حتمية الأمن القومي لرئاسة ترامب كيف يمكن لإدارته تعزيز أسس القوة الأمريكية؟
بقلم: كوري شاكي[1] – مراجعة وتحرير: د. طالب عبد الجبار الدغيم
- المركز الديمقراطي العربي
من المؤكد أن العديد من حلفاء الولايات المتحدة يشعرون بالقلق نتيجة الخيار الذي اتخذه الأمريكيون في الخامس من نوفمبر. وإذ يبدو أن الكثير من المراقبين يجدون صعوبة في فهم اِستعداد الناخبين للمجازفة بإعادة انتخاب دونالد ترامب، المعروف بمواقفه الحادة، كرئيس للولايات المتحدة. لكن على مدى تاريخهم، أظهر الأمريكيون تقبلاً كبيراً للمخاطرة، وهي سمة تعد جزءاً أساسياً من حيوية الاقتصاد الأمريكي وديناميكية المجتمع. وكما كتب الشاعر روبرت بينسكي عام 2002، فإن الثقافة الأمريكية “تسير في حركة متسارعة، أحياناً ببراعة، وأحياناً بوحشية، بحيث تصبح النماذج التقليدية غير قابلة للتطبيق عليها”، وهو تحليل تؤكده نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة بشكل واضح.
ومنذ ظهور دونالد ترامب، قبل عقد من الزمن، على الساحة السياسية الوطنية، أعاد تشكيل الحزب الجمهوري، وفقاً لتصوراته. فلم يعد الحزب يمثل شخصيات مثل السيناتور ميت رومني أو الراحل جون ماكين (الذي عملت لصالحه في وقت سابق)، وكلاهما خاض محاولات غير ناجحة للوصول إلى الرئاسة وفق الأطر التقليدية للجمهوريين. وبدلاً من ذلك، ظهرت شخصيات مثل جاي دي فانس، نائب ترامب، والسيناتور الجمهوري من ولاية ميسوري، جوش هاولي، اللذان يتبنيان نهجاً أقرب إلى السياسة الشعبوية لترامب. وقد منح الناخبون الأمريكيون نصراً ساحقاً لهذا الطراز الجديد من القيادة المحافظة. ويحق لترامب الآن أن ينفذ السياسات التي دعا إليها في حملته، وأن يتفاعل مع الأحداث كما تقتضي، بدعم من مجلس وزراء وبيروقراطية حكومية؛ يتجاوبون مع توجيهاته. فمن مصلحة الولايات المتحدة أن ينجح رئيسها.
ولكن جعل رئاسة ترامب ناجحة لا يعني ببساطة تبني أفكاره بشكل شامل. فكل إدارة جديدة تحتاج إلى مواءمة خطاب حملتها الواسع مع حقائق سلوك السوق، والقيود المالية، وتحديات الخصوم الأمريكيين. وفي حالة ترامب، فإن أسلوبه المتقلب، وأحياناً غير المتوقع، في اتخاذ القرارات قد يؤدي إلى خيارات في السياسة الخارجية تقلل من قوة الولايات المتحدة وتزيد من مخاطر الصراع. لذا، من الضروري إيجاد طرق لتحقيق أهداف ترامب مع تجنب الأضرار المحتملة.
وقد عالج عدد من المفكرين هذا التحدي، بمن فيهم ناديا شادلو، التي عملت في إدارة ترامب الأولى ونادت مؤخراً في مجلة فورين أفيرز باستراتيجية أطلقت عليها اسم “استراتيجية التفوق”، التي يمكن أن تساعد واشنطن في “الحفاظ على مزايا كبيرة أو تطويرها في القوة العسكرية والنفوذ السياسي والقوة الاقتصادية على خصومها”. كما دافعت عن إعادة إحياء “الدولية المحافظة”، وهو نهج يعزز من قوة الولايات المتحدة في الخارج ونفوذها في المؤسسات الدولية مثل الناتو، بهدف ردع العدوان الخارجي الذي قد يعرقل الاقتصاد الأمريكي.
على الرغم من أن هذا النهج قد لا يكون جذاباً للإدارة الأمريكية المقبلة، إلا أن بعض المبادئ الأساسية للدولية المحافظة قد تخدم أهداف ترامب بطرق فعالة من حيث التكلفة وقابلة للتحقيق سياسياً. على وجه الخصوص، فإن إدارته تتمتع بموقع جيد لدفع هدفين أساسيين أغفلت إدارة بايدن (وحملة كامالا هاريس الرئاسية) التركيز عليهما: إعادة تأسيس الردع وزيادة الإنفاق الدفاعي. ورغم أن فترة ولاية ثانية لترامب ليست خالية من المخاطر، إلا أنها تمثل أيضاً فرصة لتعزيز هذه الأسس الضرورية للأمن الأمريكي.
استعراض للقوة
تعرّضت قوة الردع الأمريكية لضعف ملحوظ خلال فترة ولاية الرئيس الديموقراطي جو بايدن. فقد كانت عملية انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، التي أُديرت بأسلوب مخزٍ، ودعم الإدارة المتحفظ لأوكرانيا في مواجهة التهديدات الروسية بمثابة مكافأة لمن يتحدون الالتزامات الأمنية للولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، ازدادت الجرأة لدى خصوم الولايات المتحدة في استفزازاتهم، وبدأوا بتعزيز تعاونهم فيما بينهم، بينما لم تقدم واشنطن استجابة ملائمة.
وفي أوكرانيا، لم تُدرك إدارة بايدن بعد قصور السياسات الغربية، بما فيها سياسات إدارتي أوباما وترامب، خلال السنوات التي سبقت الغزو الروسي الشامل. إن عدم استعداد بايدن، أو ربما عجزه، عن إدراك هذا الأمر جعل استجابته حذرةً للغاية. ويجب على الولايات المتحدة أن تتخذ خطوات جريئة لضمان فشل الحرب الروسية. فقد تبنت إدارة بايدن استراتيجية في توزيع الأسلحة المتحالفة بشكل بطيء، مما يعكس للخصوم حدود دعم واشنطن وهشاشة التزامها بنجاح كييف. وبذلك، سمحت الإدارة لروسيا بردع الولايات المتحدة عن تسليم الأسلحة بالسرعة التي تحتاجها أوكرانيا، وعن وضع المزيد من الأراضي الروسية في خطر، وعن توجيه تهديدات بالتصعيد نحو روسيا نفسها.
وبدلاً من قضاء الوقت في القلق حول ما قد تفعله روسيا، ينبغي على واشنطن أن تركز أكثر على جعل روسيا تشعر بالقلق مما قد تفعله الولايات المتحدة. بدلاً من الخوف من شبح حرب عالمية ثالثة، يجب على الرئيس الأمريكي أن يحذر الكرملين بشدة وعلانية من أنه إذا لم تنسحب القوات الروسية من الأراضي الأوكرانية، فإن الولايات المتحدة ستوفر لأوكرانيا كل ما تحتاجه لاستعادة أراضيها المحتلة وتحدي حكم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وينبغي أن تكون رسالة واشنطن واضحة: إذا هاجمت روسيا دولة من دول الناتو أو استخدمت سلاحاً نووياً، فإن الولايات المتحدة ستنشر قواتها وستحث حلفاءها في الناتو على القيام بالمثل، للدفاع عن أوكرانيا وملاحقة المسؤولين الروس الذين أصدروا ونفذوا تلك الأوامر.
إن فشل الولايات المتحدة في أوكرانيا يخلق مشاكل ردع في مناطق أخرى من العالم أيضاً. إذ تتابع الصين عن كثب استراتيجية روسيا في الانتظار حتى يخفت الاهتمام الغربي بالحرب، ما يزيد من احتمالية أن تتبنى الصين استراتيجية مشابهة لتحقيق طموحاتها في السيطرة على تايوان وضم المناطق البحرية المجاورة لها. وقد تعاملت الصين مع الحرب في أوكرانيا كفرصة لاكتساب رؤى عملياتية وتكنولوجية، وإعادة تصميم الأسلحة الأمريكية التي استولت عليها من ساحات القتال، والبحث عن طرق للالتفاف على العقوبات الاقتصادية الغربية. وكلما طالت الحرب في أوكرانيا، زادت تكلفة ردع الصين.
مما لا شك فيه، يتضمن اتخاذ الولايات المتحدة لإجراءات أكثر جرأة لردع روسيا مخاطر الانجرار إلى النزاع. وقد يكون بوتين مرحباً بهذا السيناريو، إذ قد يفضل خسارة الحرب أمام الولايات المتحدة على خسارتها أمام أوكرانيا. ولكن القوات الروسية، التي تكافح أساساً لتحقيق تقدم في أوكرانيا، ستتعرض لضربة مدمرة من الجيش الأمريكي. والتأكيد لبوتين بأن مثل هذا الإذلال قد يكلفه حكمه -أو حتى حياته- من شأنه أن يردعه. في النهاية، يجب أن تكون الولايات المتحدة قوية وحازمة بما يكفي ليجنب خصومها المجازفة بأفعال قد تجبرها على تنفيذ تهديداتها. هذا هو الردع الفعال، وهو الخيار الأفضل والأقل تكلفةً، رغم ما ينطوي عليه من مخاطر. فإذا لم تكن الولايات المتحدة مستعدة لخوض هذه المجازفة، فإنها بذلك تفسح المجال أمام “الأشرار” لتحقيق النصر.
نقص التمويل
تفاقمت مشكلة تراجع قوة الردع الأمريكية تحت إدارة بايدن بسبب عدم توفير الموارد الكافية للقوات العسكرية الأمريكية بما يتناسب مع البيئة الأمنية الحالية. وقد حذرت لجان الكونغرس المكوّنة من الحزبين من أن الجيش الأمريكي وقاعدته الصناعية بحاجة ماسة إلى استثمارات كبيرة. كما أن الكونغرس أدرك بشكل عام عجز الإنفاق الدفاعي الأمريكي، حيث صوّت المشرعون من كلا الحزبين على إضافة 28 مليار دولار إلى أول ميزانية دفاعية للرئيس في عام 2022، و45 مليار دولار إلى الميزانية الثانية في عام 2023، مع احتمالية إضافة ما بين 21.5 مليار و37.4 مليار دولار إلى الميزانية الأخيرة التي قدمها بايدن، والتي لا تزال قيد النظر.
ومع ذلك، فإن هذا لا يعد كافياً. فحاليًا، تلتزم الولايات المتحدة بميزانية دفاع تعادل تقريباً ثلاثة بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مستوى منخفض تاريخيًا، خصوصاً بالنظر إلى التهديدات المتزايدة التي تواجهها البلاد اليوم. إذ تتصرف الصين، وروسيا، وكوريا الشمالية، وإيران على نحو متزايد بعدوانية متزايدة، بل وتتعاون في عملياتها. البحرية الصينية تنمو بسرعة، وصناعتها في بناء السفن لديها قدرة تفوق الولايات المتحدة بمقدار 250 مرة. وفي أي نزاع محتمل في آسيا، ستكون البحرية الأمريكية في وضع غير ملائم بسبب الحاجة لعبور المحيط، مما يجعل بناء بحرية قادرة على الانتصار في الحرب أولوية قصوى لبرنامج الدفاع الأمريكي.
ولكن القتال في المحيط الهادئ، ليس السيناريو الوحيد الذي يجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تستعد له، (وأن تردع حدوثه بشكل مثالي)، وتتطلب الجاهزية في ساحات أخرى معالجة النقص في مجالات أخرى. فالولايات المتحدة بحاجة إلى إعادة تزويد مخزونها من الذخائر والدفاعات الجوية، وتحديث قواتها النووية، وإيجاد قنوات اتصال احتياطية. ولتحقيق كل ذلك، يجب على إدارة ترامب تقديم خطة على غرار الخطة التي اقترحها السيناتور الجمهوري من ولاية ميسيسيبي، روجر ويكر، والتي ستزيد الإنفاق الدفاعي لأكثر من خمسة بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي.
يجادل منتقدو هذا النهج بأن واشنطن لا تستطيع تحمل المزيد من الإنفاق الدفاعي، إلا أن هذا الرأي غير صحيح بوضوح. فقد وضعت واشنطن آليات إنفاق طارئة خلال الأزمة المالية، وأزمة الجائحة. واليوم، تواجه البلاد نقصًا في الدفاع له عواقب مماثلة، وغالباً ما تستشهد الحجج المعارضة لزيادة الإنفاق الدفاعي بتضخم الديون الوطنية، ورغم أن الديون تمثل بلا شك مشكلة، فإن الإنفاق الدفاعي ليس سببها الرئيسي، بل تعود الأسباب إلى برامج الاستحقاق مثل الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية والمساعدات الطبية. وفي ظل غياب التغييرات في الإنفاق على هذه البرامج -التي وعد ترامب بعدم المساس بها- فإن أفضل وسيلة لتحمل تكاليف التحديثات الضرورية للدفاع الأمريكي هي زيادة الناتج المحلي الإجمالي عبر سياسات داعمة للنمو في مجالي الضرائب والتنظيم.
خطوة نحو الأمان
في فترته الرئاسية الأولى، التزم ترامب، وإن كان يستحق الإشادة، بالأفكار التي طرحها في حملته الانتخابية وظل وفيًا لما أيده الناخبون. على الرغم من ميوله الظاهرة لنظرية “الرجل المجنون” في العلاقات الدولية -وصفه المؤرخ لورانس فريدمان بأنه “مسرور من تقلباته واندفاعاته” – فإن للرئيس السابق بالفعل آراء سياسية واضحة وقابلة للتوقع. فهو يعتقد أن الاقتصاد العالمي والهجرة يضران بالعمال الأمريكيين، وأن الحلفاء يستغلون الولايات المتحدة. ويعجب بالقادة السلطويين، ويفضل فرض التعريفات الجمركية كأداة ضغط.
نظرًا لهذه الآراء، فمن غير المرجح أن تعود بعض عناصر السياسة الخارجية التقليدية للجمهوريين تحت قيادة ترامب. فالتجارة الحرة مستبعدة في المستقبل المنظور، على الرغم من أن استطلاعًا أجراه مجلس شيكاغو في عام 2023 أظهر أن ثلاثة أرباع الأمريكيين يعتبرون التجارة الدولية مفيدة للاقتصاد. ومن المؤكد أن إدارة ترامب ستتجنب الصفقات التجارية متعددة الأطراف، وستركز على الاتفاقيات الثنائية التي تعتمد بشكل كبير على التعريفات الجمركية، وتهدف إلى تقييد الوصول إلى السوق الأمريكية، وتحقيق التوازن في الميزان التجاري.
ومن غير المحتمل أيضًا أن يُولي ترامب أهمية كبرى للتحالفات، حيث سيكون الدعم الأمريكي مشروطًا بمتطلبات أعلى من الحلفاء، سواء في الإنفاق على دفاعهم أو التوافق مع سياسات الولايات المتحدة. ومع ذلك، قد يدرك ترامب في نهاية المطاف أهمية وجود تحالفات قوية إذا كانت واشنطن تسعى لحشد القوة العسكرية والسياسية الكافية لمواجهة تجمع خصومها.
فيما يتعلق بالردع والإنفاق الدفاعي، فإنه على العكس من ذلك، قد تكون إدارة ترامب مستعدة لمعالجة نقاط الضعف الواضحة منذ البداية. فقد وعد ترامب خلال حملته الانتخابية قائلاً: “سأقول لبوتين، إذا لم تتوصل إلى اتفاق، سنمنح [زيلينسكي] الكثير. وسنمنح [أوكرانيا] أكثر مما حصلوا عليه من قبل إذا لزم الأمر”.
ويعتبر تحويل هذا الوعد إلى سياسة خطوة مهمة نحو إعادة بناء قوة الردع الأمريكية. وتظهر استعدادات ترامب في فترة ولايته الأولى لاتخاذ إجراءات هجومية، مثل الضربة التي استهدفت القائد الإيراني قاسم سليماني في يناير 2020، وهجوم القوات الأمريكية على مرتزقة روس في سورية في فبراير 2018، أنه قد يلجأ مجددًا إلى القوة العسكرية الأمريكية بشكل فعّال. وقد يؤدي دمج هذا التصميم مع الاستثمار في الدفاع الأمريكي إلى تحسين الأمن القومي بشكل كبير، وبمعنى آخر، استعادة السلام من خلال القوة.
[1] كوري شاكي: كاتبة في مجلة فورين أفريز، ومديرة دراسات السياسة الخارجية والدفاعية في معهد إنتربرايز الأمريكي، ومؤلفة كتاب “العبور الآمن: الانتقال من الهيمنة البريطانية إلى الأمريكية”. وقد عملت في مجلس الأمن القومي، ووزارة الخارجية الأمريكية في ظل إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش.