعرض لانتكاسات سياسية نتيجة للتركيبة الهجينة للنظام السياسي، حيث أنه إذا ليم يستقر البناء المؤسسي الذي أنشأته تلك المرحلة، فقد تبدأ عملية انتقال ثانية، أو تحدث عودة إلى شكل متطور من النظام القديم، فيما يعرف بالارتداد السلطوي، أو السلطوية الجديدة، وذلك بسبب المعارضة من قبل النخب المدنية أو العسكرية، أو حدة الاستقطاب بين أطراف الصراع.
- مرحلة انهيار النظام السلطوي
وهو بداية عملية التحول لنظام جديد، وتشهد هذه المرحلة صراعات ما بين المتشددين المتشبثين بالنظام القديم، والمعتدلين الذين يرغبون في إجراء الإصلاحات على هذا النظام.
- مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية
وهي المرحلة التي ستحدد مصير عملية الانتقال الى الديمقراطية بأسرها، حيث تزيد إمكانية الارتداد والعودة إلى شكل أكثر تسلطًا من النظام السابق، وفي هذه المرحلة نجد تنازلات من القيادة الحاكمة وتزايدًا في المطالب الإصلاحية، والتحول إلى الليبرالية والتوسيع من حريات الأفراد، إيذانًا بالانتقال من النظام السلطوي، إلى النظام الديمقراطي.
- مرحلة الرسوخ الديمقراطي
في هذه المرحلة يتم التخلص من مؤسسات النظام السلطوي القديم، وتحل محلها مؤسسات جديدة، ويسود التوافق بين اللاعبين السياسيين، والاعتقاد بان الديمقراطية هي النظام الأمثل وحتميتها من اجل استمرار النظام.
- ويمكن إضافة مرحلة رابعة وهي النضج الديمقراطي:
وهي أعلى مراحل التحول الديمقراطي، حيث تتضمن عمليتين مستقلتين ولكنهما مترابطتان وهما الديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية الاقتصادية؛ ويقصد بالديمقراطية الاجتماعية يجب أن يكون المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، أما الديمقراطية الاقتصادية فهي ترتكز على امتلاك المواطنين الحد الأدنى من مصادر الاستقلال الاقتصادي، وذلك من خلال تأمين حقوقهم الاقتصادية، وتهدف هذه المرحلة إلى تحسين الأداء وزيادة قدرة المواطنين على المشاركة السياسية وتحقيق الرفاهية.
المبحث الثاني
التجربة التونسية في التحول الديمقراطي.
شهدت المنطقة العربية بدايةً من٢٠١١ مجموعة من التحولات الديمقراطية ما لم تشهده طيلة عقود طويلة والتي عرفت ب “الربيع العربي” وقد بدأت بتونس، فلقد قامت الثورة التونسية أساسا؛ لتلبية احتياجات ثلاثة وهي: حاجة إنسانية تتعلق بالكرامة وحاجة اجتماعية تتعلق بالعدالة وحاجة سياسية تتعلق بالتعددية.
المطلب الأول: الأسباب التي أدت إلى حدوث التحول الديمقراطي.
وانقسمت الاسباب التي أدت إلى حدوث التحول الديمقراطي الي أسباب داخلية وإقليمية ودولية.
أولا: الأسباب الداخلية
ويمكن تلخيص أهم الأسباب التي دفعت الي وجوب حدوث تحول ديمقراطي في الآتي:
- تفاقم المحسوبية والرشوة:
حيث أدت المحسوبية إلى عدم تكافؤ الفرص بين أفراد الشعب الواحد، كما أدت الرشوة إلى فساد كبير في الاقتصاد جعله يتميز بعدم الشفافية وافتقاد المصداقية.
- انتهاك النظام التونسي لحقوق الإنسان.
حيث لم يبد أي احترام لسيادة القانون وهو ما كان أحد الأسباب الهامة التي أشعلت نار الثورة لتضع نهاية لمعاناة الشعب التونسي سنوات طويلة.
- النظام التونسي لا صلة بمزاج الشارع والرأي العام في تونس وقد بدا غير مبال بالقضايا العربية ورتب علاقاته مع إسرائيل منذ أوسلو.
- الظلم المتزايد والفقر المنتشر في الكثير من المناطق.
- تفشي الفساد المالي.
اقترن القمع والاستبداد السياسي للنظام طيلة حكم بن علي بالفساد المالي واستغلال النفوذ واستيلاء أفراد عائلته على خيرات البلاد وسيطرتهم على الاقتصاد في البلاد.
لقد كان الفساد في عهد بن علي مؤسسة قائمة الذات تنشط في الظل, ولا يمكن أن يطول القانون أعمالها باعتبارات السلطة البوليسية بزعامة بن علي نفسه هي التي أنشأها ورعتها وحمتها وسهلت لها لتطيل بقاءه في السلطة.
القمع والتعتيم الإعلامي: تمثل ذلك في:
- التعذيب الممنهج لسجناء الرأي وخصوصا أصحاب الاتجاه الإسلامي.
- ترهيب وتهديد الحقوقين والتضييق على أنفسهم.
- توسع الفجوة بين الخطاب السياسي والواقع الاجتماعي.
- طرح مشروع يكرس مبدأ الرئاسة مدى الحياة والحكم الفردي.
- ضعف الأحزاب السياسية المعارضة, وعدم تعبيرها عن مصالح الشباب.
- تغيب النزاهة الانتخابية.
إن هذه العوامل إلى جانب الكثير من العوامل الأخرى هي التي دفعت بالشباب التونسي إلى أن يثور في وجه الظلم والطغيان. والأحداث على مدار التاريخ تؤكد أن أعظم ما يؤدي إلى تدهور وانهيار النظم السياسية هو تفشي الظلم والطغيان في المجتمعات.
ثانياً: الأسباب الاقليمية
لقد طرأت العديد من المتغيرات الإقليمية على الساحة العربية والمغاربية كان لها دور كبير في التأثير في عملية التحول الديمقراطي نذكر منها:
- التضييق الكبير المفروض على الشعب التونسي على مستوى المغرب العربي.
خاصة فيما تعلق بالقيود الإدارية والرسوم المالية والمضايقات الحدودية التي تعيق تنقل التونسيين إلى التنقل إلى بلدان المغرب العربي بغرض العمل والتجارة والتي تعتبر المصدر الرئيسي لرزق الكثير من البلدان الحدودية، وهو ما أدى إلى تأجيج الحراك الاجتماعي.
- التباين في نسبة الانفتاح على الحريات بين تونس والجزائر.
حيث تشهد الجزائر في هذا الإطار مستوى مقبول من الانفتاح في مجال الحريات العامة والخاصة، وبالعودة إلى التقارير الدولية التي تنفي وجود معتقلات سرية في الجزائر وعدم وجود سجناء للرأي والكلمة بالإضافة إلى جو يساعد المعارضة على النشاط ولو بنسب ضعيفة، في حين يختلف الوضع تماما في تونس من ناحية الانقلاب والمتابعات القضائية في حق النشطاء بالإضافة إلى معارضة مشتتة في أوروبا مثل حركة النهضة وعدم وجود حريات وأصوات متنقلة في المنابر الإعلامية، بالإضافة أيضا طغاء المؤسسة الأمنية على الساحة، بحيث أصبحت تشكل هاجس المواطن التونسي وترعبه كل هذا التباين الإقليمي بين الشعب التونسي ونظيره الجزائري أجج نوع من الضغوط النفسية ساهمت بشكل كبير في إشعال فتيل الحراك الشعبي الذي أسقط النظام التسلطي ومهد الطريق أمام الانتقال الديمقراطي.
- الاختلاف في النظام الاقتصادي بين تونس والجزائر كدولة إقليمية مجاورة لتونس ساهم في الحراك الشعبي.
والذي سارع في وتيرة التحول الديمقراطي على اعتبار عدم قدرة تونس على التصدي للحراك الشعبي بواسطة شراء السلم الاجتماعي، وهو ما حدث في الجزائر من خلال جملة البرامج والمشاريع الموجهة للشباب، وسياسات التشغيل والسكن والتي ساعد الربح البترولي في إنجاحها، ما أجل التحول الديمقراطي إلى أجال غير مسمات في حين قرب أجالها في تونس.
ثالثاً: الأسباب الدولية
في مرحلة الثمانينات:
1- انهيار الاتحاد السوفيتي (انتهاء الحرب الباردة):
أثر انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة تحولت الكثير من دول العالم الثالث إلى الديمقراطية وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية القطب الوحيد في العالم الذي يفرض أفكاره وسياسته على مختلف الدول في ظل هذه الظروف تأثرت تونس كغيرها من الدول بهذه الموجة.
2- ضغوطات المؤسسات العالمية والتقليدية:
واجه النظام التونسي مشكلات اقتصادية واجتماعية هائلة في فترة الثمانينات، زادت حدتها الأزمة العالمية 1986، مما جعل النظام التونسي عاجز على مواجهة تلبية مطالب شعبه، فالتجأ إلى الاستدانة من المؤسسات النقدية العالمية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) اللذين فرضا سياسات الإصلاح السياسي القائمة على تبني الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان مقابل الحصول على المساعدات.
أما الدوافع التي بعد مرحلة الثمانينات فيمكن تلخيصها في مجموعة من النقاط:
- الأحوال العامة في الوطن العربي.
يعيش المواطن العربي في ظل سياسات الخوف والترقب من المستعمر في كل حين ووقت, ففي البلاد العربية هناك سياسات متتالية لطمس الهوية العربية المشتركة بين أبناء البلاد العربية واستبدالها بعالم هويات مستوردة ومليئة بالنزاعات.
- سياسات غير مواكبة للتطورات.
لم يعد الحجب مجديا كثيرا في ظل الانفلات الإعلامي مثل القنوات الفضائية والانترنت, ولقد ساهمت عدة قنوات ومواقع الكترونية في نشر الصورة الأخرى لحقيقة الثورة الشعبية مما أدى إلى قناعة التونسيين بقضيتهم وإلى مواصلة الانتفاضة التي وصلت إلى وزارة الداخلية في تونس العاصمة في إجماع شعبي غير مسبوق على تحدي الأمن والوصول إلى مطالبه إضافة إلى ذلك كان هناك فارق شاسع بين الإعلام الرسمي والحقيقة في الشارع.
- الضغوط التي فرضتها الدولة المانحة.
حيث تربط مساعدتها الاقتصادية بضرورة توسيع عملية المشاركة السياسية وقاعدة الحريات العامة في الدول التي تتلقى المساعدات.
- اتساع مساحة الديمقراطية على الصعيد الدولي بعد انهيار المعسكر الشيوعي وتأثير العولمة السياسية والثقافية والاقتصادية.
حيث سارعت الدول المغربية عامة وتونس على وجه الخصوص الإقدام على مجموعة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والثقافية تحت ضغوطات المؤسسات المالية الدولية والدول الغربية عامة.
- التدخل السياسي الأمريكي في الشؤون الداخلية التونسية.
نظرا لأن امريكا كانت الراعي الرئيسي للاصلاحات الاقتصادية في فترة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، ولقد تعزز الدور الأمريكي في فترة بن علي بعد أحداث 11 سبتمبر 2001, حيث أعلنت استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية من خلال شن حروب استباقية؛ لمواجهة الإرهاب وفي هذا الشأن شرعت تونس هي الأخرى في إصلاحات استباقية تماشيا مع الرغبة الأمريكية.
المطلب الثاني: مؤشرات عملية التحول الديمقراطي في تونس.
انطلقت الثورة التونسية في السابع عشر من ديسمبر 2010 بعدما أشعل محمد البوعزيزي النار في نفسه كردة فعل على منع إحدى الشرطيات للسماح له بالبيع بعربيته الخاصة بمدينة سيدي بو زيد التونسية. وقد تسبب هذا الحدث في خروج آلاف التونسيين مطالبين بإسقاط النظام. مما دفع زين الدين العابدين بن علي للهروب للخارج. يعد هذا الحدث بدايةً لمرحلة التحول الديمقراطي في تونس. وبعد ذلك تم تعيين محمد الغنوشي الوزير الأول لنظام بن علي رئيسًا مؤقتًا للبلاد، ثم تم تعيين رئيس مجلس النواب فؤاد المبزغ بدلًا منه –وفقًا للمادة 57 من الدستور التونسي. واتفقت القوى والأحزاب السياسية في تونس على إجراء انتخابات برلمانية. أفرزت انتخابات المجلس التأسيسي 2011 خريطة حزبية جديدة أظهرت مجموعة من القوى والأحزاب لم تكن تمتلك حضورًا في المرحلة السابقة؛ إذ تصدر حزب النهضة الانتخابات، تلاه حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، ثم تيار العريضة الشعبية. وبناءً على ذلك تم تشكيل ائتلاف الترويكا. كما تم تشكيل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، والتي بدورها أنشئت اللجنة العليا المستقلة للانتخابات.
وخلال الأعوام الثلاثة اللاحقة، شهد الانتقال الديمقراطي في تونس اضطرابات كثيرة، ولكنه أنتج بحلول العام 2014 بعد العديد من المشاورات والاتفاقات بين الأطراف المختلفة دستورًا ديمقراطيًا على أساس توافق سياسي واسع، أسفر عن انتخاب رئيس ومجلس نواب في انتخابات حرة ونزيهة. ولم تبتعد انتخابات 2014 كثيرًا من حيث النتائج عن انتخابات 2011، إذ لم تسمح بحصول أي حزب على أغلبية مطلقة تمكنه من تشكيل الحكومة منفردًا دون الحاجة للتفاوض مع أحزاب أخرى. وبعد مشاورات بين الأحزاب، تشكلت حكومة الحبيب الصيد وتم إدخال العديد من التعديلات عليها لتضم أربعة أحزاب ومستقلين. وفي يونيو 2016، أطلق الباجي قائد السبسي (رئيس الدولة حينها) مبادرة تشكيل حكومة وحدة وطنية. وقد توجت المشاورات بين الأطراف المختلفة بتوقيع عدد من الأحزاب والمنظمات على وثيقة قرطاج، والتي تلخص أولويات حكومة الوحدة الوطنية، وتم سحب الثقة من حكومة الحبيب الصيد واقتراح يوسف الشاهد ليصبح رئيس الحكومة الجديدة.
ومنذ الانتخابات التشريعية والرئاسية للعام 2019، تشهد تونس حراكًا سياسيًا وخلافات جوهرية غير مسبوقة؛ ترجع إلى الصراعات السياسية بين مؤسسات الحكم وحالة الضعف التي يمر بها البرلمان التونسي. وصلت تلك الصراعات إلى مداها في يوليو 2021 حينما أقال قيس سعيد رئيس الدولة، رئيس الوزراء وجمد أعمال البرلمان. تلك الخطوة تزيح الستار عن الصراع الدائر وراء الكواليس بين رئيس الحكومة، ورئيس الدولة، والبرلمان. وفي الثاني والعشرين من سبتمبر 2021، أصدر المرسوم الرئاسي رقم 117-2021، والذي علق بموجبه العمل بالجزء الأكبر من الدستور، ومنح للرئيس الحق الحصري في سن قوانين بالمراسيم الرئاسية، وحل الهيئة المؤقتة لمراجعة دستورية القوانين، ومنع الجميع من إبطال القوانين عبر المحكمة الإدارية التونسية. وفي الثاني عشر من فبراير 2022، حل سعيد المجلس الأعلى للقضاء –أعلى هيئة قضائية مستقلة أنشئت في 2016 لحماية القضاء من نفوذ الحكومة. وهكذا أضعف سعيد استقلالية القضاء، ومنح نفسه صلاحيات واسعة للتدخل في عمل السلطة القضائية.
في الثلاثين من يونيو 2022، واستكمالًا لخطوات سعيد في التفرد بالسلطة، نشرت رئاسة الجمهورية مسودة مشروع الدستور. نصت المسودة الجديدة على ترسيخ الإسلام كدين للدولة، وتقييد الحقوق والحريات. كما تضمنت المسودة منح استقلالية وسلطات واسعة لرئيس الدولة على حساب كلًا رئيس الحكومة والبرلمان. وفي الثامن من يوليو تم نشر نسخة ثانية من نص مشروع الدستور، وأُدخلت عليها العديد من التعديلات التي بررها الرئيس بوجود أخطاء إملائية وترقيمية. وسواء تعلق الأمر بالمضمون أم بالإجراءات، رسخ قيس سعيد على مدى شهور من حكمه –بشكل واعي– فكرة أن هذا الاستفتاء هو استفتاء حول شخصه وولايته أكثر منه سؤال حقيقي حول موافقة المواطنين على الدستور الجديد أو رفضهم له. بمعنى أن الموافقة على هذا الدستور هي بمثابة موافقة ضمنية على الخطوات والسياسات التي يتبناها سعيد منذ تولي السلطة من عزل وإقصاء وتعسف بحق أجهزة الدولة المختلفة، مثل القضاء والبرلمان ورئيس الحكومة، بحجة أن هذه المؤسسات هي السبب فيما تعانيه البلاد من أزمات اقتصادية واجتماعية.
وفي الخامس والعشرين من يوليو 2022، نظم سعيد استفتاءً حول اعتماد الدستور الجديد. وبحسب الأرقام الرسمية الصادرة عن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، بينت نتائج الاستفتاء فوزًا ساحقًا للمصوتين بنعم بنسبة 94%، بينما بلغت نسبة التصويت بلا 5%، والباقي تقاسمته الأصوات البيضاء والأوراق الملغاة، إلا أن المشاركة في عملية الاستفتاء كانت منخفضة وبلغت 30%. تلك النسبة المنخفضة للمشاركة في الاستفتاء تضع الشرعية الشعبية للدستور الجديد محل تساؤل. ويصعب على الرئيس الدفاع عن هذه النسبة المتدنية؛ إذ لم يستجب ما يقرب من ثلاثة من أصل كل أربعة تونسيين لدعوته، رغم حملة التعبئة التي وظفت خدمات ومصالح الدولة بشكل غير قانوني لتنشيط الحملة المكرسة للحث على التصويت بنعم –مثل استخدام مراكز الشباب، وسائل الإعلام العامة، سيارات الإدارة، وما إلى ذلك. أكد انخفاض نسبة الإقبال ما كانت تدل عليه كل المؤشرات منذ تولي سعيد السلطة رغم الخطاب الشعبوي لقيس سعيد، الذي قدم نفسه فيه باعتباره يجسد إرادة الشعب، لم يتحمس الشعب لمشروع الرئيس ولم يندفع لينخرط فيه. وفي أحسن الحالات، بإمكان الرئيس الادعاء أن قرابة ربع التونسيين يدعمون مشروعه للإصلاح الدستوري، وهو ما يشكل قاعدةً محدودة للغاية.
ودون انتظار إعلان النتائج النهائية، نشر قيس سعيد الدستور في الجريدة الرسمية للجمهورية التونسية، ليُدخل البلاد في جمهورية ثالثة تتسم بنزعة رئاسية مبالغ فيها، تتيح للرئيس الانفراد بالسلطة. ويدخل الدستور الجديد تغييرات هامة على دستور 2014، بإنشائه نظام رئاسي يعتمد على عدم خضوع رئيس الجمهورية للمساءلة أمام أجهزة الدولة الأخرى –فليس بوسع البرلمان عزل الرئيس من منصبه، كما يفقد رئيس الحكومة العديد من الصلاحيات والسلطات ويصبح تعيينه من اختصاصات رئيس الجمهورية. إلى جانب تقليص السلطة القضائية، لتصبح مجرد وظيفة، والقضاء على السلطة المحلية التي تمثل حجر الزاوية لدستور 2014. علاوة على ذلك، فإن النص الجديد يشير مجددًا للمستويات الأساسية الدنيا من الحقوق والحريات، ولكنه يشدد الخناق حول القيود المحتملة بموجب القانون، إذ ينص الفصل الخامس والخمسون من الباب الثاني أنه يمكن وضع قيود على الحقوق والحريات لضرورة يقتضيها الدفاع الوطني أو الأمن العام دون توضيح ضوابط أو معايير لتحديد وتعريف نطاق هذا الأمن العام أو من يحدده وتحت أي ظروف. كذلك يتضمن الفصل الخامس في الباب الأول أن الإسلام هو دين الدولة وتعمل الدولة على تحقيق مقاصده، وقد أثارت تلك المادة نقاشات حادة في البلاد؛ تخوفًا من اتساع رقعة ونفوذ الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية واستغلالها لذلك.
الخاتمة
كما تخبرنا التجربة التونسية أن توافر آليات التحول الديمقراطي قد لا تؤدي بالضرورة إلى نجاح عملية التحول. فقد حققت تونس التداول السلمي للسلطة من خلال انتخابات دورية في 2011، 2014، 2019، وإنتهاءاً بإستفتاء 2022 على مشروع الدستور، ونجحت القوى السياسية في تأسيس مؤسسات توافقية وتشاركية مثل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي. شملت الهيئة معظم الأحزاب والمنظمات، وبذلك سهلت الطريق لانتخاب مجلس وطني تأسيسي ودستور توافقي يقوم على أسس ديمقراطية وينص على الحقوق والحريات. رغم ذلك، فشلت تونس في تخطي العقبات وتحقيق التحول الديمقراطي. وعلى ضوء ذلك، هناك العديد من الدروس التي يمكن استخلاصها من تعثر التجربة. لعل من أهمها أولًا: أهمية عامل التنمية الاقتصادية في إنجاح التحول الديمقراطي، إذ لا تكفي ضمانات الحقوق والحريات في النظام الديمقراطي لاستمرار القبول الشعبي به مع غياب التنمية الاقتصادية. ثانيًا: أهمية بناء توافقات حقيقية وقوية بين النخب السياسية تُمكّن من حل الخلافات الجوهرية، وتساهم في بناء مشروع سياسي متكامل. ثالثًا: التداول السلمي للسلطة من خلال الانتخابات الدورية والمؤسسات التوافقية لم يمنع تعثر المسار الديمقراطي في ظل غياب المحكمة الدستورية. رابعًا: غياب المؤسسات الدستورية المتمثلة في المحكمة الدستورية قد يؤدي إلى تحول المسار الديمقراطي لمسار تسلطي لا يستند إلى دستورية.
المراجع
أولا: الكتب والرسائل العلمية
صامويل هانتغتون “الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين” ترجمة: عبد الوهاب علوب، القاهرة، دار السعاد صباح، 1993.
شهرزاد صحراوي، “هيكلة التحول الديمقراطي في المنطقة المغاربية: دراسة مقارنة تونس، الجزائر، المغرب”، أطروحة ماجستير، جامعة بسكرة: كلية الحقوق والعلوم السياسية،2012 -2013.)
عبد الرحمن سلامة يوسف، “التجربة التونسية في التحول الديموقراطي بعد كانون الاول 2010، “أطروحة ماجستير، جامعة فلسطين: كلية الدراسات العليا، 2016.
ثانياً: المقالات والمواقع الإلكترونية
إيمان حسن، “المجتمع المدني والدولة والتحول الديمقراطي: إطار نظري ومفاهيمي” معهد البحرين للتنمية السياسية، ط2 ،2017.
أحمد منسي،” التحول الديمقراطي في دول المغرب العربي”، مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، القاهرة، 2014.
خيرى فجاني أبو العزائم، “التحول الديموقراطي في النظام السياسي المصري”.www.academia.edu
علي الكواري خليفة، “المسألة الديمقراطية في الوطن العربي www.books.google.com
إبراهيم، حسين توفيق إبراهيم، الانتقال الديمقراطي (إطار نظري). مركز الجزيرة للدراسات، 24 يناير2020. تاريخ الاطلاع 22 أكتوبر 2022.
https://studies.aljazeera.net/ar/files/arabworlddemocracy/2013/01/201312495334831438.html